مقدمة
شخوص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
مقدمة
شخوص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
إيفانهو
إيفانهو
تأليف
والتر سكوت
ترجمة
ياسمين العربي
مراجعة
محمد حامد درويش
نسخة مختصرة ومنقحة مع مقدمة بقلم
فاني جونسون
مديرة مدرسة بولتون الثانوية سابقا.
قلعة كوننجزبيرج.
مقدمة
كانت رواية إيفانهو (الصادرة عام 1820) إحدى روايات «وافيرلي» الأخيرة. كان مؤلفها السير والتر سكوت، الذي ولد في مدينة إدنبرة عام 1771 ودرس ليصبح محاميا، قد كرس بمرور الوقت الجزء الأكبر من حياته للأدب، وكان أول نجاح كبير له في النثر هو رواية باسم «وافيرلي»، أو «ستون عاما مضت» (أي ستون عاما منذ عام 1805، حيث كتبت بالفعل أول بضعة فصول من الكتاب). كان من المفترض أن تقع أحداث القصة في أثناء تمرد عام 1745، ومن بين جميع الكتب الثلاثين التي تلت وافيرلي فإن وحدا وعشرين كتابا منها تستند إلى وقائع تاريخية. كثيرا ما يقال إن سكوت «ابتكر الرواية التاريخية»، وربما أفضل الطرق لفهم المقصود من هذا هو: أولا النظر في بعض الأسباب التي قادت إلى هذا النوع من الكتابة بالتحديد، وثانيا دراسة رواية إيفانهو نفسها، وفهم العناصر التي تتألف منها. (1)
إن في الأدب صيحات كما في الملبس، والمعمار، والأطعمة، وغيرها؛ إذ يمل الناس من قراءة نوع واحد من الحكايات أو القصائد، أو الاستماع لنوع واحد منها، وكذلك يمل الكتاب أنفسهم من تقليد بعضهم بعضا، ويستحضرون في أذهانهم بعض الأمور الجديدة ليحكوا عنها. كتب قدامى الروائيين الإنجليز، أمثال فيلدنج وريتشاردسون، قصصا عن أشخاص عاشوا في زمانهم، وجعلوا حياتهم أقرب ما يمكن إلى «الحياة الواقعية»، ولكن بعد ذلك بوقت ليس بالطويل نمت ذائقة للقصص الأكثر إثارة (الحالمة)، التي تحوي أحداثا غير طبيعية أو غير معتادة أو حتى غير ممكنة الحدوث. وفي الوقت نفسه ظهر عدة مؤرخين، أمثال هيوم (تاريخ إنجلترا، 1754-1762)، وروبرتسون (تاريخ اسكتلندا، 1759، إلخ)، وجيبون (تاريخ ضعف وسقوط الإمبراطورية الرومانية، 1776-1788)، وتيرنر (تاريخ الأنجلوساكسونيين، 1799-1805)، الذين تمكنوا بأساليبهم وطرقهم الممتازة من إثارة اهتمام واسع بالتاريخ وزيادة المعرفة العامة به. كما أدت ظروف أخرى إلى استرعاء الانتباه، ليس فقط إلى الأحداث التاريخية كالمعارك والمجالس النيابية وحياة الملوك، ولكن أيضا لكل ما فات من الحياة السابقة للأمم؛ ملابسهم، ودروعهم، ومنازلهم، وأثاثهم. باختصار، نشأ اهتمام بكل شيء يشمله مصطلح علم الآثار القديمة، أو ما كان يسمى قديما بالعصور القديمة.
وعلى نحو مماثل انصب اهتمام كبير على القصائد القصصية الإنجليزية والاسكتلندية القديمة، التي تروي قصصا من التاريخ الأسطوري بأبطاله من أمثال: روبين هود، ووالاس، وريتشارد قلب الأسد. كان سكوت نفسه جامعا كبيرا للقصائد القصصية، وكذلك لقصص العصور القديمة، ومن بين كتاباته الأولى كانت المقدمات والحواشي التي ساهمت في تأليف الأشعار الشعبية للحدود الاسكتلندية (1802)، التي تتكون من كتابين من القصائد من النوع الذي كان يغنيه قديما الشعراء أو المغنون المتجولون. كان أبواه وجداه قد شهدوا وقائع مشوقة (حالمة) من التاريخ الفعلي، كثورتي 1715 و1745، حيث سعى كل من المطالب بالعرش جيمس بن جيمس الثاني و«الأمير تشارلي» على التوالي لإنجاح مزاعمهما باستحقاق التاج الإنجليزي. وكان لدى أمه الكثير من الحكايات والأساطير حول هذه الأحداث، وكذلك حول المعارك والمغامرات الجامحة بين الاسكتلنديين على الحدود وفي المرتفعات في سابق عصرهم. كما كان له اطلاع واسع باللغات الأخرى إلى جانب لغته الأم، ولا سيما الألمانية والإيطالية، اللتان لهما شأن في التاريخ العريق والحكايات الخيالية. وهكذا عاشت أفكاره في الحاضر إلى حد كبير كما في الماضي، وبالسير في شوارع إدنبرة، كان يرى بعيني خياله الشخصيات التاريخية العظيمة؛ الملكة ماري، أو دندي، أو مونتروز، حسبما تقتضي الحال، وذلك عندما تقع عيناه على أحد آثار العصور القديمة كبعض النقوش الحجرية القديمة، أو زقاق ضيق قديم. كتب كذلك قصصا شعرية، مثل أنشودة الشادي الأخير (1805)، وامرأة البحيرة، ومارميون، حيث مزج بين شخصيات حقيقية وخيالية؛ وهكذا نال شهرته بوصفه شاعرا. صدرت رواية وافيرلي (1814) باسم مجهول، وكان نجاحها فوريا ودائما لدرجة جعلت مؤلفها يقضي بعدها الجزء الأكبر من حياته في كتابة روايات مماثلة.
أشهر تلك الروايات هي الوفيات القديمة (1816)، وبوب روي، وقلب ميدلوثيان (1818)، وكانت كلها تدور في بعض فترات التاريخ الاسكتلندي، وكينيلورث (1821) التي لعبت فيها الملكة إليزابيث أحد الأدوار الرئيسة، وحظوظ نايجل (1822) التي وقعت أحداثها في عهد جيمس الأول، وكوينتن دوروارد (1823)، وهي قصة عن رامي سهام اسكتلندي كان في خدمة لويس الحادي عشر ملك فرنسا. وتعد رواية إيفانهو نفسها أولى «روايات وافيرلي» التي تتناول التاريخ الإنجليزي، وليس التاريخ الاسكتلندي. (2)
لا تستند رواية «إيفانهو» إلى أي أحداث تاريخية كما في رواية الطلسم، على سبيل المثال، التي تستند إلى الحملة الصليبية الثالثة، وإنما تحاكي في فصولها الكتب التاريخية القديمة، التي كانت تحمل عناوين مثل «أحوال العباد» أو «العادات والتقاليد»، حتى إن الكاتب نفسه أطلق عليها اسم «حكاية فروسية»، و«الاختلاف بين النورمانديين والساكسونيين»، وهو الموضوع الرئيس - من الناحية التاريخية - للقصة؛ ما يشير إلى حالة الأمور التي كانت في فترة تاريخية غير محددة، وليس إلى أحداث عام معين. ومع ذلك فتاريخها محدد بحدث واحد معين، وهو عودة الملك ريتشارد إلى إنجلترا بعد سجنه في عام 1194. لكن ظروف تلك العودة، كما وصفها سكوت، بعيدة كل البعد عما حدث في الواقع. والحقائق التاريخية، حتى ذلك التاريخ، كما هي واردة في الرواية، هي كالآتي:
في عام 1192، تلقى فيليب ملك فرنسا من جون وأرسل له معلومات عن أسر الملك ريتشارد على يد أرشيدوق النمسا، وذلك خلال عودته من الحملة الصليبية. وكان الأمير جون، في غياب الملك ريتشارد، قد أسقط سلطة الوصي على العرش، المكروه من العامة، ويليام لونجشامب أسقف مدينة إيلي، واستولى على القلاع الملكية في تيكهل ونوتينجهام. وهرع إلى فرنسا لدى سماعه بسجن أخيه، حيث عقد اتفاقيات سرية مع الملك فيليب للتعاضد في مواجهة عدوهما المشترك ريتشارد، ثم عندما عاد إلى إنجلترا نشر بالخارج أخبارا عن وفاة ريتشارد، وعندما رفض قضاة المحكمة العليا (مسئولون كانوا يحفظون النظام إلى جانب الوصي على العرش) الاعتراف به ملكا، لجأ إلى حمل السلاح. وقعت مناوشات، وجرت خسارة قلاع والظفر بقلاع أخرى ما بين الطرفين، وأخذت إلينور، الملكة الأم، الصف المعارض لجون، وعملت على جمع فدية ريتشارد المتفق عليها برضا ملحوظ من معظم رعاياه. وفي يوليو 1193، أرسل فيليب الرسالة المذكورة في الفصل الحادي عشر، التي كانت تعني أن شروط إطلاق سراح ريتشارد قد قبلت أخيرا. وعلى إثر ذلك رجع جون إلى فرنسا، وتابع مكائده مع فيليب. أما ريتشارد فقد أطلق سراحه في فبراير 1194، ووصل إنجلترا في مارس من نفس العام، ثم عبر بعد ذلك إلى نورماندي، حيث قابل أخيرا أخاه المتمرد وعفا عنه، قائلا إنه لم يكن سوى «طفل» طائش، وكان جون حينئذ في السادسة والعشرين من عمره.
يا له من تسلسل للأحداث! يوصف مجتمع تلك الفترة بأنه (أ) في حالة اضطراب مدني، (ب) وواقع تحت تأثير أفكار الفروسية وعاداتها ، (ج ) وتابع للثروة، ولكنه يميل إلى اضطهاد اليهود. (أ)
كانت حالة الحرب الأهلية (أي النزاعات المشتملة على القتال وإراقة الدماء بين الفصائل الصغيرة للمجتمع) سمة مميزة بالطبع لجميع الدول الأوروبية في هذا الوقت. وكان الوضع في إنجلترا متفاقما بفعل الغزو النورماندي الحديث العهد نسبيا، وما تبعه من تغييرات في الملكية. وعلى الرغم من أن الساكسونيين لم يجردوا من ملكية أراضيهم (سيدريك وأثيلستان، على سبيل المثال، ممثلان كغير مستهدفين في هذا الصدد)، فقد كانوا مستائين لكونهم حزب الأقلية والهزيمة، وعانوا من احتقار النورمانديين الأكثر رقيا بسبب عاداتهم وثقافتهم الأدنى. كما أن صعوبات التواصل، وحالة الجموح غير المهذب التي سادت في جزء كبير من البلد، أتاحت ظهور قطاع الطرق واللصوص المنظمين. كما أدت قوانين الغابة الصارمة التي أصدرها الملكان وليم الأول والثاني إلى ارتكاب النفوس الجريئة للجرائم؛ ما أدى إلى حالة من الخروج عن القانون. وكان الخارجون عن القانون (الأشخاص الذين لا تشملهم حماية القانون؛ ومن ثم يمكن لأي أحد إهانتهم أو مهاجمتهم دون الخوف من عقاب قانوني) يحمون أنفسهم بتكوين العصابات تحت قيادة رجال أمثال لوكسلي، ويعيشون على الصيد من الغابات، وعلى أسر المسافرين الأغنياء وطلب فدية عنهم. وكانت السلطة السائدة تمنح العزب أو البارونيات، كتلك التي منحت لإيفانهو، للمقربين من الملك، بغض النظر عن المطالبات السابقة؛ ومن ثم نشأت النزاعات، ووقعت المناوشات ووقائع فرض الحصار مثلما حدث لقلعة توركويلستون. وفي ظل حكم ملك قوي، مثل حكم الملك هنري الثاني (1100-1154)، عولجت حالة الفوضى هذه، ولكن حكم الضعف أو غياب السيادة أدى إلى تدهور حال البلاد مرة أخرى لترجع إلى حالة غياب القانون التي كانت عليها من قبل، ومن وقت لآخر ساد الوضع نفسه حتى نهاية القرن الخامس عشر، وكان يتخلله فترات من التحسن. (ب)
هذا التأسيس لحالة الشهامة، أو الفروسية، بعاداتها، ينتمي أيضا إلى فترة مطولة (تقريبا من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر). كان بإمكان كل جندي شجاع أن يصبح فارسا جزاء لعمل بطولي يقوم به، ولكن شباب العائلات العريقة كانوا يحملون لقب الفارس في جميع الأحوال عندما يصلون إلى سن مناسبة، وكانوا يجتازون تدريبا مسبقا كوصفاء أو خدم لسيدات العائلات، وكحاملي دروع «إسكواير» أو مرافقين شخصيين للفرسان. وكانت الأجزاء المميزة لملابس الفرسان هي الحزام الذي كان يعلق فيه السيف والمهماز؛ لأنهم كانوا دوما يقاتلون على ظهور الجياد. كما كانوا كثيرا ما يرتدون سلسلة حول العنق، كعلامة مميزة لطائفة الفرسان التي ينتمون إليها؛ لذلك كان ارتداء سلسلة ومهماز يعني كون الشخص فارسا. وكان كل الفرسان يعتبرون نبلاء ومتساويين. فإذا أهان فارس فارسا آخر يرمي الفارس المهان قفازه الواقي أو قفازه المدرع في إشارة لتحد أو عرض للقتال، ثم يلتقط الآخر القفاز ويحتفظ به، ويعطي قفازه للآخر كرمز أو تعهد بقبول التحدي. كما كان يسمح في بعض الأحيان للشخص المتهم بالطعن في محاكمة بالمبارزة لإثبات براءته، وكان يفترض أن المنتصر في المبارزة قد أثبت بذلك عدالة قضيته؛ إذ جرى الاعتقاد بأن الرب يعطي النصر للشخص المحق، أو للمحارب الذي يقاتل نيابة عنه. وكان المكان الذي تعقد فيه تلك المبارزات يحاط بحواجز تسمى بالحلبات، وإذا تقاتل عدة فرسان أو أزواج من الفرسان كانوا يشكلون عراكا أو احتشادا، وكانت المعركة نفسها تسمى بمباراة الفروسية أو الدورة. كانت طريقة القتال المعتادة في المباريات هي المطاعنة، أو امتطاء الجواد والعدو به في اتجاه الخصم برمح أو حربة طويلة، كانت تمسك أفقيا (مبسوطة أو في حالة سكون)، أي منخفضة ومستقيمة، وفي استعداد للضرب. كان الهدف هو إيقاع الخصم من على جواده (وفي أثناء ذلك يكسر رمحه عادة)، وبعدئذ قد يتعرض للهجوم وقوفا بالسيف. وكان اسم المكان الذي تعقد فيه المباريات يسمى عادة بساحة المطاعنة، وكانت قطع من الأراضي تخصص لساحات المطاعنة، كما يحدث في يومنا هذا في ملاعب الكريكيت. وقد انتشرت المباريات في حوالي منتصف القرن الحادي عشر، وكانت للناس في ذلك العصر وسيلة للترفيه كالألعاب الرياضية أو مباريات الكريكيت في عصرنا الحالي. يروي أحد المؤرخين، وليام أوف نيوبورج، بتاريخ 1194، عن وسائل الترفيه هذه باعتبارها إحدى بدع العصر، ويصف الإثارة التي تتسبب فيها بين العامة. وقد حرمها هنري الثاني، لكن ريتشارد الأول شجعها وأشرف عليها؛ وكان ذلك، من ناحية، بلا شك، بغية الأموال التي كان يأخذها من المتنافسين. وكانت درجة الخطر أو القتال العنيف تتفاوت تبعا للوائح المنظمة لكل مناسبة، غير أنهم كانوا دائما يختارون سيدة جميلة «ملكة الحب والجمال»، التي كان حضورها يرمز إلى أنه من واجب الفارس أن يقاتل نيابة عن جميع النساء (والقساوسة والضعفاء)، وكانت تعطي الجوائز للفرسان المنتصرين في نهاية المنافسة. وقد غنى الشعراء عن أحوال الفرسان والسيدات على القيثارة، وكان هؤلاء الشعراء يعرفون بالتروبادوريين في فرنسا، وبالشداة في إنجلترا. كان الفرسان في هذه الفترة يرتدون دروعا مزردة مصنوعة من عقد أو حلقات من الحديد، وكانوا يضعون فوق رءوسهم خوذات من الفولاذ أو الحديد، وكان الجزء الذي يغطي الوجه فيها يسمى قناعا واقيا، وكان يصنع من القضبان التي تتخللها مسافات للتنفس أو تثقب فيه فتحات، ويمكن رفعه وإنزاله على الوجه؛ أما الجزء الأسفل أو الجزء المواجه للفم في القناع، فقد كان يسمى بالقبال. (ج)
كانت الشعوب المسيحية في هذه الفترة تعامل اليهود بكراهية شديدة؛ ففي معظم البلدان لم يكن يسمح لهم بامتلاك الأراضي أو أن يصبحوا مزارعين أو صناعا؛ ومن ثم كانوا يجبرون على العيش على التجارة، وشراء صناعات الغير وبيعها، وإن أصبحوا أغنياء بهذه الطريقة فكثيرا ما كانوا يقرضون المال للمحتاجين مقابل نسبة كبيرة من الربا أو الفائدة، التي كان يطلق عليها في بعض الأحيان أموال انتفاع، والتي كانت تدفع بالإضافة إلى المبلغ الأصلي المقترض مقابل الانتفاع به. حرمت الكنيسة الربا على المسيحيين، وكان ابتزاز اليهود للمسيحيين بها سببا آخر للكراهية التي كان يشعر بها المسيحيون تجاههم. وقد طردوا من إنجلترا على يد كنوت (1016-1035)، ولجئوا إلى نورماندي. عاد عدد منهم تحت حماية وليام الفاتح، وسمح لهم بالبقاء حتى الطرد الثاني في 1290 على يد إدوارد الأول. في هذه الفترة، كانت تحكمهم قوانين خاصة في كل مناحي الحياة. كانوا يعدون عبيدا أو أملاكا للملك الذي حماهم من سرقة الآخرين لهم حتى يتمكن من سرقتهم هو نفسه بحرية أكثر؛ ومن ثم كانوا معفيين من الضرائب الاعتيادية، ولكن كان ثمة فرع خاص في محكمة بيت المال، يسمى ببيت مال اليهود، الذي فرض عليهم الضرائب والغرامات، وكانوا يحاكمون في محاكم خاصة عن الجرائم والمخالفات الأخرى، كما خصصت لهم أحياء معينة معزولة، كان يطلق عليها أحياء اليهود، وكانت في مدن معينة مثل لندن ويورك ولينكولن وليستر، وكانت محاطة ببوابات كان لزاما عليهم أن يظلوا بداخلها بعدما يحل الليل. بقيت آثار أحياء اليهود في أسماء الشوارع والمنازل القديمة، التي كان يطلق عليها منازل اليهود، والتي كانت تبنى من الحجارة وليس من الخشب، وهو ما يشهد على تفوق ملاكها في الثروة. كان اليهود، مثل فرسان الهيكل الأثرياء، يتهمون بجرائم مقيتة، كممارسة السحر وما إلى ذلك، وكانوا يعذبون عادة (على يد الملك جون وغيره) لإرغامهم على الكشف عن ثرواتهم وتسليمها. وفي حفل تتويج ريتشارد الأول، ذبح عدد من اليهود، الذين غامروا بالظهور بين الحشود، وسط هياج مفاجئ من الجماهير؛ فقد جعلتهم ملابسهم المميزة، التي ارتدوها في هذا اليوم باختيارهم وليس بالإكراه، هدفا للهجوم. وكان اليهود في تعبيرهم عن كراهيتهم للمسيحيين يسمونهم بأسماء القبائل والأمم التي كانت عدوة لهم في الماضي، مثل الفلسطينيين والإدوميين وغيرهم، ومن أسماء الازدراء الأخرى للمسيحيين كان اسم الإسماعيليين؛ أي المنحدرين من سلالة إسماعيل بن إبراهيم وهاجر؛ ومن ثم ليسوا باليهود الأصليين، الذين كان بإمكانهم دائما الادعاء بانحدارهم من نسل ابن إبراهيم الآخر؛ يعقوب.
أحوال الناس هذه: (1) الخصومة بين النورمان والساكسونيين، (2) والخارجون عن القانون والبارونات، (3) والمخاطر التي تواجه النساء والقساوسة واليهود وجميع غير المحاربين بوجه عام في المجتمع، كلها تقدمها لنا قصة إيفانهو بوضوح. كما يعطينا العدد الكبير لشخصيات الحكاية والتعاقب السريع للأحداث أثر البانوراما، أو سلسلة من الصور المتحركة.
يحتوي النص التالي على جزء مختار من أكثر المشاهد البارزة، والذي يشكل نحو ثلث الرواية الأصلية، التي هي إحدى أطول روايات «وافيرلي»، ولكن حتى قراء هذه النسخة الموجزة لن يجدوا صعوبة في تكوين فكرة واضحة عن مباراة آشبي، وحصار توركويلستون، ومحاكمة ريبيكا وغيرها من الوقائع؛ فالعرض الملخص للأجزاء المحذوفة من القصة المقدم في الهوامش سيمكن القراء من ملء فراغات الحبكة، وآمل أن تجعلهم يرجعون بعد ذلك إلى النسخة الكاملة لمزيد من المعلومات حول الفارس الأسود، وأولريكا، ووامبا، وجيرث، وسيدريك، والشخصيات الأخرى.
سيلاحظ القارئ أن (أ) عددا من الأحداث يقع في الهواء الطلق، وأن (ب) بعض المواقع موصوفة بكثير من التفصيل؛ إذ إن قدرة سكوت على التصوير، ومن ثم وصف الأماكن، هي إحدى مواهبه الأكثر إدهاشا. لم يكن المشهد الإنجليزي مألوفا بدرجة كبيرة له كما كان مشهد بلده الأصلي، ولكنه كان قد زار أجزاء من المقاطعة المدفون فيها إيفانهو؛ فكانت بعض أوصافه، وخاصة لقلعة كونينجسبورج، هي أوصافا أدلى بها شاهد عيان. وتتراوح الأماكن في القصة بين جورفولكس (أي جيرفولكس) آبي في الشمال (يوركشاير) وآشبي دو لا سوج في الجنوب (ليسترشاير)؛ فالأحداث الرئيسة تقع في آشبي وكونينجسبورج (موجودتان) وفي روثيروود، وتوركويلستون، وتمبلستو (غير موجودة)، وكان يتعين على المسافرين من روثيروود العبور عبر شيفيلد في طريقهم إلى آشبي؛ لذا من المفترض أنه لا بد أن تكون الأحداث قد وقعت إلى الشمال قليلا أو الشمال الشرقي لشيفيلد، وبين تلك البلدة وروثيرهام، التي جاء منها اسم روثيروود. أما توركويلستون، فهو اسم لمكان تخيلي مشتق من الاسم الساكسوني «توركويل»، وهو من أسماء الرجال. بالانتقال إلى القلعة، الموصوفة بالكامل، فعلى الرغم من أنه لا يمكن استنتاج موقعها إلا من طول الزمن الذي يستغرقه المسافرون في طريقهم شمالا من آشبي للوصول إليها؛ فقد بنيت على الطراز النورماندي، الذي لا تزال عليه أمثلة حية في المقاطعة. أما تمبلستو، فقد وصفت بإبهام. وثمة منشآت عديدة لفرسان الهيكل في يوركشاير في هذا التاريخ (1194). كما زعم أن لوكسلي تشيس، حوالي ثمانية أميال إلى الشمال الغربي لشيفيلد، كانت محل ميلاد روبن هود، ومنها جاء اسمه البديل «لوكسلي». وكان «قوس روبن هود» معلقا فيما مضى في كنيسة هاثرسيج في ديربيشاير ، وهو الآن محفوظ في قاعة كانون بالقرب من بارنسلي.
ثمة تفاصيل عديدة حول الأنواع المختلفة من الملابس، والدروع التي كانت تلبس، والأسلحة التي كانت تستخدم في تلك الفترة، وفي كل النواحي ثمة دليل على الاهتمام الذي أولاه المؤلف لموضوع علم الآثار القديمة (أو العصور القديمة) في فروعه كافة. يمكن أن توصف رواية «إيفانهو»، في الواقع، من وجهات نظر كثيرة، باعتبارها رواية «أزياء»؛ أي رواية يركز فيها المؤلف على الأحوال، والملابس، والأطعمة، والمنازل، وأساليب الحياة، وما إلى ذلك، لشخصياتها بالقدر نفسه تقريبا الذي يتناول به أفعال تلك الشخصيات ومصائرها. وقد سعى سكوت أن يفعل في زمن ماض ما يسعى من يطلق عليهم الكتاب الواقعيون في وقتنا الحاضر أن يفعلوه في زمننا. بعبارة أخرى، لقد صور لنفسه البيئة المحيطة والعادات، التي تشكل في نهاية المطاف جانبا كبيرا من حياة الناس؛ وذلك من أجل أن يصور بوضوح أكبر الطريقة التي كان يعيش بها الناس في ظل تلك الظروف. ومع ذلك، فقد قال سكوت صراحة عن نفسه إنه لا يدعي الدقة المطلقة في تلك الأمور. وقد استخدم هذه المعرفة التي كانت لديه عن العصور القديمة، التي كانت، بطبيعة الحال، معرفة ضخمة لشخص عاش فترة طويلة (لنقل) في فرنسا؛ ما يجعله، إذا جلب الحياة والشخصيات الفرنسية إلى القصة، أكثر دقة من شخص لم يعبر القنال الإنجليزي قط. ومع ذلك، فإن الشخصيات في «إيفانهو» هي شخصيات حية، وليست مجرد شخصيات عادية ترتدي ملابس رسمية؛ إذ نستمتع بتفاصيل الحصار والموكب الفخم للمباراة، ولكننا نتحمس أكثر لمعرفة مصائر ويلفريد وحلفائه، وينتابنا القلق الشديد حول إنقاذ ريبيكا من المستبدين بها، ونتعرف على سيدريك وجيرث وبقية الأصدقاء الذين نتعرف عليهم.
إن كتابا مثل «إيفانهو» لا يقرأ بغية التعلم، كما نقرأ عن الخصائص الجغرافية لآسيا أو معركة ووترلو، ولكن من خلال المتعة التي نستقيها منه (وهذا ينطبق على جميع الأعمال الأدبية الجيدة) نزيد معرفتنا بما نسميه «الحياة» بمعناها الأوسع والأعم. ففكرة «الفارس المثالي» أو الرجل النبيل كما نطلق عليه الآن، وهو الشخص الذي يكتسب بالولادة والمران وكذلك الشخصية وداعة ورحمة ودماثة ومراعاة لمشاعر الآخرين، وكذلك شجاعة ومهارة في أعمال الرجال، هي فكرة لا تنتمي فقط إلى عصر الفرسان، وإنما لكل العصور. لم يكن سكوت يعتقد أن الناس قد ولدوا متساوين، ولكنه كان يعي النقائص التي كان النبلاء، الذين لا يتمتعون بصفات الفارس المثالي، عرضة لها. وستكشف دراسة لسلوك مجموعة من الفرسان في رواية «إيفانهو» عن تصور الكاتب عن أسمى أنواع الرجولة. وبعيدا عن سحر ريبيكا والتشويق التراجيدي في قصتها، فربما كان من السمات الخاصة لفترة كان العنف الوحشي مقبولا فيها باعتباره أمرا عاديا، أنه كان لا بد من وجود رجل به من صفات الفروسية ما يكفي لحماية حتى اليهوديات البائسات بقوة سلاحه. وعندما نتذكر أن الجزء الأكبر من قصة «إيفانهو» قد أملي بينما كان المؤلف يعاني من ألم مبرح جراء مرض لم يكن من المتوقع أن ينجو منه، فلا بد أن نعده هو أيضا مثالا على السلوك البطولي الذي أعجب به كثيرا ووصفه بأسلوب أدبي بارع. •••
ملحوظة: «الأجزاء المحذوفة من نص الرواية الأصلي مشار إليها باختصار شديد في الهوامش بنهاية الكتاب.»
شخوص الرواية
(1) الشخصيات التاريخية
ريتشارد الأول:
الملقب بقلب الأسد، خلال الجزء الأكبر من حكمه (1189-1199) كان في فلسطين في إحدى الحملات الصليبية (1189-1193) يحارب الأتراك بقيادة سلطانهم العظيم صلاح الدين؛ من أجل أن يسترد للأمم المسيحية القدس وكنيسة القبر المقدس، التي بنيت فوق قبر المسيح. وفي طريق عودته من الحملة الصليبية، وقع في الأسر على يد أرشيدوق النمسا. في القصة، قدم على أنه أتى إلى إنجلترا خفية متنكرا في هيئة «الكسلان الأسود»، أو «الفارس البليد». وقد نزل بالفعل في بلدة ساندوتش جهرا، واستقبله شعبه علانية بترحاب شديد.
جون:
أخوه الأصغر، حاول تكوين طائفة تتبعه آملا في عدم رجوع ريتشارد، وقد تآمر في سبيل تحقيق هذا الغرض مع بعض البارونات ومع فيليب أغسطس ملك فرنسا. (2) الشخصيات الخرافية، أو الشبه التاريخية
لوكسلي:
أو روبن هود، الخارج عن القانون. وردت قصة روبن هود في أغان شعبية ألفت قبل نحو 200 سنة من تاريخ هذه القصة، وربما تشير إلى روبن هود حقيقي عاش في عهد إدوارد الثاني. وقد روت عنه تلك الأغاني الشعبية حكايات في الشجاعة ومآثر رائعة في الرماية كالتي أدتها شخصية لوكسلي.
الراهب:
أو كاهن بلدة كوبمانهورست، عرف في الأغاني الشعبية بالراهب توك، وهو أحد حلفاء روبن هود. جميع الخارجين عن القانون من الساكسونيين. (3) شخصيات غير تاريخية (أ) الساكسونيون
سيدريك:
سيد، أو فرانكلين (مالك أراض)، أو كما يطلق عليه الآن إسكواير، روثيروود. يدعي أنه سليل هيرورد، آخر الإنجليز الذين قاوموا وليام الفاتح، ولكن هيرورد في الواقع لم يخلف سليلا.
ويلفريد:
ابن سيدريك، وفارس إيفانهو. وقد أعطاه ريتشارد الأول ضيعة إيفانهو، ولكن أثناء غيابه في الحملة الصليبية، منحها جون لفرونت دي بوف. كان أول ظهوره كحاج مسعف، ثم في مباراة الفروسية كفارس محروم من الإرث.
أثيلستان:
لورد كونينجسبورج، وهي قلعة في يوركشاير ذات شأن كبير في العصور القديمة. يوصف بأنه سليل إدوارد المعترف، آخر ملك إنجليزي قبل وليام الأول، مع أن إدوارد في الواقع لم يخلف سليلا. وكان المالك الفعلي لكونينجسبورج في هذا الوقت هو وليام دي وارين، حيث منحها وليام الفاتح لسلفه.
روينا:
وريثة ضيعة هارجوتستاندستيدي، وتوصف بأنها سليلة ألفريد العظيم (871-890). وكانت تحت وصاية سيدريك، ويمكن، رهنا بموافقة الملك، منحها للزواج من أي شخص يختاره، وحينئذ تصبح ممتلكاتها ملكا لزوجها. كان ويلفريد يرغب في الزواج منها؛ ومن أجل ذلك طرده أبوه وحرمه من الميراث؛ إذ كان ينوي تزويجها لأثيلستان حتى تسنح الفرصة أمام مزاعمهما المشتركة في استحقاق العرش في إعلاء شأن الساكسونيين.
أولريكا، المعروفة بأورفريد:
ابنة توركيل ولفجانجر، المالك الساكسوني السابق لقلعة توركويلستون. قتل توركيل وأبناؤه على يد والد فرونت دي بوف، وأصبحت أولريكا عبدته والمفضلة لدى ريجينالد، والعدوة اللدود له بعد ذلك.
إيديث:
والدة أثيلستان.
جيرث مربي الخنازير، ووامبا المهرج، وأوزوالد الساقي.
هونديبيرت:
كبير الخدم، خدم سيدريك.
هيج:
ابن سنيل، والخادم السابق لإيزاك اليهودي. (ب) النورمانديون
براين دي بوا جيلبرت:
أحد أعضاء طائفة فرسان الهيكل ، التي أسست عام 1118 بغرض الدفاع عن الهيكل أو كنيسة القبر المقدس. أخذ فرسان الهيكل على أنفسهم نذور الرهبان المعتادة؛ ألا يتزوجوا، وأن يتشاركوا في كل شيء، وأن يطيعوا قائدهم السيد الأعظم دون أسئلة. كما تعهدوا على أن يكونوا جنودا محاربين في الحملات الصليبية، أو الحروب المقدسة. كان حب براين لريبيكا مناقضا لقسم الرهبنة الذي قطعه على نفسه.
والديمار فيتزورس:
يوصف بأنه ابن ريجينالد فيتزورس، الذي كان أحد قتلة توماس بيكيت. لا يعرف في الواقع ما حدث لريجينالد فيتزورس، أو ما إذا كان قد خلف سليلا.
موريس دي براسي:
قائد مجموعة الرفقاء الأحرار، الذين قاتلوا تحت لوائه في سبيل المال، والمغامرة تارة مع أحد الملوك أو أصحاب المقام، وتارة أخرى مع ملك أو صاحب مقام آخر. كان دي براسي ما يطلق عليه عادة الجندي المرتزق. والاثنان مناصران لفصيل الأمير جون.
لوكاس بومانوار:
السيد الأعظم لفرسان الهيكل. وكان الاسم الحقيقي للسيد الأعظم لفرسان الهيكل في هذا الوقت روبرت دي سابليه.
آيمر:
رئيس دير جورفولكس، راهب ثري وكسول. الاسم الحقيقي لرئيس دير جيرفولكس (جورفولكس) في هذا الوقت كان جون برومبتون.
ألبيرت دي مالفوازان، وكونراد دي مونتفيتشيت، وهيرمان أوف جودالريك:
كبار فرسان الهيكل؛ أي الموظفون التالون للسيد الأعظم في السلطة.
ريجينالد فرونت دي بوف:
مالك قلعة توركويلستون.
ريتشارد دي مالفوازان، ورالف دي فيبون فارس سانت جون، وهيو دي جراندميسنيل:
فرسان شاركوا في مباراة الفروسية.
داميان:
إسكواير (ردف) لفرسان الهيكل.
أمبروز:
راهب جورفولكس. (ج) اليهود
إيزاك أوف يورك:
مقرض أموال ثري وبخيل يدعي الفقر للهرب من ابتزاز المسيحيين ووحشيتهم.
ريبيكا:
ابنة إيزاك، وتحب ويلفريد.
بين صامويل:
طبيب وصديق إيزاك.
الفصل الأول
في قاعة لا يتناسب ارتفاعها مع طولها وعرضها البالغين، كانت طاولة طويلة، من ألواح خشنة من خشب البلوط المأخوذ من الغابة تكاد تكون لم تصقل، معدة على أهبة الاستعداد لعشاء سيدريك الساكسوني. ولم يكن السقف، الذي كان مكونا من حمالات وعوارض، يفصل الغرفة عن السماء إلا بالألواح الخشبية والقش. وكانت توجد مدفأة ضخمة في كل طرف من طرفي القاعة، ولكن نظرا إلى أن المداخن كانت مبنية بطريقة غير متقنة على الإطلاق، فكان الكثير من الدخان يدخل إلى الغرفة متسربا من مخرج الدخان. وكانت الأرضية فيما يقرب من ربع طول الغرفة مرتفعة عن بقيتها عبر درج، وكانت هذه المساحة التي كان يطلق عليها المنصة لا يشغلها سوى أفراد العائلة الرئيسيين والزائرين المميزين؛ لذلك وضعت طاولة مغطاة جيدا بقماش قرمزي اللون بالعرض عبر المنصة، حيث امتد من منتصفها تجاه الطرف القصي من القاعة طاولة أطول وأقل ارتفاعا كان الخدم وتابعوهم يتناولون عليها طعامهم؛ فبدت الطاولتان على شكل حرف تي. وكانت الكراسي الضخمة والمقاعد الخشبية الطويلة من البلوط المنقوش قد وضعت على المنصة، وفوق تلك المقاعد والطاولة الأكثر ارتفاعا ثبتت مظلة من القماش، كانت تحمي بعض الشيء الأعيان الذين كانوا يشغلون ذلك المكان المميز من تقلبات الطقس.
وفي مركز الطاولة العليا، كان ثمة كرسيان أكثر ارتفاعا من بقية الكراسي لرب العائلة وربتها، وكان أحد هذين المقعدين يشغله عندئذ سيدريك الساكسوني، الذي شعر عند تأخر عشائه على الرغم من كونه سيدا أنجلوساكسونيا بصبر نافد من ذلك النوع الذي يعتري رؤساء القبائل. وقد بدا من سيماء هذا المالك أنه كان صريحا، لكنه كان متهورا وسريع الغضب. كان رجلا متوسط القامة، ولكنه كان عريض الكتفين وطويل الذراعين وقوي البنية، كمن هو معتاد على تحمل المصاعب. وكان وجهه عريضا بعينين زرقاوين كبيرتين، وملامح صريحة، وأسنان حسنة الشكل، ورأس متناسق. وكان شعره الأصفر الطويل مقسوما بالتساوي على قمة رأسه وعلى حاجبيه، ومصففا لأسفل على كلا الجانبين وحتى كتفيه. ولم يكن به سوى بعض الشيب على الرغم من اقتراب سيدريك من عامه الستين.
كان ملبسه سترة خضراء كخضرة الغابات، مكسوة بالفرو عند الحلق، وبأكمام من فرو السناجب الرمادية. وكان يرتدي هذه السترة المحلولة الأزرار فوق قميص قرمزي اللون كان ضيقا للغاية حتى كاد يلتصق بجسمه. وكان يرتدي بنطالا من القماش نفسه، ولكنه لم يكن يصل أسفل الجزء السفلي لفخذه، تاركا ركبتيه مكشوفتين . أما في قدميه، فقد كان يلبس حذاء خفيفا مربوطا من الأمام بإبزيم ذهبي. كما كان يضع أساور من الذهب في ذراعيه، وطوقا عريضا من المعدن النفيس نفسه حول عنقه. وحول خصره، ارتدى حزاما مرصعا بغزارة، كان مغمودا فيه سيف قصير مستقيم ذو حدين بذؤابة حادة، ويكاد يميل إلى التدلي رأسيا بجانبه.
لم يكن سيدريك في حالة ذهنية شديدة الصفاء؛ لأن الليدي روينا، التي كانت غائبة لحضور تجمع مسائي كبير في إحدى الكنائس البعيدة، كانت قد عادت للتو، وكانت تغير ثوبها الذي بللته العاصفة؛ كما لم تكن ثمة أنباء بعد عن جيرث، مربي الخنازير، وعن شحنته التي كان يجب أن تكون قد عادت منذ وقت طويل من الغابة إلى مأواها. وعلاوة على مسببات القلق هذه، كان السيد الساكسوني ينتظر حضور مهرجه المفضل وامبا بصبر نافد. أضف إلى ذلك كله أن سيدريك لم يكن قد تناول الطعام منذ الظهيرة، وقد فاتت ساعة غدائه المعتادة منذ وقت طويل؛ فظهر استياؤه في جمله المتقطعة، التي كان يتمتم ببعضها لنفسه حينا، ويوجهها للخدم الواقفين حوله حينا آخر؛ فتساءل: «لماذا تأخرت الليدي روينا؟»
ردت إحدى الخادمات: «إنها فقط تغير غطاء رأسها؛ فبالطبع لا ترغب في أن تجلس معك على المائدة بقلنسوتها وثوبها، أليس كذلك؟ ولا يمكن لسيدة في المقاطعة أن تغلب سيدتي في سرعة تغييرها لملابسها.»
قال: «هراء! أتمنى أن تتخير تقواها طقسا أفضل في المرة التالية التي تزور فيها كنيسة القديس جون، ولكن، بحق اللعنة، ما الذي يؤخر جيرث في الحقل كل هذا الوقت؟ لا بد أن مكروها قد أصاب القطيع.»
قال أوزوالد الساقي بتواضع: «لم تكد ساعة تمر منذ دق ناقوس إطفاء الأنوار.»
قال سيدريك متعجبا: «ليأخذ الشيطان الأحمق ناقوس إطفاء الأنوار، والطاغية وريثه، والعبد العديم الرحمة الذي يذكره بلسان ساكسوني على أذن ساكسونية! ناقوس إطفاء الأنوار! أجل، ناقوس إطفاء الأنوار، الذي يجبر الرجال الحقيقيين على إطفاء أنوارهم، فيبدأ اللصوص في عملهم في الظلام! أجل، ناقوس إطفاء الأنوار. يعلم كل من ريجينالد فرونت دي بوف وفيليب دي مالفوازان كيفية استغلال ناقوس إطفاء الأنوار كويليام الفاتح نفسه، أو كما يعرفها أي مغامر نورماندي قاتل في هاستنجز. أظن أنني سأسمع أن خادمي المخلص قد قتل، وأن ممتلكاتي قد أخذت غنيمة، وأن وامبا ... أين وامبا؟ ألم يقل أحد ما إنه خرج مع جيرث؟»
أجاب أوزوالد بالإيجاب. «أجل؟ هذا أفضل وأفضل! لقد اختطف أيضا، الأحمق الساكسوني، ليعمل في خدمة اللورد النورماندي. سأذهب بشكواي إلى المجلس الأعظم؛ فلدي أصدقاء وتابعون، وسأدعو النورماندي للقتال رجلا لرجل.» وصاح بصوت أخفض: «آه، ويلفريد، ويلفريد! لو كنت قد استطعت إحكام عاطفتك المفرطة، لما ترك أبوك في هذه السن كشجرة بلوط وحيدة.»
انتبه سيدريك فجأة من استغراقه في التفكير بفعل نفخة بوق.
وقال: «إلى البوابة أيها الأوغاد! لنسمع الأنباء التي يخبرنا بها ذلك البوق.»
أعلن أحد الحراس قائلا: «إن آيمر رئيس دير جورفولكس، والفارس الكريم براين دي بوا جيلبرت قائد طائفة فرسان الهيكل الباسلة الموقرة، ومعهما حاشية صغيرة، يطلبان الاستضافة والمبيت الليلة؛ كونهما في طريقهما إلى إحدى مباريات الفروسية المقرر عقدها في مكان ليس ببعيد عن آشبي دي لا زوش بعد يومين.»
غمغم سيدريك قائلا: «آيمر، رئيس الدير آيمر؟ وبراين دي بوا جيلبرت؟ كلاهما من النورمانديين، ولكن سواء أكانا من النورمانديين أو الساكسونيين، فلا يجب أن تتهم ضيافة روثيروود بالتقصير؛ لذا فهما مرحب بهما ما داما اختارا التوقف هنا، لكن ترحابي بهما كان سيزيد لو كانا قد اختارا أن يمضيا في طريقهما دون توقف عندنا. اذهب يا هونديبيرت، وأحضر ستة من الخدم، وأرشد الغرباء إلى مأوى الضيوف، واعتن بجيادهم وبغالهم، وانظر إن كان ينقصهم أي شيء. وقل لهم يا هونديبيرت إن سيدريك كان سيرحب بهم بنفسه لولا أنه قد أخذ على نفسه عهدا ألا يخطو أكثر من ثلاث خطوات من منصة ردهته لمقابلة أي أحد لا يشاركه الدم الساكسوني الملكي. انصرف! واخدمهم بعناية.»
غادر كبير الخدم ومعه عدة خدام لتنفيذ أوامر سيده. وأخذ سيدريك يكرر: «رئيس الدير آيمر! يقولون إن رئيس الدير هذا قس متحرر ومرح، ويحب النبيذ وبوق الصيد أكثر من جرس الكنيسة والكتاب المقدس. حسنا، فليدخل المنزل ولنرحب به. ما اسم فارس الهيكل؟» «براين دي بوا جيلبرت.»
قال سيدريك: «بوا جيلبرت؟ بوا جيلبرت؟ لهذا الاسم شهرة واسعة في الخير وكذلك الشر، ويقولون إنه في بسالة أشجع الرجال في طائفته، لكنه موصوم بنقائصهم المعتادة؛ من كبر وعجرفة وقسوة وشهوانية. حسنا، إنها مجرد ليلة واحدة، وهو مرحب به أيضا. يا إلجيثا، أعلمي سيدتك روينا أننا لن ننتظرها الليلة في القاعة، إلا لو كانت تلك رغبتها الخاصة.»
ردت إلجيثا: «ولكنها سترغب في ذلك؛ لأنها تريد دوما أن تسمع آخر الأخبار من فلسطين.»
أجاب سيدريك: «صمتا، يا فتاة. إن لسانك يسبق تفكيرك. أبلغي رسالتي لسيدتك واتركيها تقرر ما ترغب؛ فهنا، على الأقل، ما زالت سليلة ألفريد أميرة.»
الفصل الثاني
استغل رئيس الدير آيمر الفرصة التي أتيحت له في تغيير رداء ركوب الجياد إلى رداء آخر من مواد أكثر قيمة، وارتدى فوقه رداء الكاهن المطرز بغرابة. وأبدل فارس الهيكل قميصه المزرد بسترة من الحرير الأرجواني الداكن المزخرف بالفرو، وأسدل فوقه رداءه الطويل الشديد البياض ذا الطيات الواسعة. وكان صليب طائفته ذو الحواف الثمانية منقوشا على كتف عباءته بقماش مخملي أسود. أما حواجبه، فقد كان يظللها شعر قصير متموج كثيف شديد السواد كسواد الغراب، يتماشى مع بشرته الداكنة على غير المعتاد. ولم يكن يمكن لشيء أن يكون أكثر مهابة ورشاقة من خطواته وطريقته، لولا ما يسودهما من عجرفة.
كان يتبع الشخصين المبجلين خدمهما الخاص، وعلى مسافة أبعد تبعهما مرشدهما، الذي لم يكن في هيئته ما يلفت الانتباه أكثر من كونها مستمدة الثياب المعتادة للحجاج. تبع في تواضع آخر الركب الذي دخل الردهة، وانسحب إلى مقعد طويل وضع في أحد الأركان وأسفل إحدى المدخنتين الكبيرتين تقريبا، وبدا أنه يشغل نفسه بتجفيف ثوبه، حتى يخلو مكان إلى الطاولة بقيام أحد الأشخاص.
قام سيدريك لاستقبال ضيفيه، ونزل من المنصة، وتقدم ثلاث خطوات نحوهما، ثم توقف منتظرا اقترابهما.
قال: «يحزنني يا رئيس الدير الموقر أن قسمي يمنعني من التقدم لأكثر من ذلك على أرضية آبائي هذه، حتى وإن كان لاستقبال ضيوف مثلك، ومثل هذا الفارس الباسل من فرسان الهيكل المقدس، ولكن رئيس خدمي شرح لكما سبب سلوكي الذي يبدو أنه يتنافى مع آداب اللياقة.»
بإشارة من يده جعل ضيفيه يتخذان مقعدين أقل ارتفاعا بعض الشيء من مقعده، ولكنهما وضعا بجواره، ثم بإشارة أخرى أمر بوضع طعام العشاء على الطاولة.
عندما أوشكوا على البدء في تناول الطعام رفع رئيس الخدم، أو القهرمان، عصاه فجأة قائلا: «مهلا! أفسحوا الطريق لليدي روينا.» وعلى الرغم من الشعور بالمفاجأة الذي انتاب سيدريك لظهور الوصي عليها على الملأ في مناسبة كهذه، هرع إلى مقابلتها والترحيب بها بإجلال، مرشدا إياها إلى المقعد المرتفع على يمينه المخصص لسيدة المنزل. وقف الجميع لاستقبالها، وردت عليهم تحيتهم بإيماءة صامتة، وتقدمت برشاقة متخذة مكانها إلى الطاولة. وقبل أن تجلس، همس فارس الهيكل لرئيس الدير قائلا: «لن أرتدي ياقتك الذهبية في مباراة الفروسية. أما نبيذ «شيان» فهو لك.»
رد رئيس الدير: «ألم أقل لك ذلك؟ ولكن انتبه ولا تفرط في إظهار نشوتك بجمالها؛ فالفرانكلين يراقبنك.»
في غير انتباه لهذا التحذير، أبقى براين دي بوا جيلبرت عينيه مثبتتين على الجميلة الساكسونية. كانت روينا تتمتع بملامح هي الأبهى من بين بنات جنسها، وكانت طويلة القامة، وذات بشرة ناصعة البياض، ولكن رأسها وقسماتها اللذين غلب عليهما أسلوب النبلاء قد أزالا عن حسنها أن يكون بلا طعم مثلما تتسم أحيانا الفتيات الفائقات الجمال. وكانت عيناها الزرقاوان الصافيتان تبدوان قادرتين على إشعال النار وإخمادها، وعلى الأمر والنهي واستدرار العطف في الآن نفسه. أما شعرها الغزير، فقد كان لونه بين البني والكتاني، وكان مصففا بطريقة غريبة ورشيقة إلى عدة حلقات، مكونا قطعة فنية أسهمت فيها الطبيعة، وكانت خصلاته مزينة بأحجار كريمة، ولما كانت مسترسلة على طولها برز أصلها النبيل والحر. وكانت ترتدي قميصا طويلا، وفوقه سترة من الحرير بلون البحر الأخضر الباهت، وفوقهما أسدلت ثوبا فضفاضا طويلا قرمزي اللون، وكان مثبتا بجزئه العلوي غطاء رأس من الحرير المجدول بالذهب.
عندما رأت روينا عيني فارس الهيكل لا تكفان عن التحديق فيها، سحبت غطاء رأسها في وقار وغطت به وجهها. لاحظ سيدريك الحركة وسببها، فقال: «سيدي الفارس، إن وجنات عذراواتنا الساكسونيات لم تر الشمس إلا بقدر قليل لا يسمح لهن بتحمل نظرة ثابتة من أحد الصليبيين.»
رد السيد براين: «إن كنت قد أسأت التصرف فعذرا، أو بالأحرى أقدم اعتذاري لليدي روينا؛ لأن تواضعي لن يحملني على الاعتذار لمن هو أدنى.»
قال رئيس الدير: «عاقبتنا الليدي روينا جميعا بتأديبها لصديقي على جرأته. آمل أن تكون أقل قسوة على الحشد الغفير الذي سيلتقي في المباراة.»
قال سيدريك: «إن ذهابنا إلى هناك غير مؤكد؛ فأنا لا أحب هذه التفاهات التي لم يعرفها آبائي عندما كانت إنجلترا حرة.»
قال رئيس الدير: «ومع ذلك لنأمل أن تجعلك صحبتنا تقرر الذهاب إلى هناك؛ فعندما تكون الطرق غير آمنة فإن رفقة السيد براين دي بوا جيلبرت أمر لا يستهان به.»
أجاب الساكسوني: «سيدي رئيس الدير، حيثما أذهب في هذه الأرض فإنني حتى يومنا هذا أجد نفسي في غير حاجة إلى عون من أحد؛ بمساعدة سيفي الجيد وأتباعي المخلصين. سأشرب في صحتك يا سيدي رئيس الدير كأس النبيذ هذه، وأنا واثق من أن مذاقه سيلقى قبولك، وأشكرك على لطفك.»
قال القس: «في ديرنا فقط نتقيد بالحليب المحلى، أما عندما نتعامل مع العالم الخارجي فنحن نتبع طريقته في الحياة؛ لذلك سأقبل نخب نبيذك القوي.»
قال الفارس وهو يملأ قدحه: «وأنا سأشرب نخب الجميلة روينا؛ لأنه منذ أدخلت سميتها الكلمة إلى إنجلترا لم تأت من هي أحق منها بهذا التقدير.»
قالت روينا بوقار ودون أن ترفع حجابها عن وجهها: «أنا في غنى عن مجاملتك أيها الفارس، ولكني سأطلب منك أن تنبئنا بآخر الأخبار من فلسطين.»
أجاب السيد براين دي بوا جيلبرت: «ليس لدي شيء مهم أخبرك به يا سيدتي، باستثناء الأنباء المؤكدة عن عقد هدنة مع صلاح الدين.»
قطع الحديث هنا دخول حارس البوابة، معلنا أن بالبوابة رجلا غريبا يلتمس الدخول والاستضافة.
قال سيدريك: «اسمح له بالدخول، أيا من كان أو مهما كان؛ فليلة كتلك تعصف في الخارج تجبر حتى الحيوانات الضارية على السير مع القطعان المستأنسة في وداعة.»
عاد أوزوالد وهمس في أذن سيده: «إنه يهودي يدعى إيزاك أوف يورك.»
الفصل الثالث
باستقبال قليل الحفاوة، اقترب رجل عجوز ونحيف من الطرف الأدنى للطاولة، وكان يتقدم بخوف وتردد، وينحني انحناء يدل على تواضع شديد. كانت ملامحه حادة وعادية، وكان أنفه معقوفا، وعيناه سوداوين ثاقبتين، وجبينه مرتفعا وبه تجاعيد، وكان ذا شعر ولحية رماديين طويلين. وكاد يعد وسيما لولا سيماء وجهه المميزة لعرق معين كان يكرهه العامة ويضطهده النبلاء في تلك العصور المظلمة. كان يرتدي قبعة صفراء مرتفعة ومربعة ذات طراز غريب، وانتزعها بتواضع شديد عند باب القاعة.
أومأ سيدريك برأسه ببرود ردا على تحيات اليهودي المتكررة، وأشار إليه ليتخذ موضعا في الطرف الأدنى من الطاولة، ومع ذلك لم يفسح له أحد مكانا هناك. وبينما كان إيزاك واقفا على إثر ذلك منبوذا بين الحضور، كما كان قومه بين الأمم، يبحث عبثا عن ترحاب أو مكان ليجلس فيه، تعاطف معه الحاج الذي كان جالسا بجوار المدخنة؛ واستغنى له عن مقعدة قائلا باقتضاب: «أيها العجوز، إن ثوبي قد جف، وجوعي قد سكن، أما أنت فمبتل وجائع.» قال ذلك ثم جمع الجمرات الخابية المتبعثرة على الموقد الفسيح ورماها في اللهب، وأخذ من الطاولة الأطول وعاء من الحساء ولحم جدي مسلوقا، ووضعه على الطاولة الصغيرة التي كان قد تناول عشاءه عليها، ومضى إلى الجانب الآخر من القاعة دون انتظار شكر من اليهودي.
انحنى اليهودي بجسده الضامر، ومد يديه المرتجفتين والمرتعشتين من البرد أمام النار، وعندما تخلص من شعوره بالبرد رجع بهمة إلى الوعاء الذي ينبعث منه البخار، الذي كان قد وضع أمامه، وأكل على عجل وبتلذذ واضح يدلان على أنه مكث طويلا دون طعام.
في تلك الأثناء كان رئيس الدير وسيدريك يتبادلان الحديث حول الصيد، وبدت الليدي روينا منخرطة في محادثة مع إحدى خادماتها.
قال رئيس الدير مستكملا حديثه مع سيدريك: «أتعجب أيها النبيل سيدريك أنه على قدر عظم ولعك بلغتك التي تتسم بالرجولة، فإن الفرنسية النورماندية لا تلقى لديك قبولا، على الأقل فيما يخص شئون الغابات والصيد.»
قال الساكسوني: «أيها الأب الطيب آيمر، فلتعلم أنني لا أهتم بتلك المصطلحات الأجنبية، التي لا أحتاج إليها كي أستمتع بالغابات.»
قال الفارس، رافعا صوته بنبرة وقحة ومتسلطة اعتاد استخدامها في جميع المناسبات: «إن الفرنسية ليست فقط اللغة المعتادة للمطاردة، ولكنها أيضا لغة الحب والحرب، التي تمتلك بها قلوب النساء، ويغلب بها الأعداء.»
قال سيدريك: «فلتشرب معي أيها الفارس كأس نبيذ، ولتملأ كأسا أخرى لرئيس الدير بينما أعود بذاكرتي ثلاثين عاما لأخبرك بحكاية أخرى. لم تكن حكاية سيدريك الساكسوني بإنجليزيته السهلة في تلك الأيام بحاجة إلى أي زخرف من القول من أي شاعر متجول فرنسي وهي تلقى على آذان الحسناوات. أيها الساقي! يا ولد، املأ الأقداح لنشرب أيها السيد فارس الهيكل نخب الأقوياء الذين حملوا السلاح، من أي عرق أو لغة كانوا، الواقفين الآن ببسالة في فلسطين بين أبطال الصليب!»
قال السيد براين دي بوا جيلبرت: «لا يجدر بشخص يرتدي هذه الشارة أن يجيب، ولكن إلى من يمنح إكليل الغار من بين أبطال الصليب، بخلاف أبطال الهيكل المقدس المتخذين عهدا على أنفسهم؟»
قالت الليدي روينا: «ألا يوجد إذن في الجيش الإنجليزي من يستحقون أن تذكر أسماؤهم مع فرسان الهيكل وفرسان القديس جون؟»
أجاب دي بوا جيلبرت قائلا: «معذرة يا سيدتي؛ فالعاهل الإنجليزي جلب بالفعل لفلسطين زمرة من المحاربين البسلاء، الذين لا يفوقهم سوى هؤلاء الذين كانت صدورهم دائما دروعا واقية لتلك الأرض المباركة.»
قال الحاج، الذي كان واقفا قريبا بما يكفي لأن يستمع إلى حديثهم، وقد استمع لهذه المحادثة بنفاد صبر جلي: «لا يفوقهم أحد.» فالتفت الجميع نحو المكان الذي صدر منه هذا الإقرار غير المتوقع، وكرر الحاج بصوت حازم وقوي: «أقول إن الفرسان الإنجليز لا يفوقهم أحد من بين من حملوا يوما سيفا دفاعا عن الأرض المقدسة. وأضيف، لأنني رأيت بأم عيني، أن الملك ريتشارد بنفسه ومعه خمسة من فرسانه قد أقاموا مباراة فروسية بعد الاستيلاء على سانت جون داكر، وتحدوا فيها كل المتقدمين. وأشهد أنه في ذلك اليوم خاض كل فارس ثلاث جولات، وطرح أرضا ثلاثة خصوم. وأضيف أن سبعة من هؤلاء المهاجمين كانوا من فرسان الهيكل؛ ويعلم السيد براين دي بوا جيلبرت جيدا صدق ما أقوله لكم.»
قال سيدريك: «سأعطيك هذا السوار الذهبي أيها الحاج إن استطعت أن تخبرني بأسماء أولئك الفرسان الذين رفعوا ببسالة منقطعة النظير اسم إنجلترا الجميلة.»
رد الحاج: «سأفعل ذلك بسرور، ودون مكافأة؛ فقسمي يحرم علي، إلى حين، أن أمس الذهب. الأول في الشرف كما في حمل السلاح، وفي الشهرة وفي قدره على حد سواء، كان ريتشارد الشجاع، ملك إنجلترا.»
قال سيدريك: «أسامحه، وأغفر له انحداره من نسل الطاغية الدوق «وليام».»
تابع الحاج قائلا: «الثاني كان إيرل ليستر، والثالث كان السيد توماس مولتون أوف جيلسلاند.»
قال سيدريك مهللا: «إنه على الأقل من أصل ساكسوني.»
واصل الحاج: «والرابع هو السيد فولك دويلي.»
تابع سيدريك: «ساكسوني أيضا، على الأقل من ناحية الأم. ومن كان الخامس؟» «الخامس كان السيد إدوين تورنهارا.»
صاح سيدريك: «ساكسوني أصيل، وبه روح هينجست!» وتابع بتلهف: «وماذا عن السادس؟ ما اسم السادس؟»
قال الحاج بعد أن توقف قليلا وبدا أنه يستجمع ذاكرته: «كان السادس فارسا شابا أقل شهرة وأدنى منزلة، ولم يكن انضمامه إلى تلك الصحبة المبجلة بهدف مساعدتهم في مغامرتهم بقدر ما كان لاستكمال عددهم، أما اسمه فيغيب عن ذاكرتي.»
قال السيد براين دي بوا جيلبرت بسخرية: «أيها السيد الحاج، هذا النسيان المزعوم، بعد كل ما تذكرته، جاء بعد فوات الأوان، ولن يخدم غرضك. سأخبرك بنفسي باسم الفارس الذي تسبب حظه وخطأ جوادي في سقوطي أمام رمحه. لقد كان الفارس إيفانهو، ولم يكن أي من الستة، بالنظر إلى عمره، أكثر شهرة منه في استخدام السلاح، ولكني سأقول، وبملء فمي، إنه لو كان في إنجلترا وجرؤ، في مباراة هذا الأسبوع، على تكرار التحدي الذي حدث في سانت جون داكر، فسأعطيه، وأنا على صهوة جوادي وحاملا سلاحي كما أنا الآن، كل أفضلية في اختيار سلاحه، وسأتحمل نتيجة ذلك.»
رد الحاج: «كان تحديك سيلقى استجابة عاجلة لو كان خصمك بجوارك. وما دام الأمر كما هو عليه فلا تعكر صفو هذه القاعة بتبجحك في مسألة الصراع الذي تعرف تمام المعرفة أنه لن يقع. إن رجع إيفانهو يوما من فلسطين فأنا ضامنه في أنه سيلاقيك.»
قال فارس الهيكل: «يا لها من ضمانة! وماذا تقدم رهنا على ذلك؟»
قال الحاج وهو يخرج من جيب صدره صندوقا من العاج ويرشم الصليب على نفسه: «هذا الأثر المقدس، الذي يحتوي على جزء من الصليب الحقيقي، جلب من دير جبل الكرمل.»
دون أن يرفع قلنسوته أو يظهر أي تبجيل للقداسة المزعومة للأثر، انتزع الفارس من عنقه سلسلة ذهبية ورماها على الطاولة، قائلا: «ليحتفظ رئيس الدير آيمر برهينتي وبرهينة هذا المتجول المجهول الاسم؛ دليلا على أنه عندما يأتي الفارس إيفانهو ويصبح داخل حدود بحار بريطانيا الأربعة، فإنه سيخضع لتحدي براين دي بوا جيلبرت، وإن رفض التحدي فسأعلن أنه جبان على جدران جميع أديرة الهيكل في أوروبا.»
قالت الليدي روينا قاطعة صمتها: «لن تكون ثمة حاجة إلى ذلك؛ فسأعلو بصوتي، إن لم يرفع أحد غيري في هذه القاعة صوته نيابة عن إيفانهو الغائب. أؤكد أنه سيقبل كل تحد مبجل بنزاهة. إن كان تعهدي الضعيف سيضيف ضمانا لرهن الحاج المقدس الذي لا يقدر بثمن، فإنني أتعهد باسمي وسمعتي أن إيفانهو سيواجه هذا الفارس المختال المواجهة التي يبغيها.»
حينئذ كانت كأس النعمة تدار على الضيوف، الذين - بعد انحناءات عميقة للمالك والليدي روينا - نهضوا مختلطين بعضهم ببعض في القاعة، بينما انصرف رأسا العائلة مع خدمهما من بابين منفصلين.
قال فارس الهيكل لإيزاك اليهودي عندما مر عليه بين الحشد: «أيها الكلب الكافر، ألن تمر في طريقك على المباراة؟»
رد إيزاك وهو منحن في مذلة شديدة: «أنوي ذلك بالفعل ، إن سمحت بسالتكم المبجلة.»
قال الفارس: «أجل؛ كي تنهش أحشاء نبلائنا بالربا، وتخدع النساء والصبيان بالزينة والألعاب. أراهن على أن معك مخزونا من الشيكلات في كيس نقودك اليهودي.»
قال اليهودي شابكا يديه: «ليس معي شيكل واحد أو بنس فضي أو نصف بنس. ليكن إله إبراهيم في عوني! فلن أذهب إلا طالبا للمساعدة من بعض إخوتي من بني جنسي ليعاونوني على دفع الغرامة التي فرضها علي بيت مال اليهود. ساعدني يا أبانا يعقوب! أنا صعلوك فقير.»
ابتسم فارس الهيكل ابتسامة مريرة وهو يرد عليه قائلا: «اللعنة عليك أيها الكاذب المنافق!» ثم مضى في طريقه كما لو كان يترفع عن الاستمرار في الحديث معه، وأخذ يتحدث مع عبيده المسلمين بلغة غير معروفة للمحيطين بهم.
الفصل الرابع
بينما كان الحاج يسير، ومعه خادم يضيء له المكان بمشعل، عبر التركيبة المعقدة لغرف هذا المنزل الكبير غير العادي، قابل وصيفة روينا التي كانت في انتظاره، والتي قالت له إن سيدتها ترغب في الحديث معه، وأخذت المشعل من يد آنولد وطلبت منه أن ينتظرها حتى تعود، مشيرة إلى الحاج أن يتبعها. قاده ممر قصير إلى غرفة الليدي روينا؛ حيث كانت الجدران مغطاة بمعلقات مطرزة، وكان السرير محلى بنسيج مزدان بالرسوم والصور، ومحاط بستائر مصبوغة باللون الأرجواني. كانت المقاعد كذلك مغطاة بأقمشة مصبوغة، وكان أحدها الذي كان أعلى من البقية معدا للراحة بمسند قدمين من العاج المنقوش بإبداع.
كانت الليدي روينا جالسة على هذا المقعد الذي يشبه العرش، وثلاث من خادماتها واقفات خلفها يصففن شعرها قبل أن ترقد لتستريح. أعرب الحاج عن إجلاله لها بأن جثا على ركبتيه.
قالت بلطف: «انهض أيها الحاج؛ فالمدافع عن الغائب له الحق في أن ينال استقبالا مميزا من جميع من يقدرون الحق والشهامة الشريفة.» ثم قالت لتابعاتها: «انسحبن، عدا إلجيثا! فأنا أود التحدث إلى هذا الحاج التقي.»
تراجعت الخادمات إلى طرف الغرفة الأبعد دون أن يغادرنها.
قالت السيدة بعد توقف للحظة: «أيها الحاج، ذكرت هذه الليلة اسما، أعني اسم إيفانهو ، في قاعات من المفترض بطبيعة الحال وبحكم القرابة أن يلقى فيها كل قبول، ولكن من سخرية القدر أنه من بين كثيرين ممن كان لا بد أن تخفق قلوبهم لاسمه، لا يجرؤ أحد، سواي، على سؤالك أين، وفي أي حال، تركت من تحدثت عنه؟»
رد الحاج بصوت مضطرب: «لا أعلم سوى القليل عن الفارس إيفانهو. تمنيت لو عرفته أكثر بما أنك يا سيدتي مهتمة بمصيره. أعتقد أنه تغلب على ظلم أعدائه في فلسطين، وهو على وشك العودة إلى إنجلترا، حيث، كما لا بد أنك تعلمين يا سيدتي، أي فرصة في السعادة تنتظره هنا.»
قالت الليدي روينا: «أدعو الله أن يصل إلى هنا سالما، وقادرا على حمل السلاح في المباراة التي على وشك أن تقام؛ فلو حصل أثيلستان أوف كوننجزبيرج على الجائزة فمن المحتمل أن يسمع إيفانهو أخبارا سيئة عندما يصل إلى إنجلترا. كيف كان حاله، أيها الغريب، عندما رأيته آخر مرة؟ هل نال المرض بشدة من قوته ووسامته؟»
قال الحاج: «كان أشد سمرة ونحافة مما كان عليه عندما أتى من قبرص، وبدا أن الهم يثقل كاهله، ولكني لم أدن منه لأنني لا أعرفه.»
روينا والحاج، بريشة أدولف لالوز.
قالت السيدة: «أخشى ألا يجد إلا قلة في وطنه ممن يبددون سحب أحزانه. شكرا لك، أيها الحاج الطيب، على معلوماتك فيما يخص رفيق طفولتي.» ثم قالت: «أيتها الخادمات، اقتربن وقدمن كأس ما قبل النوم لهذا الرجل التقي الذي لن أحول أكثر من ذلك بينه وبين أن ينال قسطا من الراحة.»
أحضرت إحدى الخادمات كأس ما قبل النوم، التي تحتوي على خليط غني من النبيذ والبهارات، والتي وضعتها روينا بالكاد على شفتيها، ثم قدمتها للحاج الذي، بعد أن انحنى احتراما، ذاق منها بضع قطرات.
استأنفت السيدة حديثها وهي تقدم له قطعة من الذهب قائلة: «اقبل هذا العطاء يا صديقي؛ عرفانا بالمصاعب الشداد التي لاقيتها وبالأماكن المقدسة التي زرتها.»
تلقى الحاج العطية بانحناءة أخرى وتبع إلجيثا إلى خارج الغرفة. أرشده آنولد إلى جزء وضيع من المبنى ، حيث عدد من الغرف الصغيرة، أو بالأحرى الصوامع، المعدة لمبيت الخدم الأدنى شأنا والغرباء من ذوي المراتب الدنيا.
قال الحاج: «في أي من هذه ينام اليهودي؟»
أجاب آنولد: «إن وجار الكلب الكافر في الصومعة المجاورة لقداستك. بحق القديس دونستان، كم ستحتاج إلى حكها وتنظيفها كي تعود صالحة لمبيت مسيحي؟!»
قال الغريب: «وأين ينام جيرث مربي الخنازير؟»
رد العبد: «جيرث ينام في الصومعة عن يمينك؛ إذ إن اليهودي في تلك التي عن يسارك.»
ألقى الحاج بجسده على الأريكة الخشنة بعد أن أخمد مشعله، ونام حتى وجد أول شعاع من أشعة الشمس طريقه عبر النافذة الصغيرة ذات القضبان؛ عندئذ انتفض مستيقظا. وبعد أن أدى صلوات الصباح وهندم ثوبه، غادر الصومعة، ودخل صومعة إيزاك اليهودي، رافعا المزلاق بهدوء.
كان النزيل مستلقيا في نوم قلق على أريكة، وكانت يداه وذراعاه تتحرك بارتعاش كما لو كان يجاهد كوابيسه، وسمعت هذه الهتافات بوضوح: «لأجل إله إبراهيم، اصفح عن رجل مسن تعيس! أنا فقير، أنا معدم. وإن مزقت أسلحتكم أطرافي إربا إربا فلن أستطيع أن أرضيكم!»
لم ينتظر الحاج حتى ينتهي اليهودي من رؤياه، وإنما هزه بعصا الحج التي كان يحملها. انتفض الرجل العجوز مستيقظا وثبت على الحاج عينيه السوداوين الحادتين، اللتين كانتا تفصحان عن مفاجأة عارمة وخشية.
قال الحاج: «لا تخش شيئا مني يا إيزاك؛ فقد أتيتك صديقا.»
قال اليهودي: «ليجازك إله إسرائيل. لقد حلمت، ولكن ليتمجد أبونا إبراهيم، لم يكن سوى حلم! وما نفعك من يهودي بائس في مثل هذه الساعة المبكرة؟»
قال الحاج: «جئت لأقول لك إنه إن لم تغادر هذا المنزل على الفور وترحل على عجل، فقد تكون رحلتك محفوفة بالمخاطر.»
قال اليهودي: «يا أبانا المقدس! من ذا الذي يهتم بتعريض حياة فقير بائس مثلي للخطر؟»
قال الحاج: «يمكنك تخمين الغرض أكثر مني، ولكن ثق فيما أقول؛ فعندما عبر فارس الهيكل القاعة ليلة البارحة تحدث مع عبديه المسلمين باللغة العربية، التي أفهمها جيدا، وكلفهما هذا الصباح أن يترقبا رحيل اليهودي، وأن يمسكا به عندما يكون على مبعدة من المنزل، وأن يقتاداه إلى قلعة ريجينالد فرونت دي بوف.»
من المستحيل وصف شدة الرعب الذي كان قد أطبق على اليهودي لدى سماعه لهذه المعلومة؛ حيث بدا أنه قد سيطر على الفور على جميع قدراته.
وقال: «أيها الإله المقدس، إله إبراهيم! يا موسى المقدس! يا هارون المبارك! لا يحلم المرء الحلم عبثا، ولا تأتي الرؤيا عبثا؛ فأنا أشعر بالفعل بأسلحتهم تمزق أوصالي! أشعر بالمخلعة تمر فوق جسدي!»
قال الحاج: «قف يا إيزاك، وأنصت لي. لرعبك ما يسوغه، ولكني أقول لك قف، وسأدلك على وسيلة الهرب. غادر هذا المنزل في الحال. سأرشدك عبر المسارات السرية للغابة، التي أعرفها كما يعرفها أيضا أي حراجي يتجول فيها، ولن أتركك حتى تصبح في مأمن لدى شخص من الأعيان أو بارون ذاهب إلى المباراة، وربما يكون لديك وسيلة لنيل عطفه.»
عندما سمع إيزاك الجزء الأخير من الجملة، بدا خوفه الغريزي يتجدد بكامل قوته، وتبدى مرة أخرى على وجهه وهو يصيح بدهشة: «لدي وسيلة لنيل عطفه! وا حسرتاه! فليس ثمة سوى طريق واحد لنيل عطف مسيحي، ولكن كيف ليهودي فقير أن يجده، وقد استنزفه اغتصاب أمواله فأصبح في بؤس أليعازر؟ حبا في الرب، أيها الشاب، لا تخدعني. من أجل الآب الأعظم الذي خلقنا جميعا، يهودا وغير يهود، إسرائيليين وإسماعيليين، لا تخني! ليس لدي وسيلة لنيل رضا شحاذ مسيحي، ولو كان ذلك ببنس واحد.»
قال الحاج: «لو كنت محملا بجميع ثروة قومك، فما الذي سأجنيه من إلحاق الضرر بك؟ لقد نذرت نفسي للفقر في هذا الثوب، ولا يحق لي أن أغيره بأي حال إلا لو كان ذلك بجواد ودرع من زرد. فلتبق هنا إن شئت، وقد يحميك سيدريك الساكسوني.»
قال اليهودي: «وا أسفاه! لن يتركني أسافر مع أتباعه؛ فسيخجل الساكسونيون أو النورمانديون على حد سواء من صحبة إسرائيلي مسكين، وسيتركونني أسافر وحدي عبر أملاك ريجينالد فرونت دي بوف. أيها الشاب الصالح، سأذهب معك! لنسرع! لنعد العدة! ولنفر! ها هي عصاك، فلم تتلكأ ؟»
قال الحاج: «لا أتلكأ، ولكن يجب علي تأمين وسيلة مغادرة هذا المكان. اتبعني.»
قاد الطريق إلى الصومعة المجاورة، التي كان فيها جيرث مربي الخنازير، وقال: «انهض يا جيرث. انهض سريعا. افتح البوابة الخلفية، واجعلني أخرج أنا واليهودي.»
قال جيرث: «اليهودي يترك روثيروود. يجب أن ينتظر كل من كان يهوديا أو غير يهودي حتى تفتح البوابة الكبيرة؛ فلا ندع الزوار يغادرون متسللين في هذه الساعات غير المناسبة.»
قال الحاج بنبرة آمرة: «ولكني لا أعتقد أنك سترفض لي ذلك الطلب.»
قال ذلك وانحنى على سرير مربي الخنازير المضطجع وهمس بشيء في أذنه باللهجة الساكسونية. هب جيرث واقفا كما لو كان قد تكهرب، وأضاف الحاج قائلا: «احترس يا جيرث، يجب أن تكون حريصا. أقول لك افتح البوابة الخلفية، وستعرف المزيد قريبا.»
أطاعه جيرث بخفة وسرعة، وتبعهما اليهودي متعجبا من التغير المفاجئ في سلوك مربي الخنازير.
بمجرد خروجهم من البوابة الخلفية قال اليهودي: «بغلتي! بغلتي!»
قال الحاج: «اجلب له بغلته، واسمع، اجلب لي واحدة أخرى؛ كي أتحمل رفقته حتى يتجاوز هذه الأنحاء. وسأرجعها لك سالمة مع أحد مواكب سيدريك في آشبي. أما أنت ...» وهمس بالباقي في أذن جيرث.
قال جيرث: «سأفعل، سأفعل عن طيب خاطر.» ثم غادر على الفور لينفذ مهمته.
وسرعان ما ظهر على الجانب الآخر من الخندق المائي ومعه بغلتان؛ فعبر المسافران الخندق فوق جسر متحرك، وسرعان ما وصلا إلى البغلتين. ثبت اليهودي بعد ذلك، بسرعة وبيدين ترتجفان، خلف السرج حقيبة صغيرة من قماش البقرم الأزرق كان قد أخرجها من تحت عباءته، وكانت تحتوي - كما غمغم قائلا: «على ملابس للتغيير، فقط ملابس للتغيير.» ثم امتطى البهيمة بخفة، ولم يضع وقتا في تسوية حواف سترته الطويلة لتحجب الحمولة التي كانت معه تماما عن الأنظار.
الفصل الخامس
عندما استكمل المسافران مسيرتهما مسرعين عبر عدة مسارات ملتوية، قطع الحاج الصمت أخيرا.
قال: «تحدد شجرة البلوط الكبيرة البالية تلك حدود الأراضي التي يدعي فرونت دي بوف أنها واقعة تحت سيطرته؛ فالآن لا خوف من المطاردة.»
قال اليهودي : «ليت عجلات مركباتهم تنخلع، كما حدث مع جيش فرعون؛ فيصعب سيرهم! ولكن لا تتركني أيها الحاج الصالح، وفكر في فارس الهيكل الهمجي الجبار وخادميه العربيين؛ فلن يراعوا أرضا ولا قصرا ولا سيادة.»
قال الحاج: «يجب أن يفترق طريقانا هنا؛ إذ لا يليق برجلين مثلي ومثلك أن يسافرا معا لأكثر مما تقتضي الحاجة. إضافة إلى ذلك، أي عون يمكنك الحصول عليه مني، أنا الحاج المسالم، في مواجهة وثنيين مسلحين؟»
أجاب اليهودي: «أيها الشاب الصالح، يمكنك الدفاع عني وأعلم أنك ستفعل. أنا فقير، ولكني سأجازيك، ليس بالمال؛ فلا أملك - لتساعدني يا أبانا إبراهيم - من المال شيئا سوى ...»
قال الحاج مقاطعا حديثه: «المال والتعويض، سبق وأن قلت لك إنني لا أريد منك ذلك. يمكنني أن أرشدك، وقد أتمكن حتى من الدفاع عنك نوعا ما؛ لذا سأتركك، أيها اليهودي، في أمان في صحبة ملائمة. نحن الآن لسنا ببعيدين عن بلدة شيفيلد، حيث يمكنك بسهولة العثور على الكثيرين من أبناء قومك الذين تستطيع أن تلجأ إليهم.»
قال اليهودي: «لتحل بركة يعقوب عليك أيها الشاب الصالح! ففي شيفيلد يمكنني أن ألوذ بقريبي زاريث، وسأجد وسيلة لمتابعة ترحالي بأمان.»
قال الحاج: «ليكن كما تقول؛ ولنتفرق إذن في شيفيلد، وبعد نصف ساعة من السير بالبغلتين ستصبح تلك البلدة على مرمى بصرنا.»
مر نصف الساعة وكلاهما في صمت مطبق، ثم توقفا على قمة ربوة مرتفعة قليلا، وأشار الحاج إلى بلدة شيفيلد، التي تقبع تحتهم، مكررا كلماته: «هنا إذن نفترق.»
قال إيزاك: «ليس قبل أن تنال شكر اليهودي الفقير؛ إذ لا أتجرأ على أن أطلب منك أن تذهب معي إلى قريبي زاريث، الذي قد يساعدني بوسيلة ما على رد معروفك.»
رد الحاج: «سبق وأن قلت لك إنني لا أرغب في أي تعويض.»
قال اليهودي متشبثا بثوبه: «ابق، ابق، فالرب يعلم أن اليهودي فقير، أجل، إيزاك هو شحاذ قومه، ولكن سامحني إن خمنت ما أنت في أمس الحاجة إليه في هذه اللحظة.»
قال الحاج: «إذا كنت ستحسن التخمين فإنه شيء لا يمكنك تقديمه، ولو كنت ثريا بقدر ما تزعم من فقر.»
كرر اليهودي قوله: «كما أزعم؟ أوه! صدقني فلا أقول غير الحقيقة؛ فأنا رجل منهوب ومدين ومكروب، ولكن يمكنني أن أخبرك بما ينقصك، وقد أمدك به كذلك؛ فأنت تحتاج الآن إلى فرس ودرع.»
أجفل الحاج، والتفت فجأة نحو اليهودي، وقال بسرعة: «أي شيطان جعلك تخمن ذلك؟»
قال اليهودي مبتسما: «لا يهم ما دام تخمينا صحيحا، وكما يمكنني أن أخمن ما تحتاج إليه، كذلك يمكنني أن أمدك به.»
قال الحاج: «ولكن لتراع شخصيتي وملبسي وقسمي.»
رد اليهودي: «إنني أعرفكم أيها المسيحيون، وأعرف أن أنبلكم يتخذ عصا ويرتدي نعلا تكفيرا عن ذنوب وهمية، ويمشي على قدميه لزيارة مقابر الموتى.»
قال الحاج متجهما: «لا تجدف أيها اليهودي!»
قال اليهودي: «سامحني؛ فقد تكلمت دون روية، ولكنك تلفظت بكلمات ليلة أمس وهذا الصباح، كانت كالشرر المتطاير من قدح الصوان، وكشفت عن معدنك. وتحت رداء ذلك الحاج تخبئ زرد فارس ومهمازين من الذهب، وقد ظهروا عندما انحنيت على سريري في الصباح.»
لم يستطع الحاج منع نفسه من الابتسام، وقال: «لو كانت ثيابك قد فتشت بعين فاحصة كعينك يا إيزاك، ترى ماذا كنا سنكتشف؟»
تغير لون اليهودي وسحب أدوات الكتابة على عجل، وبدأ يكتب على قطعة من الورق كان يضعها أعلى قبعته الصفراء، دون أن ينزل من فوق بغلته، وقال: «كفى.» وحين انتهى أعطى اللفيفة للحاج، قائلا: «يعلم جميع الرجال في مدينة ليستر الثري اليهودي كيرجاث جايرام أوف لومباردي؛ أعطه هذه اللفيفة؛ فهو يعرض للبيع ستة أطقم للجياد من ميلان، أسوءها يناسب رأسا متوجا؛ وعشرة جياد أصيلة، يصلح أسوءها لأن يكون مطية لملك. وسيعطيك منها ما تختار، مع كل شيء آخر من شأنه تجهيزك للمباراة. وعندما تنتهي المباراة سترجعها له سالمة، إلا لو كنت تملك ما تسدد به ثمنها لمالكها.»
قال الحاج مبتسما: «ولكن يا إيزاك، ألا تعلم أن، في هذه المباريات، تئول الأسلحة والجواد الذي يقع الفارس من فوق صهوته إلى المنتصر؟ وقد أكون تعيس الحظ وأخسر ما لا يمكنني استبداله أو دفع ثمنه.»
بدا اليهودي مصدوما بعض الشيء من هذا الاحتمال، ولكنه استجمع شجاعته وأجاب بسرعة: «لا، لا، لا، هذا مستحيل، لا أعتقد ذلك. ستحل عليك بركة أبينا، وسيكون رمحك في قوة عصا موسى.»
قال ذلك وهو يدير رأس بغلته، وحينئذ تشبث الحاج، بدوره، بسترته الطويلة، وقال: «كلا، ولكنك يا إيزاك لا تعلم جميع المخاطر؛ فقد يقتل الجواد، وقد ينكسر الدرع لأنني لن أبقي على جواد أو رجل. إلى جانب أن قومك لا يعطون شيئا بلا مقابل، ففي بعض الأحيان يجب دفع شيء ما مقابل استعمال هذه الأشياء.»
لوى اليهودي نفسه على السرج كرجل يشعر بمغص في أحشائه، ولكن مشاعره الطيبة تغلبت على طباعه المألوفة، وقال: «لا يهمني، لا يهمني. دعني أذهب. إذا حدث ضرر فلن يكلفك شيئا. وإن كانت ثمة أموال مقابل الاستعمال فسيتغاضى كيرجاث جايرام عنها من أجل قريبه إيزاك. وداعا!» ثم قال وهو يتلفت حوله: «ولكن أصغ جيدا أيها الشاب الصالح، لا تدفع بنفسك كثيرا في هذه الجلبة الفارغة. لا أتحدث عن تعريض الجواد والدرع للخطر، ولكن لأجل المحافظة على حياتك وسلامتك.»
قال الحاج مبتسما مرة أخرى: «شكرا جزيلا على تحذيرك. لن أتوانى في الاستفادة من عطفك، وسأجازيك عنه، على الرغم من أن ذلك سيكون صعبا علي.»
افترقا، وسلك كل منهما طريقا مختلفا إلى بلدة شيفيلد.
الفصل السادس
على مسطبة مكونة من مرتفع طبيعي من الأرض، خلف المدخل الجنوبي للحلبة في آشبي، نصبت خمسة سرادقات مهيبة، زينت برايات خمرية وسوداء اللون، وهما اللونان اللذان اختارهما الفارسان المتنافسان. وكانت حبال الخيام باللون نفسه. وأمام كل سرادق كان معلقا درع الفارس الذي يشغله، وبجانبه وقف تابعه، متنكرا تنكرا عجيبا في ملابس غريبة الأطوار. أما السرادق الذي كان في المنتصف، فقد كان مخصصا لبراين دي بوا جيلبرت، الذي جعلته شهرته في كل مباريات الفروسية يستقبل بترحاب شديد ضمن جماعة المتنافسين، بل إنهم اتخذوه رئيسا وقائدا لهم.
كان يشغل جزءا من خارج ساحة النزال أروقة مؤقتة مفروشة بلوحات نسيجية وسجاجيد، ومعدة بوسائد لراحة أولئك السيدات وهؤلاء النبلاء الذين كان يتوقع حضورهم للمباراة. وكان ثمة مساحة ضيقة، فيما بين هذه الأروقة وساحة النزال، مخصصة لصغار الملاك والمتفرجين من مرتبة أعلى من العامة، وربما تضاهى بالجزء الخلفي من قاعة مسرح.
كان أحد الأروقة، وهو المقابل تماما للبقعة التي كان يقع فيها النزال، أعلى من بقية الأروقة، وأكثر تزينا منها، ويمتاز عنها بما يشبه عرشا ومظلة، كانا مخصصين للأمير جون. في مواجهة ذلك الرواق الملكي، كان ثمة رواق بالارتفاع نفسه في الجانب الغربي من ساحة النزال، وكان أكثر بهاء، وإن كان أقل ترفا في زينته من ذلك المعد للأمير نفسه. وكانت مجموعة من الصبيان والوصيفات - أجمل من يمكن اختيارهم، يرتدون أردية بهيجة وفاخرة باللونين الأخضر والوردي - تحيط بعرش مزين بهذين اللونين مخصص لملكة الجمال والحب.
كان إيزاك، مرتديا بترف وعظمة سترة طويلة مزخرفة بالأربطة ومخططة ومبطنة بالفرو، ويسعى لإيجاد مكان في الصف الأول أسفل الرواق لابنته، الجميلة ريبيكا، التي كانت قد انضمت إليه في آشبي، والتي كانت حينئذ تتعلق بذراع أبيها. وبينما كان الأمير جون، معتليا صهوة جواد أصيل رمادي اللون، يدور نصف دورة داخل ساحة النزال على رأس مجموعة مرحة؛ لاحظت عيناه اللماحتان على الفور اليهودي، ولكنه كان أكثر انجذابا وانسجاما بكثير بابنة صهيون الجميلة.
كان يمكن لشكل ريبيكا بالفعل أن يضاهي جميلات إنجلترا الأكثر اعتدادا بأنفسهن؛ إذ كان قوامها متناسقا بإتقان، وأبرزه نوع من الزي الشرقي، الذي ارتدته تبعا لأزياء النساء من قومها. وكانت عمامتها، المصنوعة من حرير أصفر، تتناسب تماما مع سمرة بشرتها. شكل تألق عينيها، وتقوس حاجبيها الفاتنين، وأنفها المعقوف المتقن التكوين، وأسنانها البيضاء بياض اللؤلؤ، وغزارة خصلات شعرها السوداء المرتبة كل على حدة في لفات متموجة صغيرة؛ شكل كل ذلك آية من الجمال، لا يفوقها جمال أجمل الفتيات اللواتي أحطن بها. ومن المشابك الذهبية المرصعة باللؤلؤ، التي كانت تغلق سترتها من العنق إلى الخصر، تركت أول ثلاثة مشابك مفكوكة بسبب حرارة الجو، فكشفت عن عقد ماسي بدلايات نفيسة. كما ميزت اليهودية الجميلة ريشة نعامة مثبتة في عمامتها بمشبك مرصع بالماس.
قال الأمير جون: «بحق رأس إبراهيم الأصلع، لا بد أن هذه اليهودية هي المثال الأعلى لذلك الكمال، الذي فتن سحره أكثر الملوك حكمة على مر العصور! ما قولك يا رئيس الدير آيمر؟»
رد رئيس الدير، بنبرة ساخرة نوعا ما: «إنها وردة شارون وسوسنة الوادي، ولكن يجب أن تتذكر سموك أنها، مع ذلك، ليست إلا يهودية.»
أضاف الأمير جون دون أن يلتفت إليه: «أجل! وها هما رجلاي من أرباب الثروة الفاسقين أيضا؛ مركيز الماركات وبارون العملات البيزنطية، يتنافسان على مكان مع الكلاب المعدمة، الذين لا تحوي جيوب عباءاتهم الرثة صليبا واحدا يقيهم من الشيطان. بحق جسد القديس مرقس، ينبغي لأمير إمداداتي ويهوديته الجميلة أن يحظيا بمكان في الرواق! من هي يا إيزاك؟ زوجتك أم ابنتك، تلك الحورية الشرقية التي تمسك بها تحت ذراعك كما لو كنت تمسك بعلبة كنوزك؟»
رد إيزاك منحنيا: «إنها ابنتي ريبيكا، في خدمة سموك.»
قال جون وهو يجلجل من الضحك: «إنك رجل حكيم، ولكن سواء كانت ابنتك أو زوجتك فستحظى بالتفضيل بسبب جمالها ومزاياها.» واستكمل كلامه مادا عينيه إلى الرواق متسائلا: «من يجلس بالأعلى هناك؟ وضعاء ساكسونيون مسترخون ممددون! عار عليهم! لتجعلوهم يجلسون متقاربين، وليفسحوا مكانا لأمير المرابين وابنته الجميلة. سأجعل الفلاحين يعلمون أنه يجب عليهم أن يتقاسموا الأماكن العليا من المعبد مع من ينتمون حقا إليه.»
هؤلاء الذين كانوا يشغلون الرواق، الذين وجه إليهم هذا الكلام المهين وغير المهذب، كانوا عائلة سيدريك الساكسوني، ومعهم حليفه وقريبه أثيلستان من كوننجزبيرج؛ تلك الشخصية البارزة التي، نظرا إلى انحدارها من آخر ملوك إنجلترا الساكسونيين، حظي بأعلى درجات الاحترام من جميع الساكسونيين الأصليين لشمال إنجلترا.
كان هذا هو الشخص الذي وجه إليه الأمير أمره المستبد بإفساح مكان لإيزاك وريبيكا. لم يكن أثيلستان، الذي أربكه الأمر تماما، يرغب في الإذعان، لكنه، مترددا بشأن كيفية المقاومة، لم يعارض رغبة جون إلا بالسلبية. ودون أن يتحرك فتح عينيه الرماديتين الكبيرتين وحدق في الأمير مذهولا.
قال جون مخاطبا الفارس الذي كان يمتطي جوادا بالقرب منه: «إن الخنزير الساكسوني إما أن يكون نائما أو لا يعبأ بي. انخزه برمحك يا دي براسي.» مد دي براسي رمحه الطويل فوق الفراغ الذي يفصل الرواق عن ساحة النزال، وكاد ينفذ أوامر الأمير لولا أن سيدريك استل بسرعة البرق سيفه القصير من غمده، وبضربة واحدة فصل ذؤابة الرمح عن مقبضه. احتدم الدم في وجه الأمير جون؛ فأقسم أغلظ أيمانه، وكان على وشك التلفظ بتهديد على قدر عنفه، ولكن حال دون ذلك هتاف عام من الحشد وسط تصفيقهم الحاد إعجابا بسلوك سيدريك الجريء. أدار الأمير عينيه في سخط، وصادف أن تلاقت عيناه مع نظرة ثابتة من أحد الرماة، الذي بدا عازما على الاستمرار في التهليل، على الرغم من نظرة العبوس التي نظرها له الأمير، فسأله عن سبب هذا الصخب.
قال اليومن: «دائما ما أهتف عندما أرى رمية جيدة أو ضربة شجاعة.»
رد الأمير: «أحقا ما تقول؟ إذن يمكنك إصابة العلامة البيضاء في هدف ما بنفسك، أؤكد لك ذلك.»
رد اليومن: «يمكنني أن أصيب علامة رجل غابة، ومن المسافة التي يصيبها منها رجل الغابة.»
قال جون: «بحق القديس جريزيل، سنختبر مهارة ذلك الرجل المستعد تمام الاستعداد للهتاف للأعمال البطولية للآخرين.»
قال اليومن برباطة جأش اتسم بها سلوكه بالكامل: «لن أهرب من الاختبار.»
قال الأمير الثائر: «الآن، فلتقفوا أيها الوضعاء الساكسونيون؛ لأنه، بحق نور السموات، سيتخذ اليهودي مقعدا بينكم؛ بما أنني قد قلت بذلك!»
قال اليهودي: «لن يحدث ذلك مطلقا! ولتأذن لي سموك! فلا يليق بأمثالنا أن يجلسوا مع حكام الأرض.»
قال الأمير جون: «قف أيها الكلب الكافر عندما آمرك، وإلا سلخت جلدك الأسمر وصنعت منه سرجا لحصاني!»
ومن ثم بدأ اليهودي، مدفوعا، يصعد الدرج المائل الضيق الذي كان يقود إلى الرواق.
قال الأمير مثبتا عينيه على سيدريك: «لأر من يجرؤ على إيقافه!»
ولكن وامبا هب ووقف بين سيده وإيزاك وهتف، ردا على تحدي الأمير قائلا : «بحق العذراء مريم، أنا سأفعل!» قال هذا وهو يقف في مواجهة لحية اليهودي دافعا نحوه بقطعة من لحم الخنزير أخرجها من تحت عباءته. تراجع اليهودي عندما شهد إهانة قومه أسفل أنفه مباشرة، بينما كان المهرج في الوقت نفسه يلوح بسيفه الخشبي أعلى رأسه، فزلت قدما اليهودي وتدحرج على الدرج، فكان أضحوكة ممتازة للمشاهدين الذين ضجوا بالضحك، وضحك معهم الأمير جون وأتباعه من أعماق قلوبهم.
قال وامبا: «امنحني الجائزة يا قريبي الأمير.» وأضاف ملوحا بلحم الخنزير في يد وبالسيف الخشبي في اليد الأخرى: «فقد هزمت خصمي في قتال عادل بالسيف والدرع.»
قال الأمير جون وهو لا يزال يضحك: «من أنت وماذا تعمل أيها البطل النبيل؟»
رد المهرج: «أنا مهرج بالوراثة؛ اسمي وامبا بن ويتليس بن ويثيربرين، الذي كان ابنا لأحد شيوخ البلد.»
قال الأمير جون: «أفسحوا مكانا لليهودي أمام الحلقة الدنيا؛ فإنه مما يناقض شعارات النبالة أن يجلس المهزوم بجوار المنتصر.»
رد المهرج: «وأسوأ منه أن يجلس وغد مع أحمق، والأسوأ على الإطلاق أن يجلس يهودي وأمامه لحم خنزير مقدد.»
صاح الأمير جون: «شكرا جزيلا أيها التابع الصالح؛ فقد أسعدتني. إذن، فلتقرضني يا إيزاك حفنة من العملات البيزنطية.»
بينما كان اليهودي يتحسس حقيبته المبطنة التي كانت معلقة في حزامه، وربما كان يحاول إخراج أقل عدد من العملات يمكن أن يمثل حفنة، مال الأمير من فوق فرسه، وأنهى حيرة إيزاك بانتزاعه كيس النقود ذاته من جانبه، ورمى إلى وامبا بقطعتين ذهبيتين مما كان في الكيس، ثم تابع سيره حول ساحة النزال.
الفصل السابع
توقف الأمير جون فجأة أثناء مسير موكبه، ونادى على رئيس دير جورفولكس، معلنا أن المهمة الرئيسة لذلك اليوم قد أغفلت.
قال: «بحق الكنيسة، لقد نسينا يا رئيس الدير أن نختار ملكة الحب والجمال الجميلة، التي ستسلم الجائزة بيدها البيضاء. من ناحيتي، أنا متحرر في أفكاري، ولا يهمني إن أعطيت صوتي لريبيكا ذات العينين السوداوين.»
قال دي براسي: «كلا، كلا. فلنترك عرش الملكة الجميلة شاغرا حتى يعلن عن اسم المنتصر ، ثم ليختر بنفسه السيدة التي ستشغله. سيضفي ذلك فضلا آخر على انتصاره، ويعلم السيدات الجميلات أن يقدرن حب الفرسان الشجعان، الذين يمكنهم أن يعلوا من شأنهن لمثل تلك المكانة.»
رضخ الأمير، وجلس على عرشه، وأشار للمنادين أن يعلنوا قوانين المباراة التي كانت باختصار تنص على الآتي:
أولا:
على المتنافسين الخمسة أن ينازلوا كل من يتقدم للنزال.
ثانيا:
يجوز لأي فارس يتقدم للنزال أن يختار، إن رغب في ذلك، خصما معينا من بين المتنافسين، وذلك بأن يمس درعه. وإن فعل ذلك بمؤخرة رمحه يعقد اختبار للمهارات بما يسمى الأسلحة التي لا ضرر منها؛ أي بالرماح المثبت في طرفها قطعة مستديرة ومسطحة من الخشب؛ ومن ثم لا يتعرض المتنافس لأي ضرر باستثناء ضربات الجياد وراكبيها، ولكن إذا مس الدرع بطرف الرمح المدبب يتعين على الفارسين النزال بأسلحة حادة، كما في المعارك الحقيقية.
ثالثا:
عندما يفي الفرسان الحاضرون بقسمهم، بأن يكسر كل منهم خمسة رماح، يعلن الأمير اسم المنتصر في اليوم الأول للمباراة، والذي سينال جائزة عبارة عن جواد حرب بالغ الجمال ولا يضاهى في قوته، وسينال الشرف المتفرد بإعلان اسم ملكة الحب والجمال، التي ستمنح الجائزة في اليوم التالي.
رابعا:
يعلن أنه في اليوم الثاني ستعقد مباراة عامة يمكن لجميع الفرسان أن يشاركوا فيها؛ وبتقسيمهم إلى مجموعتين، من عددين متساويين، يتقاتلون ببسالة حتى يعطي الأمير جون الإشارة بوقف القتال، ثم تتوج ملكة الحب والجمال المختارة الفارس الذي يقرر الأمير أنه كان الأفضل في اليوم الثاني؛ وذلك بإكليل مكون من صفيحة ذهبية رفيعة مصوغة على شكل إكليل غار.
وأخيرا، فتحت الحواجز، وتقدم خمسة فرسان، اختيروا بالقرعة، ببطء إلى ساحة النزال، يتقدمهم أحد المتنافسين منفردا على جواده، ويتبعه الأربعة الآخرون في زوجين. تقدموا نحو المرتفع الذي كانت منصوبة عليه خيام المتنافسين، وهناك تفرقوا لامسا كل منهم برفق، وبمؤخرة رمحه، درع الخصم الذي يرغب في منازلته.
بعدما أفصح الأبطال عن غرضهم السلمي، انسحبوا إلى طرف ساحة النزال، التي ظلوا فيها يتراجعون في صف واحد، بينما انطلق المتحدون كل منهم من سرادقه وامتطوا جيادهم، يتقدمهم براين دي بوا جيلبرت، وهبطوا من فوق المرتفع، وواجه كل واحد منهم الفارس الذي كان قد لمس درعه.
عندما نفخ في الأبواق والنفير انطلقوا عدوا بجيادهم كل منهم في مواجهة الآخر، وكان المتحدون يمتلكون براعة فائقة أو حظا حسنا، جعل خصوم بوا جيلبرت ومالفوازان وفرونت دي بوف يسقطون أرضا. احتفظ الفارس الخامس وحده بشرف مجموعته، وابتعد عن رالف دي فيبوان، فارس القديس جون، وقد حطم كل منهما رمح الآخر دون تفوق لأحد منهما على الآخر.
نزلت الميدان مجموعة ثانية وثالثة من الفرسان. وعلى الرغم من تحقيقهم لنجاحات متنوعة، ففي المجمل ظل التفوق بلا جدال للمتحدين الذين لم يسقط أحد منهم من فوق جواده أو ينحرف عن مهمته، وهي تلك البلايا التي وقعت لواحد أو اثنين من خصومهم في كل مواجهة؛ ولذلك بدت معنويات خصومهم في تدهور كبير بسبب استمرار نجاحهم. بعد هذا توقف النزال لفترة طويلة، ولم يبد خلالها أن أحدا كان راغبا في العودة إلى النزال.
وأخيرا، بينما كانت موسيقى المتحدين العربية تختتم إحدى مقطوعاتها الطويلة والعالية التي كسروا بها صمت ساحة النزال، أجابها صوت نفير وحيد، أظهر إعلانا عن تحد آت من الطرف الشمالي، وما إن فتحت الحواجز حتى انطلق بطل جديد إلى ساحة النزال. لم يكن المغامر يتجاوز كثيرا في حجمه رجلا متوسط الحجم، وبدا أقرب إلى النحافة من القوة. كان لباسه المدرع مصنوعا من الصلب الموشى بغزارة بالذهب، ومرسوما على درعه شعار شجرة بلوط فتية مقتلعة من جذورها، مع كلمة باللغة الإسبانية معناها «محروم من الميراث».
صعد المرتفع عن طريق الممر المنحدر الذي يؤدي إليه من ساحة النزال، وقاد جواده مباشرة إلى السرادق المركزي، ثم ضرب بالنهاية الحادة لحربته درع براين دي بوا جيلبرت حتى تردد صدى صوته. وقف الجميع مذهولين من جرأته، ولكن كان أكثرهم ذهولا كان الفارس المخيف الذي كان واقفا غير آبه عند باب سرادقه؛ إذ كان بذلك قد تحداه لقتال مميت، ولم يكن يتوقع أن يتحداه أحد بهذه الوقاحة.
قال فارس الهيكل: «هل مارست طقس الاعتراف يا أخي؟ وهل سمعت عظة هذا الصباح حتى تخاطر بحياتك بهذه الجرأة؟»
أجاب الفارس المحروم من الميراث: «أنا جاهز لملاقاة الموت أكثر منك.»
قال براين: «إذن فلتأخذ مكانك في ساحة النزال، ولتلق نظرتك الأخيرة على الشمس؛ لأنك ستنام الليلة في الفردوس.»
أجاب الفارس المحروم من الميراث: «شكرا جزيلا على مجاملتك؛ وردا عليها أنصحك بأن تأخذ جوادا نشيطا ورمحا جديدا؛ لأنك، وأقسم بشرفي على ذلك، ستحتاج إلى كليهما.»
بعدما عبر عن نفسه بثقة هكذا كبح جواده، ونزل به متقهقرا المنحدر الذي كان قد صعده، وأجبره بالطريقة نفسها على التراجع للوراء عبر ساحة النزال، حتى وصل إلى الطرف الشمالي، حيث ظل ثابتا منتظرا خصمه.
لم يتجاهل براين دي بوا جيلبرت نصيحة خصمه؛ فاستبدل بجواده جوادا مجربا وجديدا شديد القوة والنشاط. واختار رمحا جديدا ومتينا؛ خشية أن يكون خشب رمحه القديم قد التوى في المواجهات السابقة التي كان قد ثبت فيها. وأخيرا، وضع جانبا درعه الذي كان قد لحقت به بعض الأضرار، وتلقى درعا آخر من تابعه.
عندما وقف البطلان وجها لوجه في طرفي ساحة النزال، كان ترقب الجماهير في أعلى درجاته. ولم يتوقع سوى قليل منهم أن تنتهي المواجهة لصالح الفارس المحروم من الميراث، ولكن شجاعته وبسالته كانتا ضمانا لآمال المشاهدين العريضة.
لم تكد الأبواق تعطي الإشارة حتى اختفى المحاربان من مكانيهما بسرعة البرق، وتقابلا في مركز ساحة النزال بقوة الصاعقة. تفجر الرمحان حتى مقبضيهما إلى شظايا، وبدا في تلك اللحظة أن الفارسين قد سقطا؛ حيث كانت الصدمة قد جعلت كلا الجوادين يتراجعان ويسقطان على رجليهما الخلفيتين. استعاد الفارسان زمامي جواديهما ببراعة باستخدام اللجام والمهماز، وحدق كل منهما في الآخر للحظة، حيث بدت عيناهما تقدحان بالشرر عبر قضبان خوذتيهما، ودار كل منهما نصف دورة، متراجعا إلى طرف ساحة النزال ليأخذ رمحا جديدا من تابعيه.
أطلق المشاهدون صيحة عالية، ملوحين بالأوشحة والمناديل، وهتافات جماعية دلت على مدى اهتمام المشاهدين بالمواجهة التي كانت الأكثر تكافؤا والأفضل أداء؛ مما زاد اليوم بهاء، ولكن ما إن عاد الفارسان إلى مكانيهما حتى خمد صخب التصفيق، وحل مكانه الصمت العميق والمميت، حتى بدا أن الجماهير كانوا يخشون حتى أن يتنفسوا.
سمح ببضع دقائق من التوقف حتى يستعيد المتنافسان وجواداهما أنفاسهم، ثم أشار الأمير جون لحاملي الأبواق بعصاه أن يعلنوا بدء الهجوم. اندفع البطلان للمرة الثانية من مكانيهما، والتقيا في مركز ساحة النزال بنفس السرعة والبراعة والعنف، ولكن ليس بالحظ المتساوي ذاته كما في الجولة الأولى.
في هذه المواجهة الثانية صوب فارس الهيكل رمحه نحو مركز درع خصمه، وضربه ببراعة وقوة شديدتين، حتى إن رمحه استحال إلى شظايا، وترنح الفارس المحروم من الميراث على سرجه. من الناحية الأخرى، كان ذلك البطل، منذ بداية مسعاه، قد وجه طرف رمحه نحو درع براين، ولكنه غير هدفه في اللحظة الأخيرة تقريبا من المواجهة، ووجهه نحو خوذته، وهي بقعة أصعب في إصابتها، ولكنها لو أصيبت تكون صدمتها أصعب في احتمالها. ببراعة وإحكام، أصاب النورماندي في قناع خوذته، حيث بقي طرف رمحه معلقا في قضبانها، ولكن حتى مع هذا الضرر أبقى فارس الهيكل على سمعته الرفيعة، ولو لم ينقطع حزام سرجه لما سقط من فوق صهوة جواده، غير أنه تصادف أن سقط السرج والجواد والرجل على الأرض وسط سحابة من الغبار.
ولم يستغرق تحرير فارس الهيكل لنفسه من السرج وجواده الذي سقط إلا الجهد الجهيد للحظة، وإذ مسه جنون الغضب سحب سيفه ولوح به متحديا قاهره، فوثب الفارس المحروم من الميراث من فوق جواده، واستل هو الآخر سيفه، لكن منظمي الميدان استحثا جواديهما وفصلا بينهما، وذكراهما بأن قوانين المباراة لم تكن تسمح، في تلك المناسبة، بهذا النوع من المواجهات.
قال فارس الهيكل رامقا خصمه بامتعاض: «أنا واثق من أننا سنلتقي مرة أخرى؛ وعندها لن يكون ثمة أحد ليفصل بيننا.»
قال الفارس المحروم من الميراث: «إن لم نلتق فلن يكون الخطأ خطئي. وسواء كنا على أقدامنا أو على صهوة جوادينا، وبرمح أو بلطة أو سيف، أنا على أتم الاستعداد لمواجهتك كهذه المرة.»
كان من الممكن أن يتبادلا المزيد من الكلمات الأشد غضبا، لكن المنظمين حالا بينهما برمحيهما المتقاطعين، فأجبراهما على أن ينفصل بعضهما عن بعض. فرجع الفارس المحروم من الميراث إلى مكانه الأول، ورجع براين إلى خيمته حيث ظل قابعا بقية اليوم يتجرع مرارة الأسى.
الفصل الثامن
دون أن يترجل عن حصانه طلب المنتصر إناء من النبيذ، ثم فتح قبال خوذته، أو جزأها الأسفل، معلنا أنه قد تجرعه، قائلا: «إلى جميع القلوب الإنجليزية الأصيلة، ومن أجل إرباك الطغاة الأجانب.» بعد ذلك طلب من حامل بوقه أن يصدع بتحد لمن يرغب في نزاله، وقال لمناد أن يعلن لهم أنه ينوي مواجهتهم بالترتيب الذي يريدون أن يتقدموا به لمواجهته.
كان العملاق فرونت دي بوف، مسلحا بدرع أسود، هو أول من نزل الميدان. تفوق الفارس المحروم من الميراث على هذا البطل تفوقا يسيرا، ولكنه كان حاسما. تحطم رمحا كلا الفارسين إلى حد ما، لكن فرونت دي بوف، الذي زلت إحدى قدميه عن الركاب في المواجهة، اعتبر مهزوما.
انتصر الغريب أيضا في مواجهته الثالثة مع السيد فيليب مالفوازان؛ إذ ضرب ذلك البارون بقوة شديدة على خوذته فكسرت أربطتها، وكل ما تمكن مالفوازان من فعله هو أن تجنب السقوط بلا خوذة، ولكن هزيمته قد أعلنت كرفقائه.
في نزاله الرابع مع دي جرانتمسنيل، أظهر الفارس المحروم من الميراث من حسن الأخلاق القدر نفسه الذي كان قد أظهره حتى هذه اللحظة من البسالة والبراعة. رفع جواد دي جرانتمسنيل، الذي كان يافعا وعنيفا، رجليه الأماميتين واندفع بسرعة بالغة في مساره، فشتت هدف راكبه، ورافضا أن يستغل الميزة التي منحها له هذا الحادث رفع الغريب رمحه ومر بخصمه دون أن يمسه، عائدا بجواده إلى مكانه في ساحة النزال، مقدما لخصمه، عبر المنادي، فرصة خوض مواجهة ثانية. ولكن دي جرانتمسنيل رفض معترفا بأن حسن أخلاق خصمه قد هزمه بقدر ما هزمته مواجهته معه.
جاءت مواجهة رالف دي فيبوان ختاما لقائمة انتصارات الفارس الغريب ؛ فقد اندفع على الأرض بقوة بالغة حتى إن الدم تفجر من أنفه وفمه، وقد حمل فاقدا للوعي خارج الحلبة.
هللت الآلاف بالجائزة الناتجة عن إجماع الأمير والمنظمين، الذين أعلنوا أن من فاز بهذا اليوم هو الفارس المحروم من الميراث.
كان القائمان على النظام في الميدان هما أول من قدموا تهانيهم للمنتصر، وطلبا منه أن يرفع خوذته قبل أن يقوداه لتلقي جائزة مباراة اليوم من يدي الأمير جون. رفض الفارس المحروم من الميراث طلبهما بكل ما تمليه عليه أخلاق الفرسان من تهذيب، زاعما أنه لا يمكنه الآن أن يتحمل عواقب أن يرى وجهه؛ وذلك لأسباب سبق أن أوضحها للمنادين عندما دخل إلى ساحة النزال. اقتنع المنظمان تمام الاقتناع بهذا الرد؛ ولذلك لم يضغطوا عليه أكثر لمعرفة سره، وبعد أن أبلغا الأمير جون برغبة المنتصر في أن يظل غير معروف، طلبا السماح بالإتيان به أمام سموه حتى يتلقى جائزة شجاعته.
كان جون مستاء من نتيجة المباراة؛ حيث هزم المتحدون الذين فضلهم واحدا تلو الآخر على يد فارس واحد، فأجاب المنظمين بغطرسة قائلا: «بحق نور جبين السيدة العذراء، لقد حرم هذا الفارس من الكياسة كما حرم من أرضه؛ ما دام يرغب في الظهور أمامنا دون أن يكشف عن وجهه.»
تعالى همس بين الحاشية، ولكن لم يكن ليجزم بمصدره الأول. قال قائل: «قد يكون الملك، قد يكون ريتشارد قلب الأسد نفسه!» فقال الأمير جون، وقد صار وجهه، على الرغم منه، شاحبا كالموتى: «أسأل الرب ألا يكون كذلك! والديمار! دي براسي! أيها الفارسان الشجاعان والرجلان النبيلان، تذكرا وعودكما وشدا بصدق من أزري!»
قال والديمار فيتزورس، أحد أهم تابعيه: «ليس ثمة خطر وشيك. هل أنت ذو إلمام يسير بأعضاء ابن أبيك الضخمة لدرجة أن تظن أنه يمكن أن تناسبها بدلة مدرعة كهذه؟ انظر إليه من كثب يا صاحب السمو، وستلاحظ أنه يقل طولا عن الملك ريتشارد بثلاث بوصات وضعف ذلك في عرض كتفيه، كما أن الجواد الذي يمتطيه لا يمكنه أن يحمل وزن الملك ريتشارد ولو لجولة واحدة.»
بينما كان يتحدث جلب المنظمان الفارس المحروم من الميراث وجعلوه يتقدم إلى أسفل درج خشبي، يصل صعودا من الحلبة إلى عرش الأمير جون. وبمديح قصير لشجاعته، قدم له جواد الحرب المخصص للجائزة. لم ينبس الفارس المحروم من الميراث ببنت شفة ردا على مديح الأمير له، الذي اكتفى بالتعبير عن تقديره له بانحناءة احترام عميقة.
قاد الجواد إلى ساحة النزال سائسان بملابس فخمة، وكان الجواد نفسه مجهزا تجهيزا كاملا بعتاد حرب من أفخم ما يمكن. واضعا إحدى يديه على مقبض السرج، قفز الفارس المحروم من الميراث في الحال على ظهر الفرس دون أن يستعين بالركاب، ودار دورتين حول ساحة النزال رافعا رمحه عاليا، ومستعرضا مزايا الجواد وخطواته بمهارة خيال مثالي.
استبعد عن ذلك العرض مظهر الخيلاء، الذي قد يميز مثل تلك العروض، بفضل اللياقة التي ظهرت في عرض أفضل ما يميز جائزة الأمير التي نال شرف منحه إياها للتو.
بعدئذ حان الوقت الذي يجب فيه على المنتصر أن يظهر حكمه الصائب، وليس بسالته، باختياره، من بين الجميلات اللواتي كانت تتزين بهن الأروقة، سيدة تعتلي عرش ملكة الجمال والحب. وعلى ذلك، أشار الأمير بعصاه، عندما مر عليه الفارس في مساره الثاني حول ساحة النزال. التفت الفارس نحو العرش، وخفض رمحه حتى أصبح سنه على مسافة قدم واحدة من الأرض، وظل بلا حراك كما لو كان ينتظر أوامر جون، بينما كان الجميع معجبين بما أظهره من براعة مفاجئة في تحويل جواده الهائج على الفور من حال عنف واهتياج شديد إلى حال السكون.
قال الأمير جون: «أيها السيد الفارس المحروم من الميراث، بما أن ذلك هو اللقب الوحيد الذي يمكننا مخاطبتك به، إن من واجبك الآن، وكذلك تشريفا لك، أن تختار السيدة الجميلة التي، بصفتها ملكة الشرف والحب، ستترأس مهرجان الغد. إنه حق مقصور عليك أنت وحدك أن تمنح هذا التاج لمن تريد؛ وبمنحك إياه للسيدة التي تختارها فإن انتخاب ملكة الغد سيكون رسميا وتاما. ارفع رمحك.»
أطاع الفارس الأمر، ووضع الأمير جون على ذؤابة الرمح إكليلا من الساتان الأخضر حول حافته دائرة من الذهب، وكانت حافته العليا مزدانة برءوس سهام وقلوب موضوعة بالتبادل.
سار الفارس المحروم من الميراث ببطء راكبا جواده، بقدر ما كان في السابق مسرعا على صهوته حول ساحة النزال، وأخيرا توقف أسفل الشرفة التي كانت فيها الليدي روينا.
كان سيدريك الساكسوني، الذي كان مغتبطا للهزيمة التي لحقت بفارس الهيكل، وجاره الشرير فرونت دي بوف، قد مال بنصف جسده العلوي من الشرفة، مرافقا المنتصر في كل جولة، ليس فقط بعينيه، ولكن بكل قلبه وروحه. كانت الليدي روينا قد شاهدت أحداث اليوم بانتباه مماثل، غير أنها لم تفصح عن الاهتمام الشديد ذاته بوضوح.
كان ثمة جمع آخر، يجلس أسفل الرواق الذي يشغله الساكسونيون، قد أظهر القدر نفسه من الاهتمام بما سيسفر عنه اليوم.
قال إيزاك أوف يورك، أثناء الجولة الأولى: «يا أبانا إبراهيم! كم هو عنيف هذا المسيحي في ركوبه لجواده! آه، يا للجواد الأصيل الذي جلب كل هذه المسافة الطويلة من الساحل البربري! إنه لا يوليه رعاية أكثر مما لو كان مهر حمار بري.»
قالت ريبيكا: «إن كان يا أبي يخاطر بنفسه وأطرافه في معركة مميتة كهذه، فلا يمكن أن يتوقع منه أن يعبأ بجواده ودرعه.»
رد إيزاك، غاضبا بعض الشيء: «يا بنيتي! إنك لا تعلمين شيئا عما تتحدثين عنه؛ فعنقه وأطرافه ملك له، أما جواده ودرعه فملك ل ... بحق يعقوب المقدس! ماذا كنت على وشك أن أقول؟! ومع ذلك، فهو شاب صالح. اسمعي يا ريبيكا! اسمعي، إنه على وشك أن يذهب مرة أخرى ليقاتل الفلسطينيين. صلي يا بنيتي، صلي من أجل سلامة الشاب الصالح، والجواد السريع والدرع الثمين.» ثم هتف مرة أخرى قائلا: «يا إله آبائي! لقد انتصر وسقط الفلسطيني أمام رمحه، تماما كما سقط عوج ملك باشان وسيحون ملك الأموريين أمام سيف آبائنا! بالطبع سيأخذ ذهبهم وفضتهم وجيادهم الحربية ودروعهم المصنوعة من النحاس والصلب مكسبا وغنيمة.»
كان اليهودي الوجيه يبدي التوتر نفسه خلال كل جولة كان يجري فيها.
ظل بطل اليوم ساكنا لأكثر من برهة، ثم تدريجيا وبرشاقة أخفض ذؤابة رمحه، ووضع الإكليل الذي كان يحمله عند قدمي الجميلة روينا. نفخ في الأبواق على الفور، بينما أعلن المنادون الليدي روينا ملكة الجمال والحب لليوم التالي، مهددين بالعقوبات المناسبة من لم يطع سلطتها.
سرت بعض الغمغمة بين الفتيات اللواتي ينحدرن من أصول نورماندية، ولكن صياح الجماهير «تحيا الليدي روينا ملكة الحب والجمال المختارة والشرعية!» حجب أصوات السخط هذه، وأضاف إليه كثيرون من المنطقة السفلية قائلين: «تحيا أميرة الساكسونيين! تحيا سلالة ألفريد الخالد!»
على الرغم من أن هذه الأصوات لم تلق استحسانا لدى الأمير جون ومن حوله، وجد نفسه، مع ذلك، ملزما بالتصديق على ترشيح المنتصر؛ ومن ثم غادر عرشه بعد أن طلب مطيته، ودخل ساحة النزال مرة أخرى ممتطيا حصانه الإسباني الصغير ومصحوبا بحاشيته.
وكز حصانه بالمهماز، وجعله يقفز للأمام نحو الرواق الذي كانت تجلس فيه روينا، حيث كان التاج لا يزال عند قدميها.
قال: «تقلدي يا سيدتي الجميلة رمز سيادتك الذي لا يفوقنا، نحن جون أوف أنجو، إخلاصا في نذور ولائنا له أحد، وإن أردت اليوم، أنت وأقاربك وأصدقاؤك النبلاء، أن تشرفي مأدبتنا في قلعة آشبي، فأعلمينا لنخبر الإمبراطورة التي سنكرس الغد لخدمتها.»
ظلت روينا صامتة، وأجاب سيدريك عنها بلغته الساكسونية الأصلية.
قال: «لا تعلم السيدة روينا اللغة التي ترد بها على مجاملتكم، أو التي تؤدي بها دورها في مهرجانكم. وأنا والنبيل أثيلستان أوف كوننجزبيرج كذلك لا نتحدث إلا لغة آبائنا، ولا نسلك إلا سلوكهم؛ لذلك نمتنع، مع الشكر، عن قبول دعوة سموكم الكريمة إلى المأدبة. غدا ستحمل السيدة روينا على كاهلها أعباء المنزلة التي أنزلها إياها الترشيح الحر للفارس المنتصر، التي صدق عليها تهليل الجماهير.»
الفصل التاسع
يجب علينا الآن تغيير المشهد إلى منزل ريفي في إحدى ضواحي آشبي يمتلكه إسرائيلي ثري، حيث كان يقيم إيزاك وابنته في ضيافته.
في غرفة صغيرة حقا، ولكنها مجهزة بالكثير من الزخارف ذات الطابع الشرقي، كانت ريبيكا جالسة على كومة من الوسائد المطرزة، التي كانت متراصة أمام منصة منخفضة أحاطت بالغرفة، بدلا من الكراسي والمقاعد. كانت تراقب حركات أبيها، وهو يذرع الغرفة جيئة وذهابا بطلعة مغتمة وخطوات مضطربة؛ أحيانا يشبك يديه، وأحيانا أخرى يجول بنظراته في سطح الغرفة. ثم صاح: «يا يعقوب! يا آباء قومنا الاثني عشر المقدسين! يا لها من مغامرة خاسرة لشخص التزم كما ينبغي بكل صغيرة وكبيرة في ناموس موسى. خمسون من العملات الذهبية انتزعت مني دفعة واحدة، وببراثن طاغية!»
قالت ريبيكا: «ولكن يا أبي، بدا أنك قد أعطيت الذهب للأمير جون طواعية.» «طواعية؟! فلتصبه الضربات التي أصابت مصر! أتقولين طواعية؟ أجل، طواعية كما حدث لي في خليج ليون، عندما رميت بضائعي لأخفف حمولة السفينة، بينما كانت العاصفة تتقاذفها، كاسيا الأمواج المتلاطمة الهائجة بحرائر منتقاة، وعطرت زبدها المالح بالمر والألوة. ألم تكن تلك ساعة من البؤس الذي يعجز اللسان عن وصفه، على الرغم من أني قمت بهذه التضحية بيدي هاتين؟»
أجابت ريبيكا: «ولكنها كانت تضحية فرضتها علينا السماء لإنقاذ أرواحنا، وقد بارك إله آبائنا بضائعك ومكاسبك منذ ذلك الحين.»
أجاب إيزاك: «أجل، ولكن ما العمل إن أمسك بها الطاغية كما فعل اليوم، وأرغمني على الابتسام له وهو يسرقني؟ يا ابنتي، إن أسوء شر يحدث لقومنا، نحن المحرومين من الإرث والمتجولين، هو أنه عندما نكون مظلومين ومسلوبين يضحك العالم أجمع من حولنا، ونجبر على كبت شعورنا بالأذى وعلى الابتسام في خضوع، بدلا من أن نثأر لأنفسنا بشجاعة.»
قالت ريبيكا: «لا تفكر في الأمر هكذا يا أبي، فنحن نستمتع أيضا بمميزات؛ فهؤلاء المسيحيون، مع قساوتهم وظلمهم، يعتمدون نوعا ما على أبناء صهيون المشتتين، الذين يحتقرونهم ويضطهدونهم. فبدون عون ثروتنا لا يستطيعون أن يجهزوا أعدادهم الغفيرة أيام الحرب أو مسيرات انتصارهم أيام السلم. وحتى مسابقة اليوم ما كانت ستعقد دون رضا من اليهودي المشتت، الذي زودهم بوسائلها.»
قال إيزاك: «يا ابنتي، لقد عزفت على وتر آخر من أوتار تعاستنا. الجواد الأصيل والدرع الثمين، إنها خسارة فادحة أيضا، أجل، خسارة تبتلع مكاسب أسبوع، أجل، الفترة بين سبتين. ولكن قد ينتهي الأمر على نحو أفضل مما أظن الآن؛ لأنه شاب صالح.»
قالت ريبيكا: «بالتأكيد لن تندم على رد الجميل الذي أسداه لك الفارس الغريب.»
قال إيزاك: «أثق في ذلك يا ابنتي كثقتي في أننا سنعيد بناء صهيون، ولكن كما آمل أن أرى بأم عيني جدران المعبد الجديد وأبراجه، آمل أن أرى مسيحيا، نعم من أفضل المسيحيين، يرد دينا إلى يهودي، لا خوفا من قاض أو سجان.»
كان ظلام الليل قد بدأ يحل عندما دخل خادم يهودي إلى الغرفة، ووضع على الطاولة مصباحين فضيين ممتلئين بزيت عطري، وفي الوقت نفسه كان خادم إسرائيلي آخر يقدم أغلى أنواع النبيذ وأطيب الأطعمة الخفيفة على طاولة صغيرة من الأبنوس المرصع بالفضة. في الوقت نفسه كذلك أخبر الخادم إيزاك بأن نصرانيا يرغب في التحدث إليه. على الفور وضع إيزاك على الطاولة كأس النبيذ اليوناني التي لم يتذوقها، والتي كان لتوه قد رفعها إلى شفتيه، وقال في عجل لابنته: «ضعي حجابك يا ريبيكا.» ثم أمر بدخول الغريب.
بمجرد أن أسدلت ريبيكا على ملامحها الجميلة ساترا من نسيج رقيق فضي اللون يصل إلى قدميها، فتح الباب ودخل جيرث ملتفا في طيات عباءته الواسعة.
قال جيرث: «هل أنت إيزاك يهودي يورك؟»
رد إيزاك: «أنا هو، ومن تكون؟»
أجاب جيرث: «هذا لا يهم.»
رد إيزاك: «بل يهمني كما أن اسمي مهم لك؛ فكيف أتحدث إليك وأنا لا أعرف اسمك؟»
أجاب جيرث: «الأمر سهل؛ فبما أنني سأدفع لك مالا يجب أن أتأكد من أنني أسلمه للشخص المقصود، وأعتقد أنك، يا من ستتلقى المال لن تهتم كثيرا باليد التي تسلمه لك.»
قال اليهودي: «أوه، أنت آت لتدفع لي مالا؟ يا أبانا إبراهيم المقدس! إن هذا يغير علاقتنا. وممن أتيت بالمال؟»
قال جيرث: «من الفارس المحروم من الميراث المنتصر في مباراة اليوم. إنه ثمن الدرع الذي أمده به كيرجاث جايرام أوف ليستر بناء على توصيتك. أما الجواد، فقد أعيد إلى إسطبلك. وأرغب في معرفة المبلغ الإجمالي الذي سأدفعه مقابل الدرع.»
صاح إيزاك مهللا بابتهاج: «لقد قلت إنه شاب صالح!» وأضاف وهو يملأ شرابا من أثمن الأنواع التي لم يتذوقها جيرث من قبل، ويعطيه له: «لن يضرك إن شربت كأسا من النبيذ.» ثم استكمل إيزاك حديثه قائلا: «وكم من المال أحضرت معك؟»
قال جيرث واضعا الكأس بعد أن شرب ما فيها: «يا سيدتنا العذراء! ما هذا الشراب الإلهي الذي يشربه هؤلاء الكلاب الكفرة، بينما يفرح المسيحيون المخلصون بجعة المزر الموحلة والسميكة كبقايا الطعام التي نطعمها للخنازير؟! أتسأل كم من المال أحضرت معي؟ إنه ليس إلا دفعة صغيرة؛ إنه المبلغ المتاح حاليا. ماذا يا إيزاك؟! يجب أن يكون لديك ضمير، حتى وإن كان ضميرا يهوديا.»
قال إيزاك: «كلا، ولكن سيدك قد ربح جيادا أصيلة ودروعا ثمينة بقوة رمحه وبيمناه، ولكنه شاب صالح؛ لذلك سيأخذها اليهودي وفاء بالالتزام الحاضر ويرد له الزيادة.»
قال جيرث: «لقد رفض سيدي بالفعل أن يأخذ الجياد والدروع.»
قال اليهودي: «آه، كان ذلك خطأ. كان ذلك تصرفا أحمق؛ فليس ثمة مسيحي هنا يمكنه شراء الكثير من الجياد والدروع، وليس ثمة يهودي غيري سيعطيه إياها بنصف القيمة.» ثم قال وهو يختلس النظر أسفل عباءة جيرث: «ولكن معك في تلك الحقيبة مائة قطعة ذهبية؛ فهي تبدو ثقيلة.»
قال جيرث بسرعة بديهة: «إن معي فيها أسهم نشاب.»
قال إيزاك: «حسنا إذن، إن قلت إنني سآخذ ثمانين قطعة ذهبية مقابل الجواد الأصيل والدرع الثمين دون أن أربح جيلدرا واحدا، فهل معك المال لتدفع لي؟»
مع أن المبلغ المطلوب كان معقولا أكثر مما توقع، قال جيرث: «بالكاد، وسيترك ذلك سيدي معدوما تقريبا. ومع ذلك إن كان هذا هو أقل عرض تقدمه، فيجب أن أرضى به.»
قال اليهودي: «املأ لنفسك كأسا أخرى من النبيذ. آه! ثمانون قطعة ذهبية مبلغ صغير جدا. لن يبقى لي أي مكسب مقابل الانتفاع بالمال، إلى جانب أن الجواد الأصيل ربما يكون قد أصيب في مواجهة اليوم.»
أجاب جيرث: «وأنا أقول لك إنه سليم البنية والتنفس والأوصال، ويمكنك أن تراه في إسطبلك. وأقول، مرارا وتكرارا، إن سبعين قطعة ذهبية كافية مقابل الدرع، وآمل أن تلقى كلمة مسيحي عندك استحسانا ككلمة اليهودي. إن لم تأخذ السبعين قطعة ذهبية، فسأرجع بهذه الحقيبة (ورجها حتى رنت محتوياتها) إلى سيدي.»
قال إيزاك: «كلا، كلا! ضع الطالنتات - الشيكلات - الثمانين قطعة ذهبية، وسترى أنني سأجازيك بسخاء.»
أذعن جيرث في النهاية، وأخرج ثمانين قطعة ذهبية ووضعها على الطاولة، وأعطاه اليهودي إبراء ذمة عن الجواد والبدلة المدرعة. كانت يد اليهودي ترتجف من الفرح وهو يلف أول سبعين قطعة ذهبية. أما العشرة الأخيرة، فقد عدها بقدر كبير من التروي، ثم توقف برهة وقال شيئا وهو يأخذ كل قطعة من فوق الطاولة ويسقطها في كيس نقوده. «واحد وسبعون، اثنان وسبعون، إن سيدك شاب صالح، ثلاثة وسبعون، شاب ممتاز، أربعة وسبعون، هذه القطعة ثقبت من داخل حافتها، خمسة وسبعون، وهذه تبدو أخف وزنا، ستة وسبعون، عندما يريد سيدك المال فليأت إلى إيزاك أوف يورك، سبعة وسبعون؛ أعني ومعه ضمان معقول.» هنا توقف لبعض الوقت، ولكنه استمر في العد: «ثمانية وسبعون، إنك لتابع صالح، تسعة وسبعون، وتستحق شيئا لنفسك.»
هنا توقف اليهودي مرة أخرى، ونظر إلى القطعة الذهبية الأخيرة، ينوي، بتردد، أن يهبها لجيرث. وزنها على أنملة إصبعه، وجعلها ترن بأن أسقطها فوق الطاولة، ولكن لسوء حظ جيرث كان صوت رن العملة عاليا ويدل على أنها أصلية؛ فقد كانت عملة سميكة ومسكوكة حديثا، وتزيد عن الوزن بمقدار حبة. لم تطاوع إيزاك نفسه في أن يفرط فيها، فأسقطها في كيس نقوده كما لو كان فعل ذلك سهوا، وقال: «ثمانين تكمل العدد، واثق أن سيدك سيكافئك بسخاء.» ثم أضاف وهو ينظر بلهفة إلى الحقيبة: «بالتأكيد، لديك المزيد من النقود في تلك الحقيبة.»
ابتسم جيرث ابتسامة عريضة، وكاد يضحك وهو يجيبه عليه قائلا: «تقريبا المبلغ نفسه الذي عددته للتو بحرص شديد.» ثم طوى الصك ووضعه تحت قبعته، مضيفا: «فلتهلك لحيتك أيها اليهودي، انظر إلى تلك الكأس الممتلئة الوافرة الشراب !» وملأ بنفسه كأسا ثالثة من النبيذ، دون أن يأذن له اليهودي، ثم غادر الغرفة دون أن يلقي عليه التحية.
قال اليهودي: «يا ريبيكا، إن هذا الإسماعيلي قد تفوق علي بعض الشيء. ومع ذلك فسيده شاب صالح، أجل. وأنا سعيد للغاية أنه حصل على شيكلات من الذهب وشيكلات من الفضة، حتى وإن كان بسرعة جواده وقوة رمحه الذي، مثل رمح جالوت الفلسطيني، قد يباري نول النساجين.»
عندما التفت ليسمع رد ريبيكا، أدرك أنها قد غادرت الغرفة، دون أن يلاحظ، أثناء مساومته مع جيرث.
في تلك الأثناء كان جيرث قد نزل الدرج، وعندما وصل إلى غرفة الانتظار أو الردهة المظلمة، وقف متحيرا يبحث عن المدخل، وحينئذ أشار له طيف امرأة، تتشح بالبياض، وتبدو على ضوء مصباح فضي كانت تحمله في يدها، إلى غرفة جانبية. أذعن جيرث لدعوة طيف المرأة الذي يلوح له، وتبعها إلى داخل الغرفة التي أشارت إليها، حيث فوجئ مفاجأة سارة بأن مرشدته الجميلة كانت اليهودية الفاتنة.
سألته عن تفاصيل معاملته المالية مع إيزاك، فذكرها لها بتفصيل ودقة.
قالت ريبيكا: «ما كان أبي إلا ممازحا لك أيها الرجل الطيب؛ فهو مدين لسيدك بمعروف أكبر من أن يسدده ثمن هذه الأسلحة وهذا الجواد ولو بعشرة أضعاف قيمتها. كم دفعت لأبي الآن؟»
قال جيرث وقد فاجأه السؤال: «ثمانين قطعة ذهبية.»
قالت ريبيكا: «في هذه الحقيبة ستجد مائة. أرجع لسيدك ما هو حق له، واحتفظ بالباقي. انصرف بسرعة ولا تنتظر لتقديم الشكر! وكن حذرا في سيرك عبر هذه البلدة المزدحمة؛ حيث قد تفقد بسهولة ما تحمله وكذلك حياتك.»
الفصل العاشر
قبل أن ترتفع الشمس كثيرا فوق الأفق، ظهر المشاهدون الأكثر كسلا أو الأكثر تلهفا في أرض المهرجان في آشبي، متجهين إلى ساحة النزال؛ كي يضمنوا موقعا جيدا لمشاهدة استكمال الألعاب المنتظرة.
تبعا للنظام المعمول به، كان الفارس المحروم من الميراث سيصبح قائدا لأحد الفريقين، بينما عين براين دي بوا جيلبرت، الذي كان قد صنف ثانيا في اليوم السابق، البطل الأول للفريق الآخر.
وفي نحو الساعة العاشرة، كان السهل كله مكتظا برجال على ظهور الخيل، ونساء على ظهور الخيل، ومشاة على الأقدام؛ هرعوا إلى المباراة. وبعد ذلك بقليل، صدعت الأبواق بنفير عظيم معلنة وصول الأمير جون وحاشيته.
في الوقت نفسه تقريبا، وصل سيدريك الساكسوني مع الليدي روينا، ولكن لم يكن أثيلستان برفقتهما. كان هذا السيد الساكسوني ذو الجسم الطويل والقوي قد لبس درعا؛ كي يأخذ مكانه بين المتصارعين، وما فاجأ سيدريك إلى حد بعيد أنه أدرج اسمه في فريق فارس الهيكل.
وعلى الرغم من أن طبيعة أثيلستان اللامبالية منعته من أن يتبع أي وسيلة لتزكية نفسه لدى الليدي روينا، فلم يكن بأي حال غافلا عن سحر جمالها، واعتبر زواجه منها أمرا مسلما به من غير شك، برضا سيدريك وأصدقائها الآخرين؛ لذلك ساء سيد كوننجزبيرج المغرور المتراخي وأغضبه أن رأى المنتصر في اليوم السابق يختار روينا لتحوز ذلك الشرف الذي أصبح امتيازا له أن يمنحه. ولمعاقبته على هذه الأفضلية التي بدت متعارضة مع مسعاه، أصر أثيلستان، واثقا من قوته، على ألا يكتفي بتجريد الفارس المحروم من الميراث من عونه القوي، بل أيضا أن يذيقه ثقل فأسه إن سنحت الفرصة.
بمجرد أن لاحظ الأمير جون أن الملكة المختارة لذلك اليوم قد وصلت إلى الميدان، امتطى جواده وتقدم لمقابلتها، متظاهرا باللطف الذي يلائمه كل الملاءمة عندما يطيب له أن يبديه، ثم خلع قبعته وترجل من فوق الجواد ليساعد الليدي روينا على النزول من فوق سرج جوادها، بينما كشف أتباعه عن رءوسهم، ونزل واحد من أرفعهم شأنا عن جواده للإمساك بجوادها.
قال الأمير جون: «إننا بهذا نضرب المثل على الولاء الواجب لملكة الحب والجمال، ونقودها بأنفسنا إلى عرشها الذي يجب أن تعتليه اليوم.» ثم قال: «أيتها السيدات، أحطن ملكتكن بالرعاية، ما دمتن ترغبن بدوركن أن تنلن مثل هذا الشرف.»
وبعد أن قال الأمير ذلك، قاد روينا إلى مقعد الشرف المقابل لمقعده، بينما كانت أجمل السيدات الحاضرات وأكثرهن رفعة يحتشدن وراءها للحصول على أقرب الأماكن قدر الإمكان من الملكة المؤقتة .
وسط القتال الذي تباينت فيه الحظوظ، كانت عيون الجميع تسعى لتبين قائدي الفريقين، اللذين اختلطا في زحمة القتال، وأخذا يحثان رفاقهما بالهتاف تارة وبضرب المثل تارة أخرى. أظهر كلاهما مآثر عظيمة من البسالة، ولم يجد كل من بوا جيلبرت والفارس المحروم من الميراث في الفريق المواجه لهما بطلا يمكن أن يوصف بأنه نظير لأي منهما.
عندما قلت الأعداد في الميدان من كلا الجانبين، اللذين أصبحا غير قادرين على مواصلة القتال، تواجه أخيرا فارس الهيكل والفارس المحروم من الميراث بكل الغضب الذي يمكن أن يستحثه العداء المميت، مقترنا بالتنافس على الشرف.
ولكن في ذلك الوقت كان فريق الفارس المحروم من الميراث يتعرض للهزيمة؛ فقد كان ذراع فرونت دي بوف الضخمة من ناحية، وقوة أثيلستان الكبيرة من ناحية أخرى، يسقطان من يتعرض لهما ويشتتان قوته على الفور؛ لذلك أدار كل منهما جواده في اللحظة نفسها، واندفع النورماندي نحو الفارس المحروم من الميراث من جانب، واندفع الساكسوني من الجانب الآخر.
صاح جميع المشاهدين: «انتبه! انتبه! أيها السيد المحروم من الميراث!» فانتبه الفارس للخطر القادم نحوه، وموجها لفارس الهيكل ضربة بأقصى قوته تراجع بجواده متقهقرا في نفس اللحظة؛ من أجل أن يفلت من هجوم أثيلستان وفرونت دي بوف. وإذ تفادي هذين الفارسين، اندفعا من جانبين متقابلين بين هدف هجومهما وفارس الهيكل، وكادا يصطدمان بجواديهما لولا أن كبحا جماحيهما وأوقفا ذلك الاندفاع، ولكنهما استعادا السيطرة على جواديهما واستدارا بهما، وسعى الثلاثة نحو هدفهم المشترك، وهو أن يطرحوا الفارس المحروم من الميراث أرضا.
مباراة الفروسية، بريشة جيه ماكفارلين.
لم يكن يمكن أن ينقذه أي شيء إلا القوة والنشاط الباهرين اللذين اتسم بهما جواده الأصيل، الذي كان قد فاز به في اليوم السابق؛ إذ مكنته فروسيته الفائقة ونشاط جواده لبضع دقائق من أن يبقي خصومه الثلاثة عند ذؤابة سيفه، آخذا في الالتفاف والاستدارة برشاقة وسرعة الصقر الطائر، مبقيا أعداءه متفرقين قدر استطاعته، ومندفعا تارة نحو أحدهم، وتارة أخرى نحو آخر، موجها بسيفه ضربات كاسحة دون أن يتوقف ليتلقى الضربات التي وجهها إليه خصومه بدورهم، ولكن على الرغم من التصفيق لبراعته الذي دوى في ساحة النزال، كان من الواضح أنه لا بد أنهم سيتغلبون عليه في النهاية.
كان في فريق الفارس المحروم من الميراث بطل يلبس درعا أسود، ويمتطي حصانا أسود كبير الحجم وطويلا، وبدا قويا وضخما كالفارس الذي يمتطيه. لم يكن هذا الفارس الذي لم يكن درعه يحمل شعارا من أي نوع، حتى تلك اللحظة، قد فعل شيئا سوى المشاهدة، فلم يكن قد شارك في النزال؛ ما جعل المشاهدين يطلقون عليه اسم «الكسلان الأسود».
وفجأة بدا أنه قد تخلى عن كسله؛ إذ وكز بمهمازيه جواده الذي كان نشيطا للغاية، وصاح بصوت أشبه بصوت البوق قائلا: «أيها المحروم من الميراث، أنا آت لإنقاذك!» ولكن الأوان كان قد فات؛ فبينما كان الفارس المحروم من الميراث يكر على فارس الهيكل، كان فرونت دي بوف قد اقترب منه رافعا سيفه، ولكن قبل أن يهوي به عليه كان الفارس الأسود قد وجه له ضربة على رأسه، وتدحرج فرونت دي بوف على الأرض مصعوقا هو وجواده من ضراوة الضربة. بعد ذلك تحول الكسلان الأسود بجواده نحو أثيلستان أوف كوننجزبيرج، وكان سيفه قد كسر في مواجهته مع فرونت دي بوف؛ فانتزع من يد الساكسوني الضخم بلطة الحرب التي كان ممسكا بها، وضربه على صدره ضربة جلعت أثيلستان هو الآخر يستلقي بلا حراك على أرض الميدان. بعد أن حقق نصره المزدوج بدا أن الفارس قد عاد إلى كسله؛ إذ رجع هادئا إلى الطرف الشمالي لساحة النزال تاركا قائده للتعامل بأفضل ما في وسعه مع براين دي بوا جيلبرت. لم يعد هذا الأمر شديد الصعوبة كما كان في السابق؛ فلقد نزف جواد فارس الهيكل كثيرا، وانهار على إثر صدمة هجوم الفارس المحروم من الميراث. تدحرج براين دي بوا جيلبرت على أرض الميدان، يعرقله ركاب سرجه الذي لم يستطع سحب قدمه منه. وثب خصمه من فوق ظهر جواده، ولوح بسيفه المهلك فوق رأس خصمه آمرا إياه أن يستسلم، وعندئذ تدخل الأمير جون الذي كان متأثرا بالوضع الخطير الذي كان فيه فارس الهيكل أكثر من تأثره لوضع منافسه، وأنقذه من عار الاعتراف بالهزيمة بأن ألقى بصولجانه وأنهى القتال.
وإذ كان من واجب الأمير جون عندئذ أن يعلن اسم الفارس الأفضل، قرر أن شرف اليوم بقي مع الأمير المحروم من الميراث؛ وبناء على ذلك أعلن أنه بطل اليوم.
قال الأمير جون: «أيها الفارس المحروم من الميراث - حيث إنك لا توافق على أن نعرفك إلا بهذا اللقب - نمنحك للمرة الثانية شرف هذه المباراة، ونعلن إليك حقك في أن تطالب ملكة الحب والجمال بإكليل الشرف الذي استحقته عن جدارة من أجل بسالتك، وأن تتلقاه من يديها.»
انحنى الفارس انحناءة كبيرة برشاقة، ولكنه لم يرد. وقاده المنظمان عبر ساحة النزال إلى أدنى عرش الشرف الذي كانت تعتليه الليدي روينا.
طلب من البطل أن يجثو على ركبته على الدرجة السفلى لهذا العرش. في الواقع، كانت جميع أفعاله منذ أن انتهى القتال تبدو مدفوعة ممن حوله وليس بدافع من إرادته الحرة، ولوحظ أنه ترنح عندما قادوه للمرة الثانية عبر ساحة النزال. نزلت روينا من منصتها بخطوات رشيقة رصينة، وكانت على وشك أن تضع الإكليل الذي كانت تحمله في يدها على خوذة البطل، عندما صاح المنظمان معا: «يجب ألا يكون الأمر هكذا؛ إذ يجب أن يكون رأسه حاسرا.» لم يعر المنظمان أي اهتمام لتعبيراته التي تنم عن ممانعته لما يفعلان، وخلعا عنه خوذته بأن قطعا رباطها، وفكا إبزيم طوقه. وعندما نزعت الخوذة رأى الجميع الملامح الحسنة، التي لفحتها الشمس، لشاب يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، بين خصلات شعره الأصفر القصير الغزير. كان وجهه شاحبا كالموتى، وعليه آثار دماء في موضع أو موضعين.
ما إن أبصرته روينا حتى أطلقت صرخة خافتة، ولكن كبحت جماح نفسها على الفور، وألزمت نفسها، إن جاز التعبير، بمواصلة ما كانت تقوم به؛ فوضعت على رأس المنتصر المطأطئة الإكليل الفخم الذي كان الجائزة المقررة لليوم، وقالت بنبرة واضحة ومميزة هذه الكلمات : «أمنحك هذا الإكليل أيها السيد الفارس؛ جزاء على ما أظهرته اليوم من بسالة.» وهنا توقفت برهة، ثم أضافت بثبات: «وليس ثمة جبين آخر أجدر بأن يوضع إكليل الفروسية عليه!»
أحنى الفارس رأسه وقبل يد الملكة الجميلة التي كافأته على شجاعته، ثم انحنى أكثر وسجد عند قدميها.
عم الجميع شعور بالرهبة. أما سيدريك، الذي كان الظهور المفاجئ للابن المبعد قد ألجمه، فاندفع حينئذ للأمام كما لو كان يريد أن يفصل بينه وبين روينا، ولكن المنظمين كانا قد سبقاه إلى فعل ذلك؛ إذ خمنا سبب إغماء إيفانهو، وأسرعا إلى خلع درعه عنه مكتشفين أن رأس رمح كان قد اخترق درع صدره وأصابه بجرح في جانبه.
الفصل الحادي عشر
كان الأمير جون على وشك أن يعطي الإشارة بالانصراف من ساحة النزال، حين وضعت رسالة صغيرة في يده.
قال الأمير جون ناظرا للشخص الذي سلمه إياها: «من أين؟»
رد خادمه: «من بلاد أجنبية يا مولاي، ولكني لا أعلم من أين تحديدا. جلبها رجل فرنسي إلى هنا، وقال إنه سار بجواده ليلا ونهارا لوضعها بين يدي سموك.»
الفارس وروينا، بريشة أدولف لالوز.
نظر الأمير بإمعان إلى عنوان الرسالة، ثم إلى الخاتم الذي وضع لإحكام تثبيت قطعة الحرير المحيطة بالرسالة، والذي كان يحمل نقش ثلاث زنبقات. فتح جون الرسالة باضطراب جلي ازداد جلاء بشدة عندما قرأ محتوياتها التي جاءت بها هذه الكلمات:
انتبه لنفسك لأن الشيطان قد صار طليقا.
شحب وجه الأمير كشحوب الموتى، ولكن بعد أن أفاق من الآثار الأولى لمفاجأته انتحى بوالديمار فيتزورس ودي براسي جانبا، ووضع الرسالة بين يدي كل منهما واحدا تلو الآخر. وقال بصوت مضطرب: «إنها تعني أن أخي ريتشارد قد نال حريته.»
قال دي براسي: «قد يكون هذا إنذارا كاذبا أو رسالة مزورة.»
رد الأمير جون: «إنها بخط يد ملك فرنسا وخاتمه.»
قال فيتزورس: «حان الوقت إذن لاستدعاء جماعتنا إلى وجهة ما، إما في يورك أو في مكان مركزي ما. يجب أن تأمر يا صاحب السمو أن تنهي هذا الاحتفال ، الذي لا موجب له، الذي نحن فيه الآن.»
قال دي براسي: «يجب ألا ينصرف رجال الطبقة الوسطى والعامة وهم مستاءون لعدم مشاركتهم في المباريات.»
قال والديمار: «لم يمر من اليوم إلا نزر يسير. فلنترك الرماة يصوبون سهامهم لبضع جولات على الهدف، ونعلن الفائز بالجائزة. سيكون هذا وفاء وافيا لوعود الأمير أمام هذا القطيع من العبيد الساكسونيين.»
سرعان ما استدعى صوت الأبواق أولئك المشاهدين الذي كانوا قد بدءوا بالفعل في ترك الميدان، وأعلن أن الأمير جون يسره أن يجعل رجال الطبقة الوسطى، قبل مغادرة الساحة، يقيمون على الفور منافسة الرماية التي كان من المقرر عقدها غدا.
بلغ العدد المدرج في قائمة المتنافسين من ذوي السمعة من رجال الغابات ثمانية. ونزل الأمير جون من فوق مقعده الملكي ليرى عن قرب هؤلاء الأشخاص المختارين من الطبقة الوسطى، الذين ارتدى العديد منهم الثياب الرسمية لأتباع الملك. وبعدما أرضى فضوله بهذا الاستطلاع بحث عن الشخص الذي كان قد أثار استياءه، ولاحظ جلوسه في البقعة نفسها، وبمظهره الهادئ نفسه الذي كان عليه أمس.
قال الأمير جون: «أيها الرجل، لقد خمنت من ثرثرتك الوقحة أنك لم تكن محبا مخلصا للقوس الطويلة، وأرى أنك لا تجرؤ على المغامرة بمهارتك بين رجال يتسمون بالنشاط كأولئك الواقفين هناك.»
رد رجل الغابة: «لا أعلم إن كان هؤلاء الرجال من اليومن وأنا معتادين على الرمي على العلامات نفسها، وبالإضافة إلى ذلك لا أعلم كيف لسموك أن تستسيغ أن يكون الفائز بالجائزة الثالثة شخصا أغضبك بغير عمد.»
احمر وجه الأمير جون غضبا وهو يسأله: «ما اسمك أيها اليومن؟»
رد اليومن: «لوكسلي.»
قال الأمير جون: «إذن، يا لوكسلي، سترمي سهمك في دورك، عندما يظهر هؤلاء الرجال من اليومن مهارتهم. وإذا فزت بالجائزة فسأضيف إليها عشرين قطعة فضية، أما إذا رفضت عرضي العادل فسيقطع المشرف على الحلبة وتر قوسك، ويكسر قوسك وسهامك، ويطردك من بين الحضور كجبان خائر العزم.»
قال اليومن: «إن ما تقدمه لي ليس فرصة عادلة أيها الأمير العظيم، ولكنني سأطيع مشيئتك .»
وضع هدف في الطرف العلوي للطريق الجنوبي الذي يقود إلى ساحة النزال.
تقدم الرماة واحدا تلو الآخر، ورموا سهامهم كما يرميها الرجال من اليومن وبكل شجاعة. ومن السهام العشرة التي أصابت الهدف أصاب الدائرة الداخلية سهمان كان قد رماهما هوبيرت، وهو حارس غابة في خدمة مالفوازان؛ ومن ثم أعلن عن فوزه.
قال الأمير جون بابتسامة ساخرة: «والآن، يا لوكسلي، هل ستحاول مرة أخيرة مع هوبيرت؟»
قال لوكسلي: «بما أنه ليس أمامي من هو أفضل فيسعدني أن أجرب حظي، بشرط أنه عندما أرمي سهمين على علامة هوبيرت التي هناك سيتعين عليه أن يرمي سهما في المكان الذي أقترحه.»
رد الأمير جون: «ذلك عين الإنصاف، ولن يرفض لك هذا. إذا هزمت هذا المدعي يا هوبيرت فسأملأ لك البوق ببنسات فضية.»
رد هوبيرت: «لا يسع المرء أن يفعل سوى قصارى ما بوسعه، ومع ذلك فقد كان جدي راميا ماهرا في هاستنجز، وأنا واثق من أنني لن ألحق العار بذكراه.»
أزيلت لوحة الهدف السابقة، ووضعت واحدة جديدة بالحجم نفسه في مكانها. صوب هوبيرت نحو هدفه بترو شديد مستغرقا الكثير من الوقت في قياس المسافة بعينه، بينما كان يمسك في يده بقوسه الملتوية، واضعا السهم على وتره. أخيرا، خطا خطوة للأمام، ورفع القوس بأقصى استطالة لذراعه اليسرى، حتى أصبح المركز أو المقبض في مستوى قريب من وجهه، ثم سحب خيط القوس إلى أذنه. انطلق السهم مصفرا يخترق الهواء، واستقر في الدائرة الداخلية للوحة الهدف، ولكنه لم يصب المركز بالضبط.
قال خصمه وهو يشد قوسه: «أنت لم تحسب حساب الريح يا هوبيرت، ولو كنت فعلت لكان تصويبك أفضل من ذلك.»
قال لوكسلي ذلك، ودون أن يظهر أدنى اهتمام بالتوقف للنظر مليا إلى هدفه خطا إلى الموضع المحدد، وأطلق سهمه غير عابئ وكأنه لم ينظر حتى إلى العلامات على لوحة الهدف. وكان يتحدث في نفس اللحظة تقريبا التي انطلق فيها السهم من وتر القوس، ومع ذلك فقد استقر سهمه في موضع أقرب ببوصتين من سهم هوبيرت للنقطة البيضاء للمركز.
قال الأمير جون لهوبيرت: «بحق نور السماء! إذا تركت هذا الوغد الآبق ينتصر عليك فأنت تستحق الشنق!»
قال هوبيرت: «ولو شنقتني يا صاحب السمو فسأكرر أنه لا يسع المرء أن يفعل سوى قصارى ما بوسعه. ومع ذلك فقد كان جدي راميا ماهرا ...»
قاطعه جون قائلا: «اللعنة على جدك وجيله كله! ارم سهمك أيها الوغد، ارمه بأفضل ما في وسعك، وإلا فستسوء عاقبتك!»
بعدما تلقى هوبيرت هذا الوعيد رجع إلى مكانه، وحسب جيدا حساب ريح خفيفة جدا كانت قد هبت لتوها، ثم أطلق سهمه بنجاح شديد، حتى إنه استقر في مركز لوحة الهدف بالضبط.
قال الأمير مبتسما ابتسامة مهينة: «لا تستطيع تسديد رمية كتلك يا لوكسلي.»
قال لوكسلي: «ولكني سأشطر له سهمه.»
وأطلق سهمه متوخيا الحرص أكثر قليلا من ذي قبل، فاستقر مباشرة في سهم منافسه، الذي انشق إلى شظايا.
قال لوكسلي: «والآن، ألتمس إذن سموك في أن أضع علامة كما يفعلون في المقاطعات الشمالية، وأرحب بكل يومن شجاع يحاول إصابته.»
ثم استدار مغادرا ساحة النزال قائلا: «دع حراسك يتبعوني إن شئت؛ فلست إلا ذاهبا لأقطع غصنا من شجرة الصفصاف القريبة.»
رجع لوكسلي على الفور تقريبا بعصا من خشب الصفصاف يبلغ طولها نحو ست أقدام، وكانت مستقيمة استقامة ممتازة، وأكثر سمكا بقليل من إبهام رجل. شرع في تقشيرها ذاكرا أنه لكي تطلب من رجل غابة جيد أن يصوب على هدف عريض كالذي استعمل حتى ذلك الحين، فإن ذلك كان يعد إلحاقا للعار بمهارته. قال: «من ناحيتي، وفي الأرض التي نشأت فيها، أرى أن الهدف الذي كنا نصوب عليه كبير كطاولة الملك آرثر المستديرة، التي تتسع لستين فارسا حولها. إن طفلا في السابعة من عمره يمكنه أن يصيب هدفا هناك بسهم لا رأس له، ولكن ...» وأضاف وهو يمشي بترو على الطرف الآخر من ساحة النزال، ويغرز عصا خشب الصفصاف في الأرض: «من يصب هذه القصبة من مسافة مائة ياردة أعده راميا يستحق أن يحمل القوس وجعبة السهام أمام ملك.»
قال هوبيرت : «كان جدي راميا ماهرا في معركة هاستنجز، ولم يصوب على علامة مثل هذه في حياته، وكذلك لن أفعل أنا. إذا تمكن هذا اليومن من شق تلك القصبة فسأقر له بأنه غلبني، أو بالأحرى سأخضع للشيطان الذي يتلبسه، وليس لأي مهارة بشرية. لا يسع المرء أن يفعل سوى قصارى ما بوسعه، وسأصوب على هدف أنا متأكد من أنني لن أصيبه. من الأفضل لي إذن أن أصوب على شعاع من أشعة الشمس، أو على شعاع أبيض وامض بالكاد أراه.»
قال الأمير جون: «كلب جبان! فلتصوب يا سيد لوكسلي، ولكن إن أصبت هدفا كهذا فسأقول إنك أول رجل يفعل هذا. ومهما يكن، فلا تتبجح علينا بمجرد ادعاء مهارتك الفائقة.»
رد لوكسلي: «سأبذل قصارى ما بوسعي، كما يقول هوبيرت؛ فلا يملك أي إنسان أن يفعل أكثر من ذلك.»
وبعد أن قال هذا شد قوسه مجددا، ولكنه هذه المرة نظر باهتمام إلى سلاحه، وغير الوتر الذي اعتقد أنه لم يعد مستديرا كامل الاستدارة؛ نظرا لاهترائه بعض الشيء بفعل الرميتين السابقتين، ثم صوب ببعض التروي، وترقبت الجماهير الحدث بصمت واحتبست الأنفاس. أثبت الرامي رأيهم في مهارته؛ فقد شق سهمه قصبة الصفصاف في المكان الذي كانت مصوبة نحوه. تبع ذلك وابل من التهليل، حتى إن الأمير جون نسي للحظة نفوره من شخص لوكسلي إعجابا بمهارته، وقال: «هذه القطع الفضية العشرون، التي استحققتها هي والبوق بجدارة، قد أصبحت ملكك الآن، وسنزيدها إلى خمسين إن قبلت أن ترتدي زينا وتعمل في خدمتنا بصفتك أحد أفراد حرسنا الشخصي، وتصبح بقرب شخصنا؛ فلم تشد يد من قبل قوسا بمثل هذه القوة، أو تصوب عين سهما بمثل هذه الدقة.»
قال لوكسلي: «أستميحك عذرا، أيها الأمير النبيل، ولكني قطعت على نفسي عهدا أنني إن قبلت خدمة أحد في يوم من الأيام فسيكون ذلك مع أخيك الملك ريتشارد. أما هذه القطع الفضية العشرون فأتركها لهوبيرت، الذي كان اليوم راميا لا يقل في شجاعته عما فعله جده في هاستنجز. ولولا تواضعه الذي حال بينه وبين أن يجرب لكان قد أصاب العصا مثلما أصبتها.»
هز هوبيرت رأسه وهو يتلقى على مضض هبة الغريب، أما لوكسلي الذي كان متلهفا للابتعاد عن الأنظار، فاندس وسط الحشد، ولم ير بعدها.
الفصل الثاني عشر
في صباح اليوم التالي، غادر الفارس الملقب بالكسول الأسود مبكرا، عازما على خوض رحلة طويلة، ولم تكن حالة جواده، الذي كان قد استخدمه بحذر في القتال خلال صباح أمس، تسمح له بالسفر بعيدا دون الحاجة إلى كثير من الراحة، لكن المسارات الملتوية التي قاد فيها جواده حالت بينه وبين غايته؛ فعندما حل المساء عليه وجد أنه لم يبلغ إلا حدود ويست رايدينج بيوركشاير. وكانت الشمس، التي كانت غالبا هي المرشد في مسيره، قد توارت حينئذ خلف تلال ديربي شاير عن يساره، وكل جهد يمكن أن يبذله في مواصلة رحلته قد يحيد به عن طريقه بقدر احتمال أن يجعله يتقدم في مسيره. بعدما اجتهد دون جدوى في اختيار أكثر طريق مطروق، وبعدما وجد نفسه أكثر من مرة عاجزا تماما عن أن يستقر على اختيار، عزم الفارس على الوثوق في فطنة جواده.
ولم يكد الجواد الجيد، الذي كان متعبا بشدة من الرحلة الطويلة التي قطعها خلال اليوم أسفل راكبه المتسربل بدرع مزرد، يشعر من اللجام المتراخي أنه قد ترك ليقود نفسه، حتى بدا أنه يمضي بنشاط وحيوية أكبر، متوليا زمام نفسه، وإذ بدا الجواد واثقا في اختياره ترك الراكب نفسه لتقديره.
جاءت الأحداث موافقة لظنونه؛ إذ سرعان ما بدا ممر المشاة أعرض قليلا ومطروقا أكثر، كما جعل رنين جرس صغير الفارس يعي أنه كان بجوار كنيسة صغيرة أو دير.
ومن ثم سرعان ما وصل إلى قطعة أرض مفتوحة ومكسوة بالعشب، على الجهة المقابلة لها صخرة مرتفعة بحدة، يمكن للمسافر أن يرى واجهتها الرمادية ملساء بفعل بعوامل التعرية، فوق سهل منحدر بعض الشيء. عند قاعدة الصخرة كان مبنيا كوخ بسيط، وكان، إن جاز القول، يستند عليها. وغرس منتصبا بالقرب من الباب جذع شجرة تنوب يافع جرد من أغصانه ، عليه قطعة من الخشب مربوطة عرضا بالقرب من القمة، كرمز بدائي للصليب المقدس. على مسافة قريبة جهة اليمين انبثق من الصخر ينبوع من أعذب المياه، يصب في حجر أجوف كان عمل بشر قد حوله إلى حوض بسيط.
بجوار هذا الينبوع كانت توجد أطلال كنيسة شديدة الصغر، ذات سقف قد تداعى جزئيا. ولم يكن المبنى، عندما كان كاملا، يتعدى في طوله ست عشرة قدما، وفي عرضه اثنتي عشرة قدما. وكان السقف، المنخفض نسبيا، مستندا إلى أربع أقواس متلاقية تنبثق من الأركان الأربعة للمبنى، وكل منها مدعوم بعمود قصير وضخم. كان المنظر الذي يتسم بالسكينة والهدوء بأكمله يقبع متألقا في ضوء الشفق أمام عيني المسافر، معطيا إياه شعورا بالثقة في أنه وجد مكانا للمبيت في تلك الليلة؛ ومن ثم وثب الفارس من فوق جواده وضرب باب الكوخ بمؤخرة رمحه؛ حتى يجذب الانتباه ويحصل على الإذن بالدخول.
مر بعض الوقت قبل أن يتلقى أي جواب، وعندما جاء الرد لم يكن مبشرا بخير.
كان الجواب الذي جاءه بصوت شديد الغلظة من داخل الكوخ: «امض في طريقك كائنا من كنت، ولا تزعج خادم الرب والقديس دونستان أثناء صلواته الليلية.»
أجاب الفارس: «أيها الأب الفاضل، أنا عابر سبيل مسكين ضل طريقه في هذه الغابة، ويقدم لك الفرصة لتغدق عليه من إحسانك وكرم ضيافتك.»
رد ساكن الكوخ: «أيها الأخ الصالح، ليس لدي زاد هنا يمكن حتى لكلب أن يتقاسمه معي، وأي جواد نشأ نشأة ناعمة سيحتقر مضجعي. امض في طريقك وليرعاك الرب.»
الفارس عند الكوخ، بريشة أدولف لالوز.
رد الفارس: «ولكن كيف أستطيع أن أجد طريقي عبر غابة كهذه، والظلام يوشك أن يحل؟ أتوسل إليك أيها الأب المبجل، بحق مسيحيتك، أن تفتح بابك، وترشدني على الأقل إلى طريقي.»
رد الناسك: «وأنا أرجوك أيها الأخ المسيحي الصالح ألا تستمر في إزعاجي؛ فلقد قطعت علي بالفعل صلاة ربانية وصلاتين مريميتين وصلاة قانون الإيمان، التي يجب علي وفقا لنذري، أنا الآثم البائس، أن أؤديها قبل طلوع القمر.»
صاح الفارس بأعلى صوته : «الطريق، الطريق! أرشدني إلى الطريق إن كان يتوجب علي ألا أتوقع منك أكثر من ذلك.»
أجاب الناسك: «يسهل الوصول إلى الطريق. المسار من الغابة يقود إلى مستنقع، ومنه إلى مخاضة يمكن الآن عبورها بما أن الأمطار قد توقفت. بعدما تعبر المخاضة، انتبه إلى موطئ قدميك إلى الضفة اليسرى لأنها منحدرة بعض الشيء، وقد انهار المسار المعلق فوق النهر مؤخرا، حسبما سمعت (إذ نادرا ما أترك كنيستي)، في عدة أماكن. بعد ذلك تابع السير في خط مستقيم ...»
قاطعه الفارس قائلا: «مسار منهار، ومنحدر، ومخاضة، ومستنقع! أيها السيد الناسك، لو كنت أقدس من أطلق لحيته أو أمسك بمسبحة، فلن تقنعني بأن أسلك هذا الطريق الليلة. إما أن تفتح لي الباب بسرعة أو، بحق الصليب، سأحطمه وأدخل بنفسي.»
رد الناسك: «أيها الصديق عابر السبيل، لا تكن لحوحا. إذا ألجأتني إلى أن أستخدم سلاحي المادي للدفاع عن نفسي فسيكون ذلك أشق عليك.»
في هذه اللحظة، أصبحت ضوضاء بعيدة لنباح وزمجرة، كان المسافر قد سمعها منذ حين، أكثر ارتفاعا وعنفا، وجعلت الفارس يظن أن الناسك، خوفا من تهديده له بأن يدخل عليه عنوة، قد استدعى الكلاب التي أصدرت هذا الصخب. ثار الفارس غضبا من ذلك، وضرب الباب بقوة بقدمه، لدرجة أن أعمدته ودعائمه اهتزت اهتزازا عنيفا.
عندئذ صاح الناسك عاليا: «الصبر، الصبر، وفر قوتك أيها المسافر الطيب، وسأفتح لك الباب على الفور، مع أن ذلك لن يسرك إلا قليلا.»
وهكذا فتح الباب، وظهر الناسك، الذي كان رجلا ضخما، قوي البنية، يلبس عباءة من الخيش وقلنسوة، ويحيط خصره بحبل من السمار، ووقف أمام الفارس، ولكن عندما سقط ضوء مشعله على شعر عنق الجواد النبيل ومهمازيه الذهبيين، اللذين وقف المسافر دونهما، دعاه لدخول كوخه، معتذرا عن عدم رغبته في فتح باب كوخه بعد غروب الشمس، بزعم كثرة اللصوص والخارجين عن القانون الذين كانوا في الخارج.
قال الفارس ناظرا حوله: «إن فقر صومعتك أيها الأب الصالح يبدو كفيلا بالدفاع عنها في مواجهة خطر اللصوص، ناهيك عن مساعدة كلبين محل ثقة، ويمتلكان من الضخامة والقوة ما يكفي، على ما أعتقد، لإسقاط أيل، وبالطبع الوقوف في وجه معظم الرجال.»
قال الناسك: «سمح لي حارس الغابة الطيب باستخدام هذين الكلبين؛ كي أحمي عزلتي حتى تتحسن الأحوال.»
بعد أن قال هذا ثبت مشعله في فرع ملتو من الحديد كان يستخدم حاملا للشموع، ووضع كرسيا على أحد جانبي الطاولة، مشيرا للفارس أن يفعل مثله على الجانب الآخر.
جلسا، وحدق كل منهما في الآخر بوقار شديد، وكان كل منهما يفكر بينه وبين نفسه أنه نادرا ما رأى أحدا أقوى بنية وأشد عودا من الجالس أمامه.
قال الفارس بعدما نظر طويلا وبثبات لمضيفه: «أيها الناسك الموقر، إن لم يكن في الأمر مقاطعة لتأملاتك الورعة، أرجو معرفة ثلاثة أشياء من قداستك؛ أولا: أين أضع جوادي؟ وثانيا: ما الذي يمكنني أن أحصل عليه كعشاء؟ وثالثا: أين سأنام ليلتي؟»
قال الناسك: «سأرد عليك بإصبعي؛ فمما يخالف قواعدي أن أتحدث بالكلام عندما يمكن للإشارات أن تفي بالغرض.» قال ذلك وأشار تباعا إلى ركنين في الكوخ، ثم قال: «إسطبلك هنا، وسريرك هناك.» وأنزل من رف مجاور طبقا كبيرا به حفنتان من البازلاء الجافة ووضعه على الطاولة، ثم أضاف قائلا: «وها هو عشاؤك.»
هز الفارس كتفيه، وغادر الكوخ، ثم عاد بجواده، ونزع عنه سرجه بعناية شديدة، وغطى ظهر جواده المرهق بعباءته.
غمغم الناسك بشيء عن علف ترك لحصان الحارس، وسحب من فجوة حزمة من العلف، ونثرها أمام جواد الفارس، وبعد ذلك على الفور فرش بعض السرخس المجفف في الركن الذي كان قد عينه مضجعا للمسافر. شكره الفارس على لطفه، وبعد أداء هذه المهمة رجع كل منهما إلى كرسيه بجوار المائدة، حيث كانت الصينية التي فيها البازلاء موضوعة بينهما. وبعد أن تلا الناسك صلاة شكر طويلة، كانت يوما ما باللغة اللاتينية، ولكن لم يبق من لغتها الأصلية سوى بضعة آثار، عدا النهاية الرنانة الطويلة لكلمة أو عبارة تقال بين الحين والآخر، ضرب مثلا لضيفه بأن وضع بتواضع في فمه الضخم، الممتلئ بأسنان تشبه أسنان خنزير بري في حدتها وبياضها، ثلاث أو أربع حبات من البازلاء الجافة.
الفصل الثالث عشر
وضع الفارس جانبا خوذته والجزء الأكبر من درعه، وكشف للناسك عن رأس ذي شعر أصفر شديد التموج، وقسمات نبيلة، وعينين زرقاوين لامعتين ووامضتين على نحو لافت، وفم حسن التكوين يكسو شفته العليا شارب أشد دكنة من شعره.
أرجع الناسك قلنسوته للوراء، كما لو كان يريد أن يرد على ثقة ضيفه، وكشف عن رأس مستدير صغير لرجل في ريعان شبابه. ولم يكن في ملامحه شيء من تقشف الرهبان، بل على العكس، كانت ملامح وجهه الممتلئ تشي بالجرأة، بحاجبين أسودين عريضين، وجبهة بهية، ووجنتين مستديرتين وقرمزيتين، كوجنتي عازف بوق، وتتدلى منهما لحية سوداء طويلة ومجعدة.
بعدما أتم الضيف بعناء شديد مضغ ملء فمه من البازلاء المجففة، وجد أنه من الضروري للغاية أن يطلب من مضيفه التقي أن يمده ببعض الشراب، فاستجاب لطلبه بأن وضع أمامه قدحا كبيرا من أنقى المياه من الينبوع.
وقال: «إنها من بئر القديس دونستان، الذي عمد فيه، بين مطلع شمس ومطلعها التالي، خمسمائة من البريطانيين والدنماركيين الوثنيين. فليتبارك اسمه!»
قال الفارس: «يبدو لي أيها الأب المبجل أن تناولك للقيمات قليلة مع الشراب المقدس الخفيف نوعا ما، قد أكسبك صحة على نحو مدهش؛ إذ تبدو كرجل يلائمه أكثر أن يفوز بكبش في مباراة للمصارعة من أن يمضي وقته في هذه البرية المهجورة مرددا للصلوات ومقتاتا على البازلاء الجافة والماء البارد.»
أجاب الناسك: «سيدي الفارس، إن أفكارك تتبع الجسد كأفكار أولئك العلمانيين الجهلاء. لقد سر سيدتنا العذراء وقديسي الشفيع أن يباركا قوتي الزهيد الذي أضبط به نفسي.»
قال الفارس: «أيها الأب المقدس، الذي سعدت السماء أن تفعل مثل هذه المعجزة في ملامحه، اسمح لعلماني آثم أن يطلب ملتمسا معرفة اسمك.»
أجاب الناسك: «يمكنك أن تدعوني كاهن كوبمانهيرست؛ إذ هكذا أدعى في هذه الأنحاء. ويضيف الناس حين ينادونني، وهم محقون في ذلك، نعت «المقدس»، ولكني غير جدير بذلك. والآن، أيها الفارس الشجاع، أتسمح لي أن أعرف اسم ضيفي الكريم؟»
قال الفارس: «في الواقع، يا كاهن كوبمانهيرست المقدس، يناديني الناس في هذه الأنحاء بالفارس الأسود، ويضيف كثيرون منهم، يا سيدي، نعت الكسلان، الذي لا أطمح على الإطلاق لأن أكون مشهورا به.»
لم يستطع الناسك أن يمنع نفسه من الابتسام لرد ضيفه.
وقال: «أرى أيها السيد الفارس الكسلان أنك رجل حذر وحكيم، وأرى أيضا أن طعام الرهبان الفقير لا يعجبك؛ لأنك ربما تكون معتادا على رغد القصور ومعسكرات الفرسان وترف المدن. والآن تذكرت، أيها السيد الكسلان، أنه عندما ترك لي الحارس الخير لهذا الجزء من الغابة هذين الكلبين لحمايتي وكذلك تلك الحزم من العلف، ترك لي أيضا بعض الطعام، ولكنه لما كان غير مناسب لعاداتي في الطعام، فقد غاب عن ذهني وسط تأملاتي التي تفوقه الأكثر أهمية.»
قال الفارس: «أجرؤ أن أقسم على أنه فعل ذلك؛ فقد كنت مقتنعا بأن ثمة طعاما أفضل في صومعتك أيها الكاهن المقدس منذ أن نزعت قلنسوتك. لنر إذن عطية الحارس دون إبطاء.»
رمق الناسك الفارس بنظرة متأملة بها نوع من التعبير الهزلي عن التردد، كما لو كان غير متأكد إلى أي حد ينبغي عليه أن يتصرف بحذر بشأن الوثوق في ضيفه.
بعدما تبادلا نظرة صامتة أو نظرتين، ذهب الناسك إلى الجانب الأقصى من الكوخ، وفتح كوة كانت مغلقة بعناية شديدة وبشيء من البراعة. ومن أعماق خزانة سوداء تؤدي هذه الكوة إليها، جلب فطيرة كبيرة مخبوزة في صفيحة من القصدير ذات أبعاد غير معتادة. وضع هذه الفطيرة الضخمة أمام ضيفه، الذي شقها بخنجره، ولم يضع وقتا في أن يعرف محتوياتها.
قال الفارس لمضيفه بعدما ابتلع بسرعة عدة لقيمات من هذا المدد من طعام الناسك الجيد: «كم مر على وجود الحارس الصالح هنا؟»
أجاب الأب على الفور: «ما يقرب من شهرين.»
قال الفارس: «أقسم بالرب الحق أن كل شيء في صومعتك معجز أيها الكاهن المقدس! إذ أكاد أقسم أن الظبي السمين الذي حشيت هذه الفطيرة من لحمه كان يعدو على أقدامه هذا الأسبوع. لقد كنت في فلسطين يا سيدي الكاهن ...» ثم توقف قليلا فجأة، وعاد يقول: «وأذكر أنه كان من عادة أهل تلك البلاد أنه يتعين على كل مضيف يستقبل ضيفا أن يثبت له سلامة طعامه بأن يشاركه إياه. وسأكون ممنونا لك بشدة إن امتثلت لهذه العادة الشرقية.»
أجاب الناسك: «كي أريحك من شكوكك غير الضرورية، يا سيدي الفارس، سأحيد هذه المرة فقط عن قواعدي.» ونظرا لأنه لم تكن ثمة شوكات في تلك الأيام، أنشب أصابعه على الفور في أحشاء الفطيرة.
قال الفارس عندما أشبع جوعه: «أيها الكاهن المقدس، أراهن بجوادي الأصيل هذا مقابل قطعة ذهبية على أن الحارس الأمين الذي ندين له بلحم الغزال هذا، قد ترك لك كأسا من النبيذ أو بعضا من الشراب مع هذه الفطيرة الفاخرة. بلا شك هذا حدث لا يرقى تماما إلى أن يعلق بذاكرة ناسك في مثل زهدك، ولكن أعتقد أنك إن بحثت في هذا السرداب الذي هناك مرة أخرى فستجد أنني محق في حدسي.»
اكتفى الناسك بالرد عليه بابتسامة عريضة، وعاد إلى الكوة وأحضر قربة من الجلد ربما كانت تحتوي على ما يعادل جالونا من الشراب، كما أحضر قدحي شراب كبيرين مصنوعين من قرني حيوان. وبعد أن أحضر هذه المؤن الجيدة لهضم العشاء، بدا أنه لم يعد يرى ضرورة لأن يبدي من جانبه مزيدا من الحفاوة، لكنه ملأ القدحين وقال على الطريقة الساكسونية: «نخب صحتك يا سيدي الفارس الكسول!» وأفرغ قدحه دفعة واحدة.
أجاب المحارب، بتحية مماثلة بقدحه الممتلئ مثل قدح مضيفه بالقدر ذاته من الشراب، قائلا: «نخب صحتك يا كاهن كوبمانهيرست المقدس!»
قال الغريب بعد احتساء الكأس الأولى: «أيها الكاهن المقدس، لا يسعني إلا أن أتعجب من أن رجلا لديه تلك العضلات والقوة، ولديه شهية جيدة مثل شهيتك، ويفكر في أن يقيم وحيدا في هذه البرية. أقل ما في الأمر، لو كنت مكانك، لوجدت لنفسي رياضة ورخاء في صيد ظباء الملك؛ فثمة العديد من القطعان في هذه الغابات، ولن يفتقد أحد أبدا ظبيا يذهب إلى خادم كنيسة القديس دونستان.»
رد الكاهن: «يا سيدي الفارس الكسول، هذه كلمات خطيرة، وأرجوك أن تمسك عنها. أنا ناسك مخلص للملك وللقانون، ولو تعديت على صيد مليكي لسيق بي إلى السجن، وإن لم تنقذني عباءة النساك فسيكون مصيري الشنق.»
قال الفارس: «ولكني لو كنت مكانك لخرجت في ضوء القمر حين يغط الحراجون والحراس في نومهم العميق، ومن وقت لآخر، وأنا أتمتم بصلواتي، أرمي بسهم بين قطعان الظباء الشهباء التي ترعى في فرجة الغابة. أيها الكاهن المقدس، ألم تمارس قط هذه التسلية؟»
أجاب الناسك: «يا صديقي الكسول، لقد رأيت كل ما يعنيك في تدبير شئون منزلي. املأ كأسك ومرحبا بك، وأرجوك ألا تحملني، بمزيد من الاستفسارات الوقحة، على أن أريك أنك ما كنت ستستطيع أن تدخل منزلي لو كنت جادا في مقاومتك.»
قال الفارس: «بحق إيماني، لقد أثرت فضولي أكثر من ذي قبل! إنك أكثر النساك الذين قابلتهم غموضا، وسأعلم المزيد عنك قبل أن نفترق. أما عن تهديداتك، فلتعلم أيها الرجل المقدس أنك تتحدث مع رجل صنعته هي البحث عن الخطر أينما كان لمواجهته.»
قال الناسك: «سيدي الفارس الكسول، سأشرب نخبك لاحترامي الشديد لشجاعتك، ولكنني لا أقدر عقلك. وإذا أردت أن نتقاتل بأسلحة متكافئة فسأمنحك بكل صداقة وحب أخوي كفارة كافية ومغفرة تامة، حتى إنك لن تأثم إثم الإفراط في الفضول طوال الأشهر الاثني عشر المقبلة.»
شرب الفارس نخبه، وأراد منه أن يذكر ما يجيده من أسلحة.
أجاب الناسك: «لا يوجد سلاح، من مقص دليلة ومسمار يائل الذي يساوي عشرة بنسات إلى سيف جالوت المعقوف، لست ندا لك فيه، ولكن إن كنت سأختار، فما قولك يا صديقي العزيز في هذه القطع البسيطة؟»
وبعد أن قال هذا فتح كوة أخرى، وأخرج منها زوجين من السيوف العريضة والتروس مثل تلك التي كان يستخدمها رجال الملك في ذلك العصر. لاحظ الفارس، الذي كان يتابع حركاته، أن مكان الإخفاء الثاني هذا كان يحوي قوسين أو ثلاثا من الأقواس الطويلة الجيدة، ونشابا، وحزمة من الأسهم القصيرة للنشاب، ونصف دستة من حزم الأسهم للأقواس الطويلة. كما رأى كذلك قيثارة، وأشياء أخرى لا تمت إلى الكنيسة بصلة، عندما فتحت هذه الكوة المظلمة.
قال: «أعدك يا أخي الكاهن أنني لن أطرح عليك مزيدا من الأسئلة المزعجة؛ فمحتويات تلك الخزانة الصغيرة فيها الإجابة عن جميع أسئلتي، وأنا أرى سلاحا هناك.» (عندئذ انحنى وأخرج القيثارة.) «يسعدني أكثر أن أثبت لك مهارتي في استخدامه، أكثر من مهارتي في استخدام السيف والترس.»
قال الناسك: «آمل أيها السيد الفارس ألا يكون ثمة سبب وجيه يسوغ تسميتك بالكسول. أصارحك أن لدي شكوكا خطيرة تجاهك، ولكنك ضيفي، ولن أختبر بسالتك دون إدارتك الحرة. فلتجلس إذن ولتملأ كأسك، ولنشرب ونغني ونمرح. وإذا كنت تعرف أغنية جيدة فأنت مرحب بك لتناول وجبة من الفطير في كوبمانهورست ما دمت أخدم في كنيسة القديس دونستان؛ الأمر الذي أرجو من الرب أن يطول حتى أغير غطائي الرمادي إلى آخر من العشب الأخضر، ولكن تعال واملأ قدحا؛ لأن القيثارة ستستغرق وقتا في ضبط أوتارها، ولا شيء يضبط النغمات ويشحذ الأذن كقدح من النبيذ. ومن ناحيتي، يروق لي أن أتحسس العنب بين أناملي قبل أن أداعب بها أوتار القيثارة.»
الفصل الرابع عشر
ما من عنكبوت حاول جاهدا إصلاح خيوط شبكته المهلهلة أكثر مما فعل والديمار فيتزورس للم شمل أعضاء عصبة الأمير جون المتفرقين وتوحيدهم. كان من الضروري أن يفتح أمامهم آفاقا جديدة للمنفعة، وأن يذكرهم بتلك المنافع التي كانوا يستمتعون بها في ذلك الوقت. وقد وزع هذا العميل النشط الوعود بإفراط، ولم يترك شيئا يمكن أن يقوي عزم المترددين أو يشجع المحبطين إلا وفعله. تحدث عن رجوع الملك ريتشارد باعتباره حدثا غير محتمل على الإطلاق، ولكن عندما لاحظ أن هذا كان أكثر ما يخيف المتواطئين معه في الشر، وصف ذلك الحدث بجرأة بأنه، إن حدث بالفعل، حدث يجب ألا يغير شيئا من حساباتهم السياسية.
قال فيتزورس: «إن رجع ريتشارد فسيرجع لإثراء جنوده الصليبيين الفقراء والمعوزين على حساب أولئك الذين لم يتبعوه على الأراضي المقدسة. سيرجع ليدعو إلى محاسبة أولئك الذين فعلوا في غيابه ما يمكن تفسيره بأنه إهانة أو تعد على قوانين الأرض أو امتيازات التاج. وإجمالا سيرجع لمعاقبة كل من ناصر أخاه الأمير جون بصفته متمردا.» وأضاف: «من ناحية الصفات الشخصية قد يكون الأمير جون أقل شأنا من أخيه ريتشارد، ولكن عندما نأخذ في اعتبارنا رجوع الأخير شاهرا سيف الثأر في يده، بينما منح الأول العطايا والامتيازات والثروة والمجد، فلا مجال للشك بشأن من سيكون الملك الذي تقضي حكمة النبلاء أن يدعموه.»
كان لهذه الحجج وغيرها الكثير الأثر المتوقع بين نبلاء حزب الأمير جون. وافق معظمهم على حضور الاجتماع المقترح في يورك؛ بغرض اتخاذ التدابير لتتويج الأمير جون.
في وقت متأخر من الليل رجع فيتزورس إلى قلعة آشبي، حيث قابل دي براسي الذي كان قد استبدل بثياب المأدبة سترة خضراء قصيرة وغطاء رأس جلديا، وأمسك بسيف قصير وقوس طويلة في يده، ودس حزمة من السهام في حزامه. نظر فيتزورس إليه بانتباه، وتعرف على الفارس النورماندي في زي جندي إنجليزي.
قال فيتزورس: «أي هزل هذا يا دي براسي؟ أهذا وقت مناسب لارتداء أزياء تنكرية، بينما مصير سيدنا الأمير جون على وشك أن يتخذ القرار فيه؟ لم لم تكن، مثلي، بين هؤلاء الجبناء الرعاديد الذين يرعبهم مجرد ذكر اسم الملك ريتشارد؟»
أجاب دي براسي بهدوء: «لقد كنت أعتني بشئوني، مثلما تعتني أنت أيضا يا فيتزورس بشئونك الخاصة.»
قال والديمار مرددا عبارته: «أهتم بمصلحتي الخاصة! بل أهتم بمصلحة الأمير جون، مولانا المشترك.»
قال دي براسي: «وهل لديك أي سبب آخر لذلك يا والديمار يفوق إعلاء مصلحتك الخاصة؟ بربك يا فيتزورس، فكل منا يعرف الآخر. الطموح هو مسعاك، أما ما أريده فهو المتعة، وهذا يتناسب مع عمرينا المختلفين، ولكنك ترى الأمير جون كما أراه؛ أنه أضعف من أن يكون ملكا حازما، وأكثر استبدادا من أن يكون ملكا سهلا لينا، وأكثر تقلبا في المزاج وجبنا من أن يكون ملكا من أي نوع لمدة طويلة ، لكنه ملك يأمل كل من فيتزورس ودي براسي أن ينالا الرفعة والازدهار على يديه؛ ولذلك نعاونه؛ أنت بسياستك، وأنا برماح رفقائي الأحرار.»
قال فيتزورس بنفاد صبر: «إنك معاون واعد، تتظاهر بالحماقة في لحظات الضرورة القصوى. بربك قل لي، ما غرضك من هذا التنكر السخيف في مثل هذا الوقت العصيب؟»
أجاب دي براسي بهدوء: «لكي أحصل على زوجة بالقوة على طريقة قبيلة بنيامين. بعبارة أخرى، سأباغت بهذا الزي نفسه ذلك القطيع من الثيران الساكسونية الذين غادروا آشبي في هذه الليلة، وأخطف منهم الجميلة روينا.»
قال فيتزورس: «أجننت يا دي براسي؟ تذكر أنه على الرغم من أن أولئك الرجال ساكسونيون فإنهم أغنياء وأقوياء، ويحظون بأكبر قدر من احترام مواطنيهم؛ فلا يتمتع بالثروة والشرف سوى عدد قليل من أبناء النسل الساكسوني.»
قال دي براسي: «ويجب ألا يتمتع بهما أحد منهم على الإطلاق؛ لذا يجب علينا أن نستكمل غزونا.»
قال فيتزورس: «على الأقل ليس هذا هو الوقت المناسب؛ فالأزمة الوشيكة تحتم السعي لإرضاء الجماهير، وليس بوسع الأمير جون أن يأبى تحقيق العدالة لأي شخص يضر بمصالحهم.»
قال دي براسي: «فليمنحهم العدالة إن جرؤ على ذلك، ولكني أعني أنني لن أكشف عن نفسي في الحال. ألا أبدو في هذا الزي في جرأة حراج ممن ينفخون في الأبواق. سيقع اللوم بشأن العنف على الخارجين عن القانون في غابات يوركشاير. إن لي جواسيس أثق بهم يرصدون حركات الساكسونيين، سينامون هذه الليلة في دير القديس ويزهولد، وغدا تجلبهم مسيرتهم إلى براثننا، فننقض عليهم على الفور كالصقور. بعد ذلك بقليل سوف أظهر بشكلي الحقيقي، وألعب دور الفارس الدمث الأخلاق، وأنقذ الجميلة التعيسة المنكوبة، وأقتادها إلى قلعة فرونت دي بوف، ولا أجعل ذويها يرونها حتى تصبح عروسي والسيدة موريس دي براسي.»
قال فيتزورس: «خطة حكيمة ورائعة، وأعتقد أنها ليست خالصة من بنات أفكارك؛ فلتصارحني يا دي براسي، من ساعدك في ابتكارها؟ ومن الذي سيساعدك في تنفيذها؟»
قال دي براسي: «بحق سيدتنا مريم، إذا كان لا بد أن تعرف فإن فارس الهيكل براين دي بوا جيلبرت هو من حاك الخطة، وسيساعدني في الهجوم، وسيمثل تابعوه دور الخارجين عن القانون.»
قال فيتزورس: «أقسم بحق مقدساتي، إنها خطة على قدر حكمتكما معا! وإن حذرك يا دي براسي جلي بوجه خاص في فكرة ترك السيدة في أيدي حليفك النبيل. أعتقد أنك قد تنجح في أن تخطفها من أصدقائها الساكسونيين، ولكن ما يدعو إلى الشك على نحو أكبر هو كيف ستتمكن من إنقاذها بعد ذلك من براثن بوا جيلبرت.»
قال دير براسي: «إنه أحد فرسان الهيكل؛ ولذلك لا يمكنه أن ينافسني في خطتي للزواج من هذه الوريثة.»
قال فيتزورس: «إذن، ما من شيء يمكنني قوله ليبعد هذه الحماقة عن مخيلتك (لأنني أعرف جيدا طبعك العنيد)، ولكن على الأقل قدر الإمكان لا تضع الوقت؛ فلا تسلم نفسك لحماقتك طوال الوقت وتضعها في غير موضعها.»
أجاب دي براسي: «قلت لك إن هذا الأمر لن يستغرق سوى ساعات قليلة، وسأكون في يورك على رأس أتباعي ذوي الجرأة والبسالة، جاهزا لدعم أي خطة جريئة يمكن لسياستك وضعها، ولكنني أسمع صوت رفقائي يتجمعون، وأصوات حوافر الجياد وصهيلها في الساحة الخارجية. وداعا. سأذهب كفارس حقيقي لأظفر بابتسامات الحسناء.»
الفصل الخامس عشر
عندما رأى سيدريك الساكسوني ابنه يسقط فاقدا للوعي في ساحة النزال بآشبي، كان أول شعور انتابه أن يأمر بوضعه في عهدة خدمه ورعايتهم، ولكن الكلمات احتبست في حلقه. لم يستطع أن يحمل نفسه على الاعتراف، في حضور مثل هذا الجمع، بابنه الذي أنكره وحرمه من الميراث. ومع ذلك أمر أوزوالد أن يراقبه، لكن ساقي سيدريك حاول البحث عن سيده الشاب دون جدوى. لقد رأى البقعة الملطخة بالدماء التي كان قد سقط فيها منذ قليل، لكنه لم يعد يراه، وكانت المعلومة الوحيدة التي استطاع أن يجمعها من المشاهدين أن بعض الخدم الذين يرتدون ملابس مهندمة حملوا الفارس بعناية، ووضعوه على محفة تملكها سيدة من بين المشاهدين، ونقلوه على الفور خارج الزحام.
كان سيدريك وأثيلستان والليدي روينا وخدمهم قد وصلوا إلى حدود منطقة الغابات، في طريق عودتهم من آشبي، وإذا بهم يسمعون صرخات متكررة تطلب المساعدة. وعندما وصوا بجيادهم إلى المكان الذي أتت منه هذه الصرخات، فوجئوا عندما وجدوا محفة خيل موضوعة على الأرض، وبجوارها امرأة شابة ترتدي ثيابا فاخرة على طريقة اليهود، ورجل عجوز، تدل قبعته الصفراء على أنه من الأمة ذاتها، يمشي جيئة وذهابا وعلى وجهه أمارات يأس بالغ، ويعتصر يديه غضبا كما لو أنه قد أصابته مصيبة غريبة.
عندما بدأ إيزاك أوف يورك (إذ كان ذاك هو صديقنا القديم) يتمالك نفسه من هول رعبه، تمكن أخيرا من تبيان أنه كان قد استأجر طاقما من الحراس الشخصيين من ستة رجال من آشبي، مع بغال لحمل محفة صديق مريض. كانوا قد وصلوا إلى هذا الحد بأمان، ولكن بعد أن علم مرتزقة إيزاك من أحد الحطابين أن ثمة عصابة قوية من الخارجين عن القانون تكمن في الغابة متربصة لهم، لم يكتفوا بالفرار، لكنهم أيضا أخذوا معهم الخيل التي تحمل المحفة، وتركوا اليهودي وابنته، بلا وسيلة للدفاع عن نفسيهما أو للتراجع، عرضة للسرقة وربما للقتل على يد قطاع الطرق.
أضاف إيزاك قائلا بلهجة من التذلل الشديد: «إن أذنتم أيها البسلاء لليهودي الفقير أن يسافر تحت حمايتكم، فأقسم بألواح ناموسنا أن ما من إحسان قدم إلى أحد من بني إسرائيل منذ أيام أسرنا إلا وسنقر به بمزيد من الشكر والامتنان.»
قال أثيلستان: «يا كلب اليهود! ألا تذكر تحديك لنا في الرواق عند ساحة المثاقفة؟ لو لم يسرق الخارجون عن القانون إلا أمثالك الذين يسرقون الناس كلهم لاعتبرتهم، من ناحيتي، أناسا صالحين وشرفاء.»
لم يوافق سيدريك على رأي صاحبه القاسي، وقال: «سنفعل ما هو أفضل، ونترك لهما اثنين من خدمنا وجوادين ليحملاهما إلى أقرب قرية. لن ينتقص هذا من قوتنا إلا قليلا. وبفضل مهارتك في استعمال سيفك، أيها النبيل أثيلستان، ومساعدة الباقين، سيكون من السهل علينا مواجهة عشرين من أولئك الأوغاد.»
أثنت روينا بشدة على اقتراح الوصي عليها، ولكن ريبيكا قامت فجأة من جلستها المغتمة ، وشقت طريقها بين الخدم إلى جواد السيدة الساكسونية، ثم جثت على ركبتيها، وعلى طريقة الشرقيين في مخاطبة من هم أرفع مكانة قبلت طرف ثوب روينا، ثم قامت بعد ذلك مرجعة خمارها خلف ظهرها، وناشدتها باسم الإله الأعظم الذي تعبده كلتاهما أن تأخذها بهم الشفقة، وتدعهم يسافرون في حمايتهم.
قالت ريبيكا: «لا ألتمس هذا المعروف لأجلي، ولا حتى لأجل ذلك الرجل العجوز المسكين. أعلم أن الإساءة إلى قومنا وسلبهم أموالهم سيئة صغيرة، إن لم تكن حسنة لدى المسيحيين، ولكن بحق اسم شخص عزيز على الكثيرين وعزيز حتى لديك، وأتوسل إليك أن تتركي هذا الشخص المريض ينقل معنا وينال الرعاية والعطف تحت حمايتك؛ لأنه إن أصابه سوء فستقضين آخر لحظات حياتك متجرعة مرارة الندم على رفض ما أطلبه منك.»
كانت للطريقة النبيلة والوقورة التي قدمت بها ريبيكا طلبها أثر مضاعف على الساكسونية الحسناء.
قالت للوصي عليها: «الرجل مسن وواهن، والفتاة صغيرة وجميلة، وصديقهما مريض وحياته في خطر. ومع أنهم يهود لا يمكننا كمسيحيين أن نتركهم في هذه الشدة. دعهم يرفعوا عن بغلتين من بغال الأحمال حملهما، ويضعوا الأمتعة خلف اثنين من العبيد. يمكن للبغلتين أن تنقلا المحفة، ولدينا خيل بلا راكب للرجل العجوز وابنته.»
وافق سيدريك عن طيب نفس على ما اقترحته. كان الطريق الذي يسافر عليه الركب في ذلك الوقت شديد الضيق، بحيث لم يكن يتسع لأكثر من راكبين يسيران جنبا إلى جنب، وبدأ في الانحدار في واد صغير وعميق، يقطعه جدول ذو ضفاف محطمة وتكتنفها المستنقعات. رأى سيدريك وأثيلستان خطر تعرضهم للهجوم في هذا الطريق، ولكن لا مفر من تجنب تعرضهم للخطر إلا بأن يسرعوا في السير عبر الممر الضيق قدر استطاعتهم؛ لذا تقدما دون كثير من التنظيم، وما كادا يعبران الجدول مع جزء من أتباعهما حتى هوجموا من الأمام والجانبين والخلف دفعة واحدة بعنف شديد حال بينهم وبين أي مقاومة فعالة؛ لأنهم كانوا في حالة من الارتباك وضعف الاستعداد. سمعت من جميع الجهات صيحة: «تنين أبيض! تنين أبيض! أيها القديس جورج، يا قديس إنجلترا البهيجة!» وكانت صيحات حرب أطلقها المغيرون إعلانا عن شخصيتهم المزعومة باعتبارهم ساكسونيين خارجين عن القانون، وظهر الأعداء من كل جانب مسرعين في التقدم والهجوم؛ ما جعل أعدادهم تبدو مضاعفة.
أسر القائدان الساكسونيان في اللحظة نفسها، وسقط الخدم المثقلون بالأمتعة فريسة سهلة في يد المعتدين، بعدما فاجأهم وأرعبهم ما حل بسيديهم، كما لاقت السيدة روينا التي كانت في منتصف الركب، واليهودي وابنته اللذان كانا في مؤخرته، المصير التعس نفسه.
لم يهرب أحد من الحاشية كلها إلا وامبا وجيرث، ولكن ظهر شخص ثالث فجأة، وأمرهما بالتوقف. من ملبسه وسلاحه خمن وامبا أنه أحد أولئك الخارجين عن القانون الذين كانوا قد أغاروا لتوهم على سيده، ولكن إلى جانب أنه لم يكن يرتدي قناعا تمكن أن يعرف من الحمالة المبهرجة على كتفه، والبوق الثمين الذي يحمله فيها، وكذلك التعبير الهادئ والآمر في صوته وطريقته، وعلى الرغم من ظلمة الشفق، أنه اليومن لوكسلي.
قال: «ما معنى كل هذا؟ ومن ذا الذي ينهب، ويطلب فدية، ويأخذ أسرى، في هذه الغابات؟»
قال وامبا: «انظر إلى أرديتهم الطويلة عن قرب؛ لترى ما إذا كانت سترات أطفالك أم لا؛ إذ إنها تشبه ثيابك، كما تتشابه حبات البازلاء.»
رد لوكسلي: «سأعرف ذلك في الحال، وآمركما، منجاة لحياتكما، ألا تبرحا مكانكما حتى أرجع. ولكن مهلا، لا بد أن أبدو كهؤلاء الرجال قدر الإمكان.»
قال ذلك وفك إبزيم حزام الكتف الذي به البوق، وأخذ ريشة من قبعته وأعطاها لوامبا، ثم أخرج قناعا من حقيبته، وكرر عليهم أوامره بالبقاء بلا حراك، ثم مضى لتنفيذ أغراض استكشافه. رجع في غضون بضع دقائق.
قال: «أيها الصديق جيرث، لقد اندسست وسط هؤلاء الرجال، وعرفت إلى من ينتمون وإلى أين يتجهون. أعتقد أنه لا يحتمل أن يرتكبوا أي فعل عنيف حقيقي مع أسراهم. وإذا حاول ثلاثة رجال الهجوم عليهم في هذه اللحظة فلن يكون ذلك إلا ضربا من الجنون، ولكني أثق أنني سرعان ما سأجمع قوة يمكنها إحباط كل سبل حيطتهم. أنتما خادمان ، وأعتقد أنكما خادمان مخلصان لسيدريك الساكسوني. لن تعوزه أياد إنجليزية لمساعدته في هذه المحنة. تعاليا إذن معي حتى أجمع المزيد من العون.»
قال ذلك ومشى عبر الغابة بخطى سريعة، يتبعه المهرج وراعي الخنازير. وبعد ثلاث ساعات، وصلوا إلى فرجة صغيرة في الغابة يتوسطها شجرة بلوط عملاقة، وأسفلها يستلقي أربعة أو خمسة من اليوامنة ممددين على الأرض، بينما كان ثمة يومن آخر يمشي جيئة وذهابا كالحارس في ظل ضوء القمر.
عندما سمع الحارس أصوات الأقدام أطلق على الفور صيحة تنبيه، وانتفض النائمون وشدوا أقواسهم. كانت ستة أسهم موضوعة على الأوتار وموجهة نحو المكان الذي اقترب منه المسافرون، ولكن عندما عرفوا مرشدهم رحبوا به بكل أمارات الاحترام والمودة.
كان سؤاله الأول: «أين الطحان؟» «في الطريق إلى روثيرهام.»
سأل القائد؛ إذ هكذا بدا: «وكم معه من الرجال؟» «ستة رجال وأمل كبير في غنيمة، إن شاء ذلك القديس نيكولاس.»
قال لوكسلي: «قول تقي. وأين آلان أديل؟» «اتجه صوب شارع واتلنج ليترقب رئيس دير جورفولكس.»
رد القائد: «ذلك تفكير سديد أيضا. وأين الراهب؟» «في صومعته.»
قال لوكسلي: «سأذهب إلى هناك. تفرقوا وابحثوا عن رفقائكم، واجمعوا ما تقدرون عليه من قوة، ثم قابلوني في الفجر.» وأضاف قائلا: «مهلا، لقد نسيت أهم شيء في الأمر كله. فليمض اثنان منكم في الطريق مسرعين إلى توركويلستون، حيث قلعة فرونت دي بوف. ثمة مجموعة من البسلاء الذين تنكروا في ثياب كثيابنا، ينقلون عصابة من الأسرى إلى هناك، راقباهم من كثب، ولترسلا بواحد من أسرع رفقائكم كي يجلب لنا أخبار من هناك من اليوامنة.»
تعهدوا بالطاعة التامة، وافترقوا بخفة إلى مهامهم المختلفة. وفي الوقت نفسه تابع قائدهم ورفيقاه طريقهم إلى كنيسة كوبمانهيرست.
الفصل السادس عشر
كان الناسك وضيفه ينشدان، بملء ما تتسع رئتاهما من قوة، أنشودة قديمة عن الشراب، كانت لازمتها:
تعال ومرر لي الوعاء البني.
أيها الفتى المرح، أيها الفتى المرح،
تعال ومرر لي الوعاء البني.
يا جينكين المرح، أراك مخادعا في ملء الشراب،
تعال ومرر لي الوعاء البني .
ولكن في النهاية عكرت مزاجهما طرقات لوكسلي العالية والمتكررة، فقال الناسك متوقفا عن الإنشاد وسط مقطع طويل: «وحق مسبحتي، ها قد جاءنا مزيد من الضيوف الجهال. لا أرغب، من أجل قلنسوتي الرهبانية، أن يرونا ونحن نرتكب هذا الفعل الجسيم؛ فلكل رجل أعداؤه يا سيدي الكسول الطيب، وثمة من يملكون من الحقد ما يكفي لأن يجعلهم يفسرون هذا الترويح من باب كرم الضيافة الذي قدمته لك، أيها المسافر المتعب، لمدة ثلاث ساعات قصار، على أنه جلسة سكر ليس إلا.»
رد الفارس: «افتراء دنيء! وددت لو كان بوسعي معاقبتهم، ولكن في هذه البلاد أفضل الحديث معهم عبر قضبان خوذتي على أن أتحدث معهم سافر الوجه.»
قال الناسك: «إذن ضع وعاءك الحديدي على رأسك أيها الصديق الكسول، بينما أتخلص أنا من أباريق القصدير هذه التي ما زال أثر محتوياتها يجري على نحو غريب في رأسي. ولكي نغطي على ما فعلته في ألسنتنا من لغو، حيث أشعر حقا ببعض الدوار، فلتندمج معي في اللحن الذي ستسمعني أغنيه، ولا تهتم بأمر الكلمات؛ فأنا نفسي أعرفها بشق الأنفس.»
قال ذلك وبدأ ينشد بصوت راعد باللاتينية: «من الأعماق صرخت إليك يا رب.» وهو يغطي في أثناء ذلك أدوات وليمتهما، بينما كان الفارس الذي كان يضحك من كل قلبه ويلبس دروعه في الوقت نفسه، يساعد مضيفه بصوته من وقت لآخر كلما سنحت له الفرصة بالطرب.
قال صوت من الخارج: «أي صلاة صبح شيطانية تتلوها في هذه الساعة؟»
قال الناسك: «فلتسامحك السماء أيها السيد المسافر! ولتمض في طريقك باسم الرب والقديس دونستان، ولا تقطع علي وعلى أخي المقدس صلواتنا.»
رد الصوت بالخارج: «أيها القس المجنون، افتح الباب للوكسلي!»
قال الناسك لرفيقه: «كل شيء آمن، كل شيء على ما يرام.»
قال الفارس الأسود: «ولكن من هو؟ يهمني كثيرا أن أعرف.»
أجاب الناسك: «من هو؟ أقول لك إنه صديق.»
رد الفارس: «ولكن أي صديق؟ فقد يكون صديقا لك، ولا يكون صديقا لي.»
رد الناسك: «أي صديق؟ هذا أحد الأسئلة التي يسهل طرحها عن الإجابة عليها. أي صديق؟ عجبا، الآن أتذكر بعض الشيء، إنه الحارس الأمين نفسه الذي حدثتك عنه منذ قليل.»
رد الفارس: «أجل، إنه حارس أمين كما أنك ناسك تقي. لا أشك في ذلك، ولكن افتح له الباب قبل أن يقتلعه من مفصلاته.»
فتح الناسك بابه سريعا وأدخل لوكسلي ومعه رفيقاه.
كان أول سؤال طرحه اليومن بمجرد أن رأى الفارس: «عجبا، أيها الناسك، ما هذه الصحبة المرحة التي لديك هنا؟»
رد الراهب وهو يهز رأسه: «إنه أخ من طائفتنا، وقد كنا نصلي طول الليل.»
أجاب لوكسلي: «أعتقد أنه راهب من محاربي الكنيسة، وثمة الكثير منهم في الخارج. أقول لك أيها الناسك إنك يجب أن تضع مسبحتك جانبا وتمسك بعصاك؛ فسنحتاج إلى كل واحد منكم أيها الرجال المرحون، سواء أكنتم من رجال الكنيسة أم علمانيين.» ثم أضاف وهو يتنحي خطوة جانبا: «ولكن هل أنت مجنون لتسمح بالدخول لفارس لا تعرفه؟ أنسيت قواعدنا؟»
رد الناسك بجرأة: «لا أعرفه؟! بل أعرفه جيدا كما يعرف الشحاذ صحنه.»
فسأله لوكسلي: «وما اسمه إذن؟»
قال الناسك: «اسمه، اسمه السير أنتوني أوف سكرابيلستون. عجبا، وكأنني سأحتسي الخمر مع رجل لا أعرف اسمه!»
قال رجل الغابة: «لقد شربت أكثر من اللازم أيها الراهب، وأخشى أن تكون قد ثرثرت بأكثر من اللازم أيضا.»
تقدم الفارس نحوه قائلا: «أيها اليومن الصالح، لا تغضب من مضيفي المرح؛ فلم يفعل شيئا سوى أن منحني ضيافة كنت سأجبره عليها لو كان رفض.»
قال الراهب: «أنت تجبرني! انتظر حتى أخلع هذا الرداء الرمادي بسترة خضراء، وإن لم أجعل عصاي ترن اثنتي عشرة مرة على أم رأسك فلن أكون رجل دين حقيقيا ولا رجل غابة جيدا.»
بينما كان يقول ذلك، خلع رداءه وبدا في سترة ضيقة سوداء من القماش القاسي وسروال داخلي، وارتدى عليهما بسرعة سترته الخضراء وجوربا باللون نفسه.
قاد لوكسلي الفارس متنحيا به بعيدا قليلا، وخاطبه قائلا: «لا تنكر يا سيدي الفارس، إنك من تسببت في انتصار الإنجليز على الغرباء في اليوم الثاني للمباراة في آشبي.»
رد الفارس: «وماذا إن كان تخمينك صحيحا أيها اليومن الصالح؟»
أجاب اليومن: «سأعتبرك حينئذ صديقا للفريق الأضعف.»
رد المحارب الأسود: «ذاك على الأقل واجب الفارس الحقيقي، ولن أرغب مختارا أن يكون ثمة أسباب للتفكير في أن أكون خلاف ذلك.»
قال اليومن: «ولكن لتحقيق غرضي يتعين أن تكون رجلا إنجليزيا صالحا بقدر كونك فارسا جيدا؛ لأن ما علي أن أحدثك عنه في الحقيقة هو واجب كل رجل شريف، ولكنه بالأحرى يخص الرجال الإنجليز الأصليين.»
رد الفارس: «لن تجد أحدا تتحدث إليه وتكون إنجلترا وحياة كل إنجليزي أعز عليه مني.»
قال رجل الغابة: «سأصدق ذلك عن طيب خاطر؛ فلم تكن هذه البلاد في حاجة إلى دعم من يحبونها أكثر منها الآن. أنصت إلي، وسأخبرك بمغامرة إن كنت حقا الأفضل كما تبدو فستنال فيها دورا مشرفا. إن عصابة من الأشرار المتنكرين في زي رجال أفضل منهم قد أسرت إنجليزيا نبيلا، يدعى سيدريك الساكسوني، ومعه ربيبته التي تحت وصايته، وصديقه أثيلستان أوف كوننجزبيرج، ونقلوهم إلى قلعة في هذه الغابة، تسمى توركويلستون. وأنا أسألك، بصفتك فارسا جيدا وإنجليزيا صالحا، هل تساعد في إنقاذهم؟»
أجاب الفارس: «إن قسمي يلزمني أن أفعل ذلك، ولكني أريد أن أعرف من أنت يا من تطلب مساعدتي نيابة عنهم؟»
قال رجل الغابة: «أنا رجل بلا اسم، ولكني مخلص لبلدي ولحلفائها، وعليك أن تقنع بهذا القدر من معرفتك بي في الوقت الراهن، ولكن صدقني عندما أقول لك إن كلمتي، عندما أتعهد بها، لها حرمتها كما لو كنت أرتدي مهمازين من الذهب.»
قال الفارس: «أصدقك عن طيب خاطر؛ فقد اعتدت على دراسة سيماء الرجال، ويمكنني أن أقرأ في ملامحك الإخلاص والعزم؛ لذلك لن أطرح عليك مزيدا من الأسئلة، ولكني سأساعدك على تحرير هؤلاء الأسرى المظلومين.»
الفصل السابع عشر
بينما كانت هذه التدابير تتخذ نيابة عن سيدريك ورفاقه، كان الرجال المسلحون الذين أسروه يسرعون بأسراهم نحو المكان الذي انتووا أن يسجنوهم فيه. وفي تلك الأثناء، دار الحوار الآتي بين قائدي قطاع الطرق .
قال فارس الهيكل لدي براسي: «حان الوقت لتغادرنا يا سيد موريس كي تجهز للجزء الثاني من لغزك؛ فكما تعلم، عليك بعد ذلك أن تقوم بدور الفارس المخلص.»
قال دي براسي: «لقد فكرت فيما هو أفضل من ذلك؛ فلن أتركك حتى نضع غنيمتنا آمنة في قلعة فرونت دي بوف. وهناك سأظهر أمام الليدي روينا بمظهري الحقيقي، وأنا واثق من أنها ستعزو العمل العنيف الذي ارتكبته إلى شدة شغفي بها.»
أجاب فارس الهيكل: «وما الذي جعلك تغير خطتك يا دي براسي؟»
أجاب رفيقه: «ذلك لا يعنيك في شيء.»
قال فارس الهيكل: «على كل آمل أيها السيد الفارس ألا يكون ذلك التغيير في التدابير نابعا من شك في نياتي الشريفة، كما حاول فيتزورس أن يغرس في ذهنك. فلتسمع مني الحقيقة! أنا لا تعنيني حسناؤك ذات العينين الزرقاوين؛ فهناك في ذلك الركب من تصلح رفيقة أفضل لي.»
قال دي براسي: «ماذا؟! أتنزل بنفسك إلى مستوى الوصيفة؟»
قال فارس الهيكل بكبرياء: «لا يا سيدي الفارس، لن أتدنى إلى مستوى الوصيفة؛ فلدي غنيمة بين الأسرى لا تقل جمالا عن جميلتك.»
قال دي براسي: «بحق القداس، أتعني الحسناء اليهودية؟!»
قال بوا جيلبرت: «وإن كنت أعني ذلك، فمن يعارضني؟»
قال دي براسي: «أنت أفضل من يعلم مميزاتك، ولكني أكاد أقسم أن تفكيرك كان منصبا على أكياس نقود المرابي المسن أكثر مما تفكر في عيني ابنته السوداوين.»
أجاب فارس الهيكل: «يمكنني الإعجاب بالاثنين، بالإضافة إلى أن اليهودي العجوز ما هو إلا نصف غنيمة؛ إذ يجب أن أقتسم ماله مع فرونت دي بوف الذي لن يعيرنا قلعته دون مقابل؛ ومن ثم يجب أن يكون لي شيء يمكنني أن أعده مكسبا خاصا بي وحدي من غزوتنا هذه، وقد استقر رأيي على أن تكون اليهودية الحسناء غنيمتي الخاصة، ولكن الآن وقد علمت مقصدي فسترجع إلى استكمال خطتك الأصلية، أليس كذلك؟ فليس لديك، كما ترى، ما تخشاه من تدخلي.»
أجاب دي براسي: «لا، بل سأظل بجوار غنيمتي.»
استمر الحراس يستحثون سيدريك، آخذين في السير بسرعة كبيرة، حتى لاحت، عند نهاية ممر من الأشجار الضخمة، توركويلستون؛ قلعة ريجينالد فرونت دي بوف. نفخ دي براسي في بوقه ثلاث مرات. وعندما رآهم الرماة والرجال المسلحون بالنشاب الذين كانوا قد اعتلوا الجدار يقتربون، أسرعوا إلى إنزال الجسر المتحرك والسماح لهم بالدخول. أجبر الحراس الأسرى على الترجل، وأفهموا أثيلستان وسيدريك أنهما سيسجنان في غرفة بعيدة عن روينا.
اقتادوا الليدي روينا، بلطف حقا ولكن دون استشارتها، إلى غرفة بعيدة. ومنحت ريبيكا أيضا تمييزا مقلقا مماثلا، على الرغم من توسلات أبيها الذي وصل به الأمر أن عرض عليهم المال، تحت وطأة هذا الكرب العظيم، من أجل أن يسمح لها بأن تقيم معه. أجابه أحد حراسه قائلا: «أيها الكافر الوضيع، عندما ترى مرقدك لن تتمنى أن تشاركك ابنتك إياه.»
ودون مزيد من النقاش، سيق اليهودي العجوز بالقوة في اتجاه مختلف عن بقية الأسرى، وزج به بسرعة داخل أحد أقبية القلعة الذي كانت أرضيته تنخفض كثيرا عن مستوى الأرض، وكان شديد الرطوبة لأن مستواه كان منخفضا عن مستوى الخندق المائي نفسه. كان الضوء الوحيد يأتي عبر كوة أو كوتين تعلوان كثيرا عن متناول يد الأسير. وفي أحد جوانب هذه الغرفة، كانت توجد مدفأة كبيرة، وكانت مبسوطا فوقها قضبان حديدية مستعرضة نصف متآكلة بالصدأ.
جلس إيزاك في أحد أركان قبوه وقد جمع ثوبه تحته ليقي أطرافه من الأرض الرطبة، وكان يمكن رؤية يديه المضمومتين، وشعره ولحيته الأشعثين، وعباءته المبطنة، وقبعته العالية، في الضوء المتقطع؛ ما كان من شأنه أن يمنح الرسام الشهير رامبرانت موضوعا للدراسة لو أنه كان قد عاصر تلك الفترة. ظل اليهودي على حاله، دون أن يغير وضعه، قرابة ثلاث ساعات، حتى سمع وقع خطوات على درج القبو، ثم أصدرت المزالج صوت صرير مرتفعا عندما سحبت، وأصدرت المفصلات صوت أنين عندما فتحت البوابة الصغيرة، ودخل ريجينالد فرونت دي بوف السجن يتبعه عبدا فارس الهيكل العربيان.
توقف على بعد ثلاث خطوات من الركن الذي كان يجلس فيه اليهودي التعس، حيث كان ، إن جاز القول، قد طوى نفسه في أصغر مساحة ممكنة، وأشار لأحد العبدين أن يقترب. تقدم التابع الأسود مستجيبا لإشارته، ووضع ميزانا كبيرا ذا كفتين عند قدمي فرونت دي بوف، ثم تراجع مرة أخرى، حيث كان رفيقه واقفا بلا حراك، إلى المسافة التي تظهر احترامه لسيده. افتتح فرونت دي بوف بنفسه المشهد بأن خاطب الأسير التعيس الحظ.
قال: «أيها الكلب اللعين المنحدر من جنس وضيع، أترى هذا الميزان؟»
رد اليهودي التعيس بالإيجاب بوهن. «بهذا الميزان ستزن لي ألف رطل من الفضة وفقا للكيل والميزان الدقيقين لبرج لندن.»
أجاب اليهودي، باحثا عن صوته في خضم الخطر العظيم الذي يحيط به، قائلا: «يا إبراهيم المقدس! هل سمع إنسان من قبل مثل هذا الطلب؟ من سمع من قبل، حتى في حكايات الشعراء المتجولين، عن مبلغ كألف رطل من الفضة؟ أي عينين بشريتين قد تباركت بالنظر إلى مثل هذا الكنز الكبير؟ لن تجد عشر هذا المبلغ الضخم من الفضة الذي تتحدث عنه داخل أسوار يورك، ولو فتشت منزلي ومنازل قومي كلهم.»
رد فرونت دي بوف: «إن مطلبي معقول، وإن كانت الفضة شحيحة فلن أرفض الذهب، على أن يكون مقدارا معلوما من الذهب معادلا لستة أرطال من الفضة؛ وبذلك يمكنك تحرير جسدك الكافر من عقاب لم يخطر ببالك قط.»
صرخ إيزاك: «ارحمني أيها الفارس النبيل! أنا رجل مسن وفقير، وبلا حول ولا قوة، ولا يليق بك أن تنتصر علي؛ فلا يليق بك أن تسحق دودة.»
أجاب الفارس: «قد تكون مسنا، ولكن العار من نصيب هؤلاء الحمقى الذين تركوك تشيب على الربا والاحتيال. قد تكون ضعيفا، ولكن متى كان ليهودي قلب أو يد؟ ولكنك معروف بالثراء.»
قال اليهودي: «أقسم لك أيها الفارس النبيل بكل ما أومن به، وبكل ما نؤمن به سويا ...»
قال النورماندي مقاطعا له: «لا تقسم حانثا، ولا تجعل عنادك يحكم عليك بالهلاك، حتى ترى وتعي جيدا المصير الذي ينتظرك. أقسم لك بما لا تؤمن به، بالإنجيل الذي تعلمه لنا كنيستنا، وبالسلطات المطلقة التي منحت لها للتحريم والإباحة، إن غرضي أكيد وقاطع.»
أشار مجددا لخادميه بأن يقتربا، وتحدث معهما على انفراد بلغتهما. أخرج العربيان مقدارا من الفحم ومنفاخا وقارورة زيت. وبينما كان أحدهما يشعل نارا بصوان وفولاذ، أعد الآخر الفحم في المدفأة الصدئة الضخمة التي سبق أن ذكرناها، واستخدم المنفاخ حتى استحال اللهب إلى وهج أحمر.
قال فرونت دي بوف: «أترى يا إيزاك صف قضبان الحديد فوق ذلك الفحم المتقد؟ سترقد على تلك الأريكة الدافئة عاريا من ثيابك، وكأنك مستلق على سرير من الريش. سيبقي أحد هذين الخادمين على النار متقدة من تحتك، بينما يدهن الآخر أطرافك الحقيرة بالزيت حتى لا يحترق الشواء. والآن، فلتختر بين سرير من لهب وبين أن تدفع ألف رطل من الفضة؛ لأنك بحق رأس أبي ليس أمامك خيار آخر.»
صاح اليهودي البائس: «هذا محال، محال أن يكون غرضك حقيقيا! فرب الطبيعة الطيب لم يخلق قط قلبا قادرا على عمل بمثل هذه الوحشية!»
قال فرونت دي بوف: «لا تكن متيقنا من ذلك يا إيزاك؛ فهذا خطأ قاتل. أتظن أنني، أنا الذي رأيت بلدة تنهب وتدمر، ويهلك فيها آلاف من بني جلدتي من المسيحيين بالسيف وبالفيضان وبالنار، سأتراجع عن غرضي من أجل هتافات أو صرخات يهودي واحد حقير؟ كن عاقلا أيها الرجل المسن، وافتد نفسك بجزء من ثروتك الزائدة عن الحاجة بأن تعيد إلى مسيحي جزءا مما اكتسبته بالربا الذي مارسته على أولئك الذين من دينه. أقول لك ادفع فديتك، وابتهج بأنه يمكنك بمثل هذا المبلغ أن تحرر نفسك من زنزانة لم يبق على قيد الحياة ليروي أسرارها إلا القليلون. لن أضيع مزيدا من الكلام معك، فلتختر بين أموالك الخبيثة وبين لحمك ودمك، وأيهما تختار سيكون مصيرك.»
قال إيزاك: «إذن فليساعدني إبراهيم ويعقوب وجميع آباء قومي. لا يمكنني الاختيار؛ لأنه ليس لدي وسيلة تحقيق طلبك الباهظ!»
قال الفارس: «فلتمسكا به ولتنزعا عنه ثيابه أيها العبدان، وليساعده آباء بني جنسه إن استطاعوا.»
الفصل الثامن عشر
تقدم المساعدان مرة أخرى، وقد أخذا أوامرهما من عين البارون ويده أكثر مما أخذاها من لسانه، ووضعا أيديهما على تعيس الحظ إيزاك، ثم اقتلعاه من فوق الأرض، وأوقفاه بينهما هما في انتظار الإشارة التالية للبارون القاسي القلب. نظر اليهودي التعيس إلى وجهيهما وإلى وجه فرونت دي بوف آملا في أن يكتشف بعض مظاهر الرحمة، ثم نظر إلى الأتون المتوهج الذي كان سيمدد عليه عما قريب، وعندما لم يجد أي احتمال لأن يرفق به معذبه ذهب عنه صموده.
قال: «سأدفع الأرطال الألف من الفضة.» ثم أضاف بعد لحظة من التوقف: «أعني أنني سأدفعها بمساعدة إخواني؛ لأنه يتعين أن أتسول كشحاذ على باب معبدنا قبل أن أجمع مثل هذا المبلغ الذي لم يسمع به أحد من قبل. متى وأين يجب علي تسليمه؟»
أجاب فرونت دي بوف: «هنا، يجب تسليمه هنا، ويجب أن يوزن ويعد على أرضية هذه الزنزانة نفسها. أتظن أنني سأتركك قبل أن أضمن فديتك؟»
قال اليهودي: «وما الذي يضمن لي أن أنال حريتي بعد دفع هذه الفدية؟»
أجاب فرونت دي بوف: «كلمة نبيل نورماندي أيها العبد المرابي؛ فوفاء الرجل النورماندي النبيل لكلمته أكثر نقاء من ذهبك وفضتك ومن ذهب قومك أجمعين وفضتهم.»
قال إيزاك خائفا: «أستميحك عذرا أيها السيد النبيل، ولكن ما الذي يجعلني أعتمد فقط على كلمة شخص لا يثق في على الإطلاق؟»
قال الفارس عابسا: «لأنك لا تملك اختيارا آخر، أيها اليهودي. ولو كنت الآن في غرفة كنزك في يورك، وكنت أنا في حاجة إلى قرض من شيكلاتك، لأمليت أنت موعد السداد ورهن الضمان. هذه غرفة كنزي، ولي هنا الأفضلية عليك، ولن أتنازل مرة أخرى، وأكرر عليك الشروط التي أمنحك بموجبها حريتك.»
تأوه اليهودي تأوها عميقا، وقال: «امنحني، مع حريتي على الأقل، حرية رفقائي الذين أسافر معهم. لقد ازدروني لأنني يهودي، لكنهم أشفقوا على حالي البائس، ولأنهم أبطئوا في طريقهم لمساعدتي، نالهم حظ من الأذى الذي نالني، كما أنهم يمكنهم أن يسهموا بطريقة أو بأخرى في فديتي.»
قال فرونت دي بوف: «إن كنت تعني هؤلاء الساكسونيين الوضعاء، فإن فديتهم ستعتمد على شروط أخرى غير شروطك. لا تفكر إلا في شئونك أيها اليهودي، وأحذرك؛ لا تتدخل في شئون غيرك.»
قال إيزاك: «إذن، هل لي أن أنال حريتي مع صديقي الجريح فقط؟»
قال فرونت دي بوف: «هل علي أن أنصح أحد أبناء إسرائيل مرتين أن يعتني بشئونه الخاصة ويترك الآخرين وشأنهم؟ بما أنك قد اخترت، يتبقى أن تدفع فديتك، وذلك في غضون مدة قصيرة.»
رد إيزاك: «فلتدع ابنتي ريبيكا تمضي إلى يورك بضمان مرور آمن منك، أيها الفارس النبيل، وبمجرد رجوع الرجل والجواد فإن الكنز ...» وهنا أن أنة عميقة، ولكنه استطرد، بعد توقف لبضع ثوان، قائلا: «سيعد الكنز على هذه الأرضية ذاتها.»
قال فرونت دي بوف كما لو أن المفاجأة قد أخذته: «ابنتك! بحق السموات، يا إيزاك، ليتني كنت أعلم بهذا الأمر. لقد ظننت أن تلك الفتاة ذات الحاجبين الأسودين هي زوجتك، وأعطيتها للسيد براين دي بوا جيلبرت لتكون خادمة له، كما كان يفعل آباؤنا بطارقة الأيام الخوالي وأبطالها، الذين ضربوا لنا في هذه الأمور مثالا ناجعا.»
عندما سمع إيزاك هذا الخبر الذي يخلو من الإنسانية، جلجلت الصرخة التي أطلقها في أرجاء القبو، وأذهلت العربيين لدرجة أنهما أفلتا اليهودي من أيديهما؛ فانتهز الفرصة كي يلقي بنفسه على الأرض ويتمسك بركبتي فرونت دي بوف.
قال: «خذ كل ما طلبت يا سيدي الفارس، خذ عشرة أمثاله، اتركني للهلاك والتسول إن شئت، لا بل اطعني بخنجرك، واشوني على أتونك، ولكن ارحم ابنتي، ولتسلمها لي سالمة شريفة! إنها صورة من زوجتي الراحلة راشيل، وهي آخر العهود الستة على حبها. هل ستحرم زوجا أرمل من عزائه المتبقي الوحيد؟»
قال النورماندي وقد رق قلبه بعض الشيء: «وددت لو كنت أعلم ذلك قبلئذ. لقد كنت أظن أن بني جنسك لا يحبون شيئا سوى حقائب أموالهم.»
قال إيزاك: «لا تظن أننا، مع كوننا يهودا، فاسدو الأخلاق لهذه الدرجة؛ فالثعلب المطارد والقط البري المعذب يحبان صغارهما، وأبناء إبراهيم المحتقرون والمضطهدون يحبون أبناءهم!»
قال فرونت دي بوف : «فليكن . سأصدق ذلك في المستقبل يا إيزاك من أجلك، ولكن لن يفيدنا ذلك الآن؛ فلا يمكنني فعل شيء فيما حدث، أو فيما سيتبعه؛ فقد أعطيت كلمتي لرفيقي في السلاح، ولن أخلف عهدي من أجل عشرة من رجال اليهود ونسائهم. علاوة على ذلك، لماذا تظن أنه سيصيب الفتاة سوء، حتى وإن أصبحت غنيمة بوا جيلبرت؟»
صاح إيزاك وهو يعتصر يديه في ألم: «سيصيبها سوء، لا بد أنه سيصيبها سوء! علام يعيش فرسان الهيكل إلا القسوة على الرجال وإلحاق العار بالنساء!»
قال فرونت دي بوف: «أيها الكلب الكافر، لا تجدف على طائفة هيكل صهيون المقدسة، ولكن فكر بدلا من ذلك في أن تدفع لي فديتك التي وعدت بها، وإلا فالويل لعنقك اليهودي!»
قال اليهودي، ردا على إهانات ظالمه بانفعال لم يستطع جمحه مع ضعفه: «يا لك من لص وشرير! لن أدفع لك شيئا، ولا بنسا فضيا واحدا، إلا إذا سلمت لي ابنتي سالمة وعفيفة.»
قال النورماندي عابسا: «هل أنت في كامل قواك العقلية أيها الإسرائيلي؟ أعلى لحمك ودمك تعويذة تحميهما من الحديد الساخن والزيت الحارق؟»
قال اليهودي في يأس واستسلام منبعهما عاطفة الأبوة: «لا شيء يهمني! افعل أسوأ ما عندك؛ فابنتي هي لحمي ودمي، وأغلى عندي ألف مرة من هذه الأطراف التي تهددها وحشيتك. لن أعطيك أي فضة إلا إذا صببتها مذابة في حلقك الجشع. لا، بل لن أعطيك بنسا فضيا واحدا أيها النصراني، ولو كان سيخلصك من الخطيئة المميتة التي ابتليت بها طوال حياتك! فلتسلبني حياتي إن شئت، ولتقل إن اليهودي، وسط آلام تعذيبه، قد علم كيف يخيب ظن المسيحي.»
قال فرونت دي بوف: «سنرى؛ لأنك، وأقسم بالصليب المبارك، الشاهد على فحش قومك الملعونين، ستذوق عذاب النار والفولاذ! جردوه من ملابسه أيها العبدان، وألقيا به فوق القضبان مكبلا بالسلاسل.»
على الرغم من محاولات المقاومة الضعيفة التي أبداها الرجل العجوز، فقد مزق عنه العربيان ثوبه الذي يغطي نصفه العلوي، وكادا يشرعان في تجريده تماما من ملابسه، عندما سمع صوت نفخ مرتين في بوق خارج القلعة، واخترق حتى أعماق القبو، ثم سمعت بعد ذلك مباشرة أصوات عالية تنادي على السيد ريجينالد فرونت دي بوف. ولأنه لم يكن يرغب في أن يعثر أحد عليه متورطا في عمله الشيطاني، أعطى البارون الوحشي إشارة لعبديه ليعيدا وضع ثوب إيزاك عليه، وخرج من القبو مع تابعيه تاركا اليهودي وهو يشكر الرب على خلاصه.
الفصل التاسع عشر
كانت الغرفة التي أودعوا فيها الليدي روينا مجهزة ببعض محاولات الزخرفة والإبهار الفجة، وربما يعتبر وضعها فيها علامة خاصة على احترام لم يقدم للسجناء الآخرين. كان الوقت قد قارب على الظهيرة عندما ظهر دي براسي، الذي خططت الحملة في الأساس من أجله، ليواصل جهوده في الفوز بيدها وبممتلكاتها.
خلع قلنسوته المخملية محييا الليدي. وبقلنسوته هذه أشار لها بلطف لتجلس على أحد المقاعد. وإذ أصرت على أن تظل واقفة خلع الفارس قفاز يده اليمنى، واقترب منها ليقودها إلى هناك، ولكن روينا رفضت مجاملته لها بإشارة منها، وردت قائلة: «إن كنت في حضرة سجاني يا سيدي الفارس - إذ لا تتيح لي الظروف أن أفكر في غير ذلك - فمن الأفضل لسجينته أن تظل واقفة حتى تعلم مصيرها.»
رد دي براسي: «وا حسرتاه! أيتها الجميلة روينا، إنك في حضرة أسيرك وليس سجانك؛ ومن عينيك الساحرتين يجب أن يتلقى دي براسي ذلك المصير الذي تنتظرينه منه بلهفة.»
قالت السيدة: «أنا لا أعرفك يا سيدي. لا أعرفك، كما أن عدم الكلفة الوقحة التي تتعامل بها معي برطانة شاعر متجول لا تشفع لعنف لص.»
رد دي براسي بنبرة صوته السابقة: «بسببك أيتها الآنسة الحسناء، بسبب سحرك، فعلت ما فعلت مما تخطى حدود الاحترام الواجب لمن اخترتها ملكة على قلبي وقرة لعيني.» «أعيد على سمعك يا سيدي الفارس أنني لا أعرفك، ولا يجدر بأي رجل يرتدي زردا ومهمازين أن يدخل عنوة على سيدة بلا حماية.»
قال دي براسي: «إن كونك لا تعرفينني لهو حقا من سوء حظي، ولكن دعيني آمل أن يتردد اسم دي براسي دائما متى أشاد المنشدون أو المنادون بأعمال الفروسية.»
ردت روينا: «فلتترك مدحك إذن للمنادين والمنشدين؛ فهو أنسب لألسنتهم من لسانك، وأخبرني من منهم سيسجل في أغنية أو في كتاب للمباريات غزوتك التي لا تنسى في هذه الليلة؛ غزوة تغلبت فيها على رجل مسن يتبعه بضعة خدم جبناء، ونقلت غنيمتها التي كانت فتاة تعيسة الحظ رغما عنها إلى قلعة أحد اللصوص؟»
قال الفارس: «إنك ظالمة أيتها الليدي روينا. وما دمت بلا عاطفة فلن تتلمسي العذر لجنون شخص آخر، على الرغم من أن جمالك هو ما ساقه إلى ذلك الجنون.»
قالت روينا: «أرجوك يا سيدي الفارس أن تتوقف عن استخدام اللغة الشائعة الاستخدام لدى الشداة المتجولين؛ لأنها لا تليق بالفرسان أو النبلاء.»
قال دي براسي: «إنك فتاة متعالية، وستلاقين مني التعالي نفسه. فلتعلمي إذن أنني دعمت مطلبي في التقدم لك بالطريقة التي تلائم شخصيتك. إنه من الأنسب لطبعك أن يسعى المرء لاستمالتك بالقوس والرمح، وليس بالعبارات المنمقة والكلام المعسول.»
قالت روينا: «عندما يستخدم الكلام المعسول ليغطي على وقاحة الفعل، فما ذلك إلا كحزام فارس حول صدر مهرج دنيء. لا أتعجب من أن ضبط النفس يبدو أنه يعكر مزاجك، وكان أنسب لشرفك لو احتفظت بملبس خارج عن القانون وطريقته في الحديث، بدلا من أن تخفي أفعاله باصطناع لغة النبلاء الرقيقة وسلوكهم.»
قال النورماندي: «أحسنت النصح يا سيدتي. وباللغة الجريئة التي هي أفضل ما يسوغ عملا جريئا، أخبرك أنك لن تغادري هذه القلعة أبدا، أو لن تغادريها حتى تصبحي زوجة موريس دي براسي. أنت معتدة بنفسك يا روينا، وأنت الأصلح لأن تكون زوجتي. فبأي وسيلة أخرى غير التحالف معي يمكنك أن ترتقي للشرف الرفيع ومكانة الأميرات؟ بأي وسيلة أخرى يمكنك أن تهربي من الفناء الوضيع في مزرعة ريفية، حيث يحتشد الساكسونيون كالقطعان مع الخنازير التي تقوم عليها ثروتهم؟»
ردت روينا: «سيدي الفارس، أصدقك القول؛ إنني عندما أترك المزرعة التي كانت مأواي منذ طفولتي - إن جاء ذلك اليوم - فسيكون ذلك مع شخص لا يعرف احتقارا للمسكن الذي نشأت فيه ، ولا للآداب التي تربيت عليها.»
قال دي براسي: «إنني أخمن ما تعنين يا سيدتي، ولكن لا تحلمي بأن يستعيد ريتشارد قلب الأسد يوما عرشه، ناهيك عن أن يقودك تابعه ويلفريد إيفانهو إلى موطئ قدميه ليرحب بك عروسا لأحد المقربين إليه. اعلمي يا سيدتي أن هذا المنافس في قبضتي، ولم يبق سوى أن أفشي سر وجوده في القلعة لفرونت دي بوف، الذي ستكون غيرته أشد فتكا من غيرتي.»
قالت روينا في ازدراء: «ويلفريد هنا؟ إن صحة هذا الخبر كصحة الزعم بأن فرونت دي بوف منافس له.»
نظر دي براسي إليها بثبات لوهلة، ثم قال: «ألم تكوني حقا تعلمين بهذا؟ ألم تكوني تعلمين بأن ويلفريد أوف إيفانهو قد سافر في محفة اليهودي؟»
قالت روينا، مجبرة نفسها على التحدث بنبرة من اللامبالاة، على الرغم من أنها كانت ترتجف من الخوف: «وإن كان هنا، فعلام ينافس فرونت دي بوف؟ أو ما الذي يخشاه أكثر من فترة سجن قصيرة، وفدية مشرفة، وفقا لعادات الفروسية؟»
قال دي براسي: «ألا تعلمين يا روينا أن ثمة غيرة في الطموح والثروة كما في الحب، وأن مضيفنا هذا، فرونت دي بوف، سيقصي من طريقه من يعارض زعمه بحوزته لممتلكات إيفانهو الجميلة بلهفة وبلا ضمير كما لو كانت فتاة ذات عينين زرقاوين قد فضلته عليه؟ ولكن إن قبلت طلبي للزواج منك، يا سيدتي، فلن يخشى البطل الجريح شيئا من فرونت دي بوف.»
قالت روينا: «فلتنقذه بحق السماء!»
قال دي براسي: «يمكنني أن أفعل - بل سأفعل - فهذا هو غرضي؛ لأنه متى وافقت روينا على أن تصبح عروس دي براسي، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يؤذي قريبها وابن الوصي عليها ورفيق شبابها؟ ولكن يجب أن تشتري حمايته بحبك لي. فلتستخدمي تأثيرك علي من أجله، وسيكون آمنا. أما إذا رفضت، فسيموت ويلفريد، ولن تكوني أنت نفسك أقرب للحرية.»
ردت روينا: «إن في الفظاظة اللامبالية في لغتك شيئا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين الأهوال التي يبدو أنها تفصح عنها. لا أعتقد أن غرضك شرير إلى هذا الحد، أو أن قوتك بهذا العظم.»
قال دي براسي: «فلتخدعي نفسك إذن بهذا الاعتقاد حتى يثبت لك العكس بمرور الوقت. إن حبيبك يرقد جريحا في هذه القلعة. معشوقك المفضل. إنه يمثل عقبة بين فرونت دي بوف وبين ما يحبه فرونت دي بوف أكثر من حبه للطموح أو الجمال. ماذا سيكلفه الأمر أكثر من ضربة خنجر أو طعنة رمح لإسكات خصمه للأبد؟ كما أن سيدريك ...»
قالت روينا مكررة كلماته: «كما أن سيدريك، الوصي علي النبيل الكريم! إنني أستحق ما لقيته من شر؛ لأني نسيت مصيره حتى وإن كان ذلك لانشغالي بمصير ابنه!»
قال دي براسي: «إن مصير سيدريك يعتمد أيضا على قرارك، وأتركك كي تتخذيه.»
حتى ذلك الحين كانت روينا قد حافظت على دورها في هذا المشهد الذي يصعب احتماله بشجاعة ورباطة جأش؛ ولكن ذلك كان لأنها لم تكن تقدر أن الخطر جاد ومحدق إلى هذا الحد. وبعدما جالت بعينيها فيما حولها كما لو كانت تبحث عن العون الذي لم يكن موجودا في أي مكان، وبعد أن تمتمت ببضع كلمات تعجب متقطعة، رفعت يديها إلى السماء، وانفجرت في نوبة من الغضب والأسى الجامحين. كان من المستحيل أن يرى المرء كائنا بهذا الجمال في محنة كهذه دون أن يشفق عليها، ولم يكن دي براسي غير متأثر، لكنه كان مرتبكا أكثر منه متأثرا. كان حقا قد تمادى لدرجة لا يمكن معها التراجع، ولكنه لم يكن من الممكن التأثير على روينا في حالتها الحالية، سواء بالجدال أو الوعيد.
لم يستطع وهو مضطرب بسبب أفكاره سوى أن يطلب منها أن تهدأ، وأن يؤكد لها أنه لم يعد الآن ثمة سبب يجعلها تقنط بهذا الشكل المفرط الذي كانت عليه حينئذ، ولكن وسط مواساة دي براسي لها قاطعه صوت البوق الذي كان قد أفزع في الوقت نفسه كل نزلاء القلعة الآخرين، وقطع عليهم خططهم المختلفة.
الفصل العشرون
بينما كانت المشاهد التي وصفناها تجري في أجزاء أخرى من القلعة، كانت اليهودية ريبيكا تنتظر مصيرها في برج بعيد ومنفصل. وعندما زج بها إلى الزنزانة الصغيرة وجدت نفسها في حضرة عرافة عجوز، ظلت تتمتم لنفسها بلحن ساكسوني، كما لو كانت تضبط إيقاعا لرقصة بحركة دائرية يؤديها مغزلها على أرضية الزنزانة.
قال أحد حراس ريبيكا: «يجب أن تنهضي وتغادري، أيها الصرصورة العجوز؛ فسيدنا النبيل يأمر بذلك. يجب أن تتركي هذه الغرفة لضيفة أجمل.»
قالت العجوز الشمطاء مزمجرة: «نعم، هكذا تكافأ الخدمة. لقد شهدت الوقت الذي كانت فيه مجرد كلمة مني تطرح بأفضل الجنود بينكم من فوق سرجه وتقصيه من الخدمة. أما الآن، فيجب أن أنهض وأغادر بناء على أمر كل خادم مثلك.»
ريبيكا وأورفريد، بريشة أدولف لالوز.
قال الرجل الآخر: «أيتها السيدة الطيبة أورفريد، لا تتعاملي مع الأمر بعقلانية، ولكن انهضي وغادري. لقد كان لك يومك أيتها السيدة العجوز، ولكن شمسك قد غربت منذ وقت طويل.»
انسحب الرجلان تاركين ريبيكا في صحبة المرأة العجوز.
قالت العجوز الشمطاء: «من أي بلد أنت؟ أعربية، أم مصرية؟ لماذا لا تجيبين؟ إنك تستطيعين البكاء، أفلا تستطيعين الكلام؟»
قالت ريبيكا: «لا تغضبي أيتها الأم الطيبة.»
أجابت أورفريد: «لست بحاجة إلى أن تقولي أكثر من ذلك؛ فالناس يعرفون الثعلب من ذيله، واليهودية من لهجتها.»
قالت ريبيكا: «من أجل الرحمة، أخبريني عما ينبغي علي أن أتوقعه نهاية للعنف الذي ساقني إلى هنا! هل ينشدون حياتي تكفيرا عن ديني؟ سأتخلى عنها بسرور.»
أجابت العرافة: «حياتك أيتها التابعة؟ صدقيني، إن حياتك ليست في خطر. إنهم سيعاملونك كما لو كنت فتاة ساكسونية نبيلة. انظري إلي، لقد كنت شابة مثلك، وكان جمالي ضعف جمالك عندما اقتحم فرونت دي بوف، والد ريجينالد هذا، وأتباعه من النورمانديين هذه القلعة. دافع أبي وأولاده السبعة عن إرثهم من طابق إلى طابق، ومن غرفة إلى أخرى، ولكنهم ماتوا؛ مات كل رجل منهم. وقبل أن تبرد جثثهم وتجف دماؤهم، كنت قد صرت فريسة المنتصر وموضع سخريته!»
قالت ريبيكا: «أليس ثمة عون؟ ألا توجد وسيلة للهرب؟ بسخاء، سأكافئك عن مساعدتك بسخاء.»
قالت العجوز: «لا تفكري في الأمر ؛ فمن الآن فصاعدا لا مفر إلا عبر بوابات الموت. وداعا أيتها اليهودية! يهودية كنت أو غير يهودية، فمصيرك واحد؛ لأن من ستتعاملين معهم ليس لديهم ورع ولا شفقة.»
قالت ريبيكا: «امكثي! امكثي! بحق السماء! إن في حضورك بعض الحماية.»
ردت السيدة العجوز: «إن حضور أم الرب ذاتها لم يكفل لي الحماية.» ثم أكملت مشيرة إلى صورة بسيطة للعذراء مريم، قائلة: «ها هي تقف هناك؛ فلتنظري إن كان باستطاعتها أن تغير من المصير الذي ينتظرك.»
غادرت الغرفة وهي تتكلم، وأغلقت الباب وراءها.
كانت ريبيكا في ذلك الحين تتوقع مصيرا أكثر هولا من مصير روينا، ولكنها كانت أكثر استعدادا، بحكم ما كان لديها من عادة التفكير وقوة عقلها الفطرية، لمواجهة الأخطار التي كانت عرضة لها. كان أول ما اهتمت به هو أن تفحص الغرفة، ولكن لم تجد بارقة أمل في الهرب أو الحماية؛ فلم يكن بالغرفة ممر سري أو باب مسحور. وباستثناء الباب الذي كانت قد دخلت منه المتصل بالمبنى الرئيسي، كانت تبدو محاطة بالجدار الخارجي المستدير للبرج. ولم يكن للباب مزلاج أو قفل داخلي. وكانت النافذة الوحيدة تطل على فضاء له سور يعلو البرج؛ ما أعطى ريبيكا، للوهلة الأولى، بعض الأمل في الهروب، ولكن سرعان ما اكتشفت عدم وجود أي اتصال بأي جزء آخر من أسوار القلعة؛ لأنها كانت في برج صغير معزول في زاوية القلعة.
ارتجفت السجينة وامتقع لونها عندما سمعت خطوة على الدرج وفتح باب غرفة البرج ببطء، ثم ظهر رجل طويل يرتدي ثيابا كثياب قطاع الطرق؛ أولئك الذين كانوا السبب فيما ألم بهم من بلاء، ودخل ببطء وأغلق الباب خلفه. وكانت قبعته المتدلية على حاجبيه تغطي الجزء العلوي من وجهه، وقد كان ممسكا بعباءته بطريقة تخفي بقيته. بهذه الهيئة، كما لو كان مستعدا لتنفيذ أمر يخجل هو نفسه من مجرد التفكير فيه، وقف أمام السجينة المرتعبة. كانت ريبيكا قد خلعت بالفعل سوارين وعقدا من الحلي النفيسة، التي أسرعت بتقديمهم للخارج عن القانون المزعوم.
قالت: «خذ هذه أيها الصديق الطيب، وأستحلفك بالرب أن تكون رحيما بي وبأبي المسن! هذه الحلي ذات قيمة كبيرة، ومع ذلك فهي شيء تافه إذا ما قورنت بما سيمنحه لك مقابل خروجنا من هذه القلعة في حرية ودون أن يصيبنا أذى.»
رد الخارج عن القانون قائلا باللغة الفرنسية: «إنه لقول حسن، ولكن اعلمي، يا زنبقة وادي بكة المتألقة، أن أباك بالفعل بين يدي خيميائي قدير، يعرف كيف يحول حتى القضبان الصدئة لموقد قبو إلى ذهب وفضة. يجب أن تدفع فديتك بالحب والجمال، ولن أقبلها بأي عملة أخرى.»
قالت ريبيكا باللغة نفسها التي تحدث إليها بها: «أنت لست بقاطع طريق؛ فما من قاطع طريق يرفض عرضا كهذا. ولا يوجد قاطع طريق في هذه الأرض يستخدم اللهجة التي تتحدث بها. أنت لست قاطع طريق، وإنما نورماندي، نورماندي وربما تكون قد ولدت نبيلا؛ فلتكن كذلك في أفعالك، ولتخلع عنك قناع الاعتداء والعنف المخيف هذا!»
قال براين دي بوا جيلبرت وهو ينزل العباءة عن وجهه: «وأنت، التي يمكنها تخمين تلك الحقيقة، لست إحدى بنات إسرائيل، ولكنك ساحرة من ساحرات إندور في كل شيء، عدا شبابك وجمالك. حسنا، أنا لست بقاطع طريق يا وردة شارون الجميلة، وأنا رجل أكثر استعدادا لإحاطة عنقك وذراعيك باللآلئ والماسات، التي تليق بهم، من أن أحرمك من هذه الحلي.»
قالت ريبيكا: «ماذا تريد مني إذن إن لم تكن تريد ثروتي؟ لا يمكن أن يكون بيننا شيء مشترك؛ فأنت مسيحي وأنا يهودية، وزواجنا مخالف لشريعة الكنيسة والمعبد على السواء.»
رد فارس الهيكل ضاحكا: «هذا صحيح بالفعل. أتزوج من يهودية؟ يا للعار! لن يكون ذلك حتى لو كانت ملكة سبأ! اسمعي يا ريبيكا، أنت أسيرتي التي ظفرت بها بقوسي ورمحي، وخاضعة لإرادتي بشرائع جميع الأمم، ولن أفرط قيد أنملة في حقي، أو أمتنع عن أن آخذ عنوة ما ترفضينه خضوعا لتوسل أو ضرورة. شيء واحد فقط يمكنه إنقاذك، وهو أن ترضخي لمصيرك وتعتنقي ديننا، وستبلغين في تلك الحالة مكانة عالية، ستجعل الكثير من السيدات النورمانديات أقل أبهة وجمالا من محظية حامل أفضل رمح بين المدافعين عن الهيكل.»
قالت ريبيكا: «أخضع لمصيري! بحق السماء المقدسة! لأي مصير أخضع؟ أعتنق دينك! وأي دين هذا الذي يئوي شريرا مثلك؟ أنت أفضل حامل رمح بين فرسان الهيكل! أيها الفارس الجبان! أيها القس الحانث القسم! إنني أبصق عليك وأتحداك! إن وعد إله إبراهيم قد فتح مهربا لابنته، حتى من هاوية العار هذه!»
وبينما كانت تتكلم، فتحت النافذة المطلة على البرج، وبعد لحظة كانت واقفة على حافة شرفة، ولم يعد بينها وبين العمق الشاهق أسفلها أي حاجز. لم يكن بوا جيلبرت مستعدا لمثل هذا العمل اليائس؛ لأنها قبلئذ كانت تقف بلا حراك؛ لذا لم يكن لديه الوقت للتدخل أو لإيقافها. وعندما شرع في أن يتقدم منها، صاحت قائلة: «الزم مكانك، يا فارس الهيكل المغرور، أو تقدم إن شئت! ولكن إن اقتربت خطوة واحدة فسألقي بنفسي من الهاوية.»
وبينما كانت تقول ذلك، شبكت يديها ومدتهما نحو السماء، كما لو كانت تلتمس الرحمة لروحها قبل أن تقفز قفزتها الأخيرة. تردد فارس الهيكل، وانهارت عزيمته التي لم تخضع قط لشفقة أو كرب أمام إعجابه بجرأتها. قال: «انزلي أيتها الفتاة المتهورة! أقسم بالأرض والبحر والسماء إنني لن ألحق بك أذى.»
قالت ريبيكا: «لن أثق فيك يا فارس الهيكل؛ فقد علمتني جيدا كيف أقدر فضائل طائفتك.»
صاح فارس الهيكل بحماسة: «أنت تظلمينني. أقسم لك بالاسم الذي أحمله، وبالصليب الذي على صدري، وبالسيف الذي بجانبي، وبشعار آبائي القديم، إنني لن ألحق بك أي سوء كان! تراجعي! إن لم يكن من أجلك فمن أجل أبيك! سأكون صديقه، وفي هذه القلعة سيحتاج إلى صديق قوي.»
قالت ريبيكا: «وا أسفاه! أعلم جيدا، ولكن هل أخاطر وأثق بك؟»
قال براين دي بوا جيلبرت: «ليلتو ذراعي وليلحق باسمي العار إن وجدت سببا لتشتكي مني! كم من قانون وأمر خالفته، ولكني لم أخلف وعدي قط.»
قالت ريبيكا: «إذن سأثق بك، إلى هذا الحد.» ثم نزلت من فوق حافة الشرفة، ولكنها ظلت واقفة بالقرب من إحدى الفتحات في الجدار، وقالت: «سأقف هنا، وابق حيث أنت، وإن حاولت أن تقترب خطوة واحدة تقلل بها المسافة بيننا، فسترى أن الفتاة اليهودية تفضل أن تعطي روحها لربها على أن تعطي شرفها لفارس الهيكل.»
بينما كانت ريبيكا تقول ذلك، كانت عزيمتها العالية والثابتة التي تتوافق جيدا مع الجمال المعبر لملامحها، تعطي لمظهرها وروحها وسلوكها جلالا بدا وكأنه يفوق جلال البشر. وقد اعتقد بوا جيلبرت، المعتد بنفسه والجريء، أنه لم ير من قبل جمالا مفعما بالحيوة والهيبة هكذا.
قال: «ليكن بيننا سلام يا ريبيكا.»
ردت ريبيكا: «ليكن سلام إن شئت. سلام، ولكن مع الحفاظ على هذه المسافة بيننا.»
قال بوا جيلبرت: «لست بحاجة إلى أن تخشيني بعد الآن.»
ردت: «أنا لا أخشاك؛ فالشكر لمن أقام هذا البرج المسبب للدوار بهذا العلو الشديد، الذي لا يمكن لأحد أن يسقط منه ويظل على قيد الحياة. الشكر له، ولإله إسرائيل! أنا لا أخشاك.»
قال فارس الهيكل: «إنك تظلمينني. بحق الأرض والبحر والسماء إنك تظلمينني! ليس من طبيعتي ما ترينني عليه من قسوة وأنانية وتشدد. اسمعيني يا ريبيكا، من بين كل الفرسان الذين حملوا رماحا لم يوجد فارس يحمل في قلبه إخلاصا لسيدته أكثر من براين دي بوا جيلبرت. كانت ابنة إقطاعي صغير، وكان اسمها معروفا أينما جرت أعمال الفروسية. أجل، جعلت أعمالي ومخاطراتي ودمي اسم أديلايد دي مونتيمار معروفا من بلاط قشتالة إلى بلاط بيزنطة. ماذا كان جزائي؟ عندما رجعت بأمجادي التي دفعت ثمنها غاليا بالعناء والدم، وجدتها قد تزوجت من تابع جاسكوني، لم يسمع اسمه قط خارج حدود أرضه الوضيعة! منذ ذلك اليوم عزلت نفسي عن الحياة وروابطها؛ لا تعرف رجولتي منزلا عائليا، ولا أسكن إلى زوجة حنون، ولا تعرف سني دفء العيش داخل بيت، ولا بد أنني سأكون وحيدا في قبري، ولن تخلفني ذرية لتحمل اسم بوا جيلبرت العريق. إن فارس الهيكل عبد في كل شيء إلا اسمه؛ فلا يمكنه أن يحوز أراضي ولا متاعا، ولا يحيا ويتحرك ويتنفس إلا بإرادة شخص آخر ومشيئته.»
قالت ريبيكا: «وا حسرتاه! ما المزايا التي يمكن أن تعوض عن مثل هذه التضحية المطلقة؟»
رد فارس الهيكل: «قوة الانتقام يا ريبيكا، وآمال الطموح.»
قالت ريبيكا: «إنه لجزاء بغيض مقابل التخلي عن الحقوق الأعز للبشرية.»
رد فارس الهيكل: «لا تقولي هذا يا آنستي؛ فالثأر عيد للآلهة! أما الطموح، فهو الإغراء الذي يمكنه أن يعكر حتى صفو نعيم السماء نفسها. يا ريبيكا، إن من تفضل الموت على تلويث شرفها لا بد أن لها نفسا أبية وقوية. يجب أن تكوني لي! لا، لا تفزعي، فيجب أن يكون الأمر برضاك ووفقا لشروطك. يجب أن توافقي على أن تشاركيني آمالي التي تتسع إلى أكثر مما يمكن رؤيته من فوق عرش ملك! اسمعيني قبل أن تجيبي، وحكمي عقلك قبل أن ترفضي. إن فارس الهيكل يخسر حقوقه الاجتماعية، وقدرته على التصرف بلا قيود، ولكنه يصبح عضوا وفرعا في كيان قوي تهتز أمامه العروش. وأنا لست عضوا متواضعا في هذه الطائفة القوية، ولكني بالفعل أحد القادة الرئيسيين، وقد أطمح أن أمسك يوما بعصا السيد الأكبر. إن جنود الهيكل المساكين لن يضعوا أقدامهم وحدهم فوق أعناق الملوك؛ فأقدامنا التي يكسوها الزرد سترتقي عرشهم، وسينتزع قفازنا الصولجان من قبضتهم. ولا حتى حكم مسيحكم المنتظر عبثا يمنح لقبائلكم المشتتة من القوة بقدر ما يهدف طموحي. إنني لم أبحث إلا عن روح متآلفة مع روحي لتشاركني حياتي، ولقد وجدتها فيك.»
ردت ريبيكا: «أتقول هذا لفتاة من قومي؟ أتظن ...»
قال فارس الهيكل: «لا تجيبيني بعبارات تشدد على الفرق بين عقيدة كل منا؛ ففي اجتماعاتنا السرية نسخر من هذه الحكايات الصبيانية، ولكن صوت البوق هذا يعلن عن شيء قد يتطلب حضوري. فكري فيما قلته لك. وداعا! لا أطلب منك أن تسامحيني على العنف الذي هددتك به؛ لأنه كان ضروريا كي تظهر شخصيتك؛ فالذهب لا يظهر معدنه إلا بتعريضه لمحك الذهب. سأعود على الفور، وسأسترسل في حديثي معك.»
الفصل الحادي والعشرون
عندما وصل فارس الهيكل إلى ردهة القلعة، وجد دي براسي هناك بالفعل، وسرعان ما انضم إليهما بعد ذلك فرونت دي بوف.
قال فرونت دي بوف: «لنر سبب هذه الجلبة اللعينة. ها هي رسالة، وهي، إن لم أكن مخطئا، باللغة الساكسونية.»
نظر إليها وأخذ يقلبها في يده، كما لو كان بالفعل يأمل أن يعرف معنى ما فيها بقلب وضع الورقة، ثم أعطاها إلى دي براسي.
قال دي براسي: «على قدر علمي، قد تكون تعاويذ سحرية.»
قال فارس الهيكل: «أعطها لي. إن لدينا من الصفات الكهنوتية ما يجعل لنا بعض العلم الذي ننير به الطريق أمام بسالتنا.»
وهكذا قرأ فارس الهيكل ما يأتي:
أنا، وامبا بن ويتليس، مهرج تابع لرجل نبيل وحر بالميلاد، سيدريك أوف روثيروود، الملقب بالساكسوني؛ وأنا جيرث بن بيوولف، راعي خنازير لدى سيدريك المذكور؛ مع مساعدة حليفينا وشريكينا، وهما الفارس الصالح الملقب حاليا بالكسول الأسود، واليومن الشجاع روبيرت لوكسلي، نعلمك يا ريجينالد فرونت دي بوف، أنت وشركاءك، أيا كانوا، أنه حيث إنكم قد أسرتم ظلما واقتدارا مولانا وسيدنا سيدريك المذكور وفرضتم عليه سيطرتكم، هو وفتاة نبيلة وحرة المولد هي السيدة روينا أوف هاروجوتستاندستيد، وكذلك رجل نبيل حر المولد هو أثيلستان أوف كوننجزبيرج، وكذلك يهودي يدعى إيزاك أوف يورك ومعه ابنته اليهودية، وعدد من الخيل والبغال؛ وعليه نطلب تسليم الأشخاص المذكورين سلفا، هم وجميع أغراضهم ومنقولاتهم، في غضون ساعة من تسلم هذه الرسالة، من غير أذى أو ضرر يلحق بهم. وإن أبيتم، نعلن لكم أننا سنعدكم لصوصا وخائنين، وسنخاطر بأجسادنا ضدكم في معركة أو حصار أو غير ذلك، وسنبذل قصارى جهدنا لتكدير سلمكم وإلحاق الدمار بكم. من أجل ذلك، فليحفظكم الرب، وقعناها في عشية يوم القديس ويزهولد أسفل شجرة البلوط الكبيرة المعينة مكانا لاجتماعنا في ممر هارت هيل، وكتبها رجل مقدس، وهو أحد رجال الدين بطائفة القديس دونستان، في كنيسة كوبمانهورست.
استمع الفرسان لقراءة هذه الوثيقة غير المعتادة من بدايتها لنهايتها، ثم حدق كل منهما في الآخر في ذهول صامت، كما لو كانوا في حيرة من أمرهم فيما يتعلق بما تعنيه . كان دي براسي أول من كسر الصمت بنوبة ضحك جامحة، انضم إليه فيها، ولكن باعتدال أكثر، فارس الهيكل. بينما بدا فرونت دي بوف، على النقيض، غاضبا من مزاحهما الذي كان في غير وقته.
قال: «بحق القديس ميشيل، وددت لو استطعت أن تتحمل وطء هذه المغامرة بنفسك يا دي براسي؛ فهؤلاء الرجال ما كانوا سيجرءون على ارتكاب مثل هذه الوقاحة التي لا يمكن تخيلها ما لم تكن إحدى العصابات القوية تدعمهم.» ثم أضاف مخاطبا أحد أتباعه: «تعال أيها الرجل، هل أرسلت أحدا ليرى أي قوة تدعم هذا التحدي المفرط؟»
أجاب تابع كان حاضرا: «يوجد ما لا يقل عن مائتي رجل تجمعوا في الغابات.»
قال فارس الهيكل: «فلنستدع رجالنا ونهجم عليهم؛ ففارس واحد، بل رجل واحد مسلح، كفيل بالقضاء على عشرين من هؤلاء الفلاحين.»
قال دي براسي: «هذا كاف بل وزيادة؛ إنه لمن العار أن أسدد رمحي نحوهم.»
رد فرونت دي بوف: «أقلت نهجم عليهم؟ إن ما معنا من الرجال لا يكاد يكفي لحراسة القلعة؛ فأفضل رجالي في يورك، وكذلك فرقتك كلها، يا دي براسي، ولدينا بالكاد عشرون إلى جانب الحفنة التي انخرطت في هذا العمل الجنوني.»
قال فارس الهيكل: «ألا تخشى من استطاعتهم التجمع في قوة كافية لمهاجمة القلعة؟»
أجاب فرونت دي بوف: «ليس الأمر كذلك، يا سيد براين؛ فهؤلاء الخارجون عن القانون لديهم بالفعل قائد جريء، ولكنهم بدون المعدات، والسلالم المدرجة، والقادة ذوي الخبرة، يمكن لقلعتي أن تصمد أمامهم.»
قال فارس الهيكل: «أرسل لجيرانك؛ دعهم يجمعوا رجالهم، ويأتوا لإنقاذ الفرسان الثلاثة الذين يحاصرهم مهرج وراعي خنازير في القلعة البارونية لريجينالد فرونت دي بوف.»
رد البارون: «أنت تمزح يا سيدي الفارس؛ فلمن أرسل أحدا؟ إن مالفوازان الآن في يورك مع أتباعه من الجنود، وكذلك حلفائي الآخرون.»
قال دي براسي: «أرسل إذن إلى يورك، واستدع رجالنا.»
قال فرونت دي بوف: «ومن سيحمل رسالة كهذه؟ إنهم سيحاصرون كل طريق، ويستخرجونها من صدر المبعوث.» ثم أضاف بعد توقف للحظة: «وجدتها! يمكنك، أيها السيد فارس الهيكل، أن تكتب كما يمكنك أن تقرأ، وستكتب ردا على هذا التحدي الجريء.»
قال بوا جيلبرت: «كنت أفضل أن أفعل ذلك بذؤابة السيف لا بسن القلم، ولكن كما تشاء.»
وعلى ذلك جلس وكتب باللغة الفرنسية رسالة كانت فحواها:
إن السير ريجينالد فرونت دي بوف، وحلفاءه وشركاءه من النبلاء والفرسان، لا يتلقون رسائل تحد من عبيد أو غلمان أو آبقين. أما عن السجناء الذين أسرناهم، فنحن نطلب بدافع الإحسان المسيحي أن ترسلوا رجلا من رجال الدين ليأخذ اعترافهم ويجعل الرب يتوب عليهم؛ لأن نيتنا قد انعقدت على أن نعدمهم هذا الصباح قبل الظهيرة.
طويت هذه الرسالة وسلمت إلى التابع، ومنه إلى الرسول الذي كان ينتظر بالخارج الرد على الرسالة التي كان قد جلبها.
بذلك كان الرامي قد أتم مهمته؛ ومن ثم رجع إلى مقر الحلفاء الذي كان في ذلك الحين مقاما تحت شجرة بلوط مهيبة، على بعد ما يقرب من ثلاث رميات سهم. هنالك كان وامبا وجيرث، مع حلفائهما الفارس الأسود ولوكسلي والناسك المرح، ينتظرون على أحر من الجمر الرد على دعوتهم.
أخذ الفارس الأسود الخطاب من لوكسلي، وقرأه أول مرة فيما بينه وبين نفسه، ثم شرح معناه بالساكسونية لحلفائه.
صاح وامبا: «يعدمون النبيل سيدريك! بحق الصليب، لا بد أنك مخطئ يا سيدي الفارس.»
رد الفارس: «لا، لست مخطئا يا صديقي العزيز؛ فلقد شرحت الكلمات كما هي مسطورة هنا.»
قال لوكسلي: «هذه ليست إلا حيلة لكسب الوقت؛ فلا يجرءون على فعل شيء يمكن أن أعاقبهم عليه عقابا وخيما.»
قال الفارس الأسود: «وددت لو كان بيننا من يمكنه الحصول على إذن لدخول القلعة واكتشاف حالة المحاصرين. أظن، بما أنهم يطلبون إرسال أب اعتراف، أن هذا الناسك المقدس يمكنه على الفور أن يؤدي مهمته الدينية، ويجلب لنا المعلومات التي نريدها.»
قال الناسك الورع: «اللعنة عليك وعلى نصيحتك! أقول لك يا سيدي الفارس الكسول إنه يمكنني أن أقتل عشرين ظبيا أفضل مما أستطيع أن آخذ اعتراف مسيحي واحد.»
قال الفارس الأسود: «يؤسفني أن أقول إنه لا أحد هنا مؤهل، في الوقت الحالي، لأن يؤدي شخصية أب الاعتراف.»
نظر كل منهم إلى الآخر في صمت.
قال وامبا بعد توقف قصير: «أرى أن الأحمق لا بد أنه يظل أحمق، ويغامر بعنقه. عليكم أن تعرفوا، يا أقربائي وبني وطني الأعزاء، أنني ارتديت ثوب الكاهن قبل أن أرتدي ثوب المهرج، وكانوا يعدونني لأصبح راهبا، حتى أصابتني حمى في الدماغ وتركت من صوابي ما يكفي لأن أصير أحمق. أثق أنني، بمساعدة عباءة ناسك جيدة، سأكون مؤهلا لبث الطمأنينة الأرضية والروحية في نفس السيد الموقر سيدريك ورفاقه في المحنة.»
قال الفارس: «فلترتد العباءة إذن أيها الرجل الصالح، ولتجعل سيدك يبعث لنا بتقرير عن حالتهم داخل القلعة. إن الوقت يمر، فلتذهب.»
قال وامبا، الذي كان في ذلك الحين متنكرا في ردائه الديني، باللاتينية: «سلام لكم.»
قال ذلك، وحاكى المشية الوقورة والجليلة للرهبان، وانصرف لتنفيذ مهمته.
الفصل الثاني والعشرون
عندما وقف المهرج، مرتديا قلنسوة الرهبان وثوبهم الطويل، أمام بوابة قلعة فرونت دي بوف، سأله الحارس عن اسمه والمهمة التي أتى من أجلها.
أجاب المهرج باللاتينية: «سلام لكم، أنا أخ فقير من طائفة رهبان القديس فرانسيس، وقد جئت إلى هنا لأؤدي واجبي الكهنوتي نحو بعض الأسرى التعساء المسجونين الآن في هذه القلعة.»
عندما وجد وامبا نفسه في حضرة ريجينالد فرونت دي بوف، ألقى بتحية «سلام لكم» باللاتينية بقلق يفوق ما كان يشعر به من قبل، غير أن فرونت دي بوف كان معتادا على رؤية الرجال يرتعبون في حضرته؛ ومن ثم لم تكن الهيبة التي كان عليها الأب المزعوم تعطيه أي سبب ليرتاب فيه، وقال: «من أنت ومن أين أيها القس؟»
كرر المهرج التحية باللاتينية قائلا: «سلام لكم، أنا خادم فقير للقديس فرانسيس، كنت مسافرا عبر هذه البرية، ووقعت في يد اللصوص الذين أرسلوني إلى هذه القلعة لتأدية مهمتي الروحية نحو شخصين حكمتم عليهما بموجب عدالتكم الموقرة.»
رد فرونت دي بوف: «أجل صحيح، وهل يمكنك أن تخبرني أيها الأب المقدس بعدد قطاع الطرق أولئك ؟»
أجاب المهرج: «سيدي الباسل، إنهم جمع غفير.» «أخبرني بكلمات واضحة عن أعدادهم.»
قال الراهب المزعوم: «وا أسفاه! لقد كدت أموت رعبا! ولكني أعتقد أنهم ربما كانوا خمسمائة رجل على الأقل من اليوامنة والعامة.»
قال فارس الهيكل الذي كان قد دخل إلى الردهة في تلك اللحظة: «ماذا! أتحتشد الزنابير بهذا العدد هنا؟ حان الوقت للقضاء على تلك العصبة الشريرة.» ثم تنحى بفرونت دي بوف جانبا، وقال له: «أتعرف القس؟»
قال فرونت دي بوف: «إنه غريب من دير بعيد. لا أعرفه.»
رد فارس الهيكل: «إذن، لا تأمن له فيما تنوي إيصاله من كلمات، بل اجعله يحمل أمرا كتابيا إلى فرقة دي براسي من الرفقاء الأحرار، بأن يعودوا على الفور لمساعدة سيدهم. وفي الوقت نفسه؛ كي لا يشك الحليق في شيء، اسمح له أن يمضي بحرية في مهمة تحضير هذين الخنزيرين الساكسونيين للمجزر.»
قال فرونت دي بوف: «سأفعل ذلك.» وعلى الفور عين خادما لإرشاد وامبا للغرفة التي كان سيدريك وأثيلستان سجينين فيها.
قال المهرج، باللاتينية، وهو يدخل الغرفة: «سلام لكم.» ثم أضاف: «لتحل عليكما بركة القديس دونستان وجميع القديسين الآخرين أيا كانوا.»
رد سيدريك على الراهب المزعوم: «ادخل بحرية. لأي غاية جئت إلى هنا؟»
أجاب المهرج: «لمساعدتكما على تحضير أنفسكما للموت.»
رد سيدريك: «مستحيل! لن يجرءوا على ارتكاب مثل هذه الوحشية!»
قال المهرج: «يا للأسف! إن محاولة منعهم بدافع مشاعرهم الإنسانية أشبه بمحاولة إيقاف جواد هارب بلجام مصنوع من خيط من الحرير. استحضرا إذن الخطايا التي ارتكبتماها؛ لأنكما ستدعيان في هذا اليوم نفسه للإجابة عنها أمام محكمة أعلى شأنا.»
قال سيدريك: «أسمعت هذا يا أثيلستان؟ يجب أن نحمس قلوبنا لهذا العمل الأخير؛ لأنه من الأفضل لنا أن نموت رجالا على أن نعيش كالعبيد. لنشرع في عملنا المقدس إذن أيها الأب.»
قال المهرج بنبرة صوته العادية: «انتظر لحظة أيها العم الطيب؛ فمن الأفضل أن تمعن النظر قبل أن تقدم على أمر لا تعلم عواقبه.»
قال سيدريك: «أقسم بإيماني إنني أعرف هذا الصوت!»
رد وامبا وهو ينزع عنه قلنسوة الراهب: «إنه صوت عبدك ومهرجك المخلص. لو كنت أخذت من قبل بنصيحة أحمق ما كنت ستصبح هنا من الأساس. فلتأخذ بنصيحة الأحمق الآن، ولن يطول بك الوقت هنا.»
رد الساكسوني: «ماذا تعني يا غلام؟»
رد وامبا: «أعني أن تأخذ ثوب الراهب والحبل هذين، وهما كل ما لدي من أغراض الكهنة، وتخرج بهدوء من القلعة، تاركا لي عباءتك وحزامك لآخذ مكانك في مصيرك المجهول.»
قال سيدريك مذهولا من اقتراحه: «أتركك لتأخذ مكاني! عجبا! سيشنقونك يا غلامي المسكين.»
قال وامبا: «فليفعلوا بي ما أرادوا.»
رد سيدريك: «حسنا يا وامبا، سألبي طلبك بشرط واحد، وهو أن تبادل ملابسك مع اللورد أثيلستان بدلا مني.»
رد وامبا: «لا وحق القديس دونستان. ليس هذا من الحكمة، وإن الحق في أن يعاني ابن ويتليس لإنقاذ ابن هيرورد، ولكن من قلة الحكمة أن يموت من أجل شخص كان آباؤه غرباء عن آبائه.»
واصل سيدريك قائلا: «دع الشجرة العجوز تذبل؛ حتى نحافظ على الأمل المهيب للغابة. أنقذ أثيلستان النبيل يا وامبا المخلص! إنه واجب كل من لديه دماء ساكسونية تجري في عروقه.»
قال أثيلستان ممسكا بيده: «هذا لن يكون، يا أبي سيدريك.» واستطرد: «هذا لن يكون؛ أفضل أن أبقى في هذه القاعة أسبوعا دون طعام أو شراب إلا طعام السجناء، على أن أنتهز فرصة للهرب أتاحها عبد جاهل لسيده بطيبته.»
قال المهرج: «إنكما رجلان معروفان بالحكمة يا سيدي، وأنا أحمق مجنون، ولكن يا عمي سيدريك، ويا ابن العم أثيلستان، إن الأحمق سيحسم هذا الجدل عنكما. إن الخدمة الكريمة لا يمكن تقاذفها من يد لأخرى كالكرة أو الدمية. لن أشنق إلا فداء لمن كان سيدي منذ مولدي.»
قال أثيلستان: «فلتذهب إذن أيها النبيل سيدريك؛ فوجودك في الخارج قد يشجع أصدقاءنا على إنقاذنا، وفي بقائك هنا هلاك لنا جميعا.»
قال سيدريك، ناظرا إلى المهرج: «وهل يوجد أي احتمال، إذن، في نجدة من الخارج؟»
رد وامبا: «ثمة احتمال بالفعل! دعني أخبرك أنك عندما ترتدي عباءتي فإنك بذلك تتدثر بمعطف قائد. يوجد خمسمائة رجل بالخارج، وقد كنت هذا الصباح أحد كبار قادتهم. حسنا، سنرى أي نفع يجنونه عندما نستبدل بالأحمق رجلا حكيما. وهكذا وداعا يا سيدي! ولتعلق حلية عرف الديك التي كنت أضعها في قبعتي في الردهة في روثيروود؛ تذكارا لتضحيتي بحياتي من أجل سيدي، كأحمق مخلص.»
خرجت الكلمة الأخيرة تحمل نوعا من الازدواج في التعبير بين المزاح والجد، وتجمدت الدموع في عيني سيدريك.
قال: «إن ذكراك ستبقى ما دام للإخلاص والمحبة قيمة على الأرض!»
كانا قد انتهيا حينئذ من تبادل ملابسهما، حين ساور سيدريك شعور مفاجئ بالشك.
قال: «لا أعرف أي لغة سوى لغتي وبضع كلمات من نورمانديتهم المتصنعة. كيف لي أن أتصرف كأخ موقر؟»
رد وامبا: «إن السحر يكمن في كلمتين اثنتين؛ فعبارة «سلام لكم» ستجيب عن كل الأسئلة. إذا ذهبت أو جئت، أكلت أو شربت، باركت أو لعنت، ستخرجك عبارة «سلام لكم» من كل ذلك. إن فائدتها للراهب كفائدة عصا المكنسة للساحرة. قلها ولكن بنبرة عميقة ووقورة هكذا: «سلام لكم!» إنها لا تقاوم.»
قال سيده: «إذا كانت هذه العبارة دليل كهنوتيتي، فسأحصل على رتبتي الدينية سريعا. سلام لكم. أنا واثق من أنني سأتذكر كلمة السر. وداعا أيها النبيل أثيلستان، ووداعا يا غلامي المسكين. سأنقذكما أو أرجع وأموت معكما. لن تسقط شعرة واحدة من رأس الغلام الطيب الذي خاطر بحياته من أجل سيده، إن تمكن سيدريك بتعريض نفسه للخطر من منع ذلك. وداعا.»
قال وامبا: «وداعا يا عمي، وتذكر «سلام لكم».»
الفصل الثالث والعشرون
عندما دخل فرونت دي بوف الغرفة التي كانت على الطراز القوطي، وجد قنينة من النبيذ على طاولة كبيرة من خشب البلوط، والأسيرين الساكسونيين في حراسة أتباعه. تجرع فرونت دي بوف جرعة كبيرة من النبيذ، ثم خاطب سجينيه؛ لأن الطريقة التي سحب بها وامبا القبعة على وجهه والتغير في الملبس والضوء المعتم والضعيف، وعدم تيقن البارون من ملامح سيدريك، كل ذلك منعه من اكتشاف أن أكثر أسيريه أهمية قد هرب.
قال فرونت دي بوف : «يا سيدي إنجلترا الباسلين، كيف تجدان ضيافتكما في توركويلستون؟ أقسم بالرب وبالقديس دينيس، إن لم تدفعا فدية كبيرة فسأعلقكما من أقدامكما! تكلما أيها الكلبان الساكسونيان، ماذا تدفعان مقابل حياتكما التي لا تساوي شيئا؟ ما قولك أنت، يا أوف روثيروود؟»
رد وامبا المسكين: «لن أدفع ولا حتى درهما واحدا. أما عن تعليقي من قدمي فإن دماغي، كما يقال، قد قلب رأسا على عقب، منذ ارتديت قلنسوتي أول مرة حول رأسي.»
قال فرونت دي بوف: «بحق القديسة جينفيف! ما الذي لدينا هنا؟»
وضرب قلنسوة سيدريك بظهر يده لتقع من فوق رأس المهرج، وفتح ياقته عن آخرها، فاكتشف علامة العبودية المشئومة، وهي الطوق الفضي حول عنقه.
صاح النورماندي الغاضب: «جايلز، كليمنت، أيها الكلاب والأوغاد! ماذا جلبتم لي هنا؟»
قال دي براسي الذي دخل الغرفة لتوه: «أظن أن بوسعي أن أخبرك. إن هذا هو مهرج سيدريك.»
رد فرونت دي بوف: «سيشنق إلا إذا دفع سيده وهذا الخنزير البري أوف كوننجزبيرج مبلغا كبيرا مقابل حياته.» ثم قال لاثنين من أتباعه: «اذهبا وابحثا عن سيدريك الحقيقي وأحضراه إلى هنا، وسأغفر لكما خطأكما هذه المرة؛ لأنكما أخطأتما وظننتما أن أحمق هو مالك ساكسوني.»
قال وامبا: «أجل، ولكنك يا صاحب السعادة النبيل ستجد أن الحمقى بيننا أكثر من الملاك.»
قال فرونت دي بوف: «ماذا يعني الوغد بقوله هذا؟»
صاح دي براسي بدهشة: «يا قديسي السماء! لا بد أنه قد هرب في ثياب الراهب!»
رد فرونت دي بوف: «يا شياطين الجحيم! لقد كان إذن خنزير روثيروود البري هو من أرشدته إلى الباب الخلفي، وسمحت له بالانصراف بنفسي!» ثم قال لوامبا: «أما أنت، فسأعطيك مرتبة كهنوتية مقدسة؛ سأحلق لك رأسك! هيا، ليقطعوا فروة رأسه، ثم اقذفوه رأسا على عقب من فوق الأسوار. إن صنعتك هي المزاح، فهل تستطيع المزاح الآن؟»
انهمر وامبا المسكين في النحيب قائلا: «أنت تتعامل معي بأفضل مما وعدت أيها الفارس النبيل، فإذا أعطيتني القلنسوة الحمراء التي تعتزم إعطاءها لي فإنك ستجعل من راهب بسيط كاردينالا .»
قال دي براسي: «إن البائس المسكين عازم على الموت وهو يمارس مهنته. لا تذبحه يا فرونت دي بوف، بل أعطني إياه لتسلية رفقائي الأحرار. ما قولك أيها الوغد؟ هل ستكون شجاعا وتذهب معي للحروب؟»
قال وامبا: «أجل، بعد إذن سيدي؛ لأنني كما ترى لا يحق لي أن أخلع الطوق (ولمس الطوق الذي يحيط بعنقه) دون إذنه.»
قال فرونت دي بوف: «يا له من عمل حسن، يا دي براسي، أن تقف هناك مستمعا لرطانة أحمق، بينما الهلاك محيق بنا!»
قال دي براسي: «إلى الأسوار إذن؛ فمتى رأيتني من قبل عابسا عند التفكير في المعارك!» وواصل حديثه مخاطبا أثيلستان: «تعال أيها الساكسوني، وتمالك نفسك وأخبرنا ما بوسعك أن تفعله مقابل أن تنال حريتك.»
رد أثيلستان: «أطلقا سراحي مع رفقائي، وسأدفع لكما فدية قدرها ألف مارك.»
قال فرونت دي بوف: «وستضمن لنا أيضا تراجع تلك الحثالة البشرية المحتشدة حول القلعة.»
رد أثيلستان: «سأحاول قدر استطاعتي أن أجعلهم ينسحبون.»
قال فرونت دي بوف: «اتفقنا إذن، سنطلق سراحك وسراحهم، ويعم السلام كلا الجانبين، مقابل ألف مارك، ولكن لاحظ أن هذا الاتفاق لا يشمل إيزاك اليهودي.»
قال فارس الهيكل الذي كان قد انضم إليهم عندئذ: «ولا ابنة إيزاك اليهودي.»
قال فرونت دي بوف: «كل منهما لا ينتمي إلى مجموعة الساكسوني هذه.»
رد أثيلستان: «ما كنت لأستحق أن أدعى مسيحيا لو كانوا كذلك؛ فلتفعلوا بالكافرين ما تشاءون.»
قال دي براسي: «ولا تشمل الفدية أيضا الليدي روينا. لن يقال أبدا إنني أكرهت بداعي الخوف على التخلي عن غنيمة حسناء دون أن أضرب ضربة واحدة من أجل الاحتفاظ بها.»
قال فرونت دي بوف: «ولا يسري اتفاقنا أيضا على هذا المهرج البائس.»
رد أثيلستان: «إن الليدي روينا هي عروسي المخطوبة لي، ولتسحلني الجياد البرية قبل أن أوافق على الافتراق عنها. واليوم أنقذ العبد وامبا حياة أبي سيدريك، وسأضحي بحياتي قبل أن تمس شعرة من رأسه.»
قال دي براسي: «الليدي روينا عروس مخطوبة لخانع مثلك؟! أقول لك إن أمراء بيت أنجو لا يرضون بزواج من هن تحت وصايتهم برجال من نسب كنسبك.»
رد أثيلستان: «إن نسبي، أيها النورماندي المتكبر، ينحدر من أصل أكثر نقاء وعراقة من نسب فرنسي حقير، يتكسب عيشه من بيع دماء اللصوص الذين يجمعهم تحت لوائه الوضيع. إن أسلافي كانوا ملوكا؛ أقوياء في الحرب وحكماء في الرأي، وكانوا يطعمون كل يوم في قاعاتهم مئات أكثر مما يمكنك عده من أتباعك.»
قال فرونت دي بوف: «لقد أفحمت، يا دي براسي؛ أصابك الساكسوني بإحكام.»
قال دي براسي: «بإحكام بقدر ما يمكن للأسير أن يصيب.» ثم أضاف (مخاطبا أثيلستان): «ولكن طلاقة لسانك، يا رفيقي، لن تحرر الليدي روينا.»
قطع الحديث وصول أحد الخدم، الذي أعلن أن الأخ أمبروز، وهو راهب من دير جورفولكس، يطلب الدخول من البوابة الخلفية.
وعلى ذلك صرف السجينان الساكسونيان بمجرد إدخال الراهب الذي بدا عليه القلق الشديد.
قال: «أيتها الأم المقدسة! لقد أصبحت في أمان أخيرا في حماية مسيحيين! أنتم أصدقاء وحلفاء لأبينا في الرب، المبجل آيمر، رئيس دير جورفولكس، وأنتم مدينون له بالمساعدة بدافع من إيمان الفرسان والبر المقدس؛ فلتعلموا أيها الفرسان البسلاء أن بعض الجبناء القتلة قد طرحوا وراء ظهورهم خشية الرب وتوقير كنيسته، و...»
قال فارس الهيكل: «أيها الأخ القس، كل ذلك نعلمه أو نخمنه، فأخبرنا بوضوح؛ هل أسر سيدك رئيس الدير؟ ومن أسره؟»
قال أثيلستان: «بالطبع، وهو في أيدي رجال الشيطان بليعال الذين اجتاحوا هذه الغابة.»
قال فرونت دي بوف ملتفتا إلى رفاقه: «ها هو سبب جديد لاستخدام سيوفنا يا سادة. أفصح أيها القس، وأخبرنا على الفور، ما الذي ينتظره سيدك منا؟»
قال أمبروز: «كما تشاء، لقد عومل سيدي الموقر معاملة قاسية على أيدي أشرار، وفوق ذلك يطالبونه بمبلغ كبير؛ لذلك فإن الأب الجليل يتوسل إليكم أن تنقذوه؛ إما بدفع الفدية التي يحتجزونه من أجلها، أو بقوة السلاح، حسبما ترون.»
قال فرونت دي بوف: «ليخمد الشيطان اللعين أنفاس رئيس الدير! متى سمع سيدك عن مالك نورماندي يفك كيس نقوده لينقذ أحد رجال الكنيسة الذي تزن أكياسه عشرة أمثال ما لدينا؟ وكيف يمكننا بأي حال أن نقوى على تحريره ونحن محاصرون هنا بعشرة أمثال عددنا؟!»
صاح دي براسي: «إلى الأسوار! ودعونا نراقب ماذا يفعل هؤلاء الأوغاد بالخارج.» وبعد أن قال ذلك فتح نافذة، وعلى الفور نادى على من في الغرفة قائلا: «بحق القديس دينيس! لقد جلبوا حواجز خشبية ودروعا كاملة، والرماة يتجمعون على أطراف الغابة كغيمة سوداء تنذر بعاصفة ثلجية.»
تطلع ريجينالد فرونت دي بوف أيضا إلى الحقل، وعلى الفور اختطف بوقه. وبعد أن نفخ نفخة طويلة وعالية أمر رجاله باتخاذ مواقعهم على الأسوار. «يا دي براسي، راقب الجهة الشرقية، حيث الجدران أكثر انخفاضا. وأنت أيها النبيل بوا جيلبرت، الذي علمتك صنعتك جيدا كيفية الهجوم والدفاع، راقب الجهة الغربية. أما أنا فسأتخذ موقعي على البرج الأمامي.»
صاح الأب أمبروز: «ولكن، أيها الفرسان النبلاء، أتوسل إليك أن تسمعني يا أيها السيد النبيل ريجينالد!»
قال النورماندي العنيف: «اذهب وتمتم بتوسلاتك للسماء؛ لأننا على الأرض ليس لدينا وقت لنستمع إليها.»
قال فارس الهيكل الذي كان في تلك الأثناء يتابع الأعمال التي يقوم بها المحاصرون: «انظروا كيف يستفيدون ببراعة من كل ساتر توفره لهم شجرة أو شجيرة، ويتجنبون تعريض أنفسهم لمرمى نشابنا؟ أراهن بسلسلتي الذهبية على أن من يقودهم هو فارس أو سيد من ذوي المهارة في أعمال الحروب.»
قال دي براسي: «إني أراه من بعيد. أرى اهتزاز خوذة فارس تهتز، وبريق درع. أرى هناك رجلا طويلا في زردية سوداء. أقسم بالقديس دينيس على أنه نفس الرجل الذي أطلقنا عليه اسم الكسول الأسود، الذي طرحك أرضا يا فرونت دي بوف في ساحة النزال بآشبي.»
قال فرونت دي بوف: «هذا أفضل كثيرا؛ إذ يعطيني مجيئه إلى هنا الفرصة للثأر منه.»
قطعت مظاهر الاقتراب السريع للعدو كل حديث آخر، فرجع كل فارس إلى موقعه، وعلى رأس الأتباع القلائل الذين تمكنوا من حشدهم، انتظروا في عزم ثابت الهجوم الوشيك.
الفصل الرابع والعشرون
عندما سقط إيفانهو، وبدا أن الجميع قد تخلوا عنه ، تمكنت ريبيكا بإلحاحها من إقناع أبيها أن ينقل المحارب الشاب من ساحة النزال إلى المنزل الذي كان اليهوديان آنذاك يقيمان فيه في ضواحي آشبي.
صاح إيزاك: «يا إبراهيم المقدس! إنه شاب صالح، وإن قلبي لينزف من رؤية الدم يسيل على سترته المطرزة الثمينة، ودرعه الباهظة الثمن، ولكن أنحمله إلى منزلنا؟! هل فكرت في الأمر جيدا يا فتاة؟ إنه مسيحي، ووفقا لشريعتنا لا يجوز لنا التعامل مع غريب من غير اليهود إلا لو كان لصالح تجارتنا.»
أجابت ريبيكا: «لا تقل هذا يا أبي العزيز؛ ففي الجراح والمآسي يصبح غير اليهودي أخا لليهودي. دعهم يضعوه في محفتي، وسأمتطي أنا أحد الخيول.»
قال إيزاك هامسا: «إن ذلك يعرضك لنظرات كلاب بني إسماعيل وإدوم. بحق لحية هارون! ماذا لو هلك الشاب؟! إن مات وهو في عهدتنا أفلن يحملنا الناس مسئولية دمه، ويقطعوننا إربا؟»
قالت ريبيكا: «لن يموت يا أبي. لن يموت إلا إذا تخلينا عنه، وإن حدث ذلك فسنكون بالفعل مسئولين عن دمه أمام الرب وأمام الناس.»
قال إيزاك: «كلا، إنه ليحزنني كثيرا أن أرى قطرات دمه، كما لو كانت قطعا بيزنطية ذهبية كثيرة تتساقط من كيس نقودي، وأعلم تمام العلم أن دروس ميريام جعلتك ماهرة في فن المداواة؛ لذلك فلتفعلي ما يمليه عليك عقلك.»
لم تضع ريبيكا الوقت، وعلى الفور نقلت المريض إلى مسكنهم المؤقت، وباشرت بيديها فحصه وتضميد جراحه. كان اليهود، رجالا ونساء، يعرفون العلوم الطبية بفروعها كافة ويمارسونها، وكانت قد نشئت بعناية على تعلم جميع المعارف التي تميز بها قومها، والتي تلقتها على يد يهودية عجوز تدعى ميريام. كان إيفانهو لا يزال فاقدا للوعي، وبعد أن وضعت ريبيكا على جرحه العلاجات الشافية وفق ما ينص عليه ما تعلمته من أصول الطب، أخبرت والدها أنه إذا كان الدهان المعالج لميريام لا يزال يحتفظ بخواصه فلا خوف على حياة ضيفه، وأن بإمكانه السفر آمنا معهما إلى يورك في اليوم التالي.
لم يستعد إيفانهو وعيه من الحالة التي كان عليها إلا في الهزيع الأخير من الليل. وعندما أفاق من نومه المتقطع، لشد ما كانت دهشته أن وجد نفسه في غرفة فاخرة الأثاث، ولكن كان بها وسائد ليستريح الناس عليها بدلا من المقاعد، وكانت في نواح أخرى تشبه كثيرا الطراز الشرقي، حتى إنه بدأ يشك فيما إذا كان قد نقل مرة أخرى إلى فلسطين في أثناء نومه. زاد هذا الانطباع عندما انزاح الستار المزخرف عن امرأة ترتدي ثيابا فاخرة أقرب إلى الذوق الشرقي منها إلى الأوروبي، مرت عبر الباب، الذي كان الستار يحجبه، يتبعها خادم أسمر.
وعندما هم الفارس الجريح بمخاطبة هذا الطيف الجميل، فرضت عليه الصمت بأن وضعت إصبعها الرشيقة على شفتيها الياقوتيتين، بينما اقترب الخادم منه وشرع في الكشف عن جانب إيفانهو، وتأكدت اليهودية الحسناء أن الضمادة كانت في موضعها، وأن الجرح يتحسن. في صمت تركهما إيفانهو يتخذان التدابير التي اعتقدا أنها الأنسب لتعافيه. وعندما كانت الطبيبة الطيبة على وشك الانصراف لم يستطع كبح جماح فضوله أكثر من ذلك. بدأ حديثه بلسان عربي قائلا: «أيتها الفتاة الرقيقة، أرجو من كرم أخلاقك أيتها الفتاة الرقيقة ...» «أنا إنجليزية يا سيدي الفارس، وأتحدث بلسان إنجليزي، مع أن ملبسي ونسبي ينتميان إلى منطقة أخرى.»
شرع الفارس إيفانهو في الحديث مرة أخرى قائلا: «أيتها الفتاة النبيلة ...»
قالت ريبيكا: «لا تغدق علي يا سيدي الفارس بلقب النبيلة. واعلم أن خادمتك يهودية فقيرة، ابنة إيزاك أوف يورك ذلك الذي كنت له منذ وقت قريب جدا سيدا طيبا وعطوفا. إنه لمن دواعي سروره هو وأهل بيته أن يقدموا لك الرعاية الدقيقة التي تتطلبها حالتك الحالية.»
لا أعلم إن كانت روينا الحسناء سترضى عن ذلك النوع من المشاعر التي كان فارسها المخلص ينظر بها حينئذ إلى الجميلة ريبيكا، لكن إيفانهو كان كاثوليكيا شديد التدين، وما كان من الممكن أن يكن المشاعر نفسها ليهودية. وعلى الفور، حل محل نظرة الإعجاب المشوب بالاحترام، التي لا تخلو من الرقة، التي كان ينظر بها في تلك اللحظة إلى محسنته المجهولة، نظرة باردة وهادئة تنم عن رباطة جأشه .
ومع ذلك، فلم تنسب طبيعة ريبيكا المتسمة بالدماثة والصدق أي خطأ إلى إيفانهو؛ لانخراطه في صور الإجحاف السائدة بين أبناء عصره ودينه. أعلمته بضرورة رحيلهم إلى يورك، وبقرار أبيها بنقله إلى هناك ورعايته في منوله حتى يستعيد عافيته. أبدى إيفانهو امتعاضا شديدا من هذه الخطة، وكان مبعث هذا الامتعاض عدم رغبته في أن يتسبب في مزيد من العناء لمن أحسنوا إليه.
قال: «ألم يكن في آشبي أو بالقرب منها سيد ساكسوني، أو حتى فلاح غني، يمكنه تحمل عبء إقامة جريح من بني جلدته حتى يقوى مرة أخرى على ارتداء درعه؟ ألم يكن يوجد أحد أديرة الصدقة الساكسونية الذي كان يمكن أن يأوي إليه؟»
قالت ريبيكا بابتسامة يشوبها الحزن: «أيا يكن، فلا شك في أن أسوأ هذه الأماكن كان سيغدو أنسب لك من الإقامة في منزل يهودي محتقر، ولكن يا سيدي الفارس لا يمكنك تغيير مكان مقامك إلا إذا تخليت عن طبيبك. إن قومنا، كما تعلم جيدا، يستطيعون مداواة الجروح، مع أننا لا نتسبب فيها. وما من نصراني، عذرا أيها السيد الفارس، ما من طبيب مسيحي في بحار بريطانيا الأربعة يستطيع أن يجعلك تقوى على ارتداء درعك في غضون شهر واحد.»
قال إيفانهو بفروغ صبر: «ومتى ستمكنينني من أن أقوى على ارتدائه؟»
أجابت ريبيكا: «في غضون ثمانية أيام، إذا كنت صبورا وممتثلا لتعليماتي.»
قال ويلفريد: «أقسم بسيدتنا المباركة، إن لم يكن من الإثم أن أذكر اسمها هنا، أن الوقت ليس ملائما لي، أو لأي فارس حق، لأن يلازم الفراش، وإن وفيت بوعدك أيتها الفتاة فسأدفع لك ملء خوذتي قطعا فضية، بقدر ما يتسنى لي أن أجمع.»
قالت ريبيكا: «سأفي بوعدي، وستقوى على ارتداء درعك في اليوم الثامن من الآن، إن منحتني عطية واحدة فقط، عوضا عن الفضة التي تعدني بها.»
أجاب إيفانهو: «إن كان في مقدوري، وكانت من العطايا التي يمكن لفارس مسيحي مخلص أن يقدمها لقومك، فسأمنحها لك مسرورا وشاكرا.»
ردت ريبيكا: «كل ما أرجوه منك أن تؤمن من الآن فصاعدا أن بوسع اليهودي أن يحسن للمسيحي، دون رغبة في مكافأة إلا بركة الآب العظيم الذي خلق اليهود وغير اليهود.»
رد إيفانهو: «إنها لخطيئة أن يشك المرء في ذلك يا فتاة، وسأستودع نفسي بين يدي مهارتك دون مزيد من الشك أو الأسئلة، وأنا على ثقة من أنك ستمكنينني من أن أقوى على ارتداء درعي في اليوم الثامن. والآن، يا طبيبتي الطيبة، فلتطلعيني على الأنباء بالخارج. ما بال الساكسوني النبيل سيدريك وذويه؟ وماذا عن الليدي الجميلة ...» توقف كما لو كان لا يرغب في أن يتلفظ باسم روينا في منزل يهودي، واستطرد قائلا: «أعني من لقبت بملكة المباراة؟»
أجابت ريبيكا: «والتي اخترتها أنت يا سيدي الفارس كي تنال هذا المقام، بحصافة أعجب بها الناس بقدر ما أعجبوا ببسالتك.»
قال: «إن رغبتي في الحديث عنها ليست بقدر ما أرغب في الحديث عن الأمير جون. وإن مما يبعث السرور في نفسي أن أعرف بعض الأخبار عن تابعي المخلص، ولماذا ليس برفقتي الآن؟»
ردت ريبيكا: «دعني أستخدم سلطتي كطبيبة، وأوصيك بأن تلزم الصمت، وتتجنب الأفكار المثيرة، بينما أعلمك بما تريد أن تعرف. أنهى الأمير جون المباراة قبل موعدها، وانطلق بكل سرعته إلى يورك ومعه النبلاء والفرسان ورجال الكنيسة من حزبه، بعدما جمعوا من المبالغ ما تمكنوا من انتزاعه، بوسائل نزيهة أو غير نزيهة، من أولئك الذين يعتبرون أثرياء البلاد. ويقال إنه يخطط للاستيلاء على تاج أخيه.»
قال إيفانهو، وهو ينهض على الأريكة: «لن يحدث ذلك من دون توجيه ضربة واحدة دفاعا عنه، وإن لم يكن في إنجلترا سوى شخص مخلص واحد. سأقاتل أفضل من في البلاد من أجل الدفاع عن لقب ريتشارد. أجل، حتى وإن لم يكن معي سوى شخص أو شخصين، في نزاعه العادل.»
قالت ريبيكا وهي تلمس كتفه بيدها: «ولكن لكي تتمكن من فعل ذلك، عليك الآن أن تتبع تعليماتي وتركن إلى السكينة.»
قال إيفانهو: «صحيح أيتها الفتاة، يجب أن أركن إلى السكينة بقدر ما تسمح لي هذه الأوقات المضطربة. وماذا عن سيدريك ومن معه؟» «علمت أن سيدريك وأثيلستان أوف كوننجزبيرج كانا على وشك الرحيل في طريق عودتهما إلى الديار، مع الليدي روينا. أما عن تابعك المخلص جيرث ...»
صاح الفارس: «عجبا! أتعلمين اسمه؟» ثم أضاف على الفور: «ولكن لا بد من أنك تعرفينه؛ لأنه، حسب اعتقادي، قد تلقى من يديك ومن روحك الكريمة مائة قطعة ذهبية أمس.»
قالت ريبيكا وقد توردت وجنتاها بشدة: «لا تتحدث في ذلك الأمر؛ فأنا أرى كم هو سهل على اللسان أن يخون ما يسعد القلب أن يخفيه.»
قال إيفانهو بجدية: «ولكنني ملزم، بداع من شرفي، برد هذا القدر من الذهب إلى أبيك.»
قالت ريبيكا: «ليكن ما تشاء، عندما تمر الأيام الثمانية، ولكن دع عنك التفكير والحديث الآن في أي شيء قد يؤخر شفاءك.»
قال إيفانهو: «يبدو أنه قد قدر لي أن أجلب الخراب على كل من يظهر طيبته لي؛ فملكي الذي شرفني وميزني ها أنت ترين أخاه، أكثر شخص مدين له، يمد يده لاغتصاب تاجه، وكيف أن الأجمل بين بنات جنسها قد صارت في ضيق ومتاعب لأنها أولتني اهتمامها. تحلي بالحكمة، واتركيني أذهب قبل أن تشملك أنت أيضا البلايا التي تلاحقني ككلاب الصيد.»
قالت ريبيكا: «كلا، لقد استدعيت إلى وطنك عندما كان في أمس الحاجة إلى عون يد قوية وقلب مخلص، وقد أذللت كبرياء أعدائك وأعداء ملكك عندما كانوا في ذروة تعاليهم؛ لذلك عليك أن تتحلى بالشجاعة، وبعد أن تتناول الدواء الذي سأرسله إليك على يد روبن، اخلد للراحة مجددا.»
الفصل الخامس والعشرون
اقتنع إيفانهو بهذا المنطق، وأطاع تعليمات ريبيكا. وفي الصباح، وجدته طبيبته الطيبة وقد شفي تماما من أعراض الحمى، وأصبح قادرا على تحمل مشقة الرحلة.
وضع في محفة الخيول التي كانت قد أتت به من ساحة النزال، واتخذت جميع الاحتياطات لكي يكون سفره مريحا، ولكن إيزاك وضع الخوف من السرقة نصب عينيه؛ ومن ثم سافر مسرعا في مسيره، وكان يتوقف وقفات قصيرة، ويجعل وقت تناول وجبات الطعام أقصر، حتى إنه مر بسيدريك وأثيلستان اللذين كانا قد سبقاه في سفرهم بساعات عدة. وكانت السرعة التي أصر عليها في سفره قد أدت إلى مشاحنات عديدة بينه وبين أولئك الذين كان قد استأجرهم لحراسته. وكانت النتيجة أنه عندما أصبح الخطر وشيكا تخلى عنه المرتزقة الساخطون الذين كان قد اعتمد على حمايتهم.
في هذه الحالة البائسة وجد سيدريك اليهودي ومعه ابنته ومريضها الجريح، كما سبق أن ذكرنا، وسرعان ما وقعوا بعد ذلك في قبضة دي براسي وأعوانه. كانت دهشة دي براسي كبيرة عندما اكتشف أن المحفة تضم رجلا جريحا تصور أنه وقع في قبضة الخارجين عن القانون الساكسونيين، واعتقد أن اسمه قد يمثل حماية له ولأصدقائه لديهم، فجهر لهم بأنه ويلفريد أوف إيفانهو.
عندما وصلوا إلى توركويلستون، وبينما كان فارس الهيكل وسيد تلك القلعة عازمين كل منهما على تنفيذ خططه الخاصة، فأحدهما كان يطمع في كنز اليهودي والآخر في ابنته، نقل مساعدو دي براسي إيفانهو، تحت اسم الرفيق الجريح، إلى غرفة بعيدة. وهنا انتقلت مسئوليته إلى أورفريد، أو أولريكا، كما كانت تدعى حقا، ولكن إذ كان عقلها يستعر بذكرى ما قاسته من إيذاء وبالآمال في الانتقام، اقتنعت بسهولة بأن تتولى ريبيكا أمر الاعتناء بمريضها.
عندما وجدت ريبيكا نفسها مرة أخرى إلى جوار إيفانهو، شعرت بالدهشة من إحساسها بالسعادة الشديدة. وعندما كانت تتحسس نبضه وتسأله عن صحته، كانت ثمة نعومة في لمستها ونبرات صوتها، ينمان عن اهتمام أكثر حنوا مما قد يسرها التعبير عنه طواعية، ولكن جاء السؤال الذي كان يتسم بالبرود من إيفانهو حين قال «أهذه أنت أيتها الفتاة الكريمة؟» ليجعلها تتمالك نفسها. وكانت الأسئلة التي سألتها للفارس حول حالته الصحية بنبرة تنم عن صداقة هادئة. أجابها إيفانهو بأنه أصبح بصحة جيدة كما توقع، بل أفضل مما توقع، قائلا: «شكرا يا عزيزتي ريبيكا على مهارتك النافعة.»
قالت الفتاة لنفسها: «إنه يدعوني عزيزتي ريبيكا، ولكن بنبرة فاترة ولا مبالية لا تتناسب مع الكلمة. إن جواد حربه وكلب صيده أعز عليه من اليهودية المحتقرة!»
استطرد إيفانهو قائلا: «إن أثر الكدر الذي يعتري ذهني بفعل القلق يفوق، أيتها الفتاة الكريمة، أثر الألم الذي يعتري جسدي. ومن أحاديث هؤلاء الرجال الذين كانوا يحرسونني قبل قليل، أعرف أنني سجين في قلعة فرونت دي بوف. وإن كان ذلك صحيحا، فكيف سينتهي ذلك الأمر، أو كيف يمكنني حماية روينا وأبي؟»
قالت ريبيكا بينها وبين نفسها: «إنه لا يذكر اليهودي أو اليهودية، ولكن أي نصيب لنا فيه، وكم كان عقاب السماء عادلا على تركي لأفكاري تسترسل بشأنه!» ثم أسرعت في إعطاء إيفانهو المعلومات التي كان بإمكانها أن تخبره بها، ولكنها لم تزد على أن فارس الهيكل بوا جيلبرت والبارون فرونت دي بوف كانا هما القائدين داخل القلعة، التي كان يحاصرها من الخارج أناس لا تعرفهم.
تزايدت داخل القلعة الضوضاء التي كانت ناجمة عن التجهيزات الدفاعية التي كانت شديدة لبعض الوقت، لتصبح عشرة أمثالها في الصخب والجلبة. وسمعت أصوات الفرسان وهم يستحثون أتباعهم أو يوجهون وسائل دفاعهم، لكن أصوات اصطدام الدروع أو الصيحات الصاخبة لمن يخاطبونهم كانت كثيرا ما تطغى على أوامرهم. توقدت عينا ريبيكا عندما رددت، فيما يشبه الهمس لنفسها، النص المقدس: «عليه تصل السهام ... سنان الرمح والمزراق ... صياح القواد والهتاف!»
كانت نفس إيفانهو تستعر بنفاد صبر ضيقا من خموله، وبرغبته المحتدمة في الاشتراك في القتال.
قال: «ليت بوسعي أن أجر نفسي إلى تلك النافذة هناك، فأتمكن من رؤية كيف تسير هذه المباراة الشجاعة. لا جدوى، لا جدوى؛ فأنا خائر القوى وأعزل!»
أجابت ريبيكا: «لا تقلق أيها الفارس النبيل؛ فقد توقفت الأصوات فجأة. من المحتمل ألا يكونوا قد انخرطوا في القتال.»
قال ويلفريد: «إنك لا تعرفين شيئا عن الأمر. إن هذا السكون المطبق لا يدل إلا على أن الرجال في مواقعهم على الأسوار في انتظار هجوم عاجل؛ ما سمعناه لم يكن سوى دمدمة لحظية للعاصفة، وستندلع قريبا بكامل ضراوتها. ليتني أستطيع الوصول إلى تلك النافذة!»
أجابت مرافقته: «لن يصيبك إلا الأذى إن حاولت ذلك، أيها الفارس النبيل. سأقف أنا بنفسي عند النافذة وأصف لك ما يحدث بالخارج قدر استطاعتي.»
صاح إيفانهو: «يجب ألا تفعلي ذلك، لا تفعلي ذلك! فكل نافذة وكل ثقب سيغدو قريبا مرمى للرماة. إن سهما طائشا ...»
تمتمت ريبيكا وهي تخطو بخطى ثابتة صاعدة درجتين أو ثلاث درجات، كانت تؤدي إلى النافذة التي تحدثا عنها: «سأتلقاه على الرحب!»
صاح إيفانهو: «ريبيكا، عزيزتي ريبيكا! لا تعرضي نفسك للجراح والموت. على الأقل اتخذي ساترا بهذا الترس القديم هناك، ولا تظهري من جسدك عبر النافذة سوى القليل قدر المستطاع.»
اتبعت ريبيكا بحماسة مذهلة تعليمات إيفانهو، ومستفيدة بحماية الدرع القديم الكبير الذي وضعته أمام الجزء الأدنى من النافذة، استطاعت، آمنة نوعا ما، أن تشهد جزءا مما يحدث خارج القلعة، وأخبرت إيفانهو بالتجهيزات التي يتخذها المهاجمون استعدادا للعاصفة. ونظرا لأنها كانت تقف في إحدى زوايا المبنى الرئيس، فلم تتمكن من رؤية ما يحدث خارج حدود القلعة فحسب، بل أطلت أيضا على التحصينات الخارجية التي كان من المحتمل أن تكون الهدف الأول للهجوم المأمول. ضمن التحصينات الخارجية كان ثمة باب صغير مشابه للباب الخلفي للقلعة، وكان كل شيء محاطا بسياج قوي من الأوتاد الخشبية. تمكنت ريبيكا من أن تلاحظ من عدد الرجال المتمركزين للدفاع عن هذا الموقع أن المحاصرين كانوا يخشون على سلامته.
وصفت تلك المظاهر بسرعة لإيفانهو، وأضافت قائلة: «يبدو أن الرماة قد اصطفوا على أطراف الغابة، مع أنه لم يتقدم من ظلالها الداكنة إلا قلة منهم.»
سأل إيفانهو: «تحت أي لواء؟»
أجابت ريبيكا: «ليسوا تحت أي راية من رايات الحرب التي يمكنني أن أميزها.»
إيفانهو وريبيكا تطببه، بريشة أدولف لالوز.
غمغم الفارس قائلا: «إنها لبدعة فريدة أن يتقدم أحد لمهاجمة قلعة كهذه دون رفع علم أو راية! هل ترين من يقودونهم؟»
قالت اليهودية: «فارس متشح بدرع أسود. هذا هو أكثرهم وضوحا. وهو وحده الذي يلبس الدروع من رأسه حتى أخمص قدميه، ويبدو متوليا لأمر توجيه جميع من حوله.»
رد إيفانهو: «ما الشعار الذي يضعه على درعه؟» «شيء يشبه قضيبا من الحديد وقفلا مطليين باللون الأزرق على الدرع الأزرق.»
قال إيفانهو : «قيد وقفل باللون الأزرق؛ لا أعرف أحدا يحمل هذا الشعار، ولكني أظن أنه قد يكون شعاري الحالي. ألا يمكنك رؤية نص الشعار؟»
أجابت ريبيكا: «تصعب رؤية الشعار نفسه من هذه المسافة، ولكن عندما تنعكس أشعة الشمس جيدا على درعه تظهر ما أخبرتك به. يبدو أنهم يستعدون الآن للتقدم. يا إله صهيون، احمنا! يا له من منظر مروع! أولئك الذين يتقدمون أولا يحملون دروعا ضخمة وواقيات مصنوعة من ألواح خشبية، يتبعهم الآخرون وهم يشدون أقواسهم وهم يتقدمون. إنهم يرفعون أقواسهم! يا إله موسى، اغفر لخلقك الذين خلقت!»
فجأة قاطعت عندئذ وصفها إشارة بالهجوم أعطيت بنفخة نفير حادة، أجابتها على الفور أصوات أبواق فرسان الهيكل النورمانديين من فوق الأسوار. وزاد صياح كلا الطرفين من الضجيج المروع؛ إذ كان المهاجمون يصيحون قائلين: «القديس جورج مع إنجلترا البهيجة!» ويرد عليهم النورمانديون بصيحات عالية قائلين: «إلى الأمام يا دي براسي! حي على الجهاد! حي على الجهاد! فرونت دي بوف آت للنجدة!» بحسب صيحات الحرب لقادتهم المختلفين.
الفصل السادس والعشرون
أطلق الرماة سهامهم «كلهم معا»، حسب التعبير المناسب لذلك العصر، حتى إن أقل موضع كان يظهره أحد المدافعين من جسده لم يكن يفلت من سهامهم التي كان الواحد منها بطول ياردة من القماش. بهذا الوابل المستمر قتل اثنان أو ثلاثة من حامية القلعة، وجرح عدة آخرون، ولكن أتباع فرونت دي بوف وحلفاءه، واثقين من دروعهم المشهود بقوتها وتحملها، ومن الحماية التي وفرها لهم موقعهم، أظهروا صلابة في الدفاع تناسبت مع ضراوة الهجوم. لم يقطع أزيز السهام والقذائف من كلا الجانبين إلا الصيحات التي كانت تعلو عندما يلحق أي من الطرفين بالطرف الآخر خسارة كبيرة، أو يصيبه من الطرف الآخر خسارة ملموسة.
صاح إيفانهو: «وها أنا ذا مجبر على أن أستلقي هنا كراهب طريح الفراش، بينما المعركة التي تمنحني الحرية أو الموت تخوضها أيادي أناس آخرين! انظري من النافذة مرة أخرى أيتها الفتاة الطيبة، ولكن احرصي على ألا يلاحظك الرماة بالأسفل. انظري منها مرة أخرى وأخبريني عما إذا كانوا لا يزالون يتقدمون للهجوم. ماذا ترين يا ريبيكا؟» «لا شيء سوى غيمة شديدة الكثافة من سهام طائرة لدرجة أنها تحجب الرؤية عن عيني، وتخفي الرماة الذين يقذفونها.»
قال إيفانهو: «لا يمكن لذلك أن يستمر. إن لم يهجموا على الفور ليحملوا على القلعة بقوة السلاح الخالصة، فقد لا تجدي الرماية إلا قليلا في مواجهة الجدران الحجرية والمتاريس. ابحثي عن الفارس ذي شعار القفل والقيد أيتها الحسناء ريبيكا، وانظري كيف يتصرف؛ فكيفما يكن القائد يكن أتباعه.»
قالت ريبيكا: «أنا لا أراه.»
صاح إيفانهو: «الجبان الأحمق! أيحجم عن توجيه الدفة عندما يكون هبوب الريح على أشده؟»
قال ريبيكا: «لا يحجم! لا يحجم! إني أراه الآن. إنه يقود مجموعة من الرجال الذين يقتربون من الحاجز الخارجي للحصن. إنهم يقوضون الدعائم وسياج الأوتاد الخشبية، ويحطمون الحواجز بالفئوس. إن ريشته السوداء المرتفعة تنساب أعلى الحشد، كغراب يحوم فوق حقل من القتلى. لقد أحدثوا خرقا في الحواجز - إنهم يندفعون من خلاله - لقد دفعوا للخلف! رونت دي بوف يقود المدافعين؛ أرى جسده الضخم فوق الحشد. إنهم يحتشدون مرة أخرى نحو الخرق، ويتنازعون الممر يدا ليد، ورجلا لرجل. يا إله يعقوب! إنها كمواجهة بين موجتين عاتيتين، نزاع بين محيطين تحركه رياح متعاكسة!»
أشاحت برأسها عن النافذة كما لو كانت لم تعد قادرة على تحمل مرأى مشهد بتلك الفظاعة.
قال إيفانهو، وقد أخطأ تأويل سبب تراجعها: «تطلعي مرة أخرى يا ريبيكا. لا بد وأن الرماية قد توقفت بعض الشيء؛ لأنهم الآن يتقاتلون بالأيدي. انظري مرة أخرى؛ فالخطر الآن أقل.»
نظرت ريبيكا مرة أخرى للأمام، وعلى الفور تقريبا صاحت قائلة: «يا أنبياء الناموس المقدسين! إن فرونت دي بوف والفارس الأسود يتقاتلان يدا بيد عند الخرق وسط زئير أتباعهما الذين يراقبون سير الصراع، إن السماء تضرب إلى جانب المظلوم والأسير!» ثم أطلقت صرخة عالية، وصاحت قائلة: «لقد سقط! لقد سقط!»
صاح إيفانهو: «من الذي سقط؟ كرامة لسيدتنا الغالية، أخبريني من منهما الذي سقط؟»
أجابت ريبيكا بصوت واهن: «الفارس الأسود .» ثم على الفور عادت تصيح بحماسة يملؤها البهجة: «ولكن لا! ولكن لا! ليتبارك اسم رب الجنود! إنه يقف على قدميه مرة أخرى ويقاتل كما لو كان في ذراعه الواحد قوة عشرين رجلا، قد كسر سيفه، إنه يختطف بلطة من أحد الجنود، ها هو ينقض على فرونت دي بوف ويوجه له ضربة تلو أخرى، العملاق ينحني ويترنح كشجرة بلوط تترنح تحت ضربات فأس حطاب من الصلب، لقد سقط، لقد سقط!»
صاح إيفانهو: «فرونت دي بوف؟»
أجابت اليهودية: «أجل، فرونت دي بوف! ورجاله يسرعون لنجدته، وعلى رأسهم فارس الهيكل المتكبر. إن قوتهم الموحدة تجبر البطل على التوقف، إنهم يسحبون فرونت دي بوف إلى داخل الأسوار.»
قال إيفانهو: «لقد استولى المهاجمون على الحواجز، أليس كذلك؟»
صاحت ريبيكا: «لقد فعلوا، لقد فعلوا! ويهاجمون المحاصرين بقوة فوق الجدار الخارجي؛ بعضهم يثبت السلالم، والبعض الآخر يحتشد كسرب النحل، ويحاولون الصعود فوق أكتاف بعضهم بعضا، تتساقط الحجارة، والعارضات الخشبية وجذوع الأشجار فوق رءوسهم، وبالسرعة ذاتها التي يحملون بها الجرحى للخلف يحل محلهم في الهجوم رجال جدد. يا إلهي العظيم! أجعلت الرجال على صورتك كي تشوه بهذه القسوة على أيدي إخوتهم؟!»
قال إيفانهو: «لا تفكري في ذلك؛ فهذا ليس وقت مثل هذه الأفكار. أي الفريقين يستسلم؟ وأيهما يشق طريقه؟»
أجابت ريبيكا مرتعدة: «إنهم يسقطون السلالم، والجنود يسقطون منبطحين أسفلها كزواحف مسحوقة، إن الغلبة للمحاصرين.»
صاح الفارس: «ليضرب القديس جورج من أجلنا! هل تراجع الجنود الزائفون؟»
صاحت ريبيكا: «لا! إنهم يتصرفون كالجنود البسلاء؛ الفارس الأسود يقترب من البوابة الخلفية ببلطته الضخمة، يمكنك سماع ضرباته التي تدوي كالرعد تعلو جميع ضجيج المعركة وصياحها؛ الحجارة والعوارض الخشبية ترمى كالوابل على البطل الجريء، وهو لا يعيرها انتباها كما لو كانت زغبا أو ريشا!»
منظور عين طائر لقلعة، يبين الأجزاء المختلفة المذكورة في وصف حصار قلعة توركويلستون، الذي يمثل الرسم تصورا تخيليا له. صورة صغيرة أسفل يمين الصفحة: الجسر المتحرك عند رفعه.
قال إيفانهو: «بحق القديس جون قديس عكا، كنت أظن أنه لا يوجد سوى رجل واحد في إنجلترا يمكنه فعل شيء كهذا!»
تابعت ريبيكا قائلة: «إن البوابة الخلفية تهتز. إنها تتحطم. إنها تتحول إلى شظايا بفعل ضرباته. إنهم يندفعون إلى الداخل. لقد استولوا على الحصن الخارجي - يا إلهي! - إنهم يلقون بالمدافعين من فوق الأسوار، إنهم يقذفون بهم في الخندق، يا رجال، إن كنتم رجالا حقا، فاصفحوا عمن لم يعد بإمكانهم المقاومة!»
صاح إيفانهو: «الجسر - الجسر الموصل إلى القلعة - هل استولوا على ذلك المعبر؟»
أجابت ريبيكا: «كلا، لقد حطم فارس الهيكل اللوح الخشبي الذي مروا عليه، قلة من المدافعين هربوا معه إلى داخل القلعة، الصرخات والصيحات التي تسمعها تنبئ بمصير الآخرين، وا أسفاه! أرى أن النظر إلى النصر لا يزال أصعب من النظر على المعركة.»
قال إيفانهو: «ماذا يفعلون الآن يا فتاة؟ تطلعي مرة أخرى، هذا ليس وقت الإغماء من منظر الدماء المراقة.»
أجابت ريبيكا: «لقد انتهى الأمر الآن، وأصدقاؤنا يدعمون أنفسهم داخل التحصينات الخارجية التي سيطروا عليها، والحامية لا تطلق عليها إلا بضعة سهام بين حين وآخر.»
قال ويلفريد: «إن أصدقاءنا بالتأكيد لن يتخلوا عن مهمة بدأت بعمل مجيد كهذا، وتحققت بمثل هذا التوفيق. كلا! سأولي ثقتي للفارس الطيب الذي حطمت بلطته قلب خشب البلوط والقضبان الحديدية، قفل وقيد على لوحة سوداء؛ ماذا قد يعني ذلك؟ ألا ترين شيئا آخر، يا ريبيكا، يمكن منه تمييز الفارس الأسود؟»
قالت اليهودية: «لا شيء؛ فكل ما فيه أسود كجناح غراب الليل. لا يمكنني أن أرى شيئا يميزه أكثر، ولكن نظرا لأنني قد رأيته مرة يستخدم قوته في المعركة، فأظن أنه يمكنني أن أتعرف عليه مجددا من بين ألف محارب، إنه أمر مروع، لكنه مذهل، أن تشهد كيف يمكن لذراع وقلب رجل واحد أن ينتصرا على مئات الرجال.»
قال إيفانهو: «لقد صورت بطلا يا ريبيكا. من المؤكد أنهم يركنون إلى الراحة، ولكن لاستعادة قوتهم، أو لإعداد وسيلة لعبور الخندق. أقسم بشرف عائلتي، أقسم باسم محبوبتي الحسناء، إنني قد أحتمل أن أبقى في الأسر لعشر سنوات مقابل أن أقاتل ليوم واحد إلى جانب ذلك الفارس الطيب في معركة كهذه!»
قالت ريبيكا، تاركة موقعها عند النافذة، ومقتربة من أريكة الفارس الجريح: «وا أسفاه! هذا الاشتياق النافد الصبر للنشاط سيؤذي صحتك التي تتماثل للشفاء، كيف يمكنك أن تأمل أن تصيب الآخرين بجراح قبل أن تشفى من تلك التي أصبت بها؟»
رد قائلا: «يا ريبيكا، أنت لا تعلمين كم هو محال على شخص مدرب على أعمال الفروسية أن يظل سلبيا كقسيس أو امرأة، بينما يمارس آخرون أفعال الشرف من حوله. إن حب القتال هو الغذاء الذي نحيا به.»
قالت اليهودية الحسناء: «وا حسرتاه! وما الذي يمثله هذا، أيها الفارس الشجاع، سوى قربان لشيطان المجد الزائف؟ ما الذي يتبقى جزاء لك عن كل الدم الذي أرقته؟»
صاح إيفانهو: «ما الذي يتبقى؟ المجد يا فتاة، المجد! الذي يطلي بالذهب قبورنا ويخلد أسماءنا.»
استطردت ريبيكا: «المجد؟ وا أسفاه! وهل سترة الزرد الصدئة التي تتدلى كشعار نبالة على قبر عفن يدفن فيه البطل مكافأة كافية مقابل التضحية بكل عاطفة طيبة، مقابل حياة بائسة تعيشها كي تجعل من الآخرين تعساء؟»
رد الفارس بنفاد صبر: «بحق روح هيرورد! إنك، يا فتاة، تتحدثين عما لا تعرفينه. أنت لست مسيحية يا ريبيكا، ولا تعرفين تلك المشاعر السامية التي تنعش صدر فتاة نبيلة عندما يؤدي محبوبها عملا من أعمال البطولة يؤكد عاطفة حبه.»
قالت ريبيكا: «لقد نشأت حقا من عرق كانت شجاعة قومه مميزة في الدفاع عن أرضهم، لكنهم لم يحاربوا، حتى عندما كانوا أمة، إلا بأمر الإله، أو دفاعا عن وطنهم من الظلم. لقد أصبت في قولك، يا سيدي الفارس، ولكن إلى أن يقيم إله يعقوب لشعبه المختار جدعونا ثانيا، أو يهوذا مكابي جديدا، فإنه لا يليق بفتاة يهودية الحديث عن معركة أو حرب.»
ثم نظرت صوب أريكة الفارس الجريح.
قالت: «إنه ينام؛ فالطبيعة التي أنهكتها المعاناة وفقدان المعنويات جعلا جسده المرهق ينتهز أول لحظة راحة مؤقتة ويذهب في سنة من النوم. وا أسفاه! أهي جريمة أن أنظر إليه عندما قد يكون ذلك للمرة الأخيرة؟ وأبي! يا إلهي، أبي! إن ابنته ترتكب إثما عندما تنسى شعره الأشيب من أجل خصلات شعر ذهبية شابة! وما يدريني أن هذه الآثام ليست إلا رسل غضب يهوه إلى ابنة عاصية، تفكر في أسير غريب قبل أبيها؟ ولكنني سأنتزع هذه الحماقة من قلبي على الرغم من أن كل نسيج فيه يدمى وأنا أبعدها عنه!»
التفت بحجابها، وجلست على مبعدة من أريكة الفارس الجريح، وأولته ظهرها محصنة عقلها أو محاولة تحصينه.
الفصل السابع والعشرون
في تلك الأثناء، كان سيد القلعة المحاصرة والمعرضة للخطر مستلقيا على فراشه يعاني ألما جسديا وكربا نفسيا. وقد جاءت الآن اللحظة التي تتلاشى فيها الأرض وكل كنوزها من أمام عينيه، التي أصبح فيها قلب البارون الهمجي، على الرغم من قسوته كحجر الرحى السفلي، مرتعبا عندما تطلع بخياله إلى ظلام مستقبله الضائع.
دمدم البارون قائلا: «أين هم هؤلاء القساوسة الكلاب الآن الذين يتقاضون ثمن مسرحياتهم الروحية؟ أين كل أولئك الرهبان الكرمليين الحفاة الذين أسس فرونت دي بوف دير القديسة آن من أجلهم؟ أنا، وريث مؤسسهم، أنا، الذي تلزمهم مؤسستهم بالصلاة من أجله، أنا، يا لهم من أنذال جاحدين! يتركونني أعاني حتى الموت كما تموت الكلاب الضالة هناك في تلك الأرض المشاع، بلا قس يسمع اعترافي ولا قربان مقدس! قل لفارس الهيكل أن يأتي إلى هنا؛ فهو قس وقد يفعل شيئا. لقد سمعت رجالا مسنين يتحدثون عن صلاة - صلاة بأصواتهم - لا تحتاج إلى التودد إلى القس الزائف أو رشوته، ولكنني لا أجرؤ على ذلك.»
قال صوت متقطع ذو نبرة حادة بجانبه: «لقد عاش ريجينالد فرونت دي بوف حتى أتى اليوم الذي قال فيه: إن ثمة أمرا لا يجرؤ عليه!»
ارتعد فرونت دي بوف وانكمش حول نفسه، ولكنه سرعان ما استجمع ثباته المعتاد، وصاح قائلا: «من هناك؟ من أنت يا من تجرؤ على ترديد كلماتي بنبرة كنبرة غراب الليل؟ تعال أمام أريكتي كي أستطيع رؤيتك.»
أجاب الصوت: «أنا ملاكك الشرير يا ريجينالد فرونت دي بوف.»
أجاب الفارس المحتضر: «دعني أنظر إليك إذن في شكلك الآدمي، إن كنت بالفعل شيطانا، ولا تظن أنني سأجفل منك. أقسم بالزنزانة الأبدية، لو كان بمقدوري أن أصارع تلك الأهوال التي تحوم حولي، كما صارعت الأخطار البشرية، فإن الجنة أو الجحيم لن يقولا أبدا إنني تقاعست عن الصراع.»
قال الصوت الذي كاد أن يكون غير بشري: «فكر في خطاياك يا ريجينالد فرونت دي بوف، في التمرد، وفي السلب، وفي القتل! من الذي حرض جون الفاسق على محاربة أبيه الذي خط رأسه المشيب وعلى محاربة أخيه الكريم؟»
رد فرونت دي بوف: «سواء أكنت شيطانا أو قسا أو إبليس نفسه، فإنك تقول كذبا! ليس أنا من حرض جون على التمرد، ليس أنا وحدي. أيها الشيطان الكاذب، إنني أتحداك! انصرف، ولا تلازم أريكتي بعد الآن. اتركني أمت في سلام.»
ردد الصوت: «لن تموت في سلام؛ فحتى في موتك ستفكر فيما ارتكبت من جرائم قتل، وفي الأنات التي تردد صداها في جنبات هذه القلعة، وفي الدماء التي اصطبغت بها أرضياتها!»
أجاب فروت دي بوف بضحكة مروعة ومتكلفة: «لا يمكنك أن ترعبني بحقدك الحقير؛ فالطريقة التي تعاملت بها مع اليهودي الكافر هي عمل حسن في نظر السماء، والخنازير الساكسونيون الذين ذبحتهم كانوا أعداء لبلدي. هو! هو! كما ترى ليس ثمة ثقوب في سترتي المدرعة. هل فررت؟ هل أصابك الصمت؟»
رد الصوت: «لا يا قاتل أبيك يا كريه! فكر في أبيك! فكر في موته! فكر في غرفة طعامه وهي مغمورة بدمه، الذي أراقته يد ابنه!»
أجاب البارون بعد صمت طويل: «ها! بما أنك تعلم ذلك فأنت حقا منبع الشر! لقد ظننت أنني احتفظت بهذا السر مكبوتا في صدري وصدر شخص آخر، هو من أغراني، شريكي في الإثم. اذهب واتركني أيها الشيطان! اذهب وابحث عن الساحرة الساكسونية أولريكا؛ فهي وحدها من يستطيع أن يخبرك بما شهدنا أنا وهي وحدنا عليه. أقول لك اذهب إليها؛ فهي من نظفت الجراح وأصلحت وضع الجثة، وأضفت على القتيل مظهر من فارق الحياة في أجله ومات ميتة طبيعية. اذهب إليها؛ فهي من أغواني، هي الفاسقة التي حرضتني على تلك الفعلة. اجعلها تذوق مثلي العذابات التي تسبق عذاب الجحيم!»
قالت أولريكا وهي تخطو أمام أريكة فرونت دي بوف: «إنها تذوقها بالفعل؛ فقد ظلت مدة طويلة تتجرع من هذه الكأس، وأصبحت مرارته الآن حلوة برؤيتك وأنت تشاركني إياها. لا تعض على نواجذك يا فرونت دي بوف، ولا تدر عينيك في محجريهما، ولا تشر لي بيدك بحركة التهديد تلك!»
رد فرونت دي بوف: «أيتها العجوز الشمطاء القاتلة الوضيعة! أيتها البومة الناعقة المقيتة! أنت إذن من جئت لتهللي على أنقاض ما ساعدت في هدمه!»
ردت قائلة: «أجل يا ريجينالد فرونت دي بوف، أنا أولريكا! أنا ابنة القاتل توركيل ولفجانجر! أنا أخت أبنائه المقتولين! أنا من تطالبك وتطالب بيت أبيك، أبا وعشيرة، بالاسم والسمعة، وبكل ما خسرته بسبب اسم فرونت دي بوف! لقد كنت ملاكي الشرير، وسأكون ملاكك الشرير. سألاحقك ككلب الصيد حتى اللحظة التي تعاني فيها سكرات الموت.»
صاح فرونت دي بوف: «يا إلهة الانتقام المقيتة! لن تشهدي تلك اللحظة أبدا. هاي! جايلز، كليمنت، أوستاس، سانت مور، ستيفن! أمسكوا بهذه الساحرة، وألقوا بها من فوق الأسوار. لقد خانتنا لصالح الساكسونيين! هاي! سانت مور! كليمنت! أيها الوغدان المخادعان، أين تتلكآن؟»
قالت العجوز الشمطاء بابتسامة سخرية دميمة: «ناد عليهم مرة أخرى، أيها البارون الشجاع، ولتجمع أتباعك حولك، ولتحكم على أولئك المتسكعين بالضرب بالسياط وبالسجن.» ثم استطردت مغيرة نبرة صوتها فجأة: «ولكن اعلم أيها القائد الجبار أنك لن تحصل منهم على إجابة أو مساعدة أو طاعة. استمع لهذه الأصوات المرعبة! إنه الساكسوني يا ريجينالد! الساكسوني المحتقر يهاجم أسوارك! لماذا ترقد هنا كظبية مجهدة، بينما يهاجم الساكسوني معقل قوتك؟»
صاح الفارس الجريح: «أيتها الآلهة والشياطين! امنحوني لحظة واحدة من القوة؛ كي أحمل نفسي على القتال، وأموت كما يليق باسمي!»
أجابت قائلة: «لا تفكر في ذلك، أيها المحارب الشجاع! فلن تموت ميتة جندي، بل ستهلك كالثعلب في وكره، بينما يشعل الفلاحون النار في الحشائش من حوله.»
صاح فرونت دي بوف: «أيتها العجوز الكريهة! إنك تكذبين! إن أتباعي صامدون أمامهم ببسالة، وأسواري قوية وعالية، ورفقائي في السلاح لا يخشون جيشا كاملا من الساكسونيين! وأقسم بشرفي على أننا عندما نضرم النيران في المشاعل، احتفالا بنجاح دفاعنا، فإنها ستأكل جسدك وعظامك!»
ردت أولريكا: «تمسك بإيمانك حتى يأتيك اليقين.» ثم قالت مقاطعة نفسها: «ولكن كلا! فسترى، عما قليل، المصير الذي ليس بمقدور كل سلطتك وقوتك وشجاعتك تجنبه، على الرغم من أن هذه اليد الواهنة هي من أعدته لك. أترى الدخان الخانق الذي يتصاعد في دوامات في ثنايا سوداء في أنحاء الغرفة؟ أتذكر كمية الوقود المختزنة أسفل هذه الغرف؟»
صاح في غضب: «يا امرأة! هل أشعلت فيها النار؟ بحق السماء! لقد فعلت، والقلعة تلتهمها النيران!»
قالت أولريكا بهدوء مروع: «إنها على الأقل سترتفع سريعا. وداعا يا فرونت دي بوف! لعل ميستا وسكوجيولا وزيرنيبوك، آلهة الساكسونيين القديمة، يأتون بالمعزين عند فراش موتك، الذي تهجره أولريكا الآن! والآن، وداعا للأبد يا قاتل أبيك! ليت كل حجر في هذا السقف المقبب ينطق ليردد هذا اللقب على مسامعك!»
وبعد أن قالت ذلك غادرت الغرفة، وكان بوسع فرونت دي بوف أن يسمع صوت ارتطام المفتاح الثقيل، وهي توصد الباب مرة تلو أخرى من خلفها. وفي ذروة معاناته نادى على خدمه وحلفائه: «ستيفن، وسانت مور! كليمان وجايلز! إنني أحترق هنا بلا معين! النجدة، النجدة، يا بوا جيلبرت الشجاع ويا أيها الباسل دي براسي! إنه أنا فرونت دي بوف من ينادي! إنه أنا سيدكم، أيها الأتباع الخونة! أنا حليفكما وأخوكما في السلاح، أيها الفارسان حانثي اليمين والخائنان! فلتنصب كل اللعنات التي يستحقها الخونة على رءوسكم الجبانة، تتخلون عني لأهلك في بؤس هكذا! إنهم لا يسمعونني - إنهم لا يستطيعون أن يسمعوني - إن صوتي ضائع وسط ضجيج المعركة. إن الدخان يتكاثف أكثر فأكثر، النار قد أمسكت بالطابق الأسفل. آه، ليتني أستطيع أن أحصل على نفحة من هواء السماء، ولو اشتريتها بالفناء العاجل.»
الفصل الثامن والعشرون
عندما تم الاستيلاء على البرج الأمامي أرسل الفارس الأسود إشعارا بالحدث السعيد إلى لوكسلي، طالبا منه في الوقت نفسه أن يراقب القلعة مراقبة مكثفة؛ لمنع جمع المدافعين لقوتهم لهجوم مفاجئ، واستعادة التحصينات الخارجية التي فقدوها. استغل الفارس الوقت في إنشاء ما يشبه الجسر العائم، أو الطوف الطويل، آملا أن يتمكن بواسطته من عبور الخندق المائي على الرغم من مقاومة العدو.
عندما اكتمل بناء الجسر، خاطب الفارس الأسود المحاصرين قائلا: «لا فائدة من الانتظار هنا أكثر من ذلك يا أصدقائي؛ فالشمس تهبط نحو الغرب، ولدي من المهام ما لا يسمح لي بالتلكؤ معكم يوما آخر. من أجل ذلك، فليذهب أحدكم إلى لوكسلي، ويأمره بالبدء في إطلاق السهام على الجانب المقابل للقلعة، والمضي قدما كما لو كانوا على وشك الهجوم عليها؛ وأنتم، يا أصحاب القلوب الإنجليزية المخلصة، قفوا معي، وكونوا مستعدين لدفع الطوف بالطول فوق الخندق عندما تفتح البوابة الخلفية من ناحيتنا. اتبعوني عبره ببسالة، وساعدوني على تحطيم البوابة التي هنالك في الجدار الرئيس للقلعة. باسم الرب، افتحوا الباب وأنزلوا الجسر العائم.»
فتحت فجأة البوابة التي كانت تقود من الجدار الداخلي للبرج الأمامي إلى الخندق المائي، ودفع الجسر المؤقت إلى الأمام، وسرعان ما انزلق في الماء، مشكلا ممرا زلقا غير مستقر يسع رجلين لعبور الخندق المائي جنبا إلى جنب. واندفع الفارس الأسود بنفسه، يتبعه عن قرب سيدريك، فوق الجسر، ووصل إلى الجانب الآخر. حينئذ بدأ يضرب بوابة القلعة ببلطته، محتميا بعض الشيء من سهام المدافعين وحجارتهم بأنقاض الجسر المتحرك السابق، الذي كان فارس الهيكل هدمه عند تراجعه عن البرج الأمامي، تاركا ثقله لا يزال متصلا بالجزء العلوي من البوابة.
صاح لوكسلي: «باسم القديس جورج! اهجموا أيها اليوامنة الشجعان!»
عندئذ شد قوسه الجيد، وأطلق سهما مباشرة اخترق صدر جندي، كان، وفقا لتعليمات دي براسي، يأخذ قطعة حجر من أحد الأسوار ليلقيها على رأس سيدريك والفارس الأسود.
قال دي براسي: «أتتراجعون أيها الأوغاد الأنذال؟! بحق تل ماونت جوي حيث استشهدت القديس دينيس! أعطوني الرافعة !»
اختطفها وعاد لينقض على القمة الحجرية المخلخلة التي كانت شديدة الثقل، لدرجة أنها كانت إذا أسقطت لا تدمر فقط بقية الجسر المتحرك التي كانت تحمي المهاجمين اللذين كانا في المقدمة، بل أيضا تغرق الجسر العائم البسيط، المكون من عارضات خشبية، الذي كانوا قد مروا عليه. كانت القمة الحجرية الضخمة تتداعى بالفعل، وكاد دي براسي الذي كان لا يزال يبذل قصارى جهده أن ينجز مهمته، لولا أنه سمع صوت فارس الهيكل بالقرب من أذنه قائلا: «كل شيء ضاع، يا دي براسي، القلعة تحترق.»
رد الفارس: «أجننت لتقول هذا؟!» «إن النيران تلتهم الجانب الغربي كله، ولقد كافحت بلا جدوى لإخماده. قد رجالك للأسفل كما لو كنت تقودهم لهجوم، وافتح البوابة الخلفية. لا يوجد هناك سوى رجلين على الجسر العائم، اقذفوا بهما في الخندق، وشقوا طريقكم إلى البرج الأمامي. سأنطلق أنا من البوابة الرئيسة، وأهاجم البرج الأمامي من الخارج. وإذا تمكنا من استعادة ذلك الموقع فتأكد من أننا سندافع عن أنفسنا حتى تأتينا النجدة، أو على الأقل حتى يمنحونا شروطا عادلة.»
أسرع دي براسي إلى جمع رجاله، واندفع للأسفل إلى البوابة الخلفية التي فتحها على الفور، ولكن ما إن حدث هذا حتى تمكن الفارس الأسود بقوته الرهيبة من أن يشق طريقه للداخل على الرغم من وجود دي براسي وأتباعه. على الفور سقط اثنان ممن كانوا في المقدمة، وتراجع الباقون على الرغم من كل جهود قائدهم لإيقافهم.
قال دي براسي: «أيها الكلاب! أتتركون رجلين يستوليان على سبيلنا الوحيد للنجاة؟ إن القلعة تحترق من خلفنا، أيها الأنذال! فليعطكم اليأس شجاعة، أو دعوني أتقدم! وسأقاتل هذا البطل بنفسي.»
دوت في الممر المقبب الذي يؤدي إليه الباب الخلفي، والذي كان هذان المحاربان المثابران يتقاتلان فيه يدا بيد، أصوات الضربات العنيفة التي يسددها كل منهما على الآخر؛ دي براسي بسيفه، والفارس الأسود ببلطته الثقيلة. وفي النهاية، تلقى النورماندي ضربة هوت بعنف شديد على خوذته، فسقط ممددا على الأرضية المعبدة.
قال البطل الأسود: «استسلم يا موريس دي براسي ، سواء أكانت النجدة آتية أم لا، وإلا فلن تكون إلا قتيلا.»
أجاب دي براسي بصوت واهن: «لن أستسلم لمنتصر مجهول. أخبرني باسمك أو افعل بي ما يحلو لك.»
همس الفارس الأسود بشيء في أذن المهزوم.
فرد النورماندي: «أسلم نفسي أسيرا حقا، سواء أكانت النجدة آتية أم لا.»
قال المنتصر بنبرة من له سلطان: «اذهب إلى البرج الأمامي، وانتظر المزيد من أوامري هناك.»
قال دي براسي: «ولكن أولا، دعني أخبرك بما يهمك أن تعرفه. إن ويلفريد أوف إيفانهو جريح وسجين، وسيهلك في القلعة المشتعلة إن لم يأته العون على الفور.»
صاح الفارس الأسود: «ويلفريد أوف إيفانهو! لن يبقى رجل في القلعة على قيد الحياة إن احترقت شعرة واحدة من رأسه. أرني غرفته!»
قال دي براسي: «اصعد ذلك الدرج المتعرج هناك؛ فهو يؤدي إلى غرفته.»
كان إيفانهو قد استيقظ من نومه القصير بسبب ضوضاء المعركة، وكانت مرافقته، بناء على رغبته القلقة، قد عادت إلى الوقوف عند النافذة لتشاهد ما يحدث وتخبره بمصير الهجوم. وفي النهاية، أدركا تفاقم هذا الخطر الجديد من كثافة الدخان الذي تصاعد في الغرفة، والصيحات المطالبة بالماء التي سمعاها تعلو حتى على صوت ضجيج المعركة.
قالت ريبيكا: «إن القلعة تحترق، إنها تحترق. ما الذي يمكننا فعله لإنقاذ أنفسنا؟»
قال إيفانهو: «اهربي يا ريبيكا وانجي بحياتك؛ فلن يقدر أي عون بشري أن ينفعني.»
ردت ريبيكا: «لن أهرب؛ إما أن ننجو معا أو نهلك معا، ولكن يا إلهي العظيم! أبي، أبي، ماذا سيكون مصيره؟»
في تلك اللحظة فتح باب الغرفة بعنف، ودخل فارس الهيكل في هيئة شنيعة؛ إذ كان درعه المطلي بالذهب مكسورا ومخضبا بالدماء، وانتزع جزء من ريشته واحترقت جزئيا من عند خوذته. قال لريبيكا: «لقد وجدتك، وسأثبت لك أنني سأفي بوعدي بأن أشركك في السراء والضراء. انهضي واتبعيني على الفور!»
ردت ريبيكا: «لن أتبعك وحدي. إن لم يكن قلبك قاسيا كدرع صدرك، فأنقذ أبي المسن، وأنقذ هذا الفارس الجريح!»
رد فارس الهيكل بهدوئه المميز: «إن الفارس يا ريبيكا يجب أن يواجه مصيره، سواء جاءه على هيئة سيف أو نار؛ ومن يهتم كيف وأين يلاقي يهودي مصيره؟»
قالت ريبيكا: «أيها المحارب الهمجي، إني أفضل أن أموت في الحريق عن أن أقبل النجاة على يديك!» «لن تختاري يا ريبيكا؛ فلقد خدعتني مرة، ولكن لم يخدعني أحد قط مرتين.»
قال ذلك، وأمسك بالفتاة المرتعبة التي ملأت الغرفة بصرخاتها، وحملها إلى خارج الغرفة على ذراعيه دون أن يعبأ بصراخها، أو بتهديد إيفانهو له؛ إذ قال له بصوت كالرعد: «يا كلب الهيكل، يا وصمة عار في جبين طائفتك، أطلق سراح الفتاة! أيها الخائن بوا جيلبرت، إنه أنا إيفانهو من يأمرك! أيها النذل، سأشرب من دم قلبك!»
قال الفارس الأسود الذي دخل الغرفة في تلك اللحظة: «ما كنت لأعثر عليك، يا ويلفريد، لولا صرخاتك.»
قال ويلفريد: «إن كنت فارسا حقا فلا تفكر في. لاحق ذلك الخاطف. أنقذ الليدي روينا، وابحث عن سيدريك النبيل!»
رد الفارس ذو القفل: «في دورهما، ولكن دورك يأتي أولا.»
أمسك بإيفانهو وحمله بالسهولة نفسها التي حمل بها فارس الهيكل ريبيكا، وأسرع به إلى البوابة الخلفية، حيث سلم عبء رعايته لاثنين من الجنود، ثم عاد ودخل القلعة للمساعدة في إنقاذ السجينين الآخرين.
في تلك الأثناء، كان أثيلستان قد تمكن من الهرب إلى فناء القلعة، حيث كان فارس الهيكل الشرس جالسا على صهوة جواده ومحاطا بالعديد من رجال الحامية. وكانت ريبيكا وسط تلك المجموعة الصغيرة، وأظهر بوا جيلبرت، على الرغم من الفوضى الناتجة عن القتال الدامي، اهتماما بسلامتها. لم يشك أثيلستان في أن من يحملها الفارس ليهرب بها، على الرغم من كل المقاومة البادية، هي روينا.
قال: «أقسم بروح القديس إدوارد على أنني سأنقذها من ذلك الفارس المتكبر، وسيلقى حتفه على يدي!»
لم يستغرق الأمر من قوة أثيلستان العظيمة سوى لحظة واحدة لكي يلتقط هراوة من فوق الأرض، وينقض على عصابة فارس الهيكل، ويطلق ضربات متتابعة يمنة ويسرة مسقطا محاربا مع كل ضربة، وسرعان ما أصبح على مسافة ياردتين من بوا جيلبرت، فتحداه بأعلى صوته قائلا: «استدر يا فارس الهيكل الخائن! اترك من لست أهلا لأن تلمسها. استدر يا عضوا في عصابة من القتلة واللصوص المنافقين!»
قال فارس الهيكل وهو يعض على نواجذه: «أيها الكلب! سأعلمك كيف تسب طائفة هيكل صهيون المقدسة.» وبهذه الكلمات استدار بجواده نصف استدارة، وسدد ضربة مروعة إلى رأس أثيلستان. كان سلاحه حادا للغاية، لدرجة أنه قصم الهراوة التي رفعها الساكسوني لتفادي الضربة، وهوى على رأسه فأسقطه على الأرض.
صاح بوا جيلبرت: «ها! حي على الجهاد! إذن فليكن هذا مصير من يهينون فرسان الهيكل!» ثم صاح عاليا: «فليتبعني كل من يرغب في النجاة لأنفسهم!» واندفع عبر الجسر المتحرك، مفرقا الرماة الذين كانوا يهمون باعتراض طريقه.
الفصل التاسع والعشرون
كان الخارجون عن القانون كلهم محتشدين حول الشجرة التي اتخذوها موضعا لتجمعهم، حيث كانوا قد أمضوا الليل في إنعاش أنفسهم بعد متاعب الحصار، وفي إحصاء الغنائم التي أصبحت تحت تصرفهم بفضل انتصارهم.
سمع صوت حوافر الجياد، وظهرت الليدي روينا محاطة بعدد من راكبي الجياد ومجموعة تفوقهم عددا من المشاة الذين هزوا بابتهاج رماحهم، وضربوا حرابهم بعضها ببعض فرحا بتحررها. وعندما مالت بجوادها نحو مقعد لوكسلي، قام ذلك الرجل الباسل وجميع أتباعه لاستقبالها.
قالت: «ليبارككم الرب والسيدة العذراء أيها الرجال الشجعان، ويجازكم عن مخاطرتكم بأنفسكم ببسالة من أجل المظلومين! إن جاع أحد منكم فتذكروا أن روينا عندها طعام، وإن عطشتم فإن لديها الكثير من براميل النبيذ والجعة البنية.»
قال لوكسلي: «شكرا لك أيتها السيدة الكريمة. أشكرك بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن رفاقي. ولكن إنقاذك هو في حد ذاته المكافأة.»
انحنت روينا مرة أخرى من فوق جوادها، واستدارت للمغادرة، ولكنها انتظرت للحظة عندما وجدت نفسها على نحو غير متوقع قريبة من الأسير دي براسي. كان واقفا أسفل شجرة في تأمل عميق، وقد عقد ذراعيه أمام صدره، ولكنه رفع بصره، وعندما انتبه لوجودها غمر ملامحه الوسيمة تورد شديد من فرط الخزي. وقف برهة في تردد شديد، ثم خطا للأمام، وأخذ بزمام جوادها، وثنى ركبته أمامها ، وقال: «هل تتلطف الليدي روينا وتنظر إلى فارس أسير، إلى جندي خسر شرفه؟»
أجابت روينا: «سيدي الفارس، في أعمال كالتي تقوم بها لا تكمن خسارة الشرف الحقيقية في الفشل، بل في النجاح.»
رد دي براسي: «إن الانتصار يا سيدتي يرقق القلب. فقط دعيني أعلم أن السيدة روينا تعفو عن وحشية تسببت فيها عاطفة مشئومة، وأنها ستعلم عما قريب أن دي براسي يعرف كيف يعاملها بطرق أكثر نبلا.»
قالت روينا: «أسامحك يا سيدي الفارس بصفتي مسيحية.»
لوحت روينا بيدها في تحية وداع رشيقة لصاحب شعار القفل، وطلب سيدريك من الله أن يحفظه، ثم ساروا قدما عبر ممر واسع في الغابة.
قال لوكسلي للبطل الأسود: «أيها الفارس الشجاع، هل تتفضل وتأخذ من ذلك القدر من الغنائم ما يرضيك، وكي يذكرك بشجرة التجمع هذه؟»
قال الفارس: «أقبل العرض بالصراحة نفسها التي قدم بها، وأطلب السماح في التصرف في السيد موريس دي براسي كما يحلو لي.»
قال لوكسلي: «إنه ملكك بالفعل، وهو آمن مع أنه قاتل أبي.»
قال الفارس: «يا دي براسي، أنت حر. ارحل؛ فمن أصبحت أسيره يستصغر أن يأخذ ثأرا وضيعا على ما مضى، ولكن احذر من المستقبل، وإلا أصابك ما هو أسوأ. أقول لك يا موريس دي براسي، احذر!»
روينا ودي براسي، بريشة أدولف لالوز.
انحنى دي براسي انحناءة عميقة، وفي صمت أمسك بجواد من زمامه وامتطى السرج، وانطلق مبتعدا بالجواد عبر الغابة. بعدئذ أخذ قائد الخارجين عن القانون من رقبته البوق الثمين وحزام الكتف اللذين كان قد فاز بهما مؤخرا في آشبي.
قال لصاحب شعار القفل: «أيها الفارس النبيل، أرجوك أن تأخذ هذا تذكارا لتصرفك الشجاع. وإن تصادف وواجهتك المشاق في أي غابة بين نهري ترينت وتيز، فانفخ ثلاث نفخات في البوق، هكذا: وا - سا - هوا! ومن المحتمل أن تجد من يساعدك وينقذك.»
ثم نفخ في البوق مرة تلو الأخرى بالنداء الذي وصفه حتى استوعب الفارس النغمات.
قال الفارس: «شكرا جزيلا على الهدية أيها اليومن الجريء. ولن ألتمس عونا أفضل من عونك وعون من معك من حراس الغابة.» ثم نفخ بدوره في البوق بالنداء الذي وصفه له حتى دوى صداه في جميع أنحاء الغابة الخضراء.
قال اليومن: «نفخ جيد وواضح. أراهن أنك تعرف عن الحراجة بقدر ما تعرف عن الحرب! تذكروا أيها الرفاق هذه النغمات الثلاث. إنها نداء الفارس ذي شعار القفل، وكل من يسمعه ولا يهب لخدمته في حاجته سأطرده من جماعتنا وأجلده بوتر قوسه.»
تقدم لوكسلي في ذلك الحين لتوزيع الغنيمة، وفعل ذلك بنزاهة جديرة بأفضل الثناء. وعندما أخذ كل شخص نصيبه من الغنيمة ظل النصيب المخصص للكنيسة دون أن يوزع.
قال القائد: «وددت لو تمكنا من سماع أنباء عن قسنا المرح؛ فلم يكن قط ليرغب في أن يغيب عن مباركة اللحم أو توزيع الغنائم. وإنه لمن واجبه أن يعتني بهذه العشور التي اكتسبناها من مهمتنا الناجحة. بالإضافة إلى ذلك، فإن لدي أخا مقدسا له سجينا في مكان غير بعيد، وأرغب أن يساعدني الراهب في التعامل معه على النحو اللائق به.»
بينما كان يقول ذلك، أعلنت صيحة عالية بين اليوامنة وصول القس.
صاح الراهب: «أفسحوا يا رجالي المرحين! أفسحوا لأبيكم الروحي ولسجينه.» وشق طريقه عبر الحلقة، حيث بدا في انتصار مهيب، وعصاه الضخمة في يد، وفي اليد الأخرى حبل مشنقة، كان أحد طرفيه مثبتا بعنق تعيس الحظ إيزاك أوف يورك، الذي انحنى في حزن ورعب، وكان القديس المنتصر يسحبه.
قال القائد: «أيها القس الساخر، بحق القديس نيكولاس، من ذا الذي أتيت به إلى هنا؟»
رد كاهن كوبمانهورست: «إنه أسير لسيفي ورمحي أيها القائد النبيل. تكلم أيها اليهودي، ألم أفتدك من الشيطان؟ ألم أعلمك صلاة قانون الإيمان والصلاة الربانية والصلاة المريمية؟»
قال لوكسلي: «أخبرنا أين وجدت أسيرك هذا.»
قال الراهب: «أقسم بالقديس دونستان، إنني وجدته حيث كنت أبحث عن بضاعة أفضل! لقد دخلت إلى القبو لأرى ما يمكن إنقاذه هناك، وكنت ممسكا ببرميل صغير من النبيذ، حين لمحت بابا قويا. أها! ففكرت: هنا أفضل شراب في السرداب السري . ومن ثم ذهبت إليه، ولم أجد شيئا سوى مجموعة من السلاسل الصدئة وهذا الكلب اليهودي الذي سلم نفسه على الفور أسيرا لي. لم أفعل شيئا سوى أني أنعشت نفسي، بعد تعب العمل مع هذا الكافر، بكأس واحدة رنانة من النبيذ، وشرعت في أن أقود أسيري قدما عندما سمعت جدران برج خارجي تتداعى واحدا تلو الآخر، وسدت الممر. وكان زئير سقوط برج يتبعه زئير آخر؛ ففقدت الأمل في الحياة، ورأيت أن من العار لشخص في مهنتي أن يرحل عن هذا العالم في صحبة يهودي؛ فرفعت بلطتي لأضرب رأسه، ولكني أشفقت على شعره الأشيب، ورأيت أنه من الأفضل أن أضع سلاحي وأستخدم سلاح النقاش الروحي لهدايته. وحقا، ببركة القديس دونستان، غرست الحبة في تربة صالحة؛ اهتدى اليهودي، وهو يفهم كل ما أخبرته به، كله تقريبا، إن لم يكن قد فهمه تماما، حتى إن رأسي قد أصابه الدوار.»
قال القائد: «أهذا صحيح أيها اليهودي؟ هل تخليت عن كفرك؟»
قال اليهودي: «أرجو أن أجد الرحمة في عينيك؛ فأنا لا أعرف كلمة واحدة مما كلمني به الأسقف الموقر طوال هذه الليلة المروعة.»
قال الراهب: «إنك تكذب أيها اليهودي، وتعلم ذلك. لقد وعدت بأن تعطي كل ثروتك لطائفتنا المقدسة.»
قال إيزاك وقد انزعج أكثر من ذي قبل: «فليساعدني بوعد الرب لإبراهيم، أيها السادة العدول، أن شفتي لم تنبسا بمثل هذا القول! وا حسرتاه! إنني رجل مسن معدم، وأخشى أنه ليس لي أبناء. ترفقوا بي، واتركوني أذهب!»
قال الراهب: «كلا، إن كنت ستتراجع عن العهود التي تعهدت بها لصالح الكنيسة المقدسة، فتجب عليك كفارة.»
وهكذا رفع سلاحه، وكاد أن ينزل عصاه بكل قوة على كتفي اليهودي، لولا أن الفارس الأسود أوقف الضربة؛ ومن ثم تحول غضب الكاهن المقدس إليه.
قال: «أقسم بالقديس توماس، قديس كينت، أنني سأتمنطق بعدتي، وأعلمك يا سيدي المحب الكسول ألا تتدخل إلا فيما يعنيك، رغم خوذتك الحديدية هذه.»
قال الفارس: «لا، لا تغضب مني؛ فأنت تعلم أنني صديقك الحميم ورفيقك.»
قال الراهب وهو يطبق على قبضته الضخمة: «صدقا، يا صديقي، سأمنحك لطمة.»
قال الفارس: «يسعدني أن أتلقى لطمتك على سبيل القرض، ولكنني سأردها لك مع فوائدها. اضرب، أيها الراهب، إن كنت تجرؤ، وسأتحمل ضربتك إن تحملت ضربتي.»
قال رجل الكنيسة: «إنك تتميز عني بذلك الوعاء الحديدي على رأسك، ولكن خذ هذه. سأطرحك أرضا.»
شمر الراهب عن ذراعه المفتول العضلات، ومودعا قوته كلها في الضربة أعطى الفارس لطمة كانت كافية لأن تسقط ثورا، لكن خصمه وقف في ثبات كالصخر.
قال الفارس وهو يخلع قفازه: «الآن أيها القس، إن كانت لدي ميزة على رأسي فلن يكون لي ميزة في يدي. قف ثابتا كرجل حقيقي.»
قال القس: «لقد أدرت خدي للضارب. وإن تمكنت يا رجل من تحريكي من مكاني فسأمنحك فدية اليهودي عن طيب خاطر.»
هوت لطمة الفارس بقوة وعزم جعلا الراهب يتدحرج فوق الأرض المنبسطة رأسا على عقب، لكنه نهض بلا غضب أو خجل.
قال للفارس: «يا أخي، كان ينبغي عليك أن تستخدم قوتك بمزيد من الحذر. ومع ذلك، ها هي يدي، في شهادة ودودة، على أنني لن أتبادل الضربات معك بعد الآن؛ فقد خسرت المقايضة. لننته الآن من كل عداوة، ولنأخذ من اليهودي فدية؛ لأن الفهد سيظل مرقطا، واليهودي سيظل يهوديا.»
الفصل الثلاثون
قال القائد: «فلتلتزموا الصمت جميعا! وأنت أيها اليهودي، فكر في فديتك، بينما أستجوب أسيرا من نوع آخر. ها قد أتى الحبر الجليل، السليط اللسان كغراب العقعق.» وبين اثنين من اليوامنة، اقتيد صديقنا القديم، رئيس الدير آيمر أوف جورفولكس، إلى أمام عرش قائد الخارجين عن القانون المنصوب في الغابة.
قال مساعد قائد العصابة للقائد، بعد أن تنحى به جانبا: «ألن يكون من الأفضل أن يحدد رئيس الدير فدية اليهودي، ويحدد اليهودي فدية رئيس الدير؟»
قال القائد: «إنك لوغد مجنون، ولكن خطتك رائعة! فلتتقدم إلى الأمام أيها اليهودي، وانظر إلى الأب المقدس آيمر، رئيس دير آبي أوف جورفولكس الغني، وأخبرنا بالفدية التي علينا أن نفرضها عليه.»
قال إيزاك: «ستمائة كراون، يدفعها رئيس الدير الطيب لرجالك البسلاء الشرفاء، ولن يجلس أقل راحة على مقعده في الدير.»
قال القائد بجدية: «ستمائة كراون، أنا راض بذلك. أحسنت القول يا إيزاك، ستمائة كراون، إنه حكم يا رئيس الدير.»
صاحت العصابة: «حكم! حكم!»
قال رئيس الدير: «إنكم مجانين، يا سادتي، فأين لي أن أجد مبلغا كهذا؟»
قال إيزاك: «إن شئت، يمكنني أن أرسل إلى يورك في طلب ستمائة كراون من بعض الأموال التي في حوزتي، إن كان رئيس الدير الموقر سيعطيني صكا بالدين.»
قال القائد: «سيعطيك كل ما تريد يا إيزاك، وستدفع مال الفدية عن آيمر رئيس الدير، وكذلك عن نفسك.»
قال اليهودي: «عن نفسي! آه، أيها السادة الشجعان، إنني رجل مفلس وفقير، ولا بد أن عصا شحاذ ستكون نصيبي مدى الحياة، لو دفعت لكم خمسمائة كراون.»
رد القائد: «سيحكم رئيس الدير في ذلك الأمر. ما قولك أيها الأب آيمر؟ هل يستطيع اليهودي دفع فدية جيدة؟»
أجاب رئيس الدير: «أيستطيع دفع فدية؟! أليس هو إيزاك أوف يورك، الثري بما يكفي ليفتدي أسرى قبائل بني إسرائيل العشر التي اقتيدت إلى عبودية الآشوريين؟ أقول لكم بصراحة إنكم ستظلمون أنفسكم إن أخذتم منه ما يقل عن ألف كراون بمقدار بنس واحد.»
صاح زعيم الخارجين عن القانون: «إنه حكم! إنه حكم!»
قال اليهودي: «فليكن إله آبائي في عوني! إنني في هذا اليوم بلا أولاد، وستحرمونني من سبل العيش. آه يا ريبيكا! يا ابنة محبوبتي راشيل! ما الذي سأعطيه من أجل أن أعرف إن كنت حية وهربت من يدي النصراني!»
قال أحد الخارجين عن القانون: «أولم تكن ابنتك ذات شعر أسود، وكانت ترتدي خمارا من الحرير المجدول المطرز بالفضة؟»
قال الرجل المسن: «نعم، إنها كذلك! لتحل عليك بركة يعقوب! هل تستطيع أن تخبرني بشيء عن سلامتها؟»
قال اليومن: «كانت هي إذن التي كان فارس الهيكل المتكبر يحملها عندما اخترق صفوفنا مساء أمس.»
رد اليهودي: «إيخابود (اسم عبري معناه «أين المجد؟» أو «لا مجد»)! إيخابود! قد زال المجد من بيتي!»
قال الزعيم ناظرا حوله : «يا أصدقاء، إن الرجل المسن ليس إلا يهوديا، ولكن حزنه يؤثر في. سنأخذ منك يا إيزاك الفدية نفسها التي سنأخذها من رئيس الدير آيمر، بل أقل منها بمائة كراون، وسيظل معك ستمائة كروان لتفتدي بها ابنتك. إن فرسان الهيكل يحبون بريق الشيكلات الفضية كما يحبون بريق العيون السوداء. أسرع واجعل صوت جلجلة الكروانات يرن في أذن دي بوا جيلبرت قبل أن تسوء الأمور. ستجده، وفقا لتقرير كشافينا، في مركز طائفته القريب.»
أما إيزاك، بعد أن برئ من جزء من هواجسه، بعلمه أن ابنته على قيد الحياة، وقد يكون بوسعه أن يفتديها، فقد ألقى بنفسه عند قدمي الخارج عن القانون الكريم ممرغا لحيته في حذائه، ومحاولا تقبيل طرف عباءته الخضراء. تراجع القائد إلى الوراء، وخلص نفسه من قبضة اليهودي دون أن يخفي بعض علامات الازدراء.
قال: «كلا، اللعنة عليك أيها الرجل، قف! لقد ولدت إنجليزيا، ولا أحب سجود الشرقيين. اسجد للرب وليس لآثم مسكين مثلي.»
قال رئيس الدير آيمر: «أجل أيها اليهودي، اسجد للرب، ممثلا في خادم مذبحه. ومن يدري ما سيحل عليك من نعمة وعلى ابنتك ريبيكا؟ إنني حزين على الفتاة؛ لأنها فتاة حسناء وذات وجه جميل، فلقد رأيتها في ساحة النزال في آشبي. كذلك، فإن براين دي بوا جيلبرت هو أحد الذين يمكنني أن أفعل الكثير من الأمور معه؛ فلتفكر كيف تستحق أن أقول له عنك كلاما طيبا.»
قال اليهودي: «وا أسفاه! وا أسفاه! إن الطامعين يظهرون لي في كل حدب وصوب؛ أنا أقدم كفريسة، كما سقط بنو إسرائيل فريسة في قبضة الآشوريين والمصريين.»
أطلق إيزاك أنينا عميقا، وبدأ يعتصر يديه، ولكن قائد اليوامنة تنحى به جانبا.
قال لوكسلي: «فكر جيدا يا إيزاك فيما ستفعل في هذا الأمر. ونصيحتي لك أن تتخذ من رجل الكنيسة هذا صديقا لك. إنه رجل مختال، يا إيزاك، وطماع؛ على الأقل يحتاج إلى المال ليشبع إسرافه. يمكنك بسهولة أن ترضي جشعه؛ لأنه لا تظن أنني منخدع بمزاعمك الكاذبة عن ادعائك الفقر. إنني مطلع تمام الاطلاع ، يا إيزاك، على الخزانة الحديدية التي تحتفظ فيها بأكياس نقودك. ماذا! ألا أعلم بالصخرة الكبيرة أسفل شجرة التفاح التي تقود إلى الغرفة المقببة أسفل حديقتك في يورك؟» شحب وجه اليهودي كوجوه الموتى. واستطرد اليومن قائلا: «ولكن لا تخش مني شيئا؛ فكلانا يعرف الآخر منذ وقت طويل. ألا تذكر اليومن المريض الذي خلصته ابنتك الجميلة ريبيكا من الأصفاد في يورك، واستبقيته في منزلك حتى استعاد صحته، وصرفته معافى، وأعطيته قطعة من النقود؟ ومع أنك مراب فإنك لم تمنح قطعة نقود بفائدة أفضل من ذلك المارك الفضي الزهيد؛ فقد وفر عليك اليوم خمسمائة كراون.»
قال إيزاك: «هل أنت إذن من كنا ندعوه ديكون جاذب القوس؟ لطالما ظننت أنني أعرف نبرة صوتك.»
قال القائد: «أنا جاذب القوس، ولوكسلي، ولي اسم حسن آخر إلى جانب كل ذلك.» «ولكنك مخطئ يا جاذب القوس الطيب فيما يخص تلك الغرفة المقببة. أشهد السماء على أنه لا شيء فيها إلا بعض البضائع التي سيسعدني أن أتقاسمها معك؛ مئة ياردة من قماش لينكولن الأخضر لصنع معاطف لرجالك، ومائة عصا من شجر الطقسوس الإسباني لصنع أقواس، ومائة وتر قوس من الحرير قوية ومستديرة وسليمة؛ وسأرسل كل ذلك طلبا لرضاك يا ديكون الشريف، على أن تلتزم الصمت بشأن القبو، يا ديكون الطيب.»
قال الخارج عن القانون: «سألتزم الصمت كالزغبة، وأصدقك القول إنني حزين من أجل ابنتك. فلتأت معي نتنح جانبا، يا رئيس الدير آيمر، أسفل هذه الشجرة. ها هو إيزاك عازم على أن يعطيك حقيبة بها مائة مارك من الفضة، إذا نفعت وساطتك لدى حليفك فارس الهيكل في تحرير ابنته.»
قال اليهودي: «على أن تكون سليمة وشريفة كما أخذت مني، وإلا فلا اتفاق بيننا.»
قال آيمر: «حسنا إذن، أيها اليهودي، بما أنني يجب علي التدخل في هذا الأمر، دعني إذن استخدم ألواح كتابتك، على الرغم من أنني كنت أفضل أن أصوم أربعا وعشرين ساعة على أن أمسك بقلمك، ولكن أين لي بقلم آخر؟»
قال اليومن: «إن كان ورعك المقدس يمكن أن يمنعك من استخدام ألواح اليهودي، فيمكنني أن أجد لك قلما بديلا.» ثم شد قوسه، وصوب سهمه نحو إوزة برية كانت تحلق فوق رءوسهم كحارس المقدمة لسرب من قبيلتها. فسقط الطير مرفرفا وقد اخترقه السهم.
قال القائد: «ها هو، يا رئيس الدير، ريش يكفي كل نساك جورفولكس طوال السنوات المائة القادمة.»
جلس رئيس الدير، وكتب بتأن شديد رسالة إلى براين بوا جيلبرت، وختم الألواح بعناية، ثم أعطاها لليهودي قائلا: «سيكون هذا جواز مرورك الآمن لمقر تمبلستو، وأغلب ظني أنه سيمكنك من تحرير ابنتك إن دعمته يداك بسخاء بتقديم المنافع والبضائع؛ لأن الفارس الصالح بوا جيلبرت، وثق في قولي جيدا، هو الوحيد في أفراد جماعته الذي لا يفعل شيئا دون مقابل.»
الفصل الحادي والثلاثون
امتطى إيزاك بغلة كانت هدية من الخارج عن القانون، ومعه اثنان من اليوامنة طوال القامة ليقوما على حراسته وإرشاده، وانطلق بغرض التفاوض على استرداد ابنته نحو مقر تمبلستو، حيث بدا أن صرامة نظام الهيكل المتقشفة الزاهدة لتدريب فرسان الهيكل، التي كان قد حل محلها منذ فترة طويلة إسراف في العبث، قد أعيد إحياؤها تحت عين السيد الأعظم، لوكاس بومانوار، الصارمة. توقف إيزاك عند البوابة ليفكر في كيفية الدخول بطريقة ينال بها العطف.
في تلك الأثناء، كان لوكاس بومانوار يمشي في حديقة صغيرة تابعة للمقر، وخاض نقاشا حزينا وخاصا مع أخ في طائفته. ولم يكن كبير مقر فرسان الهيكل، حيث كانت تلك رتبته، يسير محاذيا للسيد الأعظم، ولكن خلف بومانوار بأقصى مسافة تمكنه من الحديث معه دون الحاجة إلى أن يلتفت إليه برأسه.
قال السيد الأعظم: «كونراد، يا رفيقي العزيز في معاركي وكفاحي، إلى قلبك المخلص وحده أستطيع أن أفضي بأحزاني. يجب علينا أن نرجع أدراجنا ونظهر أننا أبطال الصليب المخلصون، مضحين في سبيل دعوتنا، ليس بدمائنا وأرواحنا فحسب، وليس برغباتنا ورذائلنا فحسب، ولكن براحتنا ودعتنا وبمشاعرنا الطبيعية، وأن نتصرف كرجال مقتنعين بأن كثيرا من المتع التي قد تكون مشروعة للآخرين محظورة على جندي الهيكل الذي نذر نفسه .»
دخل الحديقة وصيف، وانحنى انحناءة عميقة أمام السيد الأعظم، ووقف صامتا في انتظار إذنه قبل أن يتجرأ بالإفصاح عن المهمة التي جاء من أجلها.
قال السيد الأعظم: «أليس من الملائم أكثر أن نرى داميان هذا يرتدي ثياب التواضع المسيحي، ويظهر صامتا هكذا في احترام أمام رئيسه، مما رأيناه عليه منذ يومين، حين كان الأحمق يرتدي سترة مصبوغة، ويتمايل في وقاحة وتكبر كأي ببغاء؟ تكلم يا داميان، إننا نأذن لك. ما المهمة التي جئت من أجلها؟»
قال الوصيف: «أيها الأب النبيل الموقر، إن يهوديا يقف خارج البوابة، وهو يرجو الحديث مع الأخ براين بوا جيلبرت.»
قال السيد الأعظم: «أحسنت صنعا أن أعلمتني بالأمر.» ثم استدار إلى رفيقه قائلا: «إنه مما يهمنا كثيرا أن نعرف ما يقدم عليه هذا المدعو بوا جيلبرت.»
قال كونراد: «يقال عنه إنه شجاع وباسل.»
قال السيد الأعظم: «وما يقال عنه صحيح، ولكن الأخ براين أتى إلى طائفتنا رجلا مكتئبا وخائب الرجاء. ومنذ ذلك الحين، أصبح دءوبا على إثارة الفتن، ومتذمرا، ودساسا، ومتزعما لأولئك الذين يطعنون في سلطتنا.» ثم استطرد قائلا: «أدخل اليهودي إلى حضرتنا يا داميان.»
غادر الوصيف بإجلال عميق، ورجع في غضون بضع دقائق يقود إيزاك أوف يورك. وعندما أصبح على مسافة ثلاث ياردات، أشار بومانوار بعصاه أنه لا ينبغي أن يقترب أكثر من ذلك. سجد اليهودي على الأرض، وقبلها إجلالا، ثم نهض ووقف أمام فارسي الهيكل ويداه مضمومتان إلى صدره وقد حنى رأسه.
قال السيد الأعظم: «انصرف، يا داميان، ودع أحد الحراس متأهبا في انتظار أي نداء مفاجئ منا، ولا تسمح لأحد بدخول الحديقة حتى نغادرها.» انحنى الوصيف وغادر. واصل العجوز المتغطرس كلامه قائلا: «أيها اليهودي، استمع إلي جيدا. أوجز في إجاباتك عن الأسئلة التي سأطرحها عليك، واجعل كلماتك صادقة؛ لأنه إن نطق لسانك كذبا فسأقتلعه من بين فكيك الكافرين. صمتا أيها الكافر! لا تتحدث بكلمة في حضورنا إلا ردا على أسئلتنا. ما شأنك مع أخينا براين بوا جيلبرت؟»
لهث إيزاك في رعب وحيرة، ورأى بومانوار جزعه الشديد، فتفضل بأن يعطيه بعض الثقة.
قال: «لا تخف شيئا أيها البائس اليهودي ما دمت تتعامل بصدق في هذا الأمر. أطلب منك مرة أخرى أن أعرف منك شأنك مع براين بوا جيلبرت.»
إيزاك أمام السيد الأعظم، بريشة أدولف لالوز.
قال اليهودي متلعثما: «أنا أحمل رسالة، إذا سمحت أيها الباسل الموقر، إلى ذلك الفارس الصالح، من آيمر رئيس دير آبي أوف جورفولكس.»
قال السيد الأعظم: «ألم أقل لك يا كونراد إن هذه أوقات مشئومة؟ رئيس دير مسيحي يبعث برسالة إلى جندي من جنود الهيكل، ولا يجد رسولا أفضل من يهودي كافر. أعطني الرسالة.»
بيدين مرتعشتين، فتح اليهودي طيات قبعته الأرمنية التي كان قد أودع فيها ألواح رئيس الدير إمعانا في التأمين، وكان على وشك الاقتراب، بيده الممتدة وجسده المنحني، لوضعها في متناول يد مستجوبه المتجهم.
فقال السيد الأعظم: «تراجع، أيها الكلب! أنا لا ألمس الكفار، إلا بالسيف. خذ، يا كونراد، الرسالة من اليهودي، وأعطها لي.»
عندما استلم بومانوار الألواح بهذه الطريقة فحصها من الخارج بعناية، ثم شرع في فك الخيط الذي يؤمن طياتها. قرأ الرسالة بعد ذلك على عجل، وأمارات الدهشة والهلع على وجهه، ثم قرأها مرة أخرى بتدقيق وببطء أكبر، ثم أعطاها لكونراد بيد واحدة ضاربا إياها بالأخرى ضربا خفيفا، صائحا: «ها هي أمور طيبة يكتبها مسيحي لمسيحي آخر، وكلاهما عضو، وعضو ليس بالهين، في طائفة دينية! اقرأها بصوت عال يا كونراد.» ثم وجه كلامه لإيزاك قائلا: «وأنت، انتبه إلى المقصود منها؛ لأننا سنسألك عنه.»
قرأ كونراد الرسالة التي كان نصها:
من آيمر، الذي هو، بالنعمة الإلهية، رئيس الرهبانية السيسترسية بدير جورفولكس، إلى السير براين بوا جيلبرت، مع تمنياتي له بموفور الصحة. فيما يخص حالتنا الحالية أيها الأخ العزيز، فنحن أسرى في يد بعض الرجال الزنادقة الخارجين عن القانون، الذين لم يخشوا أن يسجنوا شخصنا ويطلبوا فدية عنا، كما علمنا أيضا أنك هربت بتلك الساحرة اليهودية الحسناء التي سحرتك عيناها السوداوان. إننا مبتهجون من كل قلبنا بسلامتك، ولكننا نرجوك أن تحذر من أمر ساحرة إندور الثانية هذه؛ لأننا متأكدون من مصدر خاص من أن معلمك الأكبر، الذي لا يهتم مثال حبة بالوجنات الوردية والعيون السوداء، آت من نورماندي لينغص عليك بهجتك ويقوم سوء فعلك. ولما كان أبوها اليهودي الثري، إيزاك أوف يورك، قد ترجاني أن أكتب رسالة نيابة عنه، فقد أعطيته هذه الرسالة ناصحا إياك بجد، وبتوسل نوعا ما، أن تسلم الفتاة مقابل فدية.
حررت من وكر اللصوص هذا في حوالي ساعة صلاة الصبح، آيمر، رئيس الرهبانية السيسترسية بدير جورفولكس.
قال السيد الأعظم: «ما قولك في هذا يا كونراد؟ وكر اللصوص! إن وكر اللصوص هذا مقام ملائم لرئيس دير كهذا. وريبيكا أوف يورك هذه هي تلميذة ميريام التي سمعت عنها، وستسمع اليهودي يعترف بذلك الآن.» ثم التفت على إيزاك، وقال بصوت عال: «إن ابنتك إذن أسيرة لدى براين بوا جيلبرت، أليس كذلك؟»
قال إيزاك المسكين متلعثما: «أجل أيها السيد الباسل الموقر، وأيا كانت الفدية التي يمكن لرجل مسكين مثلي أن يدفعها مقابل خلاصها ...»
قال السيد الأعظم: «اصمت! لقد مارست ابنتك هذه فن المداواة، أليس كذلك؟»
أجاب اليهودي بمزيد من الثقة: «بلى، أيها السيد الكريم. وكم من فارس ويومن ووصيف وتابع قد بارك الهبة الطيبة التي منحتها إياها السماء.»
واصل كونراد حديثه لليهودي قائلا: «إن ابنتك تعالج المرضى، لا أشك في ذلك، بالكلمات والطلاسم والتمائم، وغيرها من أسرار الكابالا.»
رد إيزاك: «كلا أيها الفارس الشجاع المبجل، ولكن في الأساس بدهان ذي مفعول مذهل.»
قال بومانوار: «من أين لها بهذا السر؟»
أجاب إيزاك بتردد: «لقد أعطته لها ميريام، وهي عقيلة حكيمة من قومنا.»
قال السيد الأعظم: «آه، أيها اليهودي المخادع! ألم يكن من الساحرة ميريام نفسها التي شاع خبر سحرها الشرير في كل أرض مسيحية؟» ثم صاح السيد الأعظم، راشما الصليب على صدره: «إن جسدها قد أحرق على عمود، وصار رمادا تذروه الرياح الأربعة، وليكن ذلك مصيري أنا وطائفتي إن لم أفعل في تلميذتها ما فعلناه بها وزيادة! سأعلمها كيف تلقي كلمات سحرها وتعاويذها على جنود الهيكل المبارك. هيا، يا داميان، ألق بهذا اليهودي إلى خارج البوابة، وأطلق عليه سهامك واقتله إذا اعترض أو رجع مرة أخرى. أما ابنته، فسنتعامل معها وفقا للقانون المسيحي وما يكفله لنا مقامنا الرفيع.»
وعلى هذا، دفع بإيزاك المسكين إلى الخارج. وفي الوقت نفسه أمر السيد الأعظم بمجيء ألبيرت مالفوازان، رئيس، أو بلغة الطائفة كبير، مقر فرسان الهيكل بتمبلستو، إلى حضرته.
قال السيد الأعظم بنبرة صارمة: «إن في هذا القصر المخصص لأغراض طائفة فرسان الهيكل المقدسة امرأة يهودية، جلبها إلى هنا أخ من ديننا بتواطؤ منك، أيها السيد كبير مقر فرسان الهيكل. لماذا لا تجيب؟»
أجاب المعلم بنبرة فيها تواضع عميق، على الرغم من أنه بسؤاله هذا كان فقط يريد أن يحظى بلحظة لترتيب أفكاره: «هل يؤذن لي بالرد؟»
قال السيد الأعظم: «تكلم، قد أذنا لك. وسأسألك مرة أخرى إذن، كيف رضيت أن يحضر أحد الإخوة ساحرة يهودية إلى هذا المكان المقدس لتلطخه وتدنسه؟»
ردد ألبريت مالفوازان قائلا: «ساحرة يهودية! فلتحرسنا الملائكة الصالحة!»
قال السيد الأعظم بصرامة: «أجل يا أخي، ساحرة يهودية! كما قلت لك. أتجرؤ على إنكار أن ريبيكا هذه، ابنة ذلك المرابي الحقير إيزاك أوف يورك، وتلميذة الساحرة الفاسدة ميريام، هي الآن - أشعر بالعار من مجرد التفكير في الأمر أو التحدث فيه! - تقيم داخل مقرك هذا؟»
أجاب المعلم: «إن حكمتكم أيها الأب الموقر قد كشفت الظلمة عن بصيرتي، ولكم تعجبت من أن فارسا جيدا مثل براين بوا جيلبرت يبدو مفتونا بولع بسحر هذه الأنثى التي لم أستقبلها في هذه الدار إلا لأضع حاجزا بين مودتهما المتنامية. إن كنت قد أثمت باستقبالي لها هنا فقد كان سوء تقدير مني أن ظننت أن بإمكاني أن أضع حدا لحب أخينا المفتون لهذه اليهودية، والذي بدا لي طائشا وغير طبيعي إلى حد أنني لم أستطع إلا أن أرجع سببه إلى مس من الجنون الذي يعالج باللين لا بالتوبيخ، ولكن بما أن حكمتكم المبجلة قد اكتشفت أن هذه اليهودية الفاسقة ساحرة، فربما يرجع سبب حماقته في التعلق بها بالكامل إلى هذا.»
قال بومانوار: «إنه كذلك! إنه كذلك! وربما يكون أخونا براين بوا جيلبرت في هذا الشأن يستحق الشفقة وليس العقاب الصارم، ولكن فيما يخص هذه الساحرة الدنيئة التي فتنت بسحرها أخا من الهيكل المقدس، فبالتأكيد مصيرها المحتوم هو الموت.»
قال كبير المقر: «ولكن قوانين إنجلترا ...»
قاطعه بومانوار قائلا: «قوانين إنجلترا تسمح لكل قاض وتفرض عليه أن ينفذ العدالة في نطاق سلطته القضائية. وهل يستطيع أحد أن ينكر على السيد الأعظم للهيكل هذه السلطة داخل أحد مقار طائفته؟ كلا! سنحاكم وندين. فلتعدوا قاعة القلعة لمحاكمة الساحرة.»
الفصل الثاني والثلاثون
كان جرس القلعة الثقيل قد دق معلنا ساعة الظهيرة، عندما سمعت ريبيكا وقع أقدام فوق الدرج الخاص الذي يؤدي إلى مكان حبسها. وقد أعلنت الضجة عن وصول عدة أشخاص؛ ما جعلها تشعر بالفرح بعض الشيء؛ لأنها كانت تخشى من الزيارات المنفردة لبوا جيلبرت العنيف السريع الغضب أكثر من خشيتها لأي شر آخر قد يصيبها. لم يكن باب غرفتها موصدا، ودخل كونراد وكبير المقر مالفوازان، وبصحبتهما أربعة حراس كانوا متشحين بالسواد ويحملون الرماح.
قال المعلم: «يا ابنة العرق الملعون! انهضي واتبعينا.»
قالت ريبيكا: «إلى أين ولم؟»
أجاب كونراد: «أيتها الفتاة، ليس لك أن تسألي، بل عليك أن تطيعي. ومع ذلك، ليكن معلوما لك أنك ستمثلين أمام محكمة السيد الأعظم لطائفتنا المقدسة كي تجيبي عن جرائمك.»
قالت ريبيكا وهي تضم يديها في ورع: «ليتبارك إله إبراهيم! إن اسم أحد القضاة، ولو كان عدوا لقومي، هو حام لي. سأتبعكم طواعية، فقط اسمحوا لي أن ألف خماري حول رأسي.»
نزلوا الدرج بخطوات بطيئة ومهيبة، واجتازوا رواقا طويلا، ومن خلال باب ذي درفتين قابلتين للطي في نهايته دخلوا إلى قاعة كبيرة كان السيد الأعظم قد أقام فيها في ذلك الوقت محكمة عدالته. وبينما كانت ريبيكا تمر عبر الجمع ضمت ذراعيها وأحنت رأسها، ودس أحدهم قصاصة من الورق في يدها، فأخذتها في غير وعي تقريبا، وظلت ممسكة بها دون أن تتفحص محتواها.
كانت هيئة المحكمة المنعقدة لمحاكمتها تشغل المنصة أو الجزء المرتفع من الطرف الأعلى للقاعة الكبيرة. وعلى مقعد مرتفع أمام المتهمة مباشرة، جلس السيد الأعظم لطائفة فرسان الهيكل في ثوب طويل فضفاض أبيض، ممسكا في يده بعصا سلطته الروحية التي حملت رمز الطائفة. وكان كبار المقار، الذين كان أربعة منهم حاضرين، يشغلون المقاعد الأدنى التي كانت بطريقة ما متراجعة وراء مقعد رئيسهم. أما الفرسان الذين لم يكونوا يتمتعون بمثل هذه الرتبة في الطائفة، فقد جلسوا على مقاعد أدنى، مع الحفاظ على المسافة نفسها من كبار المقار كالتي بين كبار المقار والسيد الأعظم. وخلفهم، ولكن أيضا على المنصة أو الجزء المرتفع من القاعة، وقف وصفاء الطائفة، وكانوا يرتدون ثيابا بيضاء أقل جودة.
أما الجزء المتبقي والأدنى من القاعة، فقد كان ممتلئا بحراس يحملون حرابا، وبخدم آخرين كان الفضول قد اجتذبهم إلى هناك لرؤية السيد الأعظم والساحرة اليهودية في الوقت ذاته. افتتحت جلسة اليوم بإنشاد ترنيمة، وارتأى لوكاس أن الألحان الوقورة لترنيمة «هلم نرنم للرب» هي الأنسب للتمهيد للنصر الوشيك - إذ هكذا كان يعد هذه المحاكمة - على قوى الظلام.
عندما توقفت الأصوات جال السيد الأعظم ببصره ببطء حول الدائرة، ولاحظ أن مقعد أحد كبار المقار كان فارغا. كان براين دي بوا جيلبرت، الذي كان يجلس في ذلك المقعد، قد غادر مكانه، وكان عندئذ يقف بالقرب من الركن القصي لأحد المقاعد التي كان يشغلها رفقاؤه من فرسان الهيكل، باسطا عباءته الطويلة بإحدى يديه، كي يخفي بها وجهه بعض الشيء، بينما كان يمسك في اليد الأخرى بسيفه الذي كان له مقبض على شكل صليب، وكان يرسم ببطء بسنه خطوطا على الأرضية المصنوعة من خشب البلوط.
قال السيد الأعظم بعدما أولاه نظرة شفقة: «رجل تعيس! انظر يا كونراد كيف يضنيه هذا العمل المقدس. انظر كيف لا يمكنه النظر إلينا، ولا يمكنه النظر إليها، ومن يعلم بأي إيعاز من معذبته ترسم يده خطوط الكابالا هذه على الأرضية؟!»
بعد ذلك رفع المعلم صوته ، وخاطب الجمع. «أيها الرجال المبجلون البسلاء، أيها الفرسان، أيها الرؤساء، الموقرون رفاقنا في هذه الطائفة المقدسة، إخوتي وأبنائي! وأنتم أيضا أيها الوصفاء الطيبو النشأة الأتقياء، الذين تطمحون إلى ارتداء هذا الصليب المقدس! وأنتم كذلك أيها الإخوة المسيحيون من كل الدرجات! لقد استدعينا للمثول أمامنا امرأة يهودية تدعى ريبيكا ابنة إيزاك أوف يورك، وهي امرأة معروفة بأعمال الشعوذة والسحر التي استطاعت بها أن تسوق إلى الجنون، وتسلب عقل، ليس أحد الفلاحين، وإنما أحد الفرسان؛ وليس فارسا علمانيا، وإنما أحد الفرسان الذين نذروا أنفسهم لخدمة الهيكل المقدس؛ وليس فارسا من الرفقاء، ولكنه أحد كبار مقار طائفتنا ذوي الصدارة في الشرف كما في المكانة. إن أخانا براين دي بوا جيلبرت معروف عنه أنه بطل حق وغيور من أبطال الصليب، أتى بالعديد من الأعمال الباسلة التي جرت في الأرض المقدسة. لو قيل لنا إن رجلا كهذا، على هذه الدرجة من الشرف والتبجيل، متخليا فجأة عن شخصيته ونذوره وإخوته وآماله، قد ربط نفسه بفتاة يهودية، وتجول مع هذه الرفيقة المنحطة عبر أماكن منعزلة، ودافع عنها مفضلا إياها على نفسه، وأخيرا أعمته تماما حماقته وسلبته عقله، حتى إنه جلبها إلى أحد مقارنا، فماذا يسعنا أن نقول سوى أن شيطانا خبيثا قد استحوذ على الفارس النبيل، أو أنه قد وقع تحت تأثير بعض التعاويذ السحرية؟ لو كان بإمكاننا أن نفترض غير ذلك، فإن براين دي بوا جيلبرت كان يجب أن يعزل ويطرد من طائفتنا، حتى ولو كان اليد اليمنى والعين اليمنى لها.»
توقف قليلا، وسرت همهمة خفيضة بين الحاضرين الذين كانوا جميعا ينتظرون بقلق ما سيقترحه السيد الأعظم بعد ذلك.
قال: «إن عقاب فارس الهيكل الذي انتهك عمدا قواعد طائفته، يجب بالفعل أن يكون شديدا ومفحما، ولكن إذا كان الشيطان قد فرض بوسائل السحر والتعاويذ سيطرته على الفارس، ربما لأنه نظر بعينيه نظرة عابرة لجمال الفتاة، فإنه أولى بنا إذن أن نرثي لارتداده عن الطريق القويم لا أن نعاقبه عليه، وبينما نفرض عليه كفارة كهذه قد تنقيه من إثمه فإننا نحول دفة سخطنا بأكملها إلى الأداة المتهمة التي كادت أن تتسبب في سقوطه الكامل. تقدموا إذن وأدلوا بشهادتكم، يا من شهدتم هذه الأفعال التعيسة؛ حتى يمكننا أن نحكم على قدرها ومغزاها.»
استدعي العديد من الشهود لإثبات الخطر الذي عرض بوا جيلبرت نفسه له في محاولته لإنقاذ ريبيكا من القلعة المحترقة، وتجاهله الدفاع عن نفسه لاهتمامه بسلامتها. أصبحت المخاطر التي تغلب عليها بوا جيلبرت، التي كانت عظيمة في حد ذاتها، استثنائية في روايتهم. وبالغوا في وصف إخلاص الفارس للدفاع عن ريبيكا بما فاق الحدود، ليس فقط حدود الرشد، بل حتى حدود الإفراط الجنوني لحماسة الفرسان.
نودي بعد ذلك على كبير مقر تمبلستو كي يصف كيف وصل بوا جيلبرت واليهودية إلى المقر. كان عرض مالفوازان متسما بالحذر بإتقان. ولكن بينما كان يبدو أنه يحاول الحفاظ على مشاعر بوا جيلبرت، فقد كان بين الحين والآخر يلقي ببعض التلميحات التي بدا أنها تستنبط أنه كان تحت تأثير اختلال عقلي مؤقت، لدرجة أنه بدا مفتونا بالفتاة التي جلبها معه. وبتنهدات من الندم صرح كبير المقر بأسفه على أنه أذن لريبيكا وحبيبها بالإقامة داخل جدران المقر، واختتم حديثه بأن قال: «ولكني قدمت دفاعي في اعترافي لأبينا الموقر السيد الأعظم؛ فهو يعلم أن دوافعي لم تكن شريرة على الرغم من أن مسلكي ربما كان شاذا.»
قال بومانوار: «أحسنت القول، أيها الأخ ألبيرت؛ فدوافعك كانت طيبة، ولكن مسلكك كان خاطئا. أما كان من الأفضل، أيها الإخوة، أن نتقصى عن شيء في الحياة السابقة لتلك المرأة وفي محادثاتها، خاصة أننا قد نكتشف ما إذا كانت ممن يستخدمن التعاويذ السحرية والطلاسم.»
كان هيرمان أوف جودالريك أحد كبار المقار الحاضرين، وقد نهض وانحنى للمعلم الأكبر الذي منحه على الفور الإذن بالكلام، فقال: «أود أن أعرف، أيها الأب الموقر، من أخينا الباسل براين دي بوا جيلبرت، قوله في هذه الاتهامات العجيبة.»
قال السيد الأعظم: «سمعت يا براين دي بوا جيلبرت السؤال الذي يرغب أخونا أوف جودالريك في أن تجيب عنه، وأنا آمرك بأن تجيب عنه.»
أدار بوا جيلبرت رأسه نحو السيد الأعظم عندما خاطبه، وظل صامتا.
قال السيد الأعظم: «لقد استحوذ عليه شيطان أبكم. انصرف أيها الشيطان! تكلم، يا براين دي بوا جيلبرت، أناشدك برمز طائفتنا المقدسة هذا.»
بذل بوا جيلبرت جهدا في كبت ازدرائه وسخطه الجامحين، وأجاب قائلا: «إن براين دي بوا جيلبرت، أيها الأب الموقر، لا يرد على مثل هذه التهم الهوجاء والغامضة. وإن كان ثمة اتهام لشرفه فسيدافع عنه بجسده، وبهذا السيف الذي لطالما حارب به من أجل المسيحية.»
قال السيد الأعظم: «إننا نسامحك يا أخ براين، على الرغم من أن تفاخرك بانتصاراتك الحربية أمامنا ما هو إلا تمجيد لأعمالك الخاصة، وهو نابع من العدو الذي يغرينا بتمجيد عبادتنا. والآن، فليتقدم أمامنا أولئك الذين لديهم شهادة عن حياة هذه المرأة اليهودية ومحادثاتها.»
كان ثمة لغط في الجزء الأدنى من القاعة، وعندما سأل السيد الأعظم عن السبب كان الرد بأن بين الحشد رجلا كان طريح الفراش، وقد أعادت السجينة إلى أطرافه كامل قدرتها بدهان عجيب.
الفصل الثالث والثلاثون
سحب الفلاح المسكين الذي كان ساكسوني المولد أمام سياج منصة المحكمة. كان من المؤكد أنه لم يشف تماما؛ إذ كان يستند على عكازين وهو يتقدم لأداء الشهادة. وبكراهة شديدة، أدلى بشهادته مصحوبة بدموع غزيرة، ولكنه أقر بأنه منذ سنتين، عندما كان مقيما في يورك، ابتلي فجأة بمرض شديد عندما كان يعمل لدى إيزاك اليهودي الثري في مهنته، وهي النجارة، لدرجة أنه كان غير قادر على النهوض من سريره حتى أعادت له العلاجات التي أعطيت بتعليمات ريبيكا، وخاصة دهان يبعث الدفء وله رائحة كرائحة التوابل، القدرة على استخدام أطرافه على حد ما، وقال الرجل: «وإذا أذنت لي يا صاحب القداسة الكريم، فإني لا يمكنني أن أظن أن الفتاة كانت تقصد إلحاق أذى بي، على الرغم من أن حظها السيئ جعلها يهودية؛ لأنه حتى عندما كنت أستخدم دواءها كنت أتلو الصلاة الربانية وصلاة قانون الإيمان، ولم يقل جهدها الكريم قط ولو بمثقال ذرة.»
قال السيد الأعظم: «صمتا أيها العبد، واغرب عنا! إنه من الأنسب لحيوانات من أمثالك أن يعبثوا ويلعبوا بالعلاجات الشيطانية، وأن تعمل لدى أبناء الشيطان. هل معك ذلك الدهان الذي تتحدث عنه؟»
أخرج الفلاح، بعد أن تحسس صدره بيد مرتعشة، صندوقا صغيرا، على غطائه بعض الأحرف العبرية، وهو ما اعتبره معظم الحضور دليلا قاطعا على أن الشيطان هو صانعه. وبعد أن رشم بومانوار الصليب على صدره، أخذ الصندوق في يده. ولما كان على علم بمعظم اللغات الشرقية، فقد قرأ بسهولة الشعار المكتوب على الغطاء: «هو ذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا.» قال: «إن قوى الشياطين الغريبة هي التي يمكنها أن تحول الكتاب المقدس إلى تجديف على الرب، مازجة السم بطعامنا الضروري! أليس ثمة طبيب هنا يمكنه أن يخبرنا بمكونات هذا الدهان الغامض؟»
ظهر طبيبان، كما ادعيا، وكان أحدهما ناسكا والآخر حلاقا، وأقرا بأنهما لا يعرفان شيئا عن مواده، باستثناء أنهما ذاقا في طعمه المر والحناء، وهما كما اعتقدا من الأعشاب الشرقية. وعندما انتهى هذا الفحص الطبي، طلب الفلاح الساكسوني بتواضع أن يسترد الدواء، ولكن السيد الأعظم عبس بصرامة لدى سماعه الطلب، وقال للرجل المقعد: «ما اسمك يا رجل؟»
أجاب الفلاح: «هيج، ابن سنيل.»
قال السيد الأعظم: «إذن يا هيج يا ابن سنيل، أقول لك أن تكون طريح الفراش أفضل من أن تقبل أن تنتفع بدواء الكفار لتستطيع أن تنهض وتمشي.»
انسحب هيج بن سنيل من بين الحشد، ولكنه لاهتمامه بمصير من أحسنت إليه تباطأ حتى يعرف مصيرها.
في أثناء هذه الفترة من المحاكمة، أمر السيد الأعظم ريبيكا أن تكشف عن وجهها، فتكلمت للمرة الأولى، وأجابت بصبر، ولكن بوقار، قائلة إنه لم يكن من عادة بنات قومها أن يكشفن عن وجوههن عندما يكن وحدهن وسط جمع من الغرباء. بعثت النبرة العذبة لصوتها ونعومة ردها إحساسا بالشفقة والتعاطف لدى الحاضرين، لكن بومانوار كرر أوامره بأنه يتعين على ضحيته أن تكشف عن وجهها. وكان الحراس على وشك أن يخلعوا عنها نقابها امتثالا لأوامره عندما نهضت واقفة أمام السيد الأعظم، وقالت: «كلا، ولكن من أجل بناتكم.» ثم قالت وهي تستعيد ذاكرتها: «وا أسفاه، ليس لديكم بنات! ولكن من أجل ذكرى أمهاتكم، لا تجعلوني أعامل هكذا في حضرتكم؛ فلا يليق بفتاة أن تنكشف أمام مثل أولئك الخدم الأجلاف.» وأضافت، بنبرة تنم عن الأناة والحزن كادت أن تذيب قلب بومانوار نفسه: «سأطيعك؛ فأنت الأكبر سنا بين قومك، ونزولا على أوامرك سأظهر ملامح وجه فتاة ذات مصير تعس.»
أزاحت نقابها عن وجهها، ونظرت إليهم بملامح يختلط فيها الخجل بالوقار. أثار جمالها الفائق همهمة اندهاش، ولكن شعور هيج بن سنيل كان عميقا عندما أحس بأثر رؤية طلعة من أحسنت إليه. فقال للحراس على باب القاعة: «دعوني أمض، دعوني أمض! فالنظر إليها مرة أخرى قد يقتلني؛ لأنني شاركت في قتلها.»
قالت ريبيكا عندما سمعت صياحه: «صه أيها الرجل المسكين؛ فلم تؤذني بقولك الحقيقة، ولا يمكنك أن تساعدني بالشكوى والعويل. أرجوك، اصمت؛ امض إلى بيتك وانج بنفسك.»
كان الحراس على وشك أن يدفعوا بهيج للخارج شفقة عليه، ولكنه وعدهم بالصمت، وأذن له بأن يبقى. عندئذ، نودي على جنديين، كان أحدهما قد رأى ريبيكا تعالج رجلا جريحا، أحضر معهم إلى قلعة توركويلستون. قال إنها أتت بإشارات معينة فوق الجرح، وكررت بعض الكلمات الغامضة، فانفصل الرأس الحديدي لسهم نشاب مربع الشكل عن الجرح، وتوقف النزيف، والتأم الجرح، وفي غضون ربع الساعة كان الرجل المحتضر يمشي فوق الأسوار، ويساعد الشاهد في إدارة منجنيق أو آلة لقذف الحجارة. من المحتمل أن هذه الأسطورة قد بنيت على حقيقة أن ريبيكا كانت ترعى إيفانهو الجريح في قلعة توركويلستون. أخرج الشاهد من جيبه رأس السهم نفسه الذي استخرج بمعجزة من الجرح طبقا لقصته. ونظرا إلى أن وزن الحديد كان أونصة كاملة فقد أكد تماما على حكايته، رغم كونها من نسج خياله.
كان رفيقه كذلك شاهدا من فوق سور مجاور للمشهد بين ريبيكا وبراين دي بوا جيلبرت، وذلك عندما كانت على وشك أن تلقي بنفسها من أعلى البرج. وحتى لا يتخلف عن رفيقه فقد صرح هذا الرجل بأنه رأى ريبيكا جاثمة على سور البرج، وهناك اتخذت هيئة بجعة بيضاء كالحليب، وطارت بهذه الهيئة ثلاث مرات حول قلعة توركويلستون، ثم عادت لتستقر فوق البرج، ورجعت مرة أخرى إلى هيئتها الأنثوية.
كان السيد الأعظم قد أخذ الأصوات، ثم سأل ريبيكا بلهجة رسمية عما لديها من أقوال ردا على حكم إدانتها الذي كان على وشك النطق به.
قالت اليهودية الحسناء بصوت مرتجف من أثر الانفعال: «أعي أن طلب رحمتك سيكون أمرا لا طائل منه، كما أنني أعده وضيعا. ولو ذكرت أن علاج المريض والجريح من ديانة أخرى لا يمكن أن يغضب المؤسس المسلم به لعقيدتينا، لكان ذلك غير مجد أيضا! ولو رددت بأن كثيرا من الأقوال التي تفوه بها هؤلاء الرجال ضدي (الذين أرجو أن تعفو عنهم السماء!) مستحيلة، ما نفعني ذلك في شيء؛ لأنك تؤمن بإمكان حدوثها! كما أنني لن أدافع عن نفسي على حساب ظالمي، الذي يقف هناك مستمعا للحكايات الخيالية والتخمينات التي يبدو أنها تحول الطاغية إلى ضحية. فليحكم الرب بيني وبينه! ولكني أفضل أن أستسلم للموت عشر مرات على النحو الذي تشي به رغبتكم تجاهي، على أن أستمع لعبارات التودد والغزل التي ألح علي بها رجل الشيطان هذا، وأنا أسيرته بلا صديق أو مدافع عني، ولكنه على إيمانكم، ومن شأن أقل تأكيد يصدر عنه أن يبطل أشد احتجاجات اليهودية المكروبة جدية؛ ومن ثم فلن أرد له التهمة الموجهة ضدي، ولكني سأحتكم له، أجل يا براين دي بوا جيلبرت، سأحتكم لك، عما إذا لم تكن هذه التهم باطلة، بل مروعة ومفتراة بقدر ما هي قاتلة.»
ساد صمت قصير، وتوجهت العيون كلها إلى براين دي بوا جيلبرت الذي كان صامتا.
قالت: «تكلم إن كنت رجلا؛ إن كنت مسيحيا، تكلم! أستحلفك بالرداء الذي ترتديه، وبالاسم الذي ورثته، وبالفروسية التي تتفاخر بها، وبشرف أمك، وبقبر أبيك وعظامه؛ أستحلفك أن تجيب عما إذا كانت هذه الأشياء صحيحة.»
قال السيد الأعظم: «أجب عليها يا أخي، إن كان العدو الذي تصارعه سيعطيك القوة.»
في الواقع بدا بوا جيلبرت مضطربا بفعل عواطفه المتصارعة التي كادت أن تجعل ملامح وجهه تتشنج، وفي النهاية أجاب بصوت مرتبك وهو ينظر إلى ريبيكا ويقول: «اللفيفة! اللفيفة!»
قال بومانوار: «أجل، هذه شهادة بالفعل! إن ضحية سحرها لا يمكنه سوى أن يذكر اللفيفة اللعينة التي لا بد أن الطلاسم المكتوبة فيها هي سبب صمته.»
ولكن ريبيكا فسرت الكلمات المنتزعة الصادرة عن بوا جيلبرت تفسيرا آخر، وناظرة إلى قصاصة الرق الذي كانت لا تزال ممسكة بها في يدها، قرأت المكتوب عليها بحروف عربية: «اطلبي محاربا نصيرا!» ثم أتاحت التعليقات المهمهمة، التي سرت بين الجمع على الرد الغريب لبوا جيلبرت، الفرصة لريبيكا كي تفحص اللفيفة ثم تمزقها على الفور دون أن يلاحظها أحد. وعندما توقف الهمس تكلم السيد الأعظم قائلا: «لا يمكنك يا ريبيكا أن تستخلصي أي نفع من شهادة هذا الفارس التعيس؛ لأنه، كما نعي جيدا، ما زال العدو ذا سلطان قوي عليه. ألديك شيء آخر تريدين قوله؟»
قالت ريبيكا: «ما زالت لدي فرصة واحدة للحياة، حتى بمقتضى قوانينك القاسية. لقد كانت حياتي بائسة، بائسة، على الأقل مؤخرا، ولكني لن أتخلى عن هبة الرب، بينما يعطيني وسيلة الدفاع عنها. إنني أنكر هذه التهمة، وأصر على براءتي، وأعلن بطلان هذا الاتهام، وأطالب بامتياز تحديد الحكم عن طريق القتال، وسأظهر ومعي نصيري.»
رد السيد الأعظم: «ومن يا ريبيكا الذي سيشهر رمحه دفاعا عن ساحرة؟ من سيكون نصير اليهودية؟»
ريبيكا والسيد الأعظم، بريشة أدولف لالوز.
قالت ريبيكا: «إن الرب سيبعث لي بطلا؛ فلا يمكن ألا يوجد في إنجلترا البهيجة والمضيافة والكريمة والحرة، حيث الكثيرون مستعدون لتعريض حياتهم للخطر من أجل الشرف، من يقاتل من أجل العدالة، ولكنه يكفيني أن أطالب بتحديد الحكم عن طريق القتال، وها هو عربون التحدي من جانبي.»
خلعت قفازها المطرز من يدها، ورمت به أمام السيد الأعظم بحركة امتزجت فيها البساطة بالوقار، وأثارت دهشة الجميع وإعجابهم.
قال : «أيتها الفتاة، إن كانت الشفقة التي أشعر بها تجاهك نابعة من أي أعمال شريرة مارستها علي فإن إثمك عظيم، ولكني أفضل أن أظنها أرق مشاعر الطبيعة التي يحزنها أن يصير هذا الجسد الجميل وعاء للهلاك. توبي يا ابنتي، واعترفي بأعمال سحرك، وارجعي عن عقيدتك الشريرة؛ قبلي هذا الرمز المقدس، وكل شأنك سيكون على ما يرام في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة. ففي أحد أديرة الراهبات، حيث الأنظمة صارمة، سيكون لديك وقت للصلاة والتوبة السليمة التي لن تندمي عليها. فلتفعلي هذا لتعيشي؛ فماذا فعل لك ناموس موسى حتى تموتي من أجله؟»
قالت ريبيكا: «لقد كان شريعة آبائي التي نزلت بين رعود وعواصف على جبال سيناء وسط السحاب والنيران.»
قال بومانوار: «فليتقدم راعي كنيستنا، ويخبر هذه الكافرة العنيدة ...»
قالت ريبيكا بوداعة: «عذرا على المقاطعة؛ فأنا فتاة لا أملك مهارة الجدال في أمر ديني، ولكنني على استعداد لأن أموت من أجله إن كانت هذه هي مشيئة الرب. أرجو أن تجيبني إلى طلبي بنصير يحارب عني.»
قال بومانوار: «أعطوني قفازها. إنه بالفعل رهن ضئيل لغرض مميت! انظري يا ريبيكا، إن قفازك الهش والخفيف هذا مقارنة بقفازاتنا الفولاذية الثقيلة هو مثلك مقارنة بفارس الهيكل؛ لأنك تحديت طائفتنا.»
ردت ريبيكا: «ضع براءتي في الميزان، وسترجح كفة القفاز الحريري على القفاز الحديدي.» «إذن، فأنت مصرة على رفضك الاعتراف بذنبك، وعلى الإقدام على ذلك التحدي الجريء؟»
أجابت ريبيكا: «أصر بالفعل، أيها السيد النبيل.»
قال السيد الأعظم: «فليكن الأمر كذلك إذن، باسم السماء، وليظهر الرب الحق!»
أجاب كبار المقار من حوله قائلين: «آمين.» ودوت الكلمة بين الجمع بأكمله.
الفصل الرابع والثلاثون
قال بومانوار: «أيها الإخوة، تدركون أننا كنا نستطيع أن نرفض أن تحظى هذه المرأة بميزة الحكم عن طريق المبارزة، ولكن على الرغم من أنها يهودية كافرة فإنها أيضا غريبة، وليس لها من يدافع عنها، وحاشا للرب أن تطلب الاستفادة من قوانيننا المعتدلة ونأبى أن نلبي لها ذلك. وعلى ذلك فها هي تفاصيل القضية. إن ريبيكا، ابنة إيزاك أوف يورك ، بناء على عدة حالات متكررة ومريبة، موصومة بممارستها للسحر على شخص فارس نبيل من طائفتنا المقدسة، وقد طالبت بالمبارزة لإثبات براءتها. من، برأيكم، أيها الإخوة الموقرون، ينبغي أن نوكل إليه رهن المعركة ونجعله في الوقت نفسه نصيرنا في الميدان؟»
قال كبير المقر جودالريك: «إلى براين دي بوا جيلبرت الذي يخصه الأمر في المقام الأول، علاوة على أنه الأعلم بحقيقة هذا الأمر.»
قال السيد الأعظم: «حقا تقول يا أخي. يا ألبيرت مالفوازان، أعط رهن المعركة هذا إلى براين دي بوا جيلبرت.» واستطرد مخاطبا بوا جيلبرت: «إننا نكلفك، أيها الأخ، أن تخوض معركتك برجولة، ولا ريب في أن القضية العادلة ستنتصر. أما أنت، يا ريبيكا، فانتبهي إلى أننا نمهلك ثلاثة أيام من اليوم كي تجدي نصيرا يحارب عنك.»
ردت ريبيكا: «تلك مهلة قصيرة لغريبة، فضلا عن كونها من ديانة أخرى، أن تجد شخصا ليحارب ويخاطر بحياته وشرفه من أجل قضيتها، في مواجهة فارس معروف عنه أنه جندي مصدق عليه.»
رد السيد الأعظم: «لن نمد المهلة؛ إذ يجب أن يجري النزال في الميدان في حضورنا، وثمة العديد من القضايا ذات الشأن التي تستدعي تدخلنا في اليوم الرابع من الآن.»
قالت ريبيكا: «لتكن مشيئة الرب! إنني أضع ثقتي فيه؛ فهو القادر على أن ينجز في لحظة ما يستغرق عمرا كاملا.»
قال السيد الأعظم: «أحسنت القول يا فتاة، ولكننا نعلم جيدا من يمكنه أن يتمثل في صورة ملاك من نور. لم يبق إلا أن نحدد مكانا مناسبا للنزال، وأيضا لتنفيذ حكم الإعدام إذا دعا الأمر. أين كبير هذا المقر؟»
كان ألبيرت مالفوازان لا يزال ممسكا بقفاز ريبيكا في يده، ويتحدث إلى بوا جيلبرت بجدية شديدة، ولكن بصوت خفيض.
قال السيد الأعظم: «ماذا! ألن يقبل التحدي؟»
قال مالفوازان وهو يخفي القفاز تحت عباءته: «سيقبله. لقد قبله أيها الأب الموقر. وفيما يخص مكان النزال فأرى أن المكان الأنسب هو حلبة القديس جورج التي يمتلكها هذا المقر، والتي نستخدمها للتدريبات العسكرية.»
قال السيد الأعظم: «حسنا. يا ريبيكا ، في هذه الحلبة ستقدمين نصيرك. وإن لم تتمكني من ذلك، أو هزم نصيرك حسب حكم الرب، فستموتين ميتة الساحرات وفقا لحكم القضاء. ليسجل حكمنا هذا ويتلى بصوت عال؛ حتى لا يدعي أحد الجهل به.»
نسخ أحد قسيسين، كانا يقومان بدور كاتبي الجلسة، الأمر على الفور في مجلد صخم. وعندما فرغ من الكتابة تلا الآخر حكم السيد الأعظم بصوت عال، الذي كان نصه:
إن ريبيكا اليهودية، ابنة إيزاك أوف يورك، المتهمة بالسحر وغيره من الممارسات الملعونة، التي مارستها على أحد فرسان طائفة هيكل صهيون الأقدس، تنكر الاتهامات وتقول إن الشهادة التي قدمت ضدها في هذا اليوم باطلة وشريرة وغادرة، وتعرض أن تؤكد قضيتها عن طريق نصير يؤدي واجبه المخلص بكل صفات الفروسية، وبكل الأسلحة التي يتطلبها تحدي النزال، وذلك على أن تتحمل المخاطر والتبعات. وعلى هذا تقدمت بتحديها؛ ومن ثم سمح الأب الموقر والسيد العظيم، لوكاس ماركويس أوف بومانوار، بالتحدي المذكور، وحدد اليوم الثالث للنزال المذكور، على أن يكون مكانه الساحة المعروفة باسم حلبة القديس جورج بالقرب من مقر تمبلستو. وليكن الرب في عون القضية العادلة!
قال السيد الأعظم: «آمين!» وردد كل من كانوا حوله الكلمة. لم تتكلم ريبيكا، وإنما رفعت ناظريها إلى السماء وقد ضمت يديها، وظلت برهة على هذا الوضع، ثم بتواضع ذكرت السيد الأعظم أنه ينبغي أن تمنح فرصة التواصل بحرية مع أصدقائها بغرض تدبر أمر نصير يقاتل من أجلها، إن أمكن.
قال السيد الأعظم: «إن هذا مطلب عادل وقانوني؛ فلتختاري الرسول الذي تثقين فيه، وسيتواصل بحرية معك في غرفة سجنك.»
قالت ريبيكا: «هل من أحد يؤدي المهمة لمخلوقة بائسة، بدافع من حب الخير، أو بأجرة سخية؟»
ساد الصمت، بينما وقفت ريبيكا بضع لحظات في قلق لا يوصف، ثم صاحت: «أحقا هكذا هو الحال؟ أفي أرض إنجليزية أحرم من فرصة النجاة الواهية الباقية لي، للافتقار إلى رحمة تمنح لأعتى المجرمين؟»
أخيرا أجاب هيج بن سنيل قائلا: «سأؤدي لك مهمتك بقدر ما يستطيع شخص مقعد، ويسعدني أن تقوى أطرافي بما يكفي على إصلاح ما أفسده لساني. وا أسفاه! عندما تباهيت بالخير الذي فعلته لم أكن أتخيل أنني أقودك إلى الخطر.»
قالت ريبيكا: «الرب وحده هو المدبر لكل أمر. وحتى تنفذ رسالته يصبح الحلزون رسولا تماما كالصقر. ابحث عن إيزاك أوف يورك - ها هي القطعة الذهبية التي ستدفع بها أجرة الجواد والرجل - أعطه هذه اللفيفة. لا أعلم إن كانت الروح التي تلهمني من السماء أم لا، ولكني على يقين من أنني لن أموت هذه الميتة، وأن بطلا سينهض للقتال من أجلي. وداعا! إن حياتي وموتي يعتمدان على سرعتك.»
أخذ الفلاح اللفيفة التي لم يكن بها سوى بضعة أسطر باللغة العبرية.
قال: «سآخذ جواد جاري بوثان الجيد، وسأكون في يورك في أقصر وقت يمكن لرجل وحيوان أن يصل فيه إليها.»
ولكن كما شاء القدر، لم يضطر إلى المضي بعيدا هكذا؛ فعلى مسافة ربع ميل من بوابة المقر، قابل رجلين على جوادين عرف من ملبسهما وقبعتيهما الصفراوين الضخمتين أنهما يهوديان. ولما اقترب أكثر منهما اكتشف أن أحدهما كان رب عمله القديم إيزاك أوف يورك. أما الآخر فكان الطبيب الحاخام بن صامويل.
قال ابن صامويل: «من ذلك المسكين التعس المقبل علينا يتوكأ على عكازيه، راغبا، على ما أظن، في الحديث معي؟»
لم يكد إيزاك يلقي نظرة على اللفيفة التي قدمها له هيج حتى صدرت منه أنة عميقة، وسقط عن بغلته كرجل محتضر، وظل مستلقيا للحظات فاقدا لوعيه. ترجل الحاخام عن جواده بفزع شديد، وبسرعة استخدم العلاجات التي يوصي علمه باستخدامها لعلاج صاحبه، ولكن الحياة دبت فجأة في الرجل الذي كان قد أثار قلقه الشديد.
قال: «يا ابنة حزني، كان يجب أن تدعي بن أوني وليس ريبيكا! لماذا يقود موتك بشعري الأشيب إلى القبر، حتى ألعن الرب وأموت، من فرط المرارة التي تعتصر قلبي!»
قال الحاخام في دهشة شديدة: «يا أخي، أتكون أبا في بني إسرائيل وتتلفظ بمثل هذه الكلمات؟ إني واثق من أن ابنة بيتك لا تزال على قيد الحياة.»
أجاب إيزاك: «إنها على قيد الحياة، ولكنها حياة كحياة دانيال، الذي كان يطلق عليه بيلشاصر، حتى داخل عرين الأسود. إنها أسيرة عند رجال الشيطان هؤلاء، وستحيق بها وحشيتهم غير عابئين بشبابها أو بجمالها. أوه! لقد كانت تاجا من السعف الأخضر لخصلات شعري الأشيب، ولا بد أنها ستذبل في ليلة ما كيقطينة يونان! يا ابنة حبي! يا ابنة شيبي! آه يا ريبيكا، يا ابنة راشيل! لقد أحاط بك ظلام الموت.»
قال الحاخام: «ولكن اقرأ اللفيفة؛ فقد نجد طريقة يمكننا بها تخليصها.»
رد إيزاك: «اقرأها أنت يا أخي؛ فعيناي تنهمران بالدمع كنبع ماء.»
قرأ الطبيب، ولكن بلغتهما الأم، الكلمات الآتية:
على إيزاك، ابن أدونيكام، الذي يسميه غير اليهود إيزاك أوف يورك، سلام أرض الميعاد وبركتها تحل عليك مضاعفة! أبي، لقد حكم علي بالموت بتهمة لا تعرفها روحي، وهي جريمة السحر. يا أبي، إذا أمكن العثور على رجل قوي ليقاتل من أجل قضيتي بالسيف والحربة، وفقا لعادات النصارى، وداخل حلبة تمبلستو، في اليوم الثالث من الآن، فلعل إله آبائنا يعطيه القوة للدفاع عن البريئة التي ليس لها من يساعدها. وعلى ذلك، فلتنظر ما أنت فاعل، وما إذا كان ثمة سبيل للخلاص. يوجد بالفعل محارب نصراني واحد قد يحمل السلاح نيابة عني، هو ويلفريد، ابن سيدريك، الذي يدعوه غير اليهود إيفانهو، ولكنه قد لا يقوى حاليا على حمل ثقل درعه. ومع ذلك، فلترسل بالأنباء إليه يا أبي؛ فإن له حظوة بين الرجال الأقوياء في قومه، وحيث إنه كان رفيقنا في الأسر فقد يجد أحدا ليقاتل من أجلي. قل له، له هو، ويلفريد، ابن سيدريك، إن ريبيكا إن عاشت أو ماتت فستعيش أو تموت بريئة تماما من الذنب المتهمة به.
قال الحاخام: «تشجع؛ فالحزن لا يفيد في شيء. أعد عدتك واذهب بحثا عن ويلفريد بن سيدريك هذا؛ فقد يكون هو من سيساعدك بالمشورة أو بالقوة؛ لأن الشاب لديه حظوة في عيني ريتشارد قلب الأسد الذي ترددت أنباء عن عودته إلى البلاد. وربما يحصل على رسالة منه، عليها ختمه ، يأمر فيها هؤلاء الرجال سفاكي الدماء بأن يحجموا عن أعمالهم الخبيثة التي ينوونها.»
قال إيزاك: «سأبحث عنه؛ لأنه شاب طيب، ويشعر بالشفقة حيال شتات بني يعقوب.»
الفصل الخامس والثلاثون
في وقت الغسق من اليوم الذي حوكمت فيه ريبيكا، إن صح أن نطلق عليها محاكمة، سمع قرع منخفض على باب محبسها.
قالت: «ادخل إن كنت صديقا، وإن كنت عدوا فلا أملك وسيلة لأرفض دخلوك.»
قال براين دي بوا جيلبرت وهو يدخل الغرفة: «إن ما سيجري في هذه المقابلة هو ما سيجعلني صديقا أو عدوا يا ريبيكا. لا يوجد سبب يدعوك إلى أن تخشيني، أو من باب التحديد في كلامي، ليس لديك الآن على الأقل سبب لتخشيني.»
ردت ريبيكا، على الرغم من أن أنفاسها التي كانت تسحبها ببطء بدت مكذبة للبطولة التي كانت في نبرات صوتها: «أنا لا أخشاك، أيها السيد الفارس؛ فإيماني قوي، ولا أخشاك.»
رد بوا جيلبرت بجدية: «ليس لديك سبب؛ فلن أعود إلى محاولاتي الهوجاء السابقة. يوجد بالقرب منك حراس لا سلطان لي عليهم. إنهم مكلفون بأن يسوقوك إلى الموت يا ريبيكا، ولكنهم لن يسمحوا لأي أحد بأن يؤذيك، حتى لو كنت أنا، ولو دفعني جنوني - لأنه جنون بالفعل - إلى ارتكاب ذلك.»
قالت اليهودية: «شكرا للسماء! إن الموت هو أهون ما أخشاه في عرين الشر هذا.»
رد فارس الهيكل: «صمتا يا فتاة؛ فهذا الحديث لن يفيدك الآن إلا قليلا. لقد حكم عليك بالموت، وهو ليس موتا سريعا أو سهلا كالذي يختاره البائس ويرحب به اليائس، ولكنه سلسلة من العذاب البطيء التعس المطول، الذي يتلاءم مع ما يطلق عليه التعصب الشيطاني الأعمى لهؤلاء الرجال جريمتك.»
قالت ريبيكا: «ولمن، إن كان هذا مصيري، لمن أدين بهذا؟ بالطبع لا أدين إلا له، الذي جاء بي إلى هنا لسبب شديد الأنانية والقسوة، والذي هو الآن لغرض في نفسه غير معلوم يكافح ليبالغ في هذا المصير التعس الذي ساقني إليه.»
قال فارس الهيكل: «لا تظني أنني سقتك إلى هذا المصير، بل إنني كنت أود أن أحميك بصدري من هذا الخطر عن طيب خاطر، كما عرضته من قبل للسهام، ولولاه لأنهت حياتك.»
قالت اليهودية: «ما غرضك إذن، أيها السيد الفارس؟ تكلم بإيجاز. إن كان لديك ما تفعله، باستثناء أن تشهد البؤس الذي تسببت لي فيه، فلتخبرني به، ثم أرجوك أن تتركني وشأني. إن الخطوة بين الزمن المحدود والحياة الأبدية قصيرة، ولكنها مروعة، وليس متبقيا لي سوى بضع لحظات لأعد نفسي لها.»
قال بوا جيلبرت: «أرى، يا ريبيكا، أنك تواصلين تحميلي مسئولية ما أنت فيه من كرب، وقد كنت شديد الرغبة في منع وقوعه. أكان يمكنني تخمين الوصول غير المتوقع لذلك الشخص الخرف، الذي ارتقت به، في الوقت الحالي، بعض ومضات الشجاعة المجنونة، والثناء الذي أولاه إياه الحمقى، فوق المئات من طائفتنا الذين يفكرون ويشعرون كرجال متحررين من التحيزات السخيفة والحمقاء؟»
قالت ريبيكا: «ومع ذلك فقد دفعت بي إلى المحاكمة، وأنت تعرف أنني بريئة، شديدة البراءة. لقد شاركت في إدانتي، وإن كان ما أفهمه صحيحا فتظهر بنفسك مسلحا للتأكيد على تهمتي وضمان عقابي.»
رد فارس الهيكل: «فلتتحلي بالصبر، أيتها الفتاة. لا يعلم قوم كقومك كيف يسلمون أمرهم للوقت؛ ومن ثم كيف يميلون بأشرعتهم للاستفادة حتى من الرياح المعاكسة.»
قالت ريبيكا: «تعسا لتلك الساعة التي تعلم فيها بنو إسرائيل هذا المسلك! إنها لعنتنا، أيها السيد الفارس، ونحن نستحقها، بلا شك، بأفعالنا الآثمة وبأفعال آبائنا، ولكن ماذا عنك أنت؟ أنت الذي تتفاخر بحريتك كحق اكتسبته منذ مولدك، كم يكون خزيك أشد عندما تنحني لتسترضي أحكام الآخرين المسبقة التي تخالف اعتقادك الشخصي؟»
قال بوا جيلبرت، وهو يذرع الغرفة في نفاد صبر: «إن كلماتك تفيض مرارة، ولكني لم آت إلى هنا لأبادلك اللوم. ولتعلمي أن بوا جيلبرت لا يخضع لمخلوق، ولكن قد تدفعه الظروف إلى تغيير خطته لبعض الوقت. تلك اللفيفة التي نبهتك إلى أن تطلبي نصيرا، ممن تظنين أنها أتت إن لم يكن من بوا جيلبرت؟»
قالت ريبيكا: «إرجاء قصير للموت العاجل، لن يجديني نفعا إلا قليلا. أكان هذا كل ما استطعت فعله لمن جلبتها بالقرب من حافة القبر؟»
قال بوا جيلبرت: «لا أيتها الفتاة، لم يكن هذا كل ما نويت فعله؛ فلولا التدخل الملعون من ذلك الأخرق المتعصب ومن الأحمق جودالريك، لما وكلت إلي مهمة البطل المدافع، ولما وكلت إلى أحد كبار المقار، بل لأحد المحاربين في الطائفة، ثم كنت - كما كانت نيتي - سأظهر، فور النفخ في البوق، في الحلبة على هيئة نصيرك، متنكرا في الواقع في زي فارس متجول، يسعى للمغامرات ليثبت مهارته في القتال بالدرع والرمح. وبعد ذلك، ليختر بومانوار ليس شخصا واحدا، بل شخصين أو ثلاثة من الإخوة المجتمعين هنا، ولم يكن لدي شك في أنني سأطيح بهم برمحي وحده من فوق سروجهم؛ وبذلك، يا ريبيكا، كانت ستتأكد براءتك، وكنت سأترك لعرفانك بالجميل مكافأتي على نصري.»
قالت ريبيكا: «إن هذا، أيها السيد الفارس، ما هو إلا تفاخر تافه؛ تبجح بما كنت ستفعله لو لم تجد أنه من الأنسب فعل شيء آخر. لقد تلقيت قفازي، وعلى نصيري - إن استطاعت مخلوقة شديدة البؤس مثلي أن تجد لها نصيرا - أن يواجه رمحك في الحلبة، ومع ذلك تتظاهر بأنك صديقي وحامي!»
قال فارس الهيكل بجدية: «سأظل صديقك وحاميك، ولكن فكري في الخطر، أو بالأحرى في العار الذي سيلحق بي، ثم بعد ذلك لا تلوميني إن وضعت شروطي، قبل أن أقدم كل ما اعتبرته عزيزا على نفسي حتى الآن، لإنقاذ حياة فتاة يهودية.»
قالت ريبيكا: «أفصح عما تريد؛ فأنا لا أفهمك.»
قال بوا جيلبرت: «حسنا إذن، سأتحدث بصراحة كما يتحدث تائب إلى أبيه الروحي عندما يجلس على كرسي الاعتراف المخادع. إن لم أظهر في هذه الحلبة، يا ريبيكا، فسأخسر سمعتي ومكانتي، سأخسر نسمة الهواء التي أتنفسها من منخري؛ وأعني بذلك التقدير الذي يكنه لي إخوتي، والآمال التي أعقدها في تولي مقاليد تلك السلطة التي يسيطر عليها الآن الأخرق المتعصب لوكاس دي بومانوار.» «لقد اخترت بين أن تتسبب في سفك دم امرأة بريئة، وبين تعريض منزلتك الدنيوية وآمالك الفانية للخطر. فما الفائدة من أن نتدبر الأمر معا؟ لقد حسمت اختيارك.»
قال الفارس بنبرة أكثر لطفا، مقتربا منها: «كلا يا ريبيكا، إنني لم أحسم اختياري، كلا. ولتعلمي أن الاختيار راجع إليك أنت. إن ظهرت في الحلبة فسيتعين علي أن أحافظ على سمعتي في السلاح. وإذا ما فعلت ذلك فستموتين محترقة على الوتد، سواء كان لك نصير أم لم يكن؛ لأنه لا يوجد على وجه الأرض فارس تبارى معي في السلاح وكان ندا لي، إلا ريتشارد قلب الأسد وتابعه إيفانهو. وإيفانهو، كما تعلمين جيدا، لا يقدر على تحمل ارتداء درعه، وريتشارد سجين في سجن أجنبي.»
قالت ريبيكا: «وما الفائدة من تكرار هذا القول مرارا وتكرارا؟»
رد فارس الهيكل: «إن فائدته كبيرة؛ إذ يجدر بك أن تتعلمي أن تتأملي مصيرك من كل جانب.»
قالت ريبيكا: «حسنا إذن، فلتدر الستار، ودعني أرى جانبه الآخر.»
قال بوا جيلبرت: «إن ظهرت في حلبة الموت فستموتين موتة بطيئة وقاسية، وبعذاب كالذي يقال إنه كتب على الخاطئين في الآخرة، ولكن إن لم أظهر فسأخسر سمعتي، وسأخسر شرفي، وسأخسر أملي في عظمة لم يحظ بها إلا قليل من الأباطرة. إنني أضحي بطموح هائل.» ثم أضاف، ملقيا بنفسه عند قدميها: «ولكني يا ريبيكا، سأضحي بهذه العظمة، وأتخلى عن هذه الشهرة، وسأتخلى عن هذا السلطان الذي يكاد الآن أن يكون في قبضة يدي، إن قلت: إني أقبلك حبيبا لي، يا بوا جيلبرت.»
قالت ريبيكا: «لا تفكر في مثل هذه الحماقة يا سيدي الفارس، ولكن أسرع بالذهاب إلى الوصي على العرش، والملكة الأم، والأمير جون؛ فلا يمكنهم، حرصا على شرف التاج الإنجليزي، أن يسمحوا بما يفعله سيدكم الأعظم؛ بذلك تكفل لي الحماية دون تضحية من جانبك، أو تذرع بحجة تتطلب مني أي تعويض.»
تابع، وهو يمسك بأهداب ثوبها، قائلا: «أنا لا أتعامل مع هؤلاء، أنت فقط من أخاطبها. وما الذي يمكن أن يجعلك توازنين في اختيارك؟ فكري، إن كنت شريرا فالموت أشد شرا، والموت هو خصمي.»
قالت ريبيكا: «أنا لا أوازن بين هذه الشرور . كن رجلا، كن مسيحيا! إن كان إيمانكم يوصيكم حقا بتلك الرحمة التي تتظاهر بها ألسنتكم أكثر مما تظهر في فعالكم، فلتنقذني من هذا الموت المروع دون أن تسعى إلى تعويض من شأنه أن يحول شهامتك إلى مقايضة وضيعة.»
نهض فارس الهيكل المتعالي واقفا على قدميه، وقال: «كلا يا فتاة! لن تفرضي شيئا علي هكذا. إن تخليت عن الشهرة الحالية والطموح المستقبلي، فإنني أتخلى عنهما من أجلك، وسنهرب معا.» ثم قال وهو يلطف نبرة صوته من جديد: «اسمعيني يا ريبيكا، إن إنجلترا وأوروبا ليستا هما العالم؛ فثمة آفاق أخرى يمكننا العمل فيها، وتتسع بما يكفي لطموحي. سنذهب إلى فسلطين حيث يعيش كونراد، ماركيز أوف مونتسيرات، صديقي؛ فهو صديق متحرر مثلي من الشكوك الملحة التي تقيد منطقنا الحر الذي ولدنا عليه. سنتحالف حتى مع صلاح الدين؛ أفضل لنا من أن نكابد ازدراء المتعصبين الذين نحتقرهم. ستكونين ملكة يا ريبيكا؛ فعلى جبل الكرمل سننصب العرش الذي سأظفر لك به ببسالتي، وسأمسك بالصولجان بدلا من العصا التي لطالما رغبت فيها.»
قالت ريبيكا: «إنه حلم، بل أضغاث أحلام. وحتى لو كانت حقيقة واقعة فلن يكون لها أثر في نفسي. كفى، فذلك السلطان الذي قد تحظى به لن أشاركك فيه أبدا. لا تضع سعرا لإنقاذي يا سيدي الفارس. لا تبع فعلا من أفعال الشهامة. احم المظلوم من أجل الإحسان، لا من أجل منفعة أنانية. اذهب إلى بلاط عرش إنجلترا، وسيستمع ريتشارد إلى استغاثتي من هؤلاء الرجال القساة.»
قال فارس الهيكل بعنف: «لن يحدث أبدا يا ريبيكا! إن تخليت عن طائفتي فسيكون ذلك من أجلك أنت وحدك. وسيظل لدي طموح إن رفضت حبي. لن أخدع من جميع النواحي. أأحني رأسي لريتشارد؟ أأطلب عطية من ذلك الرجل ذي القلب المتعالي؟ أبدا يا ريبيكا، لن أضع طائفة الهيكل، ممثلة في، عند قدميه. قد أهجر الطائفة، ولكني لن أقلل من شأنها أو أخونها أبدا.»
قالت ريبيكا: «إذن، فليكن الرب رحيما بي، ما دام عون الإنسان يكاد يكون ميئوسا منه !»
قال فارس الهيكل: «إنه كذلك بالفعل؛ لأنه كما أنك متكبرة فقد وجدت نظيرا لك هو أنا. إذا دخلت الحلبة شاهرا رمحي فلا تظني أن أي اعتبار إنساني سيحول بيني وبين بذل قوتي، ثم فكري في مصيرك؛ أن تموتي الميتة البشعة التي يموتها أعتى المجرمين، أن تحترقي فوق كومة حطب مشتعلة، ولا يبقى من ذلك الجسد الرشيق أثر، يمكننا منه أن نقول إنه عاش وتحرك! يا ريبيكا، ليس من طبيعة المرأة أن تتحمل هذا المشهد. ستذعنين لطلبي.»
ردت اليهودية: «إنك يا بوا جيلبرت لا تعرف قلب المرأة، أو لم يسبق لك أن تحدثت إلا مع أولئك اللواتي فقدن أسمى مشاعرهن. أقول لك يا فارس الهيكل المتكبر: إنك لم تظهر من شجاعتك الصلفة في أشد معاركك ضراوة أكثر مما تظهره المرأة عندما تعاني بسبب عاطفتها أو واجبها. أنا نفسي امرأة، نشأت على أن أكون لينة الجانب، وأخاف بطبيعتي من الخطر ولا أتحمل الألم، ولكن عندما ندخل تلك الحلبات المميتة، أنت لتحارب وأنا لأعاني الألم، أشعر بثقة تامة في داخلي أن شجاعتي تفوق شجاعتك بكثير. وداعا. لن أضيع مزيدا من الكلمات معك؛ فالوقت المتبقي على الأرض لابنة يعقوب يجب أن يقضى في غير ذلك؛ إذ لا بد لها أن تنشد المعزي الذي يصغي دوما لأنات أولئك الذين ينشدونه بإخلاص وصدق.»
قال فارس الهيكل بعد صمت قصير: «أسنفترق إذن هكذا؟ ليت السماء لم تجعلنا نلتقي قط، أو ليتك كنت نبيلة المولد ومسيحية الديانة! كلا، بحق السماء! عندما أنظر إليك، وأفكر أين وكيف نلتقي مرة أخرى، يصل بي الأمر إلى حد أن أتمنى لو كنت واحدا من بني قومك المحتقرين، وأن تتعامل يدي بالسبائك الذهبية والشيكلات وليس بالرمح والدرع، وأن ينحني رأسي أمام كل نبيل تافه، وألا ترعب نظرتي إلا المدين المرتجف والمفلس.»
قالت ريبيكا: «لقد تحدثت عن اليهودي بالصورة التي جعله عليها اضطهاد أمثالك. فلتقرأ التاريخ القديم لشعب الرب، وأخبرني عما إذا كان أولئك، الذين صنع يهوه مثل تلك المعجزات بأيديهم بين الأمم، كانوا آنذاك شعبا من البخلاء والمرابين! وداعا! إني لا أحسدك على أمجادك التي فزت بها بالدماء، ولا أحسدك على نسلك الهمجي الذي ينحدر من الوثنيين الشماليين، ولا أحسدك على إيمانك الذي هو دائما في فمك، ولكن لا أثر له أبدا في قلبك ولا في فعلك.»
قال بوا جيلبرت: «بحق السماء، إن تعويذة قد أصابتني! أكاد أظن أن ذلك الهيكل العظمي المسلوب العقل نطق بالحق، وأن التردد الذي أشعر به وأنا أفارقك فيه شيء يفوق الطبيعة.» ثم قال مقتربا منها، ولكن باحترام كبير: «أيتها المخلوقة الجميلة! إنك في ريعان الشباب، وبالغة الجمال، ولا تهابين الموت! ومع ذلك فالموت، في خزي وعذاب شديد، هو مصيرك. من ذا الذي لا يذرف الدمع من أجلك؟ إن الدمع الذي لم يعرف سبيلا إلى هذين الجفنين طيلة عشرين عاما أصبح يبللهما عندما أنظر إليك، ولكن لا بد لهذا المصير أن يكون؛ فلا شيء الآن يمكنه أن ينقذ حياتك. أنا وأنت لسنا إلا أداتين عمياوين في يد قدر محتوم لا يقاوم، يسرع بنا إلى الأمام كالسفن الضخمة التي تشق طريقها أمام العاصفة، فيرتطم بعضها ببعض، وهكذا تتحطم. سامحيني إذن، ودعينا نفترق على الأقل كما يفترق الأصدقاء. لقد حاولت عبثا أن أثنيك عن قرارك، وقراري أيضا ثابت كأحكام القدر العنيدة.»
قالت ريبيكا: «هكذا يرمي الرجال مسألة عواطفهم الجامحة على القدر، ولكني أسامحك يا بوا جيلبرت على الرغم من أنك سبب موتي قبل الأوان؛ فثمة أشياء نبيلة تعبر بذهنك القوي، ولكنه كحديقة الكسلان التي تنمو حشائشها وتتضافر لخنق البراعم الجميلة واليانعة.»
قال فارس الهيكل: «أجل؛ فأنا، يا ريبيكا، كما قلت عني، عفوي وجامح. وأنا فخور أنني، بين قطيع من الحمقى الفارغين والمتعصبين الماكرين، احتفظت بالإقدام الفائق الذي يضعني في مكانة أعلى منهم. لقد خضت المعارك منذ ريعان شبابي وإلى الآن، وكانت أهدافي عالية، وكنت ثابتا ولا أحيد في السعي وراءها. وهكذا يجب أن أبقى؛ فخورا وعنيدا وثابتا، وسأثبت للعالم ذلك، ولكن أتسامحينني يا ريبيكا؟» «برحابة صدر كما لم تسامح ضحية من قبل جلادها.»
قال فارس الهيكل: «وداعا إذن.» وغادر الغرفة.
الفصل السادس والثلاثون
عندما ترك الفارس الأسود شجرة اجتماع الخارج عن القانون الشهم، شق طريقه مباشرة نحو بيت العبادة المجاور الذي كان يطلق عليه اسم دير القديس بوتولف، حيث كان إيفانهو الجريح قد نقل - بعد الاستيلاء على القلعة - تحت قيادة جيرث المخلص ووامبا الشهم. وفي الصباح التالي، كان الفارس الأسود يستعد للمضي في رحلته، في صحبة المهرج وامبا الذي كان يصحبه كدليله.
قال لإيفانهو: «سنتقابل في كوننجزبيرج، قلعة أثيلستان الراحل؛ إذ إن أباك سيقيم مأدبة الجنازة لقريبه النبيل. أود أن أرى أفراد عشيرتك الساكسونية مجتمعين يا سيد ويلفريد، وأن أوثق الصلات معهم أكثر من ذي قبل. وستقابلني أيضا هناك، وستكون مهمتي أن أصلح بينك وبين أبيك.»
قال إيفانهو: «يا سيدي الفارس ذي القفل، حيث إنه يسعدك أن تعرف بهذا الاسم، إني أخشى أن تكون قد اخترت أحمق ثرثارا ومسببا للمشاكل ليكون دليلك، ولكنه يعرف كل طريق وممر في الغابات كما يعرفها صياد دائم التردد عليها، كما أن الوغد المسكين، كما رأيت في بعض النواحي، صلب في إخلاصه كالفولاذ.»
قال الفارس: «كلا، بما أن لديه موهبة تبيان الطريق، فلن أضيق من رغبته في تسليتي أثناء مسيرنا. وداعا يا ويلفريد الطيب. أوصيك بألا تحاول السفر حتى الغد على الأقل.»
قال ذلك ومد يده لإيفانهو الذي قبلها بشفتيه، واستأذن رئيس الدير في الرحيل، وامتطى جواده ورحل وفي صحبته وامبا.
بينما كانا يسيران على مهل عبر أعماق الغابة، قال وامبا: «أيمكنك أن تفسر لي هذا يا سيدي الفارس؛ متى يكون إبريق النبيذ وكيس نقودك وهما فارغان أفضل منهما وهما ممتلئان؟»
رد الفارس: «عجبا، مطلقا، على ما أظن.» «بسبب إجابتك الشديدة السذاجة هذه لا تستحق أبدا أن يكون أي منهما ممتلئا في يدك! من الأفضل أن تفرغ إبريقك قبل أن تناوله لساكسوني، وأن تترك أموالك في البيت قبل أن تسير في الغابة الخضراء.»
قال الفارس ذو القفل: «أتعد أصدقاءنا لصوصا إذن؟»
قال وامبا: «إنك لم تسمعني أقول ذلك يا سيدي الطيب؛ فقط أفضل أن تكون درعي في المنزل، وكيس نقودي في غرفتي، عندما أقابل هؤلاء الرجال الطيبين؛ لأن ذلك من شأنه أن يوفر عليهم بعض المتاعب.» «إننا ملزمون أن نصلي من أجلهم يا صديقي، على الرغم من الصفات الطيبة التي تصفهم بها.»
قال وامبا مقتربا من الفارس: «ومع ذلك يوجد رفاق لقاؤهم أخطر بكثير على المسافرين من لقاء أولئك الخارجين على القانون.»
قال الفارس: «ومن يكونون، بما أن ليس لديكم دببة أو ذئاب، على ما أظن؟»
قال وامبا: «أجل يا سيدي، ولكن لدينا جنود مالفوازان، ودعني أخبرك أنه في وقت الحرب الأهلية فعشرة من هؤلاء يعادل عصابة من الذئاب في أي وقت آخر. إنهم الآن ينتظرون حصادهم، وهم معززون بالجنود الذين هربوا من توركويلستون؛ لذلك إن قابلنا عصابة منهم فمن المحتمل أن ندفع ثمن انتصاراتنا الحربية. والآن أسألك يا سيدي الفارس، ماذا ستفعل إن التقينا برجلين منهم؟» «سأثبت الأشرار في الأرض برمحي يا وامبا إن اعترضوا سبيلنا.» «ولكن ماذا لو كانوا أربعة؟»
أجاب الفارس: «سيتجرعون من الكأس نفسها.»
تابع وامبا: «ماذا لو كانوا ستة ونحن على ما نحن عليه الآن، اثنان فقط، ألا تتذكر بوق لوكسلي؟»
صاح الفارس: «ماذا! أأطلق النفير في مواجهة عشرين وغدا كهؤلاء الذين يمكن لفارس جيد واحد أن يسوقهم أمامه كما تسوق الريح أوراق الشجر الذابلة؟»
قال وامبا: «كلا، إذن، أرجوك أن تجعلني ألقي نظرة عن قرب على ذلك البوق ذي النفير القوي.»
فك الفارس إبزيم حزام الكتف، وأعطاه لرفيق سفره الذي علق البوق على الفور حول عنقه.
قال مصفرا بالنغمات: «ترا - ليرا - لا. كلا، إنني أعرف السلم الموسيقي كما يعرفه أي شخص آخر.»
قال الفارس: «ماذا تعني أيها الوغد؟ أعد إلي البوق.» «اطمئن يا سيدي الفارس؛ إنه في يد أمينة. عندما يسافر الباسل والأحمق معا، يجب أن يحمل الأحمق البوق؛ لأنه الأفضل في نفخه.»
قال الفارس الأسود: «كلا أيها الوغد، هذا يتجاوز صلاحياتك؛ فانتبه ولا تعبث مع صبري.»
قال المهرج وهو يبقي مسافة بينه وبين البطل النافد الصبر: «لا تنذرني بالعنف، يا سيدي الفارس، أو سيرجع الأحمق أدراجه تاركا الباسل يتلمس طريقه عبر الغابة قدر استطاعته.»
قال الفارس: «كلا، لقد أصبتني بتلك، وأقول لك برفق إنه ليس لدي الكثير من الوقت للتناحر معك. فلتحتفظ بالبوق إن أردت، ولكن دعنا نتقدم في رحلتنا.»
قال وامبا: «لن تؤذيني إذن؟» «قلت لك لا أيها الوغد!» «والآن، يرتدي الأحمق البوق، ولينهض الباسل ويهز عرف فرسه؛ حيث إنه، إن لم أكن مخطئا، ثمة رفقة في تلك الأجمة هناك يترقبوننا.»
قال الفارس: «ما الذي جعلك تقرر هذا؟» «لأنني لاحظت مرتين أو ثلاث مرات وميض خوذة من بين أوراق الشجر الخضراء. ولو كانوا رجالا شرفاء لالتزموا بالطريق، ولكن تلك الأجمة هناك ما هي إلا كنيسة صغيرة لرجال الدين التابعين للقديس نيكولاس.»
قال الفارس مغلقا قناع خوذته: «أقسم بإيماني، إنك على حق.»
وما كاد يغلقه حتى طارت ثلاثة سهام دفعة واحدة من الموقع الذي كانا قد ارتابا في أمره ومرت أمام رأسه وصدره، وكاد سهم منها يخترق دماغه لولا أن القناع الفولاذي حول مسارها جانبا.
قال الفارس: «الشكر لصانع الدروع الأمين. وامبا، هيا نشتبك معهم.» ثم انطلق مباشرة نحو الأجمة. قابله ستة أو سبعة رجال مسلحون، ركضوا نحوه برماحهم بكامل سرعتهم. ارتطمت فيه ثلاثة من الأسلحة، وتحولت إلى شظايا دون أن تؤثر فيه، كما لو كانت سددت نحو برج من الفولاذ. وبدت عينا الفارس الأسود وكأنهما تقدحان شررا من خلال فتحة الرؤية في قناع خوذته؛ فانتصب على ركابيه بوقار لا يوصف، وصاح قائلا: «ماذا يعني هذا يا سادة؟!» لم يرد الرجال إلا بأن سحبوا سيوفهم وهاجموه من كل جانب صائحين: «مت أيها الطاغية!»
قال الفارس الأسود وهو يصرع رجلا مع كل ابتهال إلى الرب: «ها! ببركة القديس إدوارد! ها! ببركة القديس جورج! ألدينا خونة هنا؟»
ظهر فارس بدرع أزرق، كان قد ظل حتى تلك اللحظة خلف المهاجمين الآخرين، واستحث جواده للأمام رافعا رمحه، وصوب نحو هدفه الذي لم يكن راكب الجواد، بل الجواد نفسه، فجرح الحيوان الأصيل جرحا مميتا.
صاح الفارس الأسود والجواد يسقط على الأرض مسقطا راكبه معه: «تلك كانت ضربة غادرة!»
وفي هذه اللحظة نفخ وامبا في البوق، حيث كان كل شيء قد جرى بسرعة، فلم يكن لديه وقت ليفعل ذلك قبلئذ. جعل الصوت المفاجئ القتلة يتراجعون، ولم يتردد وامبا، على الرغم من أنه لم يكن مسلحا بشكل جيد، في الاندفاع ومعاونة الفارس الأسود على النهوض.
صاح الفارس ذو العدة الزرقاء الذي بدا أنه قائد المهاجمين: «عار عليكم، أيها الجبناء المزيفون! أتهربون من نفخة بوق فارغة يطلقها مهرج؟»
استحثتهم كلماته، فهجموا من جديد على الفارس الأسود الذي كان أفضل ملجأ له حينئذ أن يسند ظهره إلى شجرة بلوط، ويدافع عن نفسه بسيفه. كان الفارس الغادر قد أخذ رمحا آخرا، منتظرا اللحظة التي يشتد فيها الضغط على خصمه الضخم، ثم انطلق بفرسه نحوه آملا في أن يثبته برمحه في الشجرة، عندما اعترض وامبا هدفه مرة أخرى؛ حيث حام المهرج حول حدود مكان القتال، وكبح بكفاءة التقدم المروع للفارس الأزرق؛ وذلك بأن قطع أوتار ساق جواده بضربة من سيفه. سقط الجواد والرجل أرضا، ومع ذلك ظل موقف الفارس ذي القفل حرجا للغاية، وعندئذ انطلق فجأة سهم به ريشة إوزة رمادية، فألقى أرضا أحد أكثر مهاجميه ضخامة، واندفعت مجموعة من اليوامنة من الفرجة في الغابة، على رأسهم لوكسلي والراهب المرح، وسرعان ما أجهزوا على الغادرين الذين ارتموا جميعا على الأرض ما بين قتيل أو مجروح جرحا مميتا. شكر الفارس الأسود منقذيه بوقار لم يلاحظوه في سلوكه السابق.
قال: «يعنيني كثيرا، حتى قبل أن أعبر عن امتناني الكامل لأصدقائي الحاضرين، أن أكتشف - إن استطعت - هوية من اعتدوا علي هذا الاعتداء غير المسوغ. وامبا، ارفع قناع ذلك الفارس الأزرق الذي يبدو أنه زعيم هؤلاء الأشرار.»
قال وامبا: «تعال أيها السيد الشرير. يجب أن أكون صانع دروعك كما كنت سائس جوادك. لقد أنزلتك من فوق جوادك، والآن سأنزع عنك خوذتك.»
وبعد أن قال ذلك، بيد غير رفيقة فك خوذة الفارس الأزرق التي تدحرجت لمسافة على العشب، كاشفة للفارس ذي القفل عن خصلات شعر أشيب، ووجه لم يكن يخطر بباله أن يراه في مثل هذه الظروف.
قال مندهشا: «والديمار فيتزورس! اصدقني القول. اعترف وقل لي من دفعك إلى ارتكاب هذا العمل الغادر.»
أجاب والديمار: «إنه ابن أبيك، الذي لم يكن يهدف من هذا العمل إلا أن ينتقم منك لعصيانك لوالدك.»
برقت عينا الفارس الأسود في غضب، ولكنه تغلب عليه بطبيعته الطيبة. اعتصر جبينه بيده، وظل لحظة يحملق في وجه البارون الذليل الذي كانت ملامحه يختلط فيها الفخر بالعار.
قال: «أنت لا تطلب مني الإبقاء على حياتك، يا والديمار.»
رد فيتزورس: «إن من يقع بين براثن الأسد يعرف أن استجداء الحياة بلا طائل.» «إنني أمنحها لك دون استجداء؛ فالأسد لا يتخذ فرائسه من الجيف العاجزة. أبقي على حياتك، ولكن بهذا الشرط؛ أن تغادر إنجلترا خلال ثلاثة أيام، وتذهب لتخفي عارك في قلعتك النورماندية، وألا تذكر أبدا اسم جون أوف أنجو باعتباره كان ذا صلة بخيانتك. أعط هذا الفارس جوادا يا لوكسلي؛ فإني أرى أن رجالك قد أمسكوا بتلك الجياد التي كانت تجري طليقة، ودعه يغادر دون أن يصيبه أذى.»
رد اليومن: «لولا ظني بأني أستمع لصوت من لا يجب مجادلة أوامره، لأرسلت خلف النذل المتسلل سهما يوفر عليه مشقة رحلة طويلة.»
قال الفارس الأسود: «إنك تحمل قلبا إنجليزيا يا لوكسلي؛ وحسنا رأيت عندما التزمت بطاعة أمري. أنا ريتشارد ملك إنجلترا!»
عندما قيلت هذه الكلمات التي نطقت بنبرة ملكية، انحنى اليوامنة أمامه على الفور، وفي الوقت نفسه قدموا له ولاءهم، وطلبوا العفو عن إساءاتهم.
قال ريتشارد: «انهضوا يا أصدقائي؛ فإن انتهاكاتكم، سواء في الغابة أو في ميدان القتال، قد كفرت عنها الخدمات المخلصة التي قدمتموها لرعاياي المكروبين أمام أسوار توركويلستون، وإنقاذكم لملككم اليوم. انهضوا يا أتباعي، وكونوا رعايا صالحين في المستقبل. وأنت أيها الشجاع لوكسلي ...» «لا تنادني باسم لوكسلي بعد الآن يا مولاي، ولكن لتعرفني بالاسم الذي أخشى أن تكون شهرته التي بلغت القاصي والداني لم تصل إلى مسامعكم الملكية. أنا روبن هود غابة شيروود.»
الفصل السابع والثلاثون
إن طريقة الدخول إلى البرج الكبير لقلعة كوننجزبيرج شديدة الغرابة، وتغلب عليها بساطة العصور القديمة التي أنشئت فيها. يوجد درج سحيق وضيق حتى إنه يكاد يكون شديد الانحدار، يؤدي إلى بوابة منخفضة في الجانب الجنوبي من البرج. عبر هذا المدخل، اقتيد الملك الصالح ريتشارد، يتبعه إيفانهو الوفي، إلى الغرفة المستديرة التي تشغل الطابق الثالث بأكمله. حظي ويلفريد، أثناء الصعود الشاق، بالوقت ليغطي وجهه بعباءته؛ إذ كانا قد اتفقا على ألا يظهر نفسه لأبيه حتى يعطيه الملك الإشارة.
كان مجتمعا في هذه الغرفة، حول طاولة كبيرة من خشب البلوط، نحو اثني عشر من أكثر ممثلي العائلات الساكسونية وجاهة في المقاطعات المجاورة. وكان سيدريك الجالس بين مواطنيه يبدو وكأنه يتصرف باعتباره رئيسا للجمع. عند دخول ريتشارد نهض بوقار، ورحب به بالتحية المعتادة: «في صحتك»، رافعا في الوقت نفسه قدحا إلى رأسه. ورد الملك التحية بالكلمات المناسبة: «في صحتك»، ورشف من كأس أعطاها له كبير الخدم، وأدى المجاملة نفسها مع إيفانهو، الذي شرب نخب أبيه في صمت.
وبعد أداء هذه المراسم الاستهلالية نهض سيدريك ومد يده إلى ريتشارد، وقاده إلى كنيسة صغيرة شديدة البساطة، كانت محفورة، إن جاز القول، داخل إحدى الدعامات الخارجية. وأظهر مشعلان بضوئهما الأحمر الدخاني المذبح الحجري البسيط، والصليب المصنوع من المادة نفسها. أمام هذا المذبح وضع نعش، وعلى كلا جانبي النعش ركع ثلاثة قساوسة، يحركون حبات مسابحهم ويتمتمون بصلواتهم. وكي يقوموا بهذه الخدمة دفعت والدة المتوفى رسوما جنائزية كبيرة لدير القديس إدموند. تبع ريتشارد وويلفريد سيدريك إلى داخل غرفة الموتى؛ حيث أشار مرشدهم بطريقة مهيبة نحو نعش أثيلستان الذي مات قبل أوانه، وقد احتذيا حذوه في رشم الصليب في ورع على صدريهما، وتمتما بصلاة قصيرة من أجل خلاص روح الراحل.
بعد أداء هذا العمل الورع أشار إليهما سيدريك مرة أخرى ليتبعاه، وهو يخطو على الأرضية الحجرية بخطى صامتة. وبعد صعود بضع درجات فتح بحذر شديد باب مصلى صغير كان ملاصقا للكنيسة. ظهرت، في الضوء النافذ من الكوة الضيقة، امرأة جليلة ملامح المظهر، محتفظة وكان وجهها لا يزال محتفظا ببقايا واضحة لجمال باهر. أبرزت ثياب حدادها الطويلة، وخمارها المنسدل من القماش القبرصي الأسود، بياض بشرتها. وأفصحت ملامح وجهها عن الحزن العميق المقترن بالاستسلام.
قال سيدريك بعدما وقف صامتا للحظة، كما لو كان يعطي ريتشارد وويلفريد وقتا ليلقيا نظرة على سيدة القصر: «يا إيديث النبيلة، إن هذين الغريبين الشريفين قد أتيا ليشاطراك أحزانك. وهذا، بالأخص، هو الفارس الباسل الذي قاتل بكل شجاعة لإنقاذ من نحزن عليه اليوم.»
أجابت السيدة: «أشكره على شجاعته، كما أشكره هو ورفيقه على لطفهما الذي أتى بهما إلى هنا لرؤية والدة أثيلستان في ساعة حزنها العميق. أودعهما، أيها القريب الكريم، رعايتك، وإني على ثقة من أنك ستفي بحق ضيافتهما بقدر ما تستطيع هذه الجدران الحزينة.»
انحنى الضيفان بشدة للوالدة الحزينة، وانصرفا مع مرشدهما ومضيفهما.
قادهم درج ملتف آخر إلى غرفة بالمساحة نفسها التي كانوا قد دخلوها أولا، كانت في الواقع تشغل الطابق الذي يعلوهم مباشرة. عندما دخلوا وجدوا أنفسهم في حضرة ما يقرب من عشرين سيدة وفتاة من السلالة الساسكونية الرفيعة الشأن، من بينهم السيدة روينا، وقد انشغلن في تطريز غطاء حريري كبير معد لتغطية نعش أثيلستان، وفي اختيار أكاليل الزهور، كن ينوين استخدامها للغرض الحزين نفسه، من السلال الموضوعة أمامهن.
بدا لسيدريك أن حزن التي هو الوصي عليها أعمق بكثير من حزن أي فتاة أخرى، فرأى لزاما عليه أن يهمس مفسرا الأمر: «لقد كانت العروس المخطوبة للنبيل أثيلستان.»
قادهما بعد ذلك إلى حجرة صغيرة معدة، كما أخبرهما، للإقامة الحصرية للضيوف من ذوي المكانة، وكان على وشك أن ينصرف عندما أمسك الفارس الأسود بيده.
قال: «أرغب في أن أذكرك أيها السيد النبيل أنه عندما تفرقنا آخر مرة، وعدت أن تجيب لي مطلبا مقابل الخدمة التي قدر لي أن أقدمها إليك.»
قال سيدريك: «مطلبك مجاب قبل أن تذكره أيها الفارس النبيل، ولكن في هذه اللحظة الحزينة ...»
قال الملك: «لقد فكرت في هذا أيضا، ولكن وقتي قصير، كما يبدو لي أنه يجدر بنا، عندما نغلق القبر على النبيل أثيلستان، أن نضع فيه بعض التحامل والآراء المتسرعة.»
قال سيدريك وقد ظهر عليه الغضب، ومقاطعا بدوره الملك: «سيدي الفارس ذا القفل، إنني آمل أن يكون مطلبك متعلقا بشخصك وليس بشخص آخر؛ لأنه عندما يتعلق الأمر بشرف بيتي فإنه من غير الملائم أن يتدخل فيه غريب.»
قال الملك بلين: «وأنا لا أريد أن أتدخل إلا بالقدر الذي تسمح لي به. إنك لم تعرفني حتى الآن إلا بصفتي الفارس الأسود ذا القفل. فلتعرف الآن أنني ريتشارد بلانتاجنت.»
صاح سيدريك متراجعا للوراء بمنتهى الدهشة: «ريتشارد أوف أنجو!»
قال الملك: «كلا أيها النبيل سيدريك، بل ريتشارد ملك إنجلترا! الذي شاغله الأكبر ورغبته الأعمق أن يرى أبناءها متحدين معا. والآن فيما يخص مطلبي، فأنا أطلب منك باعتبارك رجلا يحفظ كلمته، وإلا اعتبرت رجلا خائنا ومخلفا لوعده وجبانا، أن تسامح الفارس الصالح ويلفريد أوف إيفانهو وتشمله بعاطفتك الأبوية. وستقر أن لي في هذا الصلح منفعة، وهي سعادة صديقي، وقمع الشقاق بين رعاياي المخلصين.»
قال سيدريك مشيرا لابنه: «وهذا هو ويلفريد!»
قال إيفانهو منبطحا عند قدمي سيدريك: «أبي! أبي! امنحني عفوك!»
قال سيدريك وهو ينهض به من الأرض: «عفوت عنك يا بني. إن ابن هيرورد يعرف كيف يحفظ كلمته، حتى عندما يعطيها لرجل نورماندي.» وأضاف: «إنك على وشك أن تتكلم، ويمكنني أن أخمن الموضوع. يجب على السيدة روينا أن تتم سنتين من الحداد على زوجها الذي كانت مخطوبة له؛ فكل أسلافنا الساكسونيين سيتبرءون منا لو تطرقنا إلى زواج جديد في وقت مبكر عن ذلك، بل إن شبح أثيلستان ذاته سيندفع من كفنه الدامي ويقف أمامنا ليمنع مثل هذا التدنيس لذكراه.»
بدا وكأن كلمات سيدريك قد أقامت شبحا؛ إذ لم يكد ينطق بها حتى فتح الباب على مصراعيه، وظهر أثيلستان متشحا بأكفان القبر، ووقف أمامهم في شحوب وإنهاك وأشبه ما يكون بمخلوق بعث من الموت!
قال سيدريك مخاطبا ما بدا أنه شبح صديقه الراحل: «باسم الرب! إن كنت إنسا فانيا فتكلم! أما إن كنت روحا راحلة فلتقل لأي سبب تعاودنا، أو إن كان بوسعي فعل شيء ينزل السكينة على روحك. حيا كنت أم ميتا، تكلم أيها النبيل أثيلستان إلى سيدريك!»
قال الشبح بهدوء شديد: «سأتكلم عندما أستجمع أنفاسي، وعندما تمنحني الوقت. أقلت إنني حي؟ إنني حي كمن يأكل الخبز والماء لثلاثة أيام تبدو وكأنها ثلاثة دهور.»
قال الفارس الأسود: «عجبا، أيها النبيل أثيلستان. لقد رأيتك بنفسي تسقط أرضا على يد فارس الهيكل الشرس عندما كان الهجوم على توركويلستون يوشك على نهايته، وحسبما ظننت، وحسبما روى وامبا، فإن جمجمتك قد شجت حتى أسنانك.»
قال أثيلستان: «لقد أخطأت الظن يا سيدي الفارس، وكذب وامبا. وعلى الرغم من ذلك فلا فضل لفارس الهيكل الذي استدار سيفه في يده فضربني النصل بالجهة غير الحادة، وتمكنت من تلقي الضربة بيد عصاي الجيدة. لقد فقدت الوعي بالفعل، ولكني لم أجرح. وسقط آخرون من كلا طرفي القتال أرضا، وذبحوا فوقي؛ ومن ثم لم أعد إلى وعيي حتى وجدت نفسي في كفن (كان مفتوحا لحسن حظي) موضوع أمام مذبح كنيسة القديس إدموند. عطست عطسات متكررة، وأصدرت بعض الأنات، واستفقت، وكدت أنهض عندما جاء حافظ غرفة المقدسات ورئيس الدير يجريان في غاية الرعب على إثر الضجة مذهولين، بلا شك، وبالطبع ساءهما أن يجدا الرجل الذي كانا قد افترضا أنهما سيصبحان من ورثته حيا. طلبت نبيذا، فأعطياني بعضا منه، ولكن لا بد أنه كان به كثير من المخدر؛ لأنني نمت بعمق أكثر حتى من ذي قبل، ولم أستيقظ إلا بعد ساعات طويلة؛ فوجدت ذراعي، وكذلك قدمي، محكمة الوثاق، حتى إن كاحلي يؤلماني بمجرد تذكر الأمر، وكان المكان حالك الظلمة. لا بد أنني كنت سأظل هناك لولا بعض الضجة في الدير التي اكتشفت أنها من موكبهم إلى هنا ليتناولوا طعام مأدبة جنازتي، بينما يعلمون تمام العلم كيف وأين دفنت حيا، وخرجوا محتشدين كخروج النحل من خليته. ومع ذلك ذهبوا، وانتظرت الطعام طويلا. ولا عجب في أن حافظ غرفة المقدسات المصاب بالنقرس كان شديد الانشغال بطعامه على أن ينتبه لطعامي. وأخيرا، أقبل علي، وترك لي قطعة من الفطير وقنينة من النبيذ. أكلت وشربت وكنت قد انتعشت عندما، في إضافة لحظي السعيد، أقفل حافظ غرفة المقدسات، الذي كان ثملا للغاية فلم يتمكن من أداء واجبه كسجان على الوجه الملائم، الباب دون أن يحكم إغلاقه؛ ومن ثم أصبح الباب مواربا. أثار الضوء والطعام والنبيذ قدرتي على الابتكار، وكان المشبك المثبتة فيه أغلالي صدئا أكثر مما ظننت. لما وجدت نفسي قد تحررت منه، تحاملت على نفسي صاعدا الدرج بقدر ما يمكن لرجل مثقل بالأغلال وهزيل بفعل الصوم، وجئت إلى هنا بأقصى سرعة، وكان كل من يمر علي من رجل أو طفل يفر من أمامي حيثما ذهبت، معتبرا إياي شبحا، خاصة أنني، حتى لا يعرفني أحد، كنت قد سحبت غطاء رأس الجثة فوق وجهي. ولم أكشف عن هويتي إلا لأمي، قبل أن آتي بحثا عنك، يا صديقي النبيل.»
قال سيدريك: «وها قد وجدتني مستعدا لاستكمال مشاريعنا الباسلة من أجل الشرف والحرية. وأقول لك إنه لن يحل فجر أسعد من فجر غد لخلاص العرق الساكسوني النبيل.»
قال أثيلستان: «لا تحدثني عن خلاص أي أحد؛ فيكفيني أنني خلصت نفسي.»
قال سيدريك: «يا للعار أيها النبيل أثيلستان! أخبر هذا الأمير النورماندي، ريتشارد أوف أنجو، أنه بقلب أسد كقلبه لن يحصل بلا نزاع على عرش ألفريد ما دام لا يزال رجل من نسل المعترف المقدس على قيد الحياة لينازعه عليه.»
قال أثيلستان: «ماذا! أهذا هو الملك النبيل ريتشارد؟»
قال سيدريك: «إنه ريتشارد بلانتاجنت نفسه، ولكني لست بحاجة إلى أن أذكرك أنه بقدومه إلى هنا ضيفا حر الإرادة لا يمكن أن يلحق به أذى، ولا أن يتحفظ عليه أسيرا. وأنت تعلم جيدا واجبك نحوه كمضيفه.»
قال أثيلستان: «أجل، بحق إيماني! وكذلك واجبي كأحد رعاياه؛ لأنني هنا أقدم له ولائي بقلبي ويدي.»
قال سيدريك: «فكر في حرية إنجلترا أيها الأمير المنحل!»
قال أثيلستان: «كف عن توبيخك لي؛ فالخبز والماء والسجن محطمات هائلة للطموح، ولقد قمت من القبر رجلا أكثر حكمة مما كنت عندما نزلت إليه.»
قال سيدريك: «وفيما يخص روينا التي تحت وصايتي آمل أنك لا تنوي أن تتركها.»
قال أثيلستان: «فلتكن حصيفا يا أبي سيدريك. إن الليدي روينا لا تهتم لأمري؛ فهي تحب الإصبع الصغيرة لقفاز قريبي ويلفريد أكثر من شخصي كله. هيا يا ابن العم ويلفريد أوف إيفانهو؛ فأنا أتنازل وأتراجع من أجلك. يا إلهي! بحق القديس دونستان، لقد اختفى ابن عمنا ويلفريد! ولكن ما لم تكن عيناي لا يزال بهما عشى من أثر الصيام الذي عانيته، فقد رأيته منذ قليل واقفا هناك.»
عندئذ نظر الجميع حولهم باحثين عن إيفانهو، ولكنه كان قد اختفى. وأخيرا اكتشف أن يهوديا كان يبحث عنه، وأنه بعد محادثة شديدة القصر بينهما طلب جيرث ودرعه، وغادر القلعة.
كان الملك ريتشارد قد رحل هو الآخر، ولا يعلم أحد إلى أين. وأخيرا عرفوا أنه كان قد أسرع إلى فناء القلعة، واستدعى اليهودي الذي كان قد تحدث مع إيفانهو للمثول في حضرته، وبعد حديث معه دام للحظات طلب بلهجة عنيفة جوادا، وألقى بنفسه فوق صهوته، وألزم اليهودي بامتطاء آخر، وانطلقا بسرعة وصفها وامبا بأنها جعلت عنق اليهودي لا يساوي بنسا واحدا.
الفصل الثامن والثلاثون
يعود بنا المشهد الآن إلى خارج القلعة، أو إلى مقر فرسان الهيكل، مقر تمبلستو، حيث كانت الساعة التي يحدد فيها الحظ حياة ريبيكا أو موتها قد أشرفت. كان مشهدا يفيض صخبا وحياة، كما لو أن ساكني المنطقة المجاورة بأكملها قد تدفقوا على احتفال قروي أو عيد ريفي. نصب عرش للسيد الأعظم في الطرف الشرقي لساحة المطاعنة، تحيط به مقاعد مميزة لكبار الطائفة وفرسانها. وفي الطرف المقابل من ساحة النزال، كانت ثمة كومة من حزم الحطب، مرتبة بعناية حول وتد مثبت بعمق في الأرض، بحيث تترك مساحة للضحية التي كانت معدة لإحراقها للدخول في نطاق دائرة الموت؛ كي توثق في الوتد بالأغلال التي كانت معلقة بالفعل لذلك الغرض.
وأخيرا، سقط الجسر المعلق، وفتحت البوابات، وخرج من القلعة فارس يحمل علما كبيرا للطائفة، يسبقه ستة من حملة الأبواق، ويتبعه كبار الفرسان في أزواج. وأخيرا أتى السيد الأعظم ممتطيا جوادا مهيبا مجهزا بأبسط العتاد، وجاء خلفه براين دي بوا جيلبرت مسلحا من رأسه إلى أخمص قدميه بدروع لامعة، ولكن دون رمحه أو ترسه أو سيفه، التي كان يحملها وصيفاه من خلفه.
بعد هؤلاء، جاءت حامية من الحراس مترجلة، وكان وجه المتهمة الشاحب يبدو من بين عصيهم وهي تسير بخطوة بطيئة، ولكنها رابطة الجأش، نحو موقع تقرير مصيرها. كانت ثيابها الشرقية قد استبدل بها ثوب أبيض خشن شديد البساطة. ومع ذلك كان في نظرتها مزيج بديع من الشجاعة والخضوع، حتى إنها في هذا الثوب الرديء، ومن دون أي حلية باستثناء ضفائر شعرها الطويلة السوداء، أبكت جميع العيون التي نظرت إليها.
سيقت ريبيكا التعسة إلى الكرسي الأسود الموضوع بالقرب من الكومة. وفي نظرتها الأولى للبقعة المروعة، حيث كانت تجري التجهيزات لميتة ترعب الذهن وتؤلم الجسد على حد سواء، لوحظ أنها ارتجفت وأغلقت عينيها، وكانت بلا شك تصلي في سرها؛ لأن شفتيها كانتا تتحركان على الرغم من عدم سماع صوت منهما. بعد لحظات فتحت عينيها، ونظرت مليا إلى الكومة كما لو كانت تريد أن يألفها ذهنها، ثم أشاحت برأسها ببطء وتلقائية.
وفي تلك الأثناء، كان السيد الأعظم قد جلس على مقعده، ثم تقدم للأمام مالفوازان، الذي كان يؤدي مهمة عراب البطل، ووضع قفاز اليهودية الذي كان رهن المعركة عند قدمي السيد الأعظم.
قال: «أيها السيد الشجاع والأب الموقر، هنا يقف الفارس الصالح براين دي بوا جيلبرت، أحد كبار فرسان طائفة الهيكل، والذي بقبوله رهن المعركة الذي أضعه الآن عند قدميكم الجليلتين أصبح لزاما عليه أن يؤدي واجبه في النزال في هذا اليوم؛ كي يؤكد على أن هذه الفتاة اليهودية التي تدعى ريبيكا قد استحقت بعدل الحكم الصادر بحقها في مجلس عام لهذه الطائفة المقدسة.»
أمر السيد الأعظم المنادي أن يتقدم ويؤدي واجبه؛ ومن ثم صدحت أصوات الأبواق، وتقدم أحد المنادين خطوة للأمام معلنا بصوت عال: «أنصتوا، أنصتوا، أنصتوا. هنا يقف الفارس الصالح السيد براين دي بوا جيلبرت جاهزا لقتال أي فارس من دم حر، يدعم النزاع المسموح والمخصص لليهودية ريبيكا.»
قال السيد الأعظم: «لم يظهر أي فارس نصير لمقدمة الطعن في الحكم. اذهب أيها المنادي، واسألها عما إذا كانت تنتظر قدوم أي أحد للقتال من أجلها في سبيل قضيتها هذه.» ذهب المنادي إلى الكرسي الذي كانت تجلس عليه ريبيكا، وفجأة أدار بوا جيلبرت رأس جواده نحو طرف ساحة النزال، فأصبح بجانب كرسي ريبيكا بمجرد وصول المنادي إليها.
تحدث المنادي مع ريبيكا بهذه الكلمات: «يا أيتها الفتاة، إن السيد الأعظم المبجل والموقر يسألك عما إذا كنت قد أعددت نصيرا ليخوض معركة هذا اليوم بالنيابة عنك، أم أنك مذعنة للحكم باعتبارك مدينة بحكم عادل مستحق؟»
ردت ريبيكا: «قل للسيد الأعظم إني أصر على براءتي، ولا أقر بأنني قد حكم علي بالعدل، وإلا أكون قد أجرمت في حق دمي. قل له إنني أتمسك بالمهلة التي ستسمح بها عادات محاكمته لأرى إن كان الرب، الذي يفتح أبواب الفرج لمن هو في محنة، سيبعث لي منقذا. وعندما تمر تلك المهلة القصوى المسموح بها فلتكن إذن مشيئته المقدسة!» انصرف المنادي ليحمل هذه الإجابة إلى السيد الأعظم.
قال لوكاس بومانوار: «حاشا للرب أن يتهمنا يهودي أو وثني بالظلم! سننتظر حتى تسقط الظلال من الغرب إلى الشرق؛ لنرى ما إذا كان سيظهر نصير لهذه المرأة التعسة. وعندما يمر النهار فلتستعد للموت.»
نقل المنادي كلمات السيد الأعظم إلى ريبيكا، التي أحنت رأسها في خضوع، وضمت ذراعيها، ورفعت ناظريها إلى السماء، فبدت وكأنها تتوقع أن يأتيها ذلك العون من السماء؛ إذ لم تعد قادرة على أن تمني نفسها بأن يأتيها من بشر. وخلال هذا التوقف المرعب، سمعت صوت بوا جيلبرت في أذنيها، ولم يكن سوى همسة ، لكنه أجفلها أكثر مما يبدو أن صيحات المنادي قد فعلت.
قال فارس الهيكل: «ريبيكا، أتسمعينني؟»
قالت الفتاة التعسة: «لا شأن لي بك، أيها الرجل الفظ القاسي القلب.»
قال فارس الهيكل: «أجل، ولكن أتفهمين كلماتي؟ لأن نبرة صوتي مرعبة في أذني أنا نفسي. إنني لا أعلم على أي أرض نحن، ولا لأي غرض جلبونا إلى هنا. هذه الساحة المحاطة بالأسوار وذلك الكرسي وهذه الحزم من الحطب، أعرف الغرض منها، ولكنها تبدو لي شيئا غير حقيقي.»
ردت ريبيكا: «إن ذهني وحواسي متصلان من ناحية الشعور والزمن، وكلاهما يقول لي إن حزم الحطب هذه مجهزة لتحرق جسدي الأرضي، وتفتح ممرا مؤلما ولكنه قصير إلى عالم أفضل.»
قال فارس الهيكل: «اسمعيني يا ريبيكا، إن لديك فرصة أفضل في الحياة والحرية من التي يحلم بها أولئك الأوغاد وذلك الخرف. امتطي جوادي خلفي. فوق زامور، الجواد الشهم الذي لم يخذل راكبه قط، وفي ساعة واحدة قصيرة، نكون قد خلفنا وراءنا بمسافة طويلة أي مطاردين ومستجوبين؛ لينفتح أمامك عالم جديد من السعادة، وأمامي مسار جديد من الشهرة. لينطقوا بالحكم الذي أزدريه، ويمحوا اسم بوا جيلبرت من قائمة عبيد الدير! سأغسل بالدماء أي وصمة قد يجرءون على إلقائها على شعار نبالتي.»
قالت ريبيكا: «اغرب عن وجهي، يا فارس الهيكل! لن تستطيع في هذه اللحظة الأخيرة أن تزحزحني قيد أنملة عن مثواي. ومع أني محاطة بأعداء فإني أعدك أسوأهم وأكثرهم قسوة. انصرف بحق اسم الرب!»
كان ألبيرت مالفوازان منتبها لطول مدة حديثهما، ونفد صبره فتقدم لمقاطعته.
سأل بوا جيلبرت: «هل اعترفت الفتاة بذنبها، أم أنها مصرة على إنكارها؟»
قال بوا جيلبرت: «إنها مصرة كل الإصرار.»
قال مالفوازان: «إذن، عليك أيها الأخ النبيل أن ترجع إلى مكانك لتستمع إلى القرار المتخذ. تعال أيها الشجاع بوا جيلبرت.»
قال ذلك ووضع يده على لجام جواد الفارس كما لو أنه يقوده ليرجع إلى موقعه.
ريبيكا على الوتد، بريشة أدولف لالوز.
قال السير براين غاضبا: «أيها النذل المخادع، ما الذي تعنيه بوضع يدك على لجام جوادي؟» ثم انتزع يد رفيقه، وقاد الجواد راجعا إلى الطرف العلوي من ساحة النزال.
في ذلك الوقت كان قد مر على وجود القضاة في ساحة النزال ساعتان، منتظرين عبثا ظهور نصير.
ومع ذلك، كان الاعتقاد العام أنه لا يمكن لأحد أن يظهر من أجل يهودية متهمة بالسحر، وتهامس الفرسان فيما بينهم بأنه قد حان الوقت لإعلان أن تحدي ريبيكا قد سقط. في تلك اللحظة ظهر على السهل فارس يستحث جواده على الإسراع، متقدما نحو ساحة النزال. صاحت مئات الأصوات: «نصير! نصير!» وهتف الحشد بينما كان الفارس يدخل راكبا جواده إلى ساحة المطاعنة، لكن النظرة الثانية إليه بددت الأمل الذي كان قد بعثه ظهوره في الوقت المناسب؛ فقد بدا جواده، الذي كان قد استحثه للعدو عدة أميال بأقصى سرعة، مترنحا من التعب، وكان الراكب يبدو، سواء بسبب الضعف أو الإعياء أو كليهما، غير قادر على أن يثبت على السرج.
وعندما استدعاه المنادي الذي طلب معرفة رتبته واسمه وغرضه، أجاب الفارس الغريب في الحال وبجرأة قائلا: «أنا فارس طيب ونبيل، جئت إلى هنا لأساند برمحي وسيفي هذه الفتاة ريبيكا ابنة إيزاك أوف يورك في هذا النزاع العادل والشرعي، ولكي أبين أن الحكم الذي صدر ضدها باطل وكاذب، ولكي أتحدى السير براين دي بوا جيلبرت بصفته خائنا وقاتلا وكاذبا، كما سأثبت في هذا الميدان بجسدي في مواجهة جسده، بعون الرب وسيدتنا العذراء وسيدنا القديس جورج الفارس الصالح.»
قال مالفوازان: «يجب أن يظهر الغريب أولا أنه فارس جيد ومن نسب شريف؛ فالهيكل لا يدفع بأبطاله في مواجهة رجال مجهولين.»
قال الفارس رافعا عنه خوذته: «إن اسمي، يا مالفوازان، أشهر من اسمك، ونسبي أنقى من نسبك. أنا ويلفريد أوف إيفانهو.»
قال فارس الهيكل وقد تغير صوته وأصبح مكتوما: «لن أدخل في نزاع معك الآن. فلتعالج جروحك ولتتزود بجواد أفضل، وحينئذ قد أرى أنه يليق بي أن أعاقبك وأستأصل منك روح التبجح الصبيانية هذه.»
قال إيفانهو: «ها! يا فارس الهيكل المتكبر، أنسيت أنك قد سقطت مرتين أمام هذا الرمح؟ تذكر ساحة النزال في عكا، وتذكر مهرجان السلاح في آشبي، وتذكر تبجحك المتعالي في ردهات روثيروود، ورهان سلسلتك الذهبية مقابل صندوق ذخائري، ولا تنس أنك ستقاتل ويلفريد أوف إيفانهو وتستعيد شرفك الضائع! بحق صندوق الذخائر هذا والأثر المقدس الذي يحتوي عليه، سأعلن يا فارس الهيكل في كل بلاط في أوروبا، وفي كل مقر من مقرات طائفتك، أنك جبان، إلا إذا قاتلتني دونما مزيد من إبطاء.»
أدار بوا جيلبرت وجهه في تردد نحو ريبيكا، ثم صاح ناظرا بغضب إلى إيفانهو: «أيها الكلب الساكسوني! خذ رمحك واستعد للموت الذي جلبته لنفسك!»
قال إيفانهو: «هل يسمح لي السيد الأعظم بالقتال؟»
قال السيد الأعظم: «لا يمكنني أن أنكر عليك تحديك، شريطة أن تقبلك الفتاة نصيرا لها. غير أنني كنت أود أن تكون في حالة أفضل للقتال. لقد كنت دوما عدوا لطائفتنا، ومع ذلك أود أن تواجه بشرف.»
قال إيفانهو: «هكذا، هكذا بالحال التي أنا عليها، ولا أملك أن أكون غير هذا؛ فهذا هو حكم الرب، وفي رعايته أستودع نفسي.» ثم قال ماضيا على صهوة جواده إلى الكرسي المشئوم: «يا ريبيكا، هل تقبلين بي نصيرا لك؟»
قالت باضطراب لم يتمكن الخوف من الموت أن يصيبها به: «أقبل. أقبل بك نصيري الذي أرسلته لي السماء، ولكن كلا، كلا؛ فإن جراحك لم تشف. لا تواجه هذا الرجل المتكبر. لماذا تهلك أنت أيضا؟»
ولكن إيفانهو كان بالفعل قد اتخذ موقعه، وأغلق قناع خوذته، وأمسك برمحه. فعل بوا جيلبرت مثلما فعل. ولاحظ وصيفه وهو يغلق قناع خوذته أن وجهه الذي كان شاحبا كالرماد طوال النهار على الرغم من الانفعالات التي كانت قد أثارته، فجأة أصبح حينئذ شديد النضارة.
ثم بعدما رأى المنادي أن كل محارب قد اتخذ مكانه، رفع صوته وكرر ثلاث مرات بالفرنسية: «قوما بواجبيكما، أيها الفارسان الباسلان!» أما السيد الأعظم الذي كان يمسك في يده قفاز ريبيكا، رمز التحدي للقتال، فقد ألقاه في ساحة النزال، ونطق كلمة إيذان بدء القتال الرهيبة: «هيا!»
نفخ في الأبواق، وهجم كل فارس على الآخر بأقصى سرعته. سقط جواد إيفانهو المتعب، وراكبه الذي لا يقل عنه إرهاقا، سقطا أرضا، كما توقع الجميع، أمام رمح فارس الهيكل المصوب جيدا وجواده القوي. كان الجميع قد تكهنوا بنتيجة القتال، ولكن على الرغم من أن حربة إيفانهو، بالمقارنة، لم تفعل شيئا سوى أنها لمست ترس بوا جيلبرت، فإن ذلك المحارب ترنح على سرجه، وأفلتت قدماه من ركابيه، وسقط على أرض ساحة النزال؛ مما أذهل جميع من رأوا الأمر.
سرعان ما انتصب إيفانهو واقفا على قدميه بعدما حرر نفسه من جواده الساقط، عامدا بسيفه إلى إصلاح حظه، لكن خصمه لم ينهض، فوضع ويلفريد قدمه على صدره، وذؤابة سيفه على عنقه، آمرا إياه أن يستسلم أو يموت على الفور، ولكن بوا جيلبرت لم يجبه.
صاح السيد الأعظم: «لا تقتله، أيها السيد الفارس، وهو لم يعترف ولم يبرأ من ذنبه. لا تقتله جسدا وروحا! إننا نسلم بهزيمته.»
نزل إلى ساحة النزال، وأمر بأن يخلعوا عن المحارب المهزوم خوذته. كانت عيناه مغلقتين، وكانت جبهته لا تزال متوردة بحمرة قانية. وبينما كانوا ينظرون إليه في ذهول فتحت عيناه، ولكنهما كانتا ثابتتين ولامعتين. ذهب التورد عن جبينه، وحل محله شحوب الموت. لم يكن قد أصيب بأذى من رمح عدوه، ولكنه مات ضحية لعنف عواطفه المتنازعة.
قال السيد الأعظم ناظرا لأعلى: «إن هذا حقا هو قضاء الرب.» وأضاف باللاتينية: «فلتكن مشيئتك!»
الفصل التاسع والثلاثون
بعد وقت قصير من القتال الفاصل، استدعي سيدريك الساكسوني إلى بلاط ريتشارد الذي كان في ذلك الوقت قائما في يورك؛ بغرض تهدئة المقاطعات التي كان طموح أخيه قد أحل فيها الاضطراب. أبدى سيدريك استياءه وغضبه الشديد أكثر من مرة من الرسالة، ولكنه لم يرفض أن يطيع. الواقع، أن عودة ريتشارد كانت قد أخمدت كل أمل كان يمني به نفسه في إعادة إحدى السلالات الساكسونية إلى عرش إنجلترا. كان مقته لملوك العرق النورماندي قد تقوض لسببين؛ أولهما: إدراكه استحالة تخليص إنجلترا من السلالة الحاكمة الجديدة. والثاني : الاهتمام الشخصي الذي أولاه إياه الملك ريتشارد الذي سره أسلوب سيدريك الصريح، الذي قبل أن يقضي سبعة أيام ضيفا في البلاط كان قد حصل على موافقته على زواج وصيته روينا وابنه ويلفريد أوف إيفانهو.
احتفل بزفاف بطلنا، بعد موافقة والده عليه رسميا، في أكثر الكنائس مهابة، وهي كاتدرائية يورك النبيلة.
وفي صبيحة اليوم التالي لهذا العرس السعيد، علمت الليدي روينا من وصيفتها إلجيثا أن فتاة تطلب الإذن بالمثول في حضرتها، وتلتمس أن يكون حديثهما دون شهود. تعجبت روينا وترددت وأصابها الفضول، وانتهت إلى أن أمرت بالسماح للفتاة بالدخول وبانصراف خدمها.
دخلت، وكانت ذات مظهر نبيل ومهيب، وكان خمارها الطويل الأبيض الذي كانت تتغطى به يحدد بهاء مظهرها وفخامته بدلا من أن يخفيهما. اتسم سلوكها بالاحترام غير الممتزج بأدنى ظل من الخوف أو الرغبة في الاسترضاء، ولكن بمجرد انصراف إلجيثا بخطوات متثاقلة ممانعة، فوجئت الليدي إيفانهو بزائرتها الحسناء تركع على إحدى ركبتيها، وتضغط بيديها على جبهتها، وتحني رأسها إلى الأرض، وعلى الرغم من مقاومة روينا قبلت الفتاة طرف ثوبها المطرز.
قالت العروس المندهشة: «ماذا تعنين بهذا يا سيدتي؟ أو لماذا تقدمين لي احتراما غير معتاد كهذا؟»
قالت ريبيكا وهي تنهض وتستعيد وقارها الهادئ المعتاد: «لأنني بذلك يا ليدي إيفانهو قد أرد، بطريقة مشروعة ودون تعنيف من أحد، دين العرفان الذي أنا مدينة به لويلفريد أوف إيفانهو. إنني، ولتسامحيني على جرأتي في إظهاري لاحترامك كما نفعل في بلدي، أنا اليهودية التعيسة التي خاطر زوجك بحياته من أجلها في مواجهة تلك المخاطر المروعة في ساحة مطاعنة تمبلستو.»
قالت روينا: «يا فتاة، إن ما فعله ويلفريد أوف إيفانهو في ذلك اليوم لم يكن إلا ردا لجزء بسيط من رعايتك غير المنقطعة له عندما كان جريحا ومبتلى. أخبريني، هل من شيء يمكنني أنا أو هو أن نقدمه لك؟»
قالت ريبيكا بهدوء: «لا شيء سوى أن تنقلي له تحية وداعي المفعمة بامتناني.»
قالت روينا وهي لا تزال مندهشة من هذه الزيارة غير العادية: «أسترحلين عن إنجلترا إذن ؟» «أجل، سأرحل يا سيدتي قبل أن يعاود هذا القمر الظهور مرة أخرى. إن لأبي أخا ينعم بعطف محمد أبي عبد الله، ملك غرناطة، وسنذهب إلى هناك واثقين من أننا سننال الأمن والحماية مقابل دفع الجزية التي يأخذها المسلمون من قومنا.»
قالت روينا: «ألا تجدون تلك الحماية في إنجلترا؟ إن لزوجي حظوة لدى الملك، والملك نفسه عادل وكريم.»
قالت روينا: «لا أشك في ذلك يا سيدتي، ولكن أهل إنجلترا عرق عنيف، دائمو التناحر مع جيرانهم أو فيما بينهم، وهم على استعداد لإغماد السيوف في أحشاء بعضهم بعضا؛ وهذا ليس مقاما آمنا لبني قومي.»
قالت روينا: «ولكن أؤكد لك، يا فتاة، أن ليس ثمة ما تخشين.» ثم استطردت وهي تنهض في حماسة: «فمن طببت إيفانهو في سرير مرضه لا يمكن أن تخشى شيئا في إنجلترا، حيث سيتنافس الساكسونيون والنورمانديون على من يكرمها أفضل تكريم.»
قالت ريبيكا: «حديثك جميل يا سيدتي، وأجمل منه مقصدك، لكنه لن يكون؛ فثمة هوة بيننا يحظر على كلينا اجتيازها بسبب نشأة كل منا وإيمانه. وداعا، ولكن قبل أن أذهب أرجو أن تجيبي لي مطلبا واحدا. خمار العروس المعلق يخفي وجهك، فهل ترفعينه وتسمحين لي برؤية ملامحك التي يتحدث عن جمالها الجميع.»
قالت روينا: «إنها لا تكاد تستحق النظر إليها، ولكني أزيل نقابي متوقعة المثل من زائرتي.»
وهكذا خلعته، ولإدراكها لجمالها من ناحية ولخجلها من ناحية أخرى احمر وجهها بشدة، حتى كسا لون قرمزي وجنتيها وجبينها وعنقها وصدرها.
قالت ريبيكا: «إن الوجه الذي أظهرته لي يا سيدتي سيظل طويلا عالقا في ذاكرتي. سأتذكر ملامحك طويلا، وحمدا للرب على أنني أترك منقذي النبيل في رباط مع ...»
توقفت فجأة، واغرورقت عيناها بالدمع، وسرعان ما مسحتهما، وأجابت عن تساؤلات روينا القلقة قائلة: «إنني بخير يا سيدتي، بخير، ولكن الألم يعتصر قلبي عندما أتذكر توركويلستون وساحة نزال تمبلستو. وداعا. يتبقى علي فعل شيء واحد، هو أتفه جزء من واجبي. اقبلي مني علبة المجوهرات هذه، ولا تفزعي مما فيها.»
فتحت روينا علبة المجوهرات الصغيرة المطعمة بالفضة، ورأت قلادة أو عقدا، وقرطين من الماس، كان من الواضح أنها ذات قيمة عظيمة.
قالت وهي تعيد إليها العلبة: «هذا مستحيل. لا أجرؤ على قبول هدية بمثل هذه القيمة.»
ردت ريبيكا: «ولكن احتفظي بها يا سيدتي؛ فأنت تملكين السلطان والمكانة والسيادة والتأثير، ونحن لدينا الثروة، مصدر قوتنا وضعفنا في الوقت نفسه. وقيمة هذه الألعاب، وعشرة أمثالها، لن يعادل تأثيرها نصف تأثير أبسط أمانيك. اقبليها يا سيدتي؛ فلا قيمة لها عندي؛ فلن أرتدي حليا بعد اليوم.»
قالت روينا مذهولة من الطريقة التي قالت بها ريبيكا كلماتها الأخيرة: «أنت حزينة إذن! أوه، ابقي معنا؛ فإن نصح الرجال المقدسين سيحولك عن شريعتك الخاطئة، وسأكون أختا لك.»
ردت ريبيكا بالهدوء الحزين نفسه الذي ساد صوتها الناعم وملامحها الجميلة: «كلا يا سيدتي، هذا لن يكون؛ فأنا لن أغير دين آبائي. إن الذي سأهب له قادم حياتي سيكون سلوتي إن أطعت مشيئته.»
سألت روينا: «ألديكم إذن أديرة تنوين أن تعتكفي في أحدها؟»
قالت اليهودية: «كلا يا سيدتي، ولكن بين قومنا، منذ زمن إبراهيم وإلى الآن، نساء كرسن أفكارهن للسماء، وأفعالهن لأعمال الخير للناس؛ من رعاية مريض، وإطعام جائع، وتخفيف عن مكروب. ستكون ريبيكا واحدة من هؤلاء. قولي هذا لسيدك، إذا ما خطر في باله أن يسأل عن مصير تلك التي أنقذ حياتها.»
كان في صوت ريبيكا رعشة لا إرادية، ورقة في نبرتها، ربما كانت تشي بأكثر مما كانت تنوي التعبير عنه. أسرعت لوداع روينا.
وقالت: «وداعا. وأدعو من خلقنا، نحن اليهود والمسيحيين، أن يغدق عليك أفضل بركاته! إن المركب الذي سيحملنا بعيدا سيكون جاهزا للإبحار قبل أن نصل إلى الميناء.»
Bilinmeyen sayfa