مقدمة
1 - في تاريخ مصر
2 - في التاريخ القديم لأمم الشرق
3 - في تاريخ مصر وهي في حكم الفرس
4 - في تاريخ قدماء اليونان
5 - في الكلام على مصر تحت حكم اليونان أي زمن البطالسة
6 - في تاريخ قدماء الرومان
7 - في تاريخ مصر تحت حكم الرومان
8 - في الكلام على إمبراطورات القسطنطينية ودولة اليونان السفلى
9 - في تاريخ العرب
10 - الدولة الأيوبية الكردية
11 - السلجوقيون وحروب الصليب
12 - في المماليك البحرية
13 - دولة الجراكسة
14 - مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الأولى
15 - الجيش الفرنساوي في مصر
16 - مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الثانية
مقدمة
1 - في تاريخ مصر
2 - في التاريخ القديم لأمم الشرق
3 - في تاريخ مصر وهي في حكم الفرس
4 - في تاريخ قدماء اليونان
5 - في الكلام على مصر تحت حكم اليونان أي زمن البطالسة
6 - في تاريخ قدماء الرومان
7 - في تاريخ مصر تحت حكم الرومان
8 - في الكلام على إمبراطورات القسطنطينية ودولة اليونان السفلى
9 - في تاريخ العرب
10 - الدولة الأيوبية الكردية
11 - السلجوقيون وحروب الصليب
12 - في المماليك البحرية
13 - دولة الجراكسة
14 - مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الأولى
15 - الجيش الفرنساوي في مصر
16 - مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الثانية
إتحاف أبناء العصر بتاريخ ملوك مصر
إتحاف أبناء العصر بتاريخ ملوك مصر
تأليف
أمين واصف وعبد العزيز محمود
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن تفرد بالبقاء والقدم، وتنزه عن الفناء والحدوث والعدم، فهو الذي ملك الوجود بقوته، وأوجده باختياره وإرادته، وأتقن العالم بحكمته فأبدعه على أحسن مثال، وأبرزه بقدرته فاخترعه على أتم منوال، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد الذي أرسله إلى الخلق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وعلى آله وأصحابه الذين ملكوا بعزمهم المشارق والمغارب.
وبعد، فيقول الراجي تحصيل المعارف، الفقير محمد أمين واصف: إني لما كنت بالمدارس التجهيزية الأميرية جمعت رسالة في تاريخ الأمم المشرقية من أغلب مؤلفات مؤرخي العرب والفرنج المعتبرين، والعلماء المحققين؛ للمساعدة بها في مذاكرة البحث لنوال شهادة البكلوريا، فأشار علي بعض الإخوان بطبعها لتعميم الفائدة بها، ولما وجدت أن هذه الرسالة لا يحسن طبعها بالطريقة التي كانت عليها، وكان لا بد من تكميلها وتهذيبها، بل ووضعها في قالب المؤلفات المعتادة، حتى يسهل الأخذ عنها إذا ازدحم الطلاب بموردها، اخترت من بين إخواني لمشاركتي في هذا المقام الجليل حضرة أخي الفاضل عبد العزيز أفندي محمود؛ لعلمي أنه من ذوي الدراية التامة بالعلوم التاريخية وغيرها، فقام حضرته بتكميلها أجل قيام، وذهب في إتمامها من طرق مختلفة، ثم نقحناها ورتبناها على النسق الموجود، فجاءت بعون الله عجالة منزهة عن الترهات خالية من الخرافات، وسميناها «إتحاف أبناء العصر بتاريخ ملوك مصر»، مع اشتمالها على تاريخ سكان الشرق السالفين، خدمة لأهل الوطن عموما وأبناء المدارس خصوصا، وطبعت المرة الأولى وقدمت للنظارة فقررت تدريسها، وهذه هي الطبعة الثانية نقدمها لحضرات إخواننا الأفاضل أبناء المدارس المصرية في عصر ازدهرت أغصانه وتماست أفنانه، عصر أعيد فيه مجدنا وسلطان عز كان على أهبة الرحيل؛ عصر مولانا الخديو المعظم «عباس حلمي باشا الثاني» أفاض الله عليه من أثواب التأييد حصيفها، وجعله للمعارف وأهلها نصيرها وظهيرها، لا زال والنصر خادمه والسعد نديمه، تلبس به مصر لباس الشبيبة بعد الهرم، وتحيا به الأرض بعد ميتتها، «ولله در القائل»:
لا تنظرن إلى العباس من صغر
فيه وانظر إلى المجد الذي شادا
إن النجوم نجوم الجو أصغرها
في العين أكثرها في الجو إصعادا
فقد ألبس - حماه الله - كل مصري نعمة ورفع عنه نقمة، حتى أجمع الناس على محبته وأصبح لسان الحال وهو يقول:
ولو قيل اطلبوا شرفا لقلنا
يعيش لنا الأمير ولا نزاد
ولما أبى الدهر إلا نصرته وتعزيز سلطانه، وتأييد كلمته، قيض الله له رجل السياسة، ورب الحكمة والدراية، وقطب دائرة المعارف، من رضع من أظآر الحوادث حلوها ومرها، فادخر لصروف الزمان، مهلك الطغاة، مبيد العدو وأهل الضلال، صاحب الدولة والإقبال الوزير الخطير «رياض باشا».
لا زال يسلك في العلياء خطتها
ومصر ترجوه دون العرب والعجم
هذا ونرجو ممن يطلع على عثرة أن يصلحها
إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .
مقدمة
(1) في ثمرة علم التاريخ وأقسامه
ذكر ابن خلدون رحمه الله تعالى في أول مقدمة تاريخه ما نصه:
اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا.
فالتاريخ هو مرآة الأزمان، ومنبع العلم والحكم، وناصر العدل والفضيلة، فهو يرشد الإنسان أن الفضل دون غيره يورث العظم والاحترام، ويشخص لنا الوقائع وقد سلفت، ويعيد لنا الممالك وقد ذهب رسومها وعفت، فيرى الإنسان دماء الأبرياء والشهداء قد جعله التاريخ أسواطا للحق يضرب بها أهل الشر إلى يوم الميقات، ويلطخ بها صفحاتهم حتى تكون عبرة لمن اعتبر، وكذا يسمع عند تقليب مهارقه صياح الأمم وأنينهم تحت نير العبودية القديمة، فيخرج وقد آلى على نفسه أن يكون من أنصار الجنس البشري وأعوانه، يطلب الحرية أينما كانت، ويمد يد المساعدة لمن يطلبها، وكذلك يطلعنا على أحوال من مضى من الرجال أولي المنازل الخطيرة، ويوقفنا على كافة أحوالهم وأفعالهم ومشروعاتهم ومقاصدهم وفضائلهم، فيعلي قدرهم ويلبسهم ثوب التجلة، فمن ذلك تعلم نفاسة علم التاريخ وفائدته العظمى.
وينقسم علم التاريخ إلى قسمين عظيمين؛ تاريخ طبيعي، وتاريخ مدني.
أما الأول:
فليس من موضوع كتابنا هذا.
وأما الثاني:
فهو علم بأصول يبحث فيه عن الإنسان من حيث التمدن والعمران، وينقسم إلى فرعين: تاريخ عام وتاريخ خاص.
فالتاريخ العام: هو عبارة عما يشمل تاريخ النوع الإنساني وحاله العمراني من عهد الخليقة إلى عصرنا هذا.
وقد جرت عادة مؤرخي الفرنج وغيرهم على تقسيم التاريخ العام إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: التاريخ القديم أو العالم القديم، وذلك من ابتداء الخليقة إلى ظهور المسيح عيسى عليه السلام. الثاني: التاريخ المتوسط أو القرون الوسطى، وذلك منذ ظهور المسيح عليه السلام إلى استكشاف أمريكا سنة 1492م. الثالث: التاريخ الحديث أو القرون المتأخرة وذلك من استكشاف أمريكا لغاية وقتنا هذا.
وقد ينقسم أيضا إلى قسمين: قبل الطوفان، وبعده. أما قبل الطوفان فهو من ابتداء الخليقة إلى حادثة الطوفان.
وأما بعد الطوفان: فينقسم إلى فرعين؛ الأول: من ابتداء حادثة الطوفان لغاية فتوح القسطنطينية بالإسلام في عهد السلطان أبي الفتح محمد خان سنة 1453. والثاني من ابتداء فتوح القسطنطينية بالإسلام لغاية وقتنا هذا.
وأما التاريخ الخاص فينقسم أيضا في اصطلاح المؤرخين إلى قسمين؛ الأول: التاريخ الخصوصي، وهو عبارة عما يختص بغرض واحد معين كتاريخ مدينة أو عائلة ملوكية أو ذات مخصوصة، وهذه الصورة الأخيرة تعرف في اللغة الفرنساوية باسم بيوجرافيا «السيرة أي القصة» كسيرة سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
وغيره.
الثاني: التاريخ الجزئي وهو ما يتعلق بخصوص مدة شهيرة أو حادثة كبيرة كتاريخ حروب الصليب وغيرها.
وينقسم علم التاريخ إلى ما يسمى في اللغة الفرنساوية باسم الكرونولوجيا؛ أي علم الأزمان، وهو ما يتبع ترتيب الإعصار على وجه الانتظام.
وإلى ما يسمى الإتنوجرافيا، وهو ما يتتبع تاريخ كل أمة على حدتها، فإن تتبع جميع الحوادث الواقعة من الأمم الشتى في عصر واحد سمي باسم السنكرونيسم. ويسمى بالتاريخ النظري أو الفلسفي إذا كان المؤرخ قد اقتص الوقائع مع توضيح أسبابها ومسبباتها وغير ذلك. (2) تشعب الأمم
يظهر لمن درس لغات الأمم وسمع رواياتهم وكان على جانب من علم سيما الوجوه أن الأمم القاطنين عند مصبات نهر التنك في آخر حدود المشرق، والأمم القاطنين على امتداد سواحل البحر الأبيض المتوسط هما من نسل عائلتين كبيرتين يخرجان من أصل واحد، غير أنهما انفصلا بفاصل عظيم ألا وهو اختلاف لغاتهم. وهاتان الأمتان قاطنة إحداهما غربي نهر الدجلة سامية الأصل، والأخرى قاطنة في الشمال الغربي من بلاد الهندآرية الجنس وتسمى بالجنس الهندي الأوروبي، وهذا الجنس ينقسم إلى فرعين؛ الأول: الأمم التي تتكلم بالسنسكريتي (أي اللغة الأصلية القديمة)، وذهبوا إلى الشرق جهة الهندستان. والثاني: الأمم التي تتبع الكتاب المقدس المسمى «بالزند» قطنوا بالغرب جهة العجم، وقد مكثت البراهمة ومن تتبع مذهب زرادشت في الوحدة والعزلة خارجا عن التمدن الأوروبي إلى عهد الإسكندر؛ حيث بث فيهم روح التمدن وأخذوا في التقدم والارتقاء، فمن هذا المحتد الأصلي خرجت أمم لا عداد لها في زمن غير معلوم لدى التاريخ، ونزلوا بالأرجاء الغربية إلا أنه يوجد طريقان يظهران هؤلاء الأمم قد ولجوهما عند قيامهم من آسيا إلى أوروبا؛ الأول جهة الجنوب إما من بلاد العجم أو من بلاد آسيا الصغرى والآخر في شمال بحر الخزر بصحراء «سرماسيا».
ولقد أغلق الباب الأول مدة في سالف العصر ممالك آشور وميد على أمة البيلاج والليديين وأمة هيلانة الذين ذهبوا واندثرت أخبارهم وكانوا أصل الأمم القاطنة بآسيا الصغرى واليونان وإيطاليا. وأما الطريق الثاني فقد كان مفتوحا من سالف العصر لأمة «السلت» والجرمانيين «والسلاف»، فظهر حينئذ أن أمتين من أهل آسيا سكنتا قارة أوروبا على يمين وشمال جبلي الهيموس والألب، وكان من سكن جهة الألب أقدم ممن سكن بالهيموس، والغالب على الظن أن اللغات التي كانت تتكلم بها الأمم القاطنة تحت هذين الجبلين مشتقة من السنسكريتي، وأن اللهجات الجرمانية للأمم الشمالية تقرب من لغة «الزند» وبعض لغات أمة «السلت» و«الجايليك» تقرب من لغة البراهمة، والبعض الآخر يقرب من لغة المجوس فالهند وبلاد فارس وآسيا الصغرى، وكافة أوروبا جميعها من الجنس الآري. وأما الجنس السامي فهو الجنوب الغربي من آسيا وشمال أفريقا وجنوب إسبانيا، وفي هذين الجنسين وجد الجنس الإنساني تمامه المادي والأدبي. وكلما تقدم الإنسان جهة الغرب وجد أن الجنس الآري والسامي قد صادما في طريقهما قدماء قارة أوروبا القديمة؛ فأمم السلت وجدوا أمامهم أقوام «الأيبر»، فدفعوهم إلى جبال البرينيه، ولم تزل ذريتهم باقية إلى الآن، ويعرفون باسم «اسكوبالدونا». وقابلت الأمم الجرمانيون وأمة السلاف وأمة «فينوا» و«لايون»، فطردوهم إلى الأقاليم الشمالية، وقد استأصلت أمة القوقاز في أقاليمها العالية الصعبة العبور أمما لم يعلم لهم أصل لدى التاريخ.
وفي أعالي جبال الأطلس وطأت البرابرة بأرجلهم تأثير سلطة المور «المغاربة» وأهل نوميديا وقرطاجة وروما والعرب والترك، بحفظهم لغاتهم الأصلية، واستقلالهم. وفي الزمن الذي تأسست فيه مملكة شارلمان بأوروبا كانت هؤلاء الأمم منقسمة إلى: «أمة الأيبر الأصلية»، وكانت تسكن جبال البرينيه بين نهر الجارون والأيبر الأعلى، وقد خالطهم بعض الفنيقيين في جهة بيطيق بإسبانيا، وبعض أمة الغالة جهة نهر التاج «وسلتيبريا»، ولقد سكنت أمة «السلت» بريطانيا العظمى وبلاد الغالة وبعض بلاد أكيتين وجزء من بلاد «تربونيز» وأعالي إيطاليا وجبال الألب وعددا عظيما من بلاد الشاطئ الأيمن لنهر الدانوب وبعض أيالات آسيا الصغرى «جالاتيا». وأما الجرمانيون وأمة السلاف أو السارمات فقد اقتسموا السهول الواسعة التي بين المحيط المتجمد الشمالي وبحر الخزر، وتزاحموا وراء نهري الرين والطونة. وأما أمم اليونان واللاتين فقد سكنوا أواسط مملكة شارلمان، والأول قد توجهت أنظارهم إلى المشرق، وأطاعوا الإسكندر والأخر إلى المغرب؛ حيث هناك كانوا ينشرون عوائدهم ولغاتهم.
وأما جهة الجنوب فقد سكنت الأمم السامية شواطئ أفريقا، جهة البحر الأبيض، تحت اسم المور وأمة نوميديا والفنيقيين، واختلطوا في مصر بأمة الزنج - أي أهل الأتيوبيا - وفي بلاد الأرمن بالجنس الآري، وكذا بشبه جزيرة العرب وفلسطين. وأما من سكن بلاد الشام فقد خالطهم أمة هيلانة، وكان وراءهم أمة الزند وأمة السنسكريت أو الهنود، وفي أواخر المشرق الأمم المسماة «سير». (3) في استمداد تاريخ مصر
يستمد تاريخ مصر من كلام المؤرخين القدماء والآثار. (3-1) المؤرخون الأقدميون
اعلم أن تاريخ مصر قبل معرفة اللغة البربائية (الهيروغليفية) كان يستوعر طريق استيفائه ووصفه، ومن المستحيل إدراك تحديده وتكييفه وكنهه. نعم، وإن كانت نصوص التوراة دلتنا على بعض معلومات من تاريخ مصر كعلاقة المصريين بالعبرانيين مثلا؛ حيث دلتنا على أن موسى عليه السلام ولد في عهد رمسيس ميامون الثاني، وأن خليفته «منفطا» هو الذي في عصره كان خروج بني إسرائيل من مصر. شيشنق الأول أحد ملوك العائلة الثانية والعشرين حاصر مدينة أرشليم، إلا أن هذه النصوص لم تكن كافية لمعرفة الكرونولوجيا المصرية، ولم يكن إلا في القرن السابع قبل المسيح عليه السلام، أي في القرن الثالث عشر قبل الهجرة، على صاحبها أفضل التحية؛ حيث عثر على أرقام مضبوطة تنسب إلى الكرونولوجيا اليونانية. واعلم أن أقدم مؤرخ قد كتب لنا شيئا من تاريخ مصر هو المؤرخ اليوناني «هيرودوت»، الذي راد سواحل النيل في سنة 455ق.م، وقد جاء بعده المؤرخ «ديودور الصقلي» في سنة 8ق.م، وكذا الجغرافي «استرابون» أحد معاصري المؤرخ السابق الذكر والبيان، وهو الذي جاب مصر إلى الشلالات، وكذا المؤرخ «بلو تاركه» الذي ألف رسالته التي موضوعها الكلام على الإلهين «إزيس» و«أوزيريس» في آخر القرن الأول من الميلاد. وهؤلاء المؤرخون قد وصفوا لنا مصر بما عهد فيهم من الصداقة وعوائد المصريين وأخلاقهم ودياناتهم ونظاماتهم وجميع الأعمال التي صادفت سياحتهم، غير أن مؤلفاتهم هذه لم تكن كافية لتشييد دعائم هذا العلم؛ نظرا لجهلهم لغة البلد، فإنهم وصلوا إلى روايات غير قادرين على تحقيقها.
وفي القرن الثالث قبل المسيح ألف المصري «مانيتون السمنودي» والقسيس الأول لمعبد «هيليوبوليس» وأمين خزائنه تاريخا لمصر، لكن لسوء الحظ فقد هذا المؤلف العظيم، ولم نعثر على شيء منه إلا بعض ما نقله إلينا المؤرخ «يوسف» في تاريخ الأمة العبرانية، والمؤرخ «إيزيب» و«جيورج لوسنسل» اليوناني في القرن الثامن من المسيح، وجدول الملوك الذي اعتمده بعض علماء الفرنج، وهذا الجدول الذي اعتنى بجمعه القسيس المذكور مقسم إلى عائلات ملوكية تشمل جميع الفراعنة الذين حكموا مصر منذ تأسيس الهيئة الحكومية إلى ظهور الإسكندر المقدوني، وقد أودعه بعض التفاصيل البيوجرافية وتعيين بعض السنين، وبجمع هذه السنين نستدل على أن الهيئة الحكومية قد أسست بمصر قبل المسيح عيسى عليه السلام بمدة تزيد عن 5000 سنة.
إلا أنه لم تتفق كلمة المؤرخين على هذا التاريخ، والصعوبة التي أوقفت معرفة مدة حكم كل عائلة هي كون المصريين كانوا يجهلون أمر الكرونولوجيا، ومع كل فإن الفاضل «ماسبيرو» استدل بصحيفة ترجمها أن سنة 1400 قبل الميلاد تقابل إحدى سنى حكم رمسيس الثاني، ولكن هذه العبارة وغيرها لا يحققهما شيء من هذا القبيل، وإن حققهما شيء يتحقق عندنا كثير من التواريخ بدون أن تتعين نقطة تكون مبدأ للتاريخ، ولكن يمكن أن يقال على رأي العلامة ماريت باشا إن استعمال تاريخ خاص كان مجهولا عند المصريين القدماء، بل كان من عادتهم أن يحسبوا الحوادث بسني حكم الملك الذي وقعت في مدته تلك الحادثة، فمن ذلك يتعسر الوقوف على شيء من أمر الكرونولوجيا بما أنهم كانوا تارة يحسبون من ابتداء السنة التي مات فيها الملك السابق وتارة من يوم مبايعة الملك الذي أخلفه، فمهما كانت المقادير الظاهرية لهذه الحسابات ومهما كان تقدم العلم الحالي سنقف عند تحديد زمن للكرونولوجيا المصرية لجميع السنين السابقة لحكم «بساميتيك الأول» سنة 665ق.م.
ولا يمكننا أن نضبط هذه التواريخ إلا على وجه التقريب وإن «مانيتون» هو الواجب علينا اتباعه في مثل هذه الريوب، ولو أن ما نصه ضاده كثير من المترجمين الذين ترجموا كثيرا من الصحف الهيروغليفية.
وجدول الملوك يعتبر فيه في الغالب أسماء الملوك، وأما التواريخ فهي فاسدة لا يعول عليها.
وأما إذا اتبعنا طريقة البحث والتدقيق فإننا لا نرى الكرونولوجيا قد عملت لنا معرفة جيدة لا نقض فيها ولا إبرام إلا من القرن السابع قبل المسيح، ولكن الصعوبة تتزايد علينا كلما شرعنا في تعيين زمن حكم كل عائلة قبل هذا الوقت، ويلزم اعتبار تاريخ ما قبل «بساميتيك» ليس إلا ريبا محضا لا نهاية له، وأما من خصوص مجموع التواريخ وتعاقب العائلات والآثار التاريخية فاتحاد المؤرخين عليها كفاية.
وقد قال المعلم «فونتان» قد يمكن أن نتسع في المناقشة إذا نظرنا لمسألة وحيدة وهي هل منا أو مصرايم كان هو أول ملك لمصر وهو منظم البلد أو هو ليس إلا ملك من ملوكها قد سبقه غيره من الملوك، ولكن لا يمكننا أن نجحد حكمه أصلا؛ لأن التاريخ القديم لمصر خلا بعض تفاصيل هو معلوم جيدا من ابتداء «منا» لغاية دخول مصر تحت حكم الرومان.
ومن عهد الأزمان الغابرة كانت تعرف المصريون السنة الشمسية وتقسيمها إلى 360 يوما وإلى 12 شهرا، وكل شهر ثلاثين يوما و5 أيام في آخر السنة وهي المعروفة بأيام النسيء. وبعد ذلك اخترعوا زمنا فلكيا بديعا؛ لأجل أن يتوصلوا به من زمن إلى آخر، لاتحاد هذه السنة بالسنة الحقيقية وهي 365 وربع، ولكن لما كانوا لا يعرفون مثلنا الآلات البصرية المستعملة في الأرصادات فما كان عندهم من المعلومات ليس إلا نتيجة أرصادات عينية، فعوضا عن أنهم كانوا يضيفون يوما واحدا في آخر كل أربع سنوات كانوا يضيفون سنة كاملة في كل 1460 سنة؛ أعني 365 في 4، وأوائل هاتين السنتين تتحد مع زمن شروق كوكب الزهرة (المسمى سوتيس) أو سيريس (التي كان شروقها دليلا على أول السنة وحصول فيضان النيل، وكان لهذا) الوقت أعياد ومواسم كبيرة في البلاد، وقد جرب كثير من العلماء صحة جدول «مانيتون» باشتغالهم بتحقيق بعض التواريخ المعاصرة لبعضها المتنازع فيها، فمثلا لما اعتبر على وجه التجربة شروق الزهرة مناسبا لسنة من سني حكم ذكره «مانيتون»، فكل من العلامة بيوت وروجيه الفلكيين أمكنهما بواسطة حسابات قمرية بطرق فلكية تعيين زمن هذه الظاهرة بالسنين الجليانية، وبذلك علم حكم الملك الذي حصلت في مدته هذه الظاهرة الفلكية ولكن هذه النتيجة الحسناء الصادرة عن فكرة وذكاء لم تسلم من نقد العلماء.
وقد ذكر لنا المؤرخ «فرنسيس لونورمان» أن الملك رمسيس الثالث نقش على جدران هيكل مدينة «أبو» تعديلا عظيما للأعياد والمواسم الدينية، حينئذ على حسب هذا التعديل فيوم عيد شروق كوكب الزهرة يعين لنا أن نقش تذكاره يستفاد منه أن السنة الثانية عشرة من حكم الملك رمسيس الثالث كانت إحدى هذه السنين التي اعتبرت مبدأ للعصر الفلكي للمصريين. وفي هذه السنين تطابقت السنين الاعتيادية 365 والسنة الشمسية، وبواسطة حسابات الفلكي الشهير «بيوت» علم أن هذا التطابق النادر كان قد حصل في سنة 1300 قبل المسيح، ومنه يعرف أن جلوس رمسيس الثالث على تخت الأريكة المصرية كان سنة 1311ق.م.
وقد قرأ العلامة «شاباس» على ورقة من البردي عبارة يستدل منها على أنه في السنة التاسعة من حكم الملك «منقرع» حصل شروق الزهرة، وبما أنه عندنا جملة نقط مبدأ معينة لجملة شروقات للزهرة فبالحساب نجد أن السنة التاسعة من حكم هذا الملك هو محصور ما بين 3007 و3010ق.م، ويرى من هذه الحالة أن زمن العائلات الأولى كان زمنا بعيدا جدا، ولكن هذه الطريقة ليست مقبولة إلا احتياطا فقط؛ لأنها تعين الكرونولوجيا المصرية بواسطة أرصادات فلكية هي من الضروري غير مضبوطة، ومع ذلك يمكننا أن نقول على رأي «مارييت» باشا إن فرق 700 إلى 800 سنة في مثل هذه الأحوال ليست إلا نتيجة خطأ من المحتمل صحته. (3-2) الآثار
لا ريب أن قدماء المصريين هم أول أمة لها الفضل الأوفر على ما عداها من الأمم؛ إذ علمتهم مبادئ التمدن وأخرجتهم من مفاوز الجهالة وكهوف الهمجية إلى علم الظهور والارتقاء، وملوكهم هم الجبارون الذين لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، وهم الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها، وبنوا المدائن وحصنوها، وجعلوا فيها القصور الشاهقة والمباني العالية والمسلات الشامخة، رفلوا في حلل المجد والفخار أكثر من سبعين قرنا، يشهد لهم بذلك ما عثرنا عليه في القبور من موتاهم والآثار العديدة، وخصوصا الجبانات العظيمة فهي الشاهد العدل والدلائل القاطعة؛ إذ هي الآن بمثابة الكتب الضخمة، وكذا الهياكل والمعابد كل ذلك يدلنا على فضل الأمة المصرية وتفاصيل عوائدهم وأخلاقهم في تلك الأزمان الغابرة.
والآثار العجيبة التي لا عداد لها تعرب عن فخر الفراعنة الذين شيدوها؛ فإننا نرى منقوشا على جدران هياكل طيبة وغيرها باطنا وظاهرا، وعلى سطوح المسلات وداخل الدهاليز نصراتهم وفتوحاتهم وبها رسومات تدل على سطوتهم وعلى طاعتهم لآلهتهم، وكذا الموميات تدلنا على عيشتهم الخصوصية الإفرادية وإن كانت في بعض الأحيان لا تخلو من المبالغة والغلو، وكذا تعرب عن عيشتهم التي كانوا يرغبونها في دار الآخرة والبقاء، فأضحوا رفاتا وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وآثارهم التي ازينت بها متاحف أوروبا عموما ودار التحف المصرية خصوصا، التي أسسها الفاضل الفرنساوي المسيو «مارييت» باشا ببولاق، ونقلت الآن بسراي الجيزة، وهي الآن مشحونة بما صنعته يد الحرف والصنائع القديمة.
ومن الآثار التي اعتبرت أساسا للمعلومات التاريخية التي تحصلنا عليها هي:
أولا:
اللوح البردي الملوكي المحفوظ الآن بمدينة توران «بإيطاليا»، ولو كان هذا اللوح باقيا على حالة تمامه الأولية لأصبح أنفس أثر يوجد لعلم الآثار القديمة المصرية المعروف عند الفرنج باسم «الأرشيولوجيا المصرية»، وهو يشتمل على رسومات حقيقية وخرافية لمن حكم مصر في سالف العصر منذ أقصى العصور الأولية لغاية مدة لا يمكن لنا الوقوف عليها لداعي أن ذيل هذا اللوح مشطور، وهو محرر في عهد الملك رمسيس الثاني؛ أعني في أبهى العصور وأبهجها فهو إذن متصف بجميع الشروط التي تجعله من المستندات الرسمية ليكون لعلم التاريخ إعانة قوية، حتى إنك ترى أمام كل ملك رقم مدة ولايته، وبعد كل عائلة رقم مدة حكمها بتمامه، إلا أنه لسوء الحظ ليس إلا قطعا متفرقة تبلغ 165 قطعة لم يتمكن من ترتيبها كما كانت عليه في الأصل.
ثانيا:
قاعة الأسلاف، وهو أثر وجد بهيكل الكرنك ومحفوظ الآن بدار التحف الملوكية بباريس، وهو عبارة عن قاعة صغيرة وجد مصورا على جدرانها صورة الملك طوطميس الثالث على هيئة المتنسك أمام ستين ملكا من أسلافه؛ ولذلك سميت قاعة الأسلاف، ومما يجب التنبيه عليه أن المصور الذي عني برسم هؤلاء الملوك لم يلتفت إلا إلى حسن التصوير والتزويق لا إلى ترتيبهم وتعاقب أزمانهم، ومنه استفيد ضبط أسماء ملوك العائلة الثالثة عشرة المصرية ولو لم يعتره التشويه لكان هذا الأثر أنفع من غيره لعلم التاريخ.
ثالثا:
جدول أبيدوس وجد هذا الأثر بأطلال مدينة العربة المدفونة، ونقل الآن إلى أنتيكخانة لوندرة، وهو تصوير حالة تنسكية وهيئة تعبدية مركبة من جملة ملوك فراعنة غير مرتبين لأسباب مجهولة، ولداعي ما اعتراه من التشويه كاد أن يكون لا قيمة له في التاريخ، ولكن المسيو «مارييت» عثر على نسخة أخرى منه في إحدى هياكل المدينة المذكورة مؤرخا من عهد الملك سيتوس الأول أتم من الأولى، فجاء هذا اللوح محققا لما رواه «مانيتون» من أسماء ملوك عائلات فرعونية من العائلات الستة الأول.
رابعا:
أثر سقارة عثر عليه أيضا «مارييت» باشا، وهو محفوظ الآن بدار الآثار بالجيزة، وبه تأكد ما وجد بجدول أبيدوس الجديد، ووجد في مقبرة أحد القسس الذين كانوا موجودين في عصر رمسيس الثاني واسمه «توناري»، وإلى غير ذلك من الآثار التي تحقق لنا فخر المصريين وتقادم عهدهم وتمدنهم وارتقاءهم في هذا العالم الدنيوي، وبذلك نعلم أيضا أن لا يوجد تاريخ أمة من الأمم محرر على مستندات حقيقية أثرية وأقوال مؤرخين محققين ورواة مدققين أكثر من تاريخ الأمة المصرية، ومما ساعد كثيرا على كشف أسرار هذه الآثار الكفرية فك رموز اللغة الهيروغليفية الآتي ذكرها.
اللغة الهيروغليفية
اعلم أن اليونان والرومان لم يشتغلوا بشيء من أمر اللغة البربائية التي كانت تتكلم بها سكان مصر لغاية مدة حكمهم، فلذلك طرحها الكتاب من أفكارهم، فأصبحت سرا مكنونا وحجابا مستورا مصونا، حتى وفد على مصر علماء فرنساويون صحبة التجريدة الفرنساوية التي غزى بها بونابارت الديار المصرية سنة 1798 ميلادية، ففي سنة 1800 ميلادية بينما كان الضابط الطوبجي المسيو بوسارد مشتغلا بالحفر جهة رشيد لإنشاء المتاريس والاستحكامات للتحصن هناك عثر على حجر منقسما إلى ثلاثة أقسام؛ «القسم الأول» مكتوب بالقلم الهيروغليفي الذي كانت تستعمله الكهنة في الكتب المقدسة. «والقسم الثاني» مكتوب بالقلم الديموطيقي الخط المعتاد. «والقسم الثالث» الأسفل بالخط اليوناني، ومكتوب في آخره أنه ترجمة ما سبق بالخط البربائي، فأخطر هذا الضابط جمعية تقدم المعارف الفرنساوية بهذا الحجر المشتمل على أمر عال صادر من بطليموس الخامس فتلاعبت أفكار العلماء بحل ما يكنه هذا الحجر وسموه «حجر رشيد».
وما زال جملة من علماء أوروبا يتعاقبون الواحد بعد الآخر فذهبت أعمالهم سدى ولم تأت بأدنى فائدة، غير أن العلامة «زويجا» اقترح أن أسماء الملوك عند قدماء المصريين كانت توضع في نوع مستطيل ضلعاه الصغيران قوسان سماه «خرطوشا»، واستمر ما اشتمل عليه هذا الحجر مكنونا زمنا طويلا، غير أن المعلم الإنكليزي يونج استخرج بعض الحروف الهجائية، وظهر بعده الشاب ذو القريحة الوقادة الذكي الفطنة الفرنساوي «حنا فرنسيس شمبوليون» فاشتغل منذ شبيبته بتعلم اللغات الشرقية وخصوصا القبطية، ومارس كثيرا من النقوش الأثرية إلى أن عرف أن الخط البربائي ليس إلا كاللغات الأخرى ذات علامات يتلفظ بها كالحروف، وأنه يكتب على ثلاثة أشكال خط هيروغليفي وهو الخاص في الغالب بالأديان وخط هيراطيقي وديموطيقي وهما مختصر الخط الهيروغليفي، كالنسخ والرقعة والديواني، فشرع في سنة 1238 هجرية في استخراج ما توقفت فيه العلماء ، ففي مدة سنتين استخرج جملة حروف هجائية.
والطريقة التي اتبعها هي أنه لما وجد في النص اليوناني اسم بطليموس أخذ ما يقابله من الخرطوش المدون في الخط البربائي الذي تحته، فبمقابلة هذين الخطين عرف الحروف الأصلية من الزوائد، ثم قابل ما عنده من الحروف باسم كليوبطرة فاستخرج بعض حروف أخرى، وهكذا اسم إسكندر الأكبر وبساميتيك وتحوتمس حتى عرف الحروف الهجائية، ثم بقي عليه مسألة معضلة أظهر فيها هذا العالم ما يدل على رفعته وقدره وحدة ذكائه، وهي معرفة اللغة نفسها؛ إذ ماذا يفيد النطق بالألفاظ مع جهل المعنى، فما زال يطابق الثلاثة خطوط المرسومة على حجر رشيد على بعضها إلى أن استخرج بعض علامات أخرى، وهكذا سلك أسلوب الترقي من المعلوم للمجهول حتى ابتدع فن الكتابة المصرية القديمة المعروفة بالبربائية أو الهرمسية، وألف لها آجرومية شبيهة بالآجرومية القبطية وقاموسا لهذه اللغة، ومع كل فلم يسلم من سهام النقد والتنديد؛ حيث خطأه كثير من العلماء، ومع كل فإنه لما مات شمبوليون سنة 1249 هجرية سنة 1832 ميلادية اشتغل كثير من العلماء بتعلم هذه اللغة مع كثرة المناقضة فيها، ولم تزل إلى الآن الناس تشتغل بالقلم المصري حتى صار الآن مربوطا بقواعد وأحكام غير منقوضة، ولم تزل تزداد بزيادة هؤلاء الطلبة، وبهذه الطريقة عينها حلت العلماء الأوروباويون اللغة الآشورية والبابلية المعروفة بالحروف الزاوية الشكل العلامة «جروتيفان» سنة 1802 والعلامة «أجين برنوف» مع ما كان عندهما من لغة السنسكريتي، فالأول كان موضوع بحثه اسمين علمين دارا وأكزركيس، والثاني صحيفة وجدت في جبل الفان على مقربة من إستخر، وكذا غيرهم من العلماء، وقد قرئت الصحائف واتضحت كمال الإيضاح، وتحصلوا على حروف الهجاء خلا بعض علامات اعتراها بعض التغيير من حيث المعنى.
فوا عجبا من جد هؤلاء الأغراب في كشف رموز هذه اللغة وإبراز تاريخنا من عالم الخفاء إلى عالم الظهور وتقاعدنا عن مثل هذه الأعمال وغيرها التي نحن أحق بها من غيرنا. (4) العصور
قسم مؤرخو الفرنج العصور إلى ثلاثة أقسام وهي: الأعصار الأولية والأعصار الخرافية والأعصار التاريخية .
أما الأعصر الأولية فهي:
المدة التي ابتداؤها خلق الإنسان وغايتها حادثة الطوفان؛ وذلك أنها عندهم منقسمة إلى فرعين؛ المدة الدنيوية والمدة الطوفانية:
والأعصر الخرافية هي:
المدة التي ابتداؤها تفرق الأمم وتبلبل الألسن وبناء المدن وتأسيس الممالك ببلاد الصين ومصر واليونان إلى ظهور الأنبياء المرسلين والشعراء المشهورين ووضع أساس العالم الدنيوي؛ ولذلك قسمها مؤرخو الأوروبيين إلى أزمان وثنية وأزمان بطلية «نسبة للشجاع البطل» وأزمان نبوية أو شعرية، فأول الأزمان هو الذي كانت فيه مصر واليونان وغيرهما ميالين لترقية ملوكهم إلى رتبة الآلهة، والثاني: الزمن الذي ظهرت فيه الجبابرة الذين شنوا الغارات وأسسوا المدن، والثالث: ظهور الأنبياء الكرام والشعراء المعتبرين كالخليل إبراهيم وموسى عليهما السلام وشعراء اليونان.
وأما الأعصر التاريخية فهي:
الأزمان التي أخذ فيها علم التاريخ في الظهور، وهذه المدة تنقسم إلى جملة أقسام منها المدة التشريعية؛ أي الزمن الذي ظهر فيه المتشرعون كلكورغة في إسبارطة وسولون في أتينا ونوما بومبليوس في روما «ثاني ملوكها» وكونفسيوس ببلاد الصين وغيرهم، ومنها مدة فخار اليونان، ومدة اختلال الجمهورية الرومانية. (5) مصر الأصلية
اعلم أن هذا الوطن العزيز والبلد الأمين الذي حكى الفردوس ماء وزرعا صاحب الخيرات الوافرة والفيض العميم كان فيما سلف من الأعصار خاليا من القرى والأمصار، وكان الوجه البحري الذي هو أبهى وأبهج وأزهى وأزهر الأقاليم المصرية وأعمرها الآن تعلوه المياه، وقد امتدت تيارات البحر الأبيض إلى أمد بعيد، وتلاطمت أمواجه بالسهول المرملة التي بها الأهرام الآن، وكانت مصبات النيل تنتهي إلى قرب منفيس والدلتا مغطاة بعضها بماء النيل والبعض الآخر بمياه الملح وبها بعض جزائر ينبت فيها البردي، والغاب وعلى يمينها وشمالها كان يغير النيل بلا انقطاع مجراه الأصلي، وأما أراضي الشاطئ فكانت جدبة رملية ليس بها ماء ولا زرع ولا نبت ولا ضرع، وما زال حتى عرف الناس حفر الترع وصنع الجسور وتنظيم النيل وحمل مياه الري إلى أراضي الوادي البعيدة، فجاءت مصر بصنع أهلها مملكة مستعدة وأرضا جافة تزرع بعد أن كانت بحورا حرية بالإقلاع، وأوجد النيل أراضي مصر وأخرج لها منظرا عاما يفيض عليه مياهه كل عام، وصار النيل على توالي الأعصار يحمل من أقصى الأقطار وجبال الحبش وبحيرات خط الاستواء رمالا ومواد طينية وجيرية، حتى ارتفعت الأرض وردمت الخليج الذي كان أوجده البحر بالوجه البحري ونشأ من ذلك سهل عظيم به مستنقعات يتخلله برك، ومن بينها يأخذ النيل مجراه على الدوام. ثم تكونت أراضي الدلتا على شكل مثلث رأسه تقرب من منفيس وضلعه الثالث المتعرج المتباعد نحو الستين فرسخا من الرأس، ينتهي بشمال أطلال أتريب «بنها العسل الآن»، ثم بعد ذلك أخذ النيل في ردم الأراضي بطميه، حتى تراكمت في شمال الدلتا، فاندفعت بجملتها في الانحدارات، وما زالت تتسع الأرض كما في أيامنا هذه بما يجلبه النيل شيئا فشيئا من أقاصي أفريقا وأما مدة تكون الأراضي بمصر فمجهولة الحال؛ حيث قال الأقدمون إنها أزمان طويلة جدا، وأما العلماء الحاليون فقالوا إنها تبلغ ثلاث آلاف أو أربعة آلاف سنة.
الفصل الأول
في تاريخ مصر
اعلم أن تاريخ مصر هو تاريخ أهل الفلسفة والبراعة والقوانين والسياسة، فإن مصر حفظت لرتبتها العلية مدة سبعين قرنا، ولما دخلت تحت حكم الدولة اليونانية والرومانية لم يزل فضلها باقيا؛ إذ فاقت من عداها بقوة العلم.
وينقسم تاريخ مصر إلى قسمين عظيمين؛ الأول قبل الإسلام، والثاني بعده. أما قبل الإسلام، فينقسم إلى فرعين؛ أحدهما: الزمن الذي فيه أهل مصر كانت عاكفة على عبادة الأصنام. والثاني: إشهار دين المسيح عيسى عليه السلام. وأما بعد الإسلام فهو معتبر من ابتداء فتح مصر بالإسلام سنة 20 من الهجرة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب إلى عصرنا هذا. (1) تاريخ مصر قبل الإسلام
اتفق المؤرخون على أن أول ملوك مصر بعد الطوفان كان يدعى «منيس أو منا» وقد قسم «مانيتون» المؤرخ المصري تاريخ مصر القديم إلى ثلاث طبقات وإلى إحدى وثلاثين عائلة، وهم المعروفون عند مؤرخي الإسلام بدول الفراعنة:
الطبقة الأولى:
وأولها العائلة الأولى، وغايتها العائلة الحادية عشرة.
الطبقة الثانية:
وأولها العائلة الثانية عشرة، وغايتها العائلة الثامنة عشرة.
الطبقة الثالثة :
وأولها العائلة الثامنة عشرة، وغايتها العائلة الحادية والثلاثون.
ولنتكلم على تاريخ مصر في سالف العصر على هذا الترتيب فنقول: (1-1) تاريخ مصر القديم لغاية افتتاحها بالأعجام «أي عصر الفراعنة»
الطبقة الأولى (أ) العائلة الأولى الطينية
رأس هذه العائلة هو منا المذكور، ومسقط رأسه بمدينة أبيدوس «العربات المدفونة»، وكان في مبدأ أمره قائد الجيوش المصرية في زمن الكهنة «طائفة الحرشسو» ثم قام وحاربهم وأخذ الملك من يدهم وترك مدينة طيبة وأسس مدينة «منف» أو «منفيس» سنة 5700ق.م (الآن البدرشين وميت رهينة) وجعلها مقر دولته وقاعدة سلطنته، ولم يمض عليها برهة من الزمن إلا وصارت مركز التمدن والمعارف، وهو الذي سن القوانين ونظم السياسة ورتب الديانة وقسم مصر إلى أقسام كل منها يسمى «نوم»، وحول النيل عن مجراه الأصلي، ولذلك صنع جسر قشيشة، وجعله يجري في وسط الوادي، وغزى سكان ليبيا، وأدخلهم تحت الطاعة ومات بعد أن حكم 62 سنة، وقد ضربنا صفحا عن من أخلفه لعدم شهرة أعمالهم، وجملة ملوك هذه العائلة تسعة. (ب) العائلة الثانية الطينية
أشهر ملوك هذه العائلة الملك «بينوسيريس»، وهو الذي أبدع قانونا جوز فيه للنساء الجلوس على سرير الملك؛ قاصدا بذلك عدم خروج الملك من العائلة الملوكية، وحاصل هذا القانون أن الملك إذا مات وكان له أولاد ذكور كانوا أحق بالملك، وإن لم يكن له ذكور أو انقرضوا كان أحق بالملك بناته، وأن كل ملك توفي عن زوجة ولم يكن له ولد أو كان له ولد قاصر تولت الملك بعده زوجته بشرط أن لا تتزوج غيره بعد موته، فإن تزوجت غيره من ليس له الحق في الملك لا يجوز لزوجها هذا أن يكون ملكا، وإنما يكون لذريته منها، فيعطى لهم منصب الملك. وصرح الملك «بينوسيريس» في قانونه أن سلاطة الملوك على رعاياهم هي حقوق وجب عليهم أداؤها نيابة عن المعبودات، وبالغ في هذا الأمر على زعم أن دماء المعبودات سرت في عروق جسده، وبذا جعل لنفسه السلطة المطلقة على سائر رعيته، ولقب نفسه بابن الشمس المعبودة لهم؛ ليثبت ذلك لنفسه ولمن كان من نسله من الملوك أن لهم القرابة بينه وبين المعبودات، واقتدت به الملوك بعده إلى عهد الرومان.
وأخذ قدماء المصريين من هذا القانون أن كل من أراد تأسيس عائلة ملوكية ووصلها بالعائلة التي قبلها فليتزوج من نساء الملوك أو يأخذ منهن لأولاده لوصل القرابة بينهما. (ج) العائلة الثالثة المنفية
أول ملوك هذه العائلة هو الملك «نفرقرع»، في مبدأ حكمه خرجت عليه سكان صحراء ليبيا فغزاهم وأدخلهم تحت طاعته حينما شاهدوا حادثة خسوف القمر، لظنهم أن الله غضب عليهم، ولما انتهى الحرب استتبت الراحة وانتشرت العلوم بين العباد، واتسعت دائرة الصنائع والفنون في سائر البلاد. وأما باقي ملوك هذه العائلة لم تعلم لهم آثار مخصوصة، بل تزايدت ثروة المملكة، وتزايدت مبانيها؛ فمن تلك المباني أبو الهول الموجود الآن بين هرمي الجيزة، ويسمونه بشمس الأفقين.
ومنها: الهيكل الموجود بالجهة القبلية من أهرام الجيزة، ويعرف الآن بالكنيسة، وهو من بدائع عصرهم، ومحاسن صنعهم؛ لكونه مبنيا بالحجر الصوان المنحوت.
ذكر مآثر الملك سنفرو:
لما تولى ملك مصر صار محسنا لأهل مملكته، وفي مدته قامت عليه سكان جبل الطور، فتوجه لقتالهم وقهرهم وأخذ أرضهم، وبنى فيها قلاعا وحصونا وديارا وبيوتا، وجعل فيها رجالا تستخرج له المعادن والأحجار النفيسة، ولقب نفسه ألقابا وهي؛ أولا: الحاكم. ثانيا: صاحب التاجين، تاج العقاب وتاج الثعبان. ثالثا: المنصور الظافر بأعدائه. رابعا: ملك الوجه القبلي والوجه البحري. وختم ذلك بجملة أدعية وهي: دام بصحة وعافية. ولما عاد إلى مصر بعد هذه الغزوة بنى قلاعا في حدود الدلتا استمرت إلى عهد العائلة الثانية عشرة، ولحبه لرعيته عبدته المصريون بعد وفاته، واستمرت على ذلك إلى عصر البطالسة، وأما باقي ملوك هذه العائلة لم يكن لهم آثار تدل على تاريخهم، بل ما ورد عن المؤرخ «مانيتون» يفيد أن في مدتهم تزايدت ثروة المملكة وتكاثرت مبانيها، فمن تلك المباني جملة مقابر كانت سكان منف تدفن بها موتاهم، وكانت تلك المقابر تبعد عن منف بمقدار خمسة آلاف متر من الجانب الغربي، ومن مآثر هذه العائلة التمثالان الموجودان بمتحف الجيزة «دار الآثار القديمة» أحدهما تمثال «رع حتب». والثاني تمثال زوجته «نفرت»، المتخذان من حجر واحد، وعليهما نقوش تدل على أن «رع حتب» كان الكاهن الأكبر لمدينة المطرية وقائد الجيوش المصرية، وأن زوجته «نفرت» - أعني الجميلة - حفيدة ملك لم يعلم اسمه. (د) العائلة الرابعة المنفية
حكمت هذه العائلة من سنة 4900ق.م إلى سنة 4800ق.م، وأشهر ملوكها الملك خوفو الآتي ذكره.
ذكر مآثر الملك خوفو:
في مدة حكمه قد استنار تاريخ مصر ولا سيما بتكاثر العمارات الشهيرة التي أعظمها الهرم الأكبر الذي بناه هذا الملك سنة 4900ق.م، وهو الكائن بجوار الجيزة، وهو أقدم عمارة في الدنيا بعد برج بابل، ويبلغ 455,75 قدما، وعرضه 67 قدما، وقد بناه في مدة 30 سنة؛ عشرة في قطع الأحجار وعشرون في تشييده، ولم يكن هذا الهرم موضوعا وضعا حيثما اتفق، بل هو موضوع كمزولة يعرف منه أول يوم في السنة، كما أثبت ذلك سعادة المرحوم محمود باشا الفلكي، وكتب في ذلك رسالة صغيرة، ولم تك همة هذا الملك قاصرة على تشييد العمارات فقط، بل كان محبا للغزو والجهاد، ويرى في وادي مغارة (قريبا من عيون موسى بشبه جزيرة جبل الطور) مصورا على شكل مقاتل يقمع بني عون (قبيلة من عرب البدو الذين كانوا يتعدون على حدود مصر من جهة الشرق) وقد دعت اليونان هذا الملك في كتبهم بالظالم، ادعاء منهم على أنه حمل رعيته على نقل أحجار هرمه من صحراء ليبيا وألهاهم عن العبادة، وأمر بغلق الهياكل والمعابد، وهذا كذب لا أصل له بدليل ما ثبت من أن هذا الملك أهدى هدايا ثمينة للمعبودات المصرية، وأنه استعمل في بناء هرمه الأسرى الذين أسرهم من بني عون السابق ذكرهم، وهذه عادة عند جميع الملوك، وحكم 68 سنة، واستولى بعده الملك خفرع أو كفرن، وهو الباني للهرم الثاني البالغ ارتفاعه 447 قدما، واستولى بعدهما الملك منقرع أو منقريوس، وهو الباني للهرم الثالث البالغ ارتفاعه 302 قدما ، وكان ملكا عادلا، وقد ألف في أيامه عدة كتب في علم التيولوجيا - أي علم اللاهوت - (الديانة).
وأشهر ملوكها أيضا الملك سبسقاف، وهو أحد المشرعين الخمسة، ورتب الديانة ترتيبا جديدا، ودون علم الهندسة، ورصد الكواكب، وسن قانونا للقرض جوز فيه أن كل إنسان له أن يقترض ما يشاء ممن يشاء بشرط أن يرهن جثة أبيه عند المقترض، وأذن له أن يتصرف في قبر المديون حتى يوفيه دينه، فإن لم يوفه إياه حرم من الدفن هو وذريته بعد موتهم. (ه) العائلة الخامسة الأسوانية
لم يكن لها ملوك يستحقون الذكر، فلذلك ضربنا صفحا عنهم، وعدد ملوكها تسعة. (و) العائلة السادسة الأسوانية
أشهر ملوك هذه العائلة «ماري ببي أو ماري بيبوس» وهو الذي حارب السودان وأدخلها تحت الطاعة حينما مدوا أبصارهم إلى ملك مصر، واستخرج من جبل الطور معدن النحاس والتوتيا والفيروزج، وتحارب مع عربان جبل الطور الذين كانوا يشنون الغارات دائما على أطراف مصر من تلك الجهات، وأجلاهم عن أرضهم، وصنع الطريق الموصل من بندر قنا إلى القصير، واستخرج من وادي الحمامات الذي بتلك الجهة أحجارا كريمة، خصوصا الزمرد.
ذكر الملك منتصاف:
ومن ملوك هذه العائلة الملك منتصاف، ولم يحكم إلا سنة واحدة وقتله أعداؤه.
واستولت بعده أخته المسماة نيتوكريس وكانت زوجته أيضا، وأضمرت على أخذ الثأر من قاتلي أخيها الذي هو زوجها، فشيدت سرايا تحت الأرض وسلطت عليها ماسورة من النيل، ودعت قاتلي أخيها إليها، فبينما هم على المائدة يأكلون؛ إذ فتحت عليهم ماسورة الماء فأغرقتهم عن آخرهم، ولخوفها على نفسها من الانتقام ألقت نفسها في النار فاحترقت ودفنت بالهرم «الأصغر بالجيزة» حيث تممت بناءه. وكانت مدة حكمها عشر سنين. (ز) العائلة السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة
اعلم أنه بانقراض العائلة السادسة لا يعرف شيء من التاريخ بخصوص هؤلاء العائلات، وغاية ما نعرفه هو أن تخت مصر كان في مدينة هرقليوبوليس، وهي المعروفة الآن باسم «أهناس المدينة». (ح) العائلة الحادية عشرة الطيبية
لم يكن لملوك هذه العائلة شيء من الآثار يستحق الذكر، وعدد ملوكها ستة عشر.
الطبقة الثانية (أ) العائلة الثانية عشرة
ذكر الملك أوزرتسن الأول:
وهو صاحب المسلة الموجودة الآن بالمطرية أمام هيكل الشمس، ويبلغ ارتفاعها 20 مترا وكسورا. ومكتوب عليها ما صورته:
العظيم، معطي الحياة لكل مولود، ملك الصعيد والبحيرة، دام بقاء أوزرتسن ابن الشمس، محب إله بلد الشمس، صاحب التاج، معطي الحياة لكل موجود، صنع هذا الشغل العظيم وأنهاه في يوم عيده الأكبر لتخليد ذكره على ممر الدهور والأعوام.
وأقام مسلة أخرى بقرية بجيج بالفيوم، وقد حارب السودان، وهو أول من بنى أساس هيكل الكرنك بالصعيد بمدينة طيبة، ويرى اسمه منقوشا على مبنى قديم جهة الشلال الثاني، ويلقب باسم الملك المنصور على أمة القوس والنشاب، وجلب الذهب من بلاد السودان وجعله في خزينة مدينة «قفط» بالصعيد.
الملك أوزرتسن الثالث:
كان هذا الملك صاحب حزم وعزم حتى عبدته الناس بعد موته، وقد جرد جملة تجريدات حربية لمقاتلة العبيد جنوب مصر، وشيد بوادي حلفة استحكامات لمنع تعدي العبيد على مصر؛ منها: قلعتان يعرف أطلالهما الآن باسم سمنة وقمنة، وكتب على حجر هناك ما صورته:
إن هذا الحجر هو آخر حدود مصر من جهة الجنوب، ولا يسوغ لأحد من أمة الزنج أن يتجاوزه إلا إذا كانت سفنه مشحونة بالثيران والمعز والحمير.
الملك أمنما الثالث:
ويسمى أيضا «أمنمحعت الثالث»، وهو الذي نظم جسور النيل وحفر الترع العظيمة وصنع البركة المعروفة عند الجغرافيين باسم «بركة موريس» بالفيوم، وصنع بوسطها هرمين يعلوهما صورته وصورة زوجته، وهو الذي بنى هرم اللاهون وحفر الترعة المعروفة الآن باسم بحر يوسف بالفيوم، وشيد سرايا بها 1500 أودة تحت الأرض و1500 فوقها، وأعدها مجلسا لأعيان مصر والكهنة ليتداولوا فيها في الأمور السياسية والمنافع العامة، وهي المعروفة الآن باسم سراي «لبرنت أو التيه أو البرية» وقد بنى هذا الملك مقياس النيل بوادي حلفة وموجود أثره إلى الآن، وانتظمت أحوال مصر في مدته واشتهرت بالعلوم والصنائع وأتقن فن البناء ونحت الأحجار.
وأما العائلة الثالثة عشرة والرابعة عشرة لم يعلم لهما شيء من الآثار، والأولى تختها طيبة والثانية سخا. (ب) العائلة الخامسة عشرة
هذه العائلة مجهولة الحال أيضا ، غير أن عرب الرعاة أغاروا على مصر في مدة حكمها، ونزعوا الملك منها، وجعلوا تخت حكمهم مدينة منفيس.
ذكر عرب الرعاة أو الهكسوس:
ذكر المؤرخون أن قبائل الهكسوس كانوا أخلاطا من العرب وأهل الشام والكنعانيين، وكانت قبائل رحل نزل، أغاروا على مصر (2213ق.م) من جهة الشمال الشرقي واستولوا عليها وقتلوا العباد وأحرقوا البلاد وخربوا الهياكل ونهبوا ما كان بها، ورحل بعض الوطنيين إلى الصعيد، ومكثوا بمدينة طيبة. وأما عرب الرعاة فقد اختاروا ملكا عليهم يدعى سلاطيس، فبادر بتشييد القلاع والحصون في الجهات التي يخشى عليها، وفي عصر هؤلاء الأقوام تكاثر ورود أهل آسيا واتخذوا منهم جنود ليكونوا لهم أعوانا عند الشدائد، ولم يمض على العرب زمن طويل إلا وتدينوا بدين المصريين، وتركوا الغلظة والفظاظة، وشرعوا في إحياء التمدن ونشر العلوم بعد ما تعلموا القراءة والكتابة، وفي أيام هؤلاء الأمم وفد يوسف الصديق على مصر وبيع فيها، ودخل بعد ذلك في خدمة الدولة المصرية، وما زال يترقى إلى أن صار عزيزها، والقصة مشهورة، ثم جاء يعقوب عليه السلام وأولاده الأحد عشر، فأنزلهم يوسف عليه السلام جهة الشرقية وأقطعهم وادي غسان، وهو المعروف برأس الوادي. ثم قامت الحروب على قدم وساق بين المصريين وأمة الهكسوس، ولم يتمكن المصريون من إجلائهم عن مصر إلا في مدة الملك أحميس رأس العائلة الثامنة عشرة.
الطبقة الثالثة (أ) العائلة الثامنة عشرة الطيبية 1703-1462ق.م
الذين حكموا من هذه العائلة أربعة عشر ملكا، ومدة حكمهم 241 سنة، ظهرت هذه العائلة من مبدأها بأقوى مظهر، وتفاخرت بانفرادها بالشوكة الملوكية والسطوة الأهلية، ومن أشهر ملوكها الملك أحميس الذي طرد عرب الرعاة بعد أن مكثوا بمصر أكثر من خمسة قرون، وكانت زوجته أتيوبية؛ ولذلك انقادت له أهل الأتيوبيا، وصارت له الكلمة النافذة على كل مصر من الشلالات لغاية البحر الأبيض المتوسط.
كيفية طرد عرب الرعاة (1703ق.م):
هي أن هذا الملك تحارب مع عرب الرعاة فانهزم منهم وفر هاربا إلى بلاد السودان وتزوج بابنة ملكها، فعاد مع عساكر سودانية متحدا مع قواد العساكر المصرية، وقامت الحروب على قدم وساق بين الطرفين، فانهزمت أمة الهكسوس، والتجأت إلى قلعتهم المسماة أواريس فحاصرهم الملك أحميس بها، وتم الأمر أخيرا بخروجهم بشرط أن يأخذوا جميع ما يمتلكونه من بر مصر، وخرجوا منها واقتفى أثرهم إلى أن أدخلهم أرض كنعان، وتخلفت منهم طائفة مكثت بين صحراء مديرية الغربية وفروع النيل الشرقية، وهم القاطنون الآن حول بركة المنزلة، وحرفتهم صيد السمك وقنص الطيور، واجتهد هذا الملك في تشييد العمارات والمباني الجسيمة، وفي ترميم ما دمرته جماعة الرعاة، ويرى اسمه منقوشا في جبل المعصرة، يستفاد منه أن هذا الملك قطع أحجارا من محاجرها وانتخب أحجارها البيضاء لتشييد جملة هياكل ومبان.
ذكر مصر وشوكتها بعد أمة الهكسوس:
قد علمنا أن الملك «أحميس» هو الذي طرد عرب الرعاة، وقد اعتبره المؤرخون مؤسسا لذرية ملوكية وهي العائلة الثامنة عشرة لداعي الانقلاب الذي أحدثه لإجلاء جماعة الرعاة من أرض مصر، وكان كل من جلس على سرير الملك بعد «أحميس» المذكور يعرف باسم «طوطوميس» أو «أمنحتب»، وكانوا ملوكا ذوي غزو وفتوحات، حتى أدخلوا البلاد تحت طاعتهم وقهروا العباد واستولوا على الممالك الواسعة، وافتتح لهم في تاريخ مصر باب عصر جديد كما هو آت.
ذكر الملك أمنحتب الأول:
لما جلس هذا الملك على سرير الملك بعد «أحميس» وسع حدود مملكته في بلاد الأتيوبيا التي كانت تسمى باسم بلاد «الكوش»، ومن وقتئذ صارت كلمة الكوش عنوانا لولي عهد مصر.
ذكر الملك طوطوميس الأول:
لما تولى هذا الملك قويت أطماعه في توسيع دائرة مصر فاستمر يحارب جنوبا وشمالا، فتحارب مع أهل الأتيوبيا، وامتدت حكومته إلى محاجر مدينة «إتبو» بوسط النوبة، بدليل وجود اسمه منقوشا هناك، وفي عصره اتسعت حدود مصر فكانت تمتد جهة الجنوب إلى جبل «إيتا» بالحبشة وجهة الشمال إلى آخر أساكل أهل آسيا، وكانت بلاد الأتيوبيا منبع الثروة المصرية بكثرة بضائعها وصنائعها ومعادنها، وبعد أن أدخل النوبة تحت طاعته ورتب فيها الحكام زحف بجيوشه على القوم القاطنين بين نهر الدجلة والفرات فانتصر عليهم، ولهذا الملك جملة عمارات منها: تشييد جزء من معبد «آمون» بالكرنك، ومسلتان إحداهما بباب المعبد والثانية ضاعت. وفي أيامه جلب المصريون الخيل معهم، ولم تكن معهودة قبل الآن في بر مصر، وتعلموا من «أمة الرطنو» صنع العربات الحربية، وصارت من وقتئذ من المهمات الحربية المصرية، ومع انهزام سكان آسيا وخضوعهم لملك مصر فإنهم حافظوا على قوانينهم ودياناتهم، وانحصرت عبوديتهم في تقديم جزية سنوية لفراعنة مصر.
ذكر طوطوميس الثاني:
في أثناء حكمه أرسل جيوشا لبلاد الشام والأتيوبيا فبايعوه من غير حرب، وقهر الأقطار السودانية التي كانت قائمة، وأدخلهم تحت طاعته، وصير بلادهم من الشلال الأول إلى بلاد الحبشة ولاية مصرية بعد أن كانت مستقلة، وعين عليها مأمورين من طرفه. وتوفي بدون أولاد ذكور فورثه أخوه طوطوميس الثالث، ولكونه قاصرا قامت أخته حعتشبسو بالنيابة عنه.
ذكر الملكة حعتشبسو:
وتسمى أيضا الملكة حتزو، ولما تولت الملك شرعت في تشييد هياكل ومباني سمتها باسمها، وحافظت على الوجه القبلي والبحري، وأخذت الجزية من سكان سوريا الشمالية، وحاربت بلاد «بون» بجنوب بلاد العرب المشهورة بالأخشاب والذهب والفضة والعطريات؛ وذلك لتوسيع مملكتها؛ ولهذا الغرض عملت في البحر الأحمر مراكب حربية وانتصرت عليهم، ويرى على حجر بالدير البحري «بالصعيد» أشكال السفن الحربية تشحنها رجال الأعداء منقادين بالحيوانات الغريبة كالظرافات والقردة والنمور، ومن جهة أخرى يرى أنواع الأسلحة وسبائك الذهب والنحاس، وسفن أخرى تحمل صناديق أنواع الأشجار والعطريات المضمخ أسفلها بالطين؛ لغرسها بمدينة طيبة. ومن أعمالها المسلتان الموجودتان بأطلال الكرنك، ولم تزل إحداهما قائمة الآن وعليها كتابة بالهيروجليفي معناها أنها عملت هاتين المسلتين لبقاء ذكر والدها «طوطوميس الأول»، وكان على رأس كل مسلة إكليل هرمي الشكل من الذهب المغتنم من الأعداء، فلما بلغ أخوها رشده أشركته في الحكم معها إلى أن ماتت.
ذكر طوطوميس الثالث:
لما تولى هذا الملك محا آثار أخته يريد بذلك محو اسمها من الدنيا، وهذا الملك هو مصباح تاريخ مصر، ولما جلس على سرير الملك شرع في إخماد نيران الثورة الناشئة بأرض الشام، وهزم أعداءه في واقعة حربية عظيمة في مدينة مجدوا المعروفة الآن باسم «مجدلة» بالقرب من جبل الكرمل، وسار على طريق أبيه «طوطوميس الأول» لقتال الأعداء، وعبر نهر الفرات وجبال أرض الجزيرة «أو الميزو بوتاميا»، ويقال لها أيضا جزيرة ابن عمرو، ودخل في مدينة «نينوى» وهو مظفر منصور، واستولى عليها كما استولى على غيرها من البلاد العظيمة، ومما يؤيد ذلك ما وجد منقوشا على لوح حجر بمعبد الكرنك، وهو محفوظ الآن بدار التحف بالجيزة، يتضمن أخبار وقائع هذا الفاتح وغزواته، يعرف الآن باسم لوح الكرنك الإحصائي، وسمي بذلك لأنه اشتمل على بيان عدد قتلاه وأسراه في كل واقعة حربية، ثم استولى على أغلب جزائر بحر الروم بمساعدة سفن الفنيقيين «أهل صور وصيدا»، ويستفاد من اللوح المذكور فتحه هذه الواقعة البحرية، ففيه أن أسطوله بعد ما أخضع جزيرتي قبرص وكنديا «كريت» توجه لغزو جزائر الأرخبيل الرومي، وبعد ما فاز بالنصر التام عليها ملك قسما عظيما من بلاد اليونان وآسيا الصغرى، والمظنون أنه أدخل تحت طاعته سواحل جنوب إيطاليا، ويفهم منه أنه أخضع سواحل ليبيا وأدخلها تحت الطاعة. وقد بلغت مدة حكمه 54 سنة، وله كثير من الآثار الباقية الآن في كل من مدينة هليوبوليس «المطرية» ومنفيس «ميت رهينة»، ولقصر أبي الحجاج وجزيرة «إلفنتين» بأسوان التي بها القصر المشهور الآن باسم «قصر أنس الوجود»، وجميع ذلك يشهد له بسمو القدر وعلو الشأن.
ذكر الملك أمنوفيس الثالث:
في عصر هذا الملك اشتدت الفتن فشرع في إطفائها، ونقش ذلك على تاج هيكل القصر، وكان هذا الملك ذا وقار ومهابة في زمن الحروب محبا للتدبير والسياسة في زمن الصلح؛ وبذا لم تتنازل مصر في أيامه؛ وسعى في تقدم العلوم والصنائع، وقد وجد اسمه منقوشا على كثير من قطع الأحجار أن هذا الملك قتل من أول سنة من حكمه إلى السنة العاشرة 102 أسدا ولم تنطف زهرة جنودها، بدليل ما وجد مرسوما على بعض أحجار بمتحف الجيزة، ولشهرة هذا الملك بالأقطار الغربية سمته اليونان بالممنون، وصنع صنمين عظيمين موضوعين في باب هيكل لقصر أبي الحجاج يعرفان الآن باسم «شامة وطامة»، ولغاية سنة 27م كان لم يلتفت أحد لهما إلى أن حصلت زلزلة فأسقطت جزء أحدهما الأعلى، وشوهد أن هذه القاعدة متى سقط عليها النداء في الصباح سمع لها صوت مستطيل عند شروق الشمس، فكان السياحون من اليونان والرومان يتعجبون من ذلك، إلى أن اعتقدوا أن صورة الملك أمنوفيس هذه هي صورة شمسون أحد أرباب الأتيوبيين، أبوه نيسون وأمه أورور، وأنه هو الذي أعان برياموس على اليونان في حرب «تروادة»، وأنه يشير بالتحية عند طلوع الشمس إلى والدته أورور «أعني الفجر» ثم اعتقدوا فيه اعتقادات غير ذلك، واعتقده غالب السياحيين، فصاروا ينقشون أسماءهم على سيقان هذين الصنمين إلى سنة 150م؛ حيث وفد على مصر الإمبراطور «أدريان» ملك الرومان وزوجته إلى الصعيد لسماع صوت هذا المعبود، فلما عاين منه ذلك أخذته الرأفة عليه فوضع الجزء الملقى على الأرض فوق قاعدته، فلما امتلأت فوارغه بالمونة، صار لا يسمع له صوت، فاتضح أن صوته الرنان كان ناشئا عن تأثير النداء والشمس في الحجر، فهي خاصية طبيعية، ومتى ظهر السبب بطل العجب.
أمنوفيس الرابع:
في عصر هذا الملك انتقل تخت المملكة من طيبة إلى مدينة جديدة اختطها هذا الملك، يعرف مكانها الآن بمحل يسمى «تل العمارنة» بمديرية «المنيا»، وكان محافظا على بلاده جريا على عادات أبيه، بدليل ما شوهد على الآثار من أن الأتيوبيين والشام والولايات الشرقية وجزائر البحر الأبيض المتوسط كانوا يدفعون له جزية سنوية، وفي مدته تجددت بمصر عبادة الشمس التي كانت معدومة من قبل عصر هذا الملك، وسبب ذلك أنه تزوج بامرأة أجنبية كما كانت أمه أجنبية أيضا، فدخلت معها عبادة الشمس، ولخوفه على نفسه من الأهالي رحل من مدينة طيبة، وسكن بالمدينة التي شيدها، وركن إلى السودان وأهل ليبيا وجعل جيشه منهم، وهدم جميع هياكل معبودات المصريين، وبمجرد موت هذا الملك قام المصريون بعزم وحزم وأطفئوا بدعته الدينية، ثم قامت الحروب الأهلية على قدم وساق مدة الملوك خلفائه المجهولة لنا أسماؤهم، فخربت البلاد وهدمت العمارنة وهيكل المعبود «آتن» الإله الجديد، ومحي اسم «أمنوفيس الرابع» من جميع المباني، وأعيدت عبادة الإله «آمون» وباقي الآلهة المصرية كما كانت.
وصعد على سرير الملك بعده ملك يدعى «حرمحب»، وهو الذي أطفأ نار الفتن وشرع في إدخال السودان تحت طاعته؛ حيث رفع لواء العصيان مدة الاضطرابات الأهلية، وكذا خرج عليه سكان آسيا، فشرع في إخضاعهم ثانيا، إلا أن الموت حال بينه وبين أغراضه. (ب) ذكر العائلة التاسعة عشرة القرن 14ق.م
ذكر مآثر الملك سيتوس:
ويسمى أيضا ستي، اقتدى هذا الملك بأعمال جده «تحتمس الثالث» أو «طوطوميس» في تحصيل سمو القدر لديار مصر، كما تشهد له بذلك الآثار، ففي أول سنة من حكمه حارب بدو مدينة «بيتوم» إلى أن أدخلهم أرض كنعان، ثم توجه إلى بلاد الأرمن والشام، وتحارب معهم حتى هزمهم، ووضع عليهم حكاما مصريين ومحافظين في جميع الاستحكامات، كغزى وعسقلان. وبعد ذلك حارب الفلسطينيين، ولكن خرجت عن طاعته الجهات المجاورة لنهر الفرات. ومن الآثار: يستفاد أنه حكم الأتيوبيين، وأوصل نهر النيل بالبحر الأحمر بواسطة ترعة حفرها كان فمها من تل بسطة إلى أن تصب في البحيرات المرة، وأسس استحكامات في شرق مصر وفتح طريقا في الجبل للقوافل توصل من قرية «أراسيا» بإقليم إسنا إلى معدن الذهب بجبل «أتوكي»، وأحدث عينا صناعية لشرب المسافرين، ومات وخلفه ابنه «رمسيس الثاني» الآتي ذكره.
ذكر مآثر رمسيس الثاني سنة 1400ق.م:
ارتقى هذا الملك صغيرا على سرير الملك في حياة والده، ولم تحسب مدة حكمه إلا من بعد وفاة والده «ستي» السابق الذكر، وقد سمته اليونان «سيزوستريس» وهو لقب اشتقوه له من كلمة «سيزوسترع» التي كانت عنوانا عاما لجميع فراعنة مصر، وقد نسب إليه الرواة أغلب أفعال أسلافه، وشابوها بقصص خرافية، ونسبوا إليه أيضا حروبا وغزوات من قبيل الأكاذيب مثل غزوة بلاد فارس، والهند. وقد أفادتنا الآن آثاره أنه كان من كبار الملوك أرباب الغزو والجهاد، وكانت أجل غزواته في شمال بر الشام، ومع حداثة سنه أرسله والده لغزو تلك البلاد، وكان عمره وقتئذ عشر سنين ، فغزاهم وأطاعهم، ثم حارب بلاد الأتيوبيا والقبائل القاطنة هناك على سواحل النيل، فصارت تتواتر مفاخره شيئا فشيئا إلى أن نال أعظم الفضل، فلما مات والده اشتغل بالملك، وعزم على توسيع بلاده بالفتوحات، ففي السنة الرابعة من حكمه قامت عليه سكان آسيا الشمالية، وصاروا إلى أن وصلوا بقرب حدود مصر، فقام رمسيس بجيشه، فاستظهروا عليه في مبدأ الأمر، ولكن أخيرا ظفر بهم، وفي حالة رجوع العساكر المصرية من هذه الحرب قام الكنعانيون وجيرانهم على الجيوش المصرية وكذلك الخيتاسيون حتى صار جميع سكان سواحل نهر الفرات إلى سواحل النيل تقاتل المصريين، وقد اجتمع المصريون مع أمة الخيتاس في قلعة «كدش» في وادي الجريت - وهو وادي نهر العاص بجوار عكا - فظهرت فيه بسالة مفرطة تخلدت في بطون التواريخ، وكانت سببا في القصيدة التي ألقاها الكاتب بنتاؤر - معناها الشاعر اللبيب - المنقوشة على جدران هيكل الكرنك، ولما تيقن أن الخيتاسيين كمنوا له خلف قلعة كدش، بعث يستصرخ بجيشه، فأحدق به الأعداء من كل جانب، فلما عاين خواصه ما حل به تركوا ملكهم في ساحة القتال وفروا على أقدامهم مدبرين، فعند ذلك انقض على عسكر الأعداء بمفرده وجال في جموعهم جول البأس، وصار وهو محدق بالأخطار يبتهل إلى إله مدينة طيبة المدعو «آمون رع»، ويذكر الهياكل الجليلة والمعابد العديدة التي أقامها إحسانا له وهو يقول:
يا أبتي يا آمون! أما لبيت صوتك ومشيت طوع أمرك! أما قربت لك القربان العديدة! أما شيدت لجلالتك معبدا مخلدا على ممر الدهور والأعوام! أما ملأت بيتك بالأسراء أعدائك! ... فأنا أدعوك يا أبتي يا آمون، قد تركتني عساكر الرماة والفرسان الكماة، لكن أنت حسبي يا إلهي من الجيوش المؤلفة والفرسان المتكاثفة والعساكر والجنود والأعلام والبنود.
ثم قال الشاعر المذكور إن الإله لبى نداه، وقبل دعاه، وملأ قلبه بسالة، وملأ قلب العدو خوفا. فاندفع بعربته ست مرات بين الصفوف، وهزم المئين والألوف، ثم أدركه بقية خواصه، فلما دخل الليل تكاملت عنده عساكره، فباتوا تلك الليلة، وفي الصباح أمر الملك بالحملة على الأعداء ، فهجم الفريقان ودارت الدائرة فيها على أمة الخيتاس، ففاز المصريون بالنصر، فطلب ملك الأعداء منه الصلح، وقد مكثت هذه الحرب مدة خمس عشرة سنة، وأخيرا حصلت عهود بين رمسيس ميامون المذكور وملك الخيتاس كتبت على لوح من فضة (موجود الآن بالأنتيكخانة بلندرة)، وبعد انقضاء الحرب بالعهود المذكورة شرع رمسيس في تشييد المباني، فشيد بكل مدينة معبدا لمعبودها، حتى قيل إنه لم يوجد محل قديم بمصر والنوبة إلا وله فيه أثر، وأشهر هذه المباني هيكل مدينة «أبسمبول جنوب مصر» وهو الذي حفر بحيرات التمساح، ومهد الطريق الموصل لاستخراج المعادن من بلاد النوبة، وطهر ترع الوجه البحري وحصن حدود الصحراء بالاستحكامات لمنع إغارة العرب على مصر، ولعدله كانت الأهالي تحبه، وكان إذا أراد التوجه إلى بلد من بلاده قابلته مشايخ البلاد بالملابس العظيمة واضعين على رءوسهم شعورا جديدة معطرة، واقفين على أبوابها وبأيديهم ورد، وهم ينادون: لقد حصل السرور بمشاهدتك يا رمسيس، دمت بصحة وعافية. ومات بعد أن حكم ستين سنة.
ذكر مآثر الملك منفطا الأول:
وهو ابن رمسيس الثاني، كان هذا الملك مباشر الأحكام مدة السنتين الأخيرتين من حكم والده، وجلس على تخت الملك وهو طاعن في السن، وشرع في تشييد المباني العظيمة بالوجه القبلي والبحري، وفي مبدأ حكمه كانت البلاد في هدوء وراحة، ثم ابتدأت إغارات الأجانب؛ حيث ظهر في بحر الروم أسطول حامل جما غفيرا من مقاتل البربر مثل: السليقيون «قبائل اليونان»، وسكان جزيرة صقلية «سيسيليا». وأتي على سواحل ليبيا وانضمت عساكره لعساكر تلك البلاد وهجموا على مصر، وقد دلت النقوشات البربائية أن مصر لم يدخلها عدو منذ خروج عرب الرعاة منها؛ فألقى المصريون سلاحهم مدة نصف قرن، فسقطت همتهم عن استعماله، فلذا لم يوجد عندهم من يقاومهم، فتقدموا حتى كادوا يدخلون مدينة منفيس، فقام منفطا بجيش عرمرم وهزمهم واستولى المصريون على غنائمهم وسلبوا ما كان معهم، وهذه أول واقعة حربية حصلت بين المصريين والأوروباويين.
وبعد موته حصلت حروب أهلية، لم نقف على تفاصيل حوادث هذه الحقبة المضطربة، والذي نعلمه أنه لم يتيسر لابنه «سيتوس الثاني» أن يجلس على تخت الفراعنة إلا بعد موت أبيه بنحو اثنتي عشرة سنة، ومن المحتمل أنه تعاقب على تخت المملكة اثنان بطريق التعدي، منقوش اسمهما على المباني القديمة، ومن المحقق أن ذرية عرب الرعاة القاطنين بالوجه البحري خلعوا أطواق الطاعة من أعناقهم، وأوقعوا السلب والنهب وأشعلوا النيران واللهيب وتجاروا على ذلك عدة أعوام.
معاملة المصريين لبني إسرائيل وخروجهم من مصر سنة 1350ق.م:
كانت عادة الفراعنة استعمال الأسراء في تشييد المباني والعمارات، وقد تكاثر عدد أولئك الأسراء في عهد العائلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، وكان منهم بنو إسرائيل الذين استعبدهم المصريون واستمروا في العذاب إلى عهد رمسيس الثاني الذي زاد عليهم في التشديد، فشيد مدينة «رعمسيس» بعمال إسرائيليين، ومع شدة ذل الإسرائيليين بأرض مصر نموا وانتشروا، وأخيرا أمر فرعون برمي أولادهم في النيل وقت ميلادهم، وقد نجا موسى عليه السلام بأمر الله على يد ابنة الملك، ثم بعثه الله رسولا للإسرائيليين؛ لإنقاذهم من جور المصريين.
وقد ذكرت التوراة أن نبي الله موسى عليه السلام ألزم فرعون الحاكم وقتئذ بعد ما أراه الآية الكبرى أن يسمح لبني إسرائيل بالخروج من مصر؛ حيث كانوا مقيدين بقيد الأسر ورق العبودية، فقادهم عليه السلام إلى شبه جزيرة جبل الطور، ثم ندم فرعون على تخليصهم من طوق الطاعة فاقتفى أثرهم يقود جيشا جرارا، ولحقهم بالقرب من شاطئ البحر الأحمر بقرب الجهة المعروفة الآن بالسويس، فانفلق البحر لموسى وعبر وقومه سالمين، ولما أراد فرعون أن يتبعهم غرق مع قومه.
وقد حمل المؤرخون عبارة التوراة على فرعون منفطا الأول، مع أن النصوص البربائية عارضت هذا القول، وثبتت أنه مات حتف أنفه، فإن صح ذلك كان وقوع هذا الحادث المريع مدة الاضطرابات السابقة أو اللاحقة لحكم سيتوس الثاني ابنه. (ج) العائلة المتممة للعشرين القرن 13-12ق.م
ذكر مآثر الملك رمسيس الثالث:
وهو آخر مشاهير ملوك مصر، ولما تولى الملك اهتم في تحفظ مصر وملحقاتها، وسعى في تقدم داخليتها، وفي أول حكمه قام عليه الناس من كل جهة؛ فالبدو هددوا شرقي الدلتا، وخرجت عن طاعته ولايات الشام، وأغار الليبيون على غرب المملكة، فلما رأى تعصب هؤلاء الأقوام قام لقتالهم، فهزم أولا البدو، ثم الليبيين ومن معهم، فلما علم أهل آسيا الصغرى والجزائر اليونانية بهذه الحرب أرادوا الخروج عن طاعته، فشنوا الغارة واندفعوا بجيوشهم على مصر من جهة الدلتا، وتقابلت جيوشهم وسفنهم الحربية بجيوش وسفن المصريين، وحصلت واقعة هائلة انتهت بنصرة المصريين على هؤلاء الأقوام، وبعد ذلك هاج الليبيون مرة ثانية، ولكن المصريين قاتلوهم وانتصروا عليهم، واغتنموا غنائم كثيرة ما بين عدد حرب ومواش، وأسروا منهم عددا وافرا، وبعد ذلك حصل الأمن والراحة، وأرسل رمسيس المذكور في البحر الأحمر سفنا إلى بلاد العرب لجلب الخيرات منها، ثم أرسل تجريدة حربية إلى شبه جزيرة جبل الطور وأدخل أهلها تحت حكمه، وفي أواخر حكمه أشرك معه ابنه رمسيس الرابع، ثم بعد وفاته لم تشتغل الملوك خلفاؤه بالحروب، بل توجهت أفكار الأهالي إلى اتخاذ الصناعة والتجارة، وكرهوا الحروب التي أهلكت أموالهم وأولادهم، فدخل العناد والاضطراب في جميع فروع الحكومة واستفحل أمر كبار كهنة المعبود «آمون» واستولوا بالتدريج على أعظم مناصب البر والرياسة العسكرية، فلما مات رمسيس الحادي عشر قام رئيس الكهنة المدعو «حرحور» واغتصب التاج الملوكي، وجعل نفسه ملكا سنة 1150ق.م على كل مصر والشام، وأمر بنفي الملك وعائلته من مدينة طيبة إلى مدينة «تنيس» صان الحجر «بالشرقية»، وجلس الكاهن المذكور على تخت مصر، وبعد موته أخلفه قسيسان آخران، وفي مدتهما وقع هرج عظيم ببلاد مصر، وخرجت الأهالي هاربة من دفع الجزية، وكان تختهما مدينة «تنيس»، ووقع بين الطرفين شقاق ومنازعات شديدة، وقامت الحروب على قدم وساق، وآل الأمر بنزع الملك من يد الكهنة بظهور الملك «سمنديس» رأس العائلة الحادية والعشرين. (د) ذكر العائلة الحادية والعشرين القرن 11ق.م
رأس هذه الدولة هو سمنديس، وكان مقر حكومتها مدينة صان الحجر «شرقي الدلتا»، وقد أفنى عمره في حرب ذرية الكاهن حرحور ملك الصعيد بطيبة، وبعد موته استمرت الحروب سجالا بين ملوك مدينة صا الحجر وملوك طيبة، فكانت جيوش الوجه البحري مؤلفة من جنود الليبيين والأقوام الذين كانوا قاطنين على مصبات النيل، وكادت أن تكون رؤساء هذه الجنود المجمكة مستقلة وبيدهم الحل والربط، وكان شيشاق أو شيشنق أحد رؤساء هذه الجنود، وكان أجنبي الأصل، وهو الذي هدم أركان الدولة الحادية والعشرين، وأسس الدولة الثانية والعشرين وحكم جميع أرض مصر، وفي مدته عاد لمصر رونقها القديم، وأما ذرية حرحور الكاهن فإنها انهزمت أمامه وهربت إلى بلاد الأتيوبيا، وأسسوا دولة مستقلة وجعلوا تختها مدينة «نباتا» بالقرب من جبل البركل في جنوب «دنقلة القديمة»، وكان شيشاق المذكور معاصرا لسيدنا سليمان عليه السلام ملك بني إسرائيل، وبعد موته بخمسة أعوام هجم شيشاق على سبطي يهوذا وبنيامين، ودخل بيت المقدس الشريف سنة 970ق.م، واستولى على جميع خزائن سليمان، ويوجد منقوشا على جدران معبد الكرنك أسماء المدن التي خضعت لجبروته، ومن أعماله أيضا إيوان البسائط الباقية آثاره إلى الآن بتل بسطة، وفي أيام خلفائه عادت الفتن كما كانت عليه وكثرت العربدة بين الأكابر والأصاغر، بحيث إن شيشاق الرابع الذي هو آخر هذه الدولة لم يكن ملكا إلا على مدينة تل بسطة وما جاورها، وما زال الأمر يشتد ونيران الفتن تشتعل إلى أن ظهرت العائلة الثالثة والعشرون من سنة 810 إلى سنة 721 التي كان مقرها مدينة «تنيس»؛ حيث انقسم الملك بين عشرين أميرا مستقلا لقب أربعة منهم بالألقاب الفرعونية، فارتفع شأن أحدهم وهو تفنخت المؤسس للدولة الرابعة والعشرين الآتي ذكرها. (ه) ذكر العائلة الرابعة والعشرين الصاوية القرن 8ق.م
نسبة إلى مدينة صا الحجر، ورأس هذه العائلة هو «تفنخت» أحد الأمراء العشرين كما تقدم.
وفي مبدأ أمره شرع في نزع هؤلاء الأمراء، فاستعان بالأتيوبيين الذين كان لهم في ذلك الوقت سطوة عظيمة، وكان تختهم مدينة مرو بالأتيوبيا، ولما جعلته الأتيوبيون ملكا على مصر أخذ في محاربة بعض الملوك المجاورة له إلى أن انتصر عليهم، ثم حارب الأمراء المذكورين فهزمهم وأخذ ما كان بأيديهم ثم توجه إلى الصعيد، فأذعنت له الأمراء بالطاعة إلى أن وصل إلى قسم أرمنت، واستولى عليه، ثم وضع الضرائب على قسم أهناس المدينة التي كانت تحت حكم الأتيوبيين، فلما بلغ ذلك ملك الأتيوبيا «بعنخي» قاتله حتى انتصر عليه، وجعل مصر ملحقة ببلاده، وأبقى لرؤسائها الامتياز، وأبقى «تفنخت» ملكا عليهم، واستقر في صا الحجر، وبعد موته أخلفه ابنه باخوريس.
ذكر مآثر الملك باخوريس:
كان هذا الملك ضعيف البنية، صائب الرأي، ثاقب الفكر، مشرعا عاقلا، وقاضيا عادلا. ولما تولى الملك شرع في نزع مصر الوسطى والوجه البحري من الأمراء ونجح في ذلك، وجعل مصر مستقلة تحت حكمه، ثم أهان العجل «أبيس» معبود المصريين، وجعل الإهانة له أعظم ذلة، فاستعانوا عليه بملك الأتيوبيا المدعو سباقون، فبادر بجنوده لقتال ملك مصر وانضم مع الأمراء الذين كانوا يبغضونه، فوقع باخوريس في قبضة الأسر، فألقاه سباقون في النار حيا، وآل الأمر حينئذ للأتيوبيين وذلك سنة 1100ق.م. (و) ذكر العائلة الخامسة والعشرين الأتيوبية القرن 7ق.م
حكمت هذه العائلة من سنة 715 إلى سنة 665ق.م، وعدد ملوكها أربعة، ومدة حكمها 53 سنة.
السبب في استيلاء ملوك السودان على مصر هو تغير الأحوال الناشئ من اختلاف الكلمة بين ملوك العائلة الرابعة والعشرين لعدوانهم وبغضهم لبعض، حتى ورد عنهم في التوراة ما معناه: «إن ملوك تنيس صاروا لا عقول لهم، وملوك منف ضلوا وأضلوا قومهم، فقضينا أن نعطي ملك مصر إلى ملك جبار.»
ففسر الأحبار الملك الجبار بسباقون السوداني الآتي ذكره.
ذكر مآثر الملك سباقون:
لما تولى هذا الملك ملك مصر تلقب بالألقاب الفرعونية، وشرع في تنظيم البلاد، وأحسن التدبير فقوى الجسور وشيدها، وحفر الترع وطهرها؛ خوفا على البلاد من الغرق والشرق، وسعى في تعمير مدينة بسطة، وبنى ما تخرب منها ومن منفيس، وأبطل العقوبة بالقتل بالأشغال الشاقة، وعمل معاهدة مع الفنيقيين وبني إسرائيل وأهل فلسطين ضد ملك آشور فأتت عليه بالوبال؛ حيث حاربه ملك آشور، فانهزمت الجيوش المصرية، وهرب الملك سباقون وكانت هذه الهزيمة سببا لهيجان الوجه البحري عليه وعلى السودانيين، حتى طردوهم إلى طيبة، فقام «استيفانيس» قريب الملك «باخوريس» أو «باكوريس» إلى إعادة نظام حكومة الوجه البحري، وأعلن أنه هو الملك، أما سباقون فانحاز إلى الصعيد، ومات بعد قليل، وترك حكم الأتيوبيا والوجه القبلي لابنه «سباخون» الذي حارب ملوك الوجه البحري انتقاما لأبيه، فظفر بهم، وحكم كل مصر، ولكن بعد قليل تغلب عليه طهراقه وقتله.
ذكر مآثر الملك طهراقه:
كان هذا الملك رجلا محاربا، وفي عصره أغار عليه ملك آشور، وطرده وأرجع الحكومة لأمرائها العشرين، وجعلهم يحكمون تحت رياسة نيخاؤس الأول، ولكن في سنة 669ق.م أغار طهراقه على مصر ثانيا، فحاصره ملك آشور وهزمه، وطرد السودانيين وأرجع الحكم للأمراء السابقين، وعلى ذلك استمرت البلاد طورا في أيدي السودانيين، وطورا في أيدي الآشوريين. ومكثت مصر تابعة لملوك الآشوريين مدة من الدهر، ثم عرفوا أن ملك مصر يحتاج لكثير من المشقة والتعب فتركوها، وآلت بعد ذلك إلى نوات ميامون ملك الأتيوبيين.
ذكر مآثر نوات ميامون:
في هذه المدة اضمحلت مملكة آشور، فخرجت مصر من حوزتها، فلما رأى ملك الأتيوبيا ذلك فاجأ المصريين وأغار عليهم، فاستولى على الوجه القبلي بدون معارضة؛ لوجود حزب الأتيوبيين هناك فساعده على ذلك، أما الوجه البحري فاستعمل المقاومة، ولكن أخيرا انقادت أمراؤه لهذا الملك وقدموا له الطاعة، وحكم كل مصر ثلاث سنوات. (ز) الفترة بين العائلة الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين 665 إلى 650ق.م
لما انتهت حروب الأتيوبيا، وانجلت بعض عساكرها عن أرض مصر أدت مصر إلى انحطاط قدرها وكسرت شوكتها، وشق على أهلها تحمل حكم ملوك الأتيوبيا مع عدلهم؛ إذ كان أصعب ما على الأمة المصرية الانقياد للأغراب، فتعصبت وجهاء المدن وأعيانها، وتعاهدوا على نزع الملك من يد السودانيين، فقاموا عليهم وطردوهم من الوجه البحري وتقاسموا الملك بينهم، وكانوا اثني عشر حاكما، كل واحد يحكم إقليما، فسميت حكومتهم بالتقاسيم الاثني عشرية، وكانت عبارة عن جمهورية، وكان بساميتيك من ضمن هؤلاء الأمراء، فاستعان عليهم بعساكر يونانية متطوعة حتى أخذ مصر من يدهم، واستبد بحكمها فصارت مملكة واحدة، وصار هو مبدأ العائلة الصاوية السادسة والعشرين، وبانفراد هذا الملك انفتح لمصر ثانيا باب مجد جديد، وعاد لها رونقها الأول وشوكتها القديمة، وقد مكثت مدة الدولة الاثني عشرية 15 سنة. (ح) ذكر العائلة السادسة والعشرين الصاوية القرن 6ق.م
حكمت هذه العائلة سنة 650ق.م، ومدة حكمها 138 سنة، وملوكها ستة.
بساميتيك الأول 650-617ق.م:
لما كان هذا الملك أجنبيا عن الملك، تزوج ببنت من العائلة المصرية الملوكية، وكانت مصر في مبدأ حكمه قد اعتراها الخراب في حربها مع الآشوريين والأتيوبيين، حتى طمت الترع وتلفت الطرق، فشرع «بساميتيك» - على ما رواه هيرودوت المؤرخ اليوناني - في إحياء مصر، فأصلح الترع والطرق، وأعاد الراحة والأمن، وبث العلوم، وعمر بيوت العبادة، وأصلح ما تهدم من معبد الكرنك وغير ذلك من المنافع العمومية، وسعى في تحسين سياسته مع الممالك المجاورة بجنوب مصر وشمالها، وهي مملكة الأتيوبيا وآشور والقيروان، ولحفظ بلاده شيد قلاعا في مضايق طرق الشام، وفي ضواحي بركة المنزلة من الجهة الغربية، وفي الشلال الأول، وبعد أن تمم ذلك قام لغزو النوبة فظهر عليها، وبعد ذلك قام لفتح الشام فزحف عليها وملك فلسطين، وأخذ مدينة أشدود واكتفى بذلك، وبعد هذه الفتوحات دهم مصر مصيبة كبرى، وهي أن هذا الملك اقتدى بأسلافه الفراعنة، وجلب إلى مصر الأجانب، فأكرم نزل اليونان وأقطعهم أرضا على شواطئ بحر الطينة جهة الفرمة، وفي هذا الوقت أيضا قدم قوم آخرون ورسوا بساحل بحر رشيد، وأسسوا هناك معسكرا متسعا، فقويت شوكتهم واختلطوا بالمصريين، وأدخل أطفالهم المدارس المصرية، وكان منهم سولون وفيثاغورث وأفلاطون «بمدرسة عين شمس الآن المطرية» وكان المصريون ينظرون لهم بعين الاحتقار، ويأنفون من الاختلاط بهم، وكانت كراهتهم لهم مضمرة أولا، ولكن بعد ذلك انكشفت؛ وسبب ذلك أن الملك أنعم عليهم بالرتب، فأصبحت مصر تحت محافظتهم، وأخيرا لما اشتد غيظ المصريين من ميل الملك للأجانب اجتمع منهم نحو 240000 نفس شاكي السلاح ، وهاجروا إلى بلاد الأتيوبيا، وهناك قابلهم ملكها بالترحاب ثم وطنهم بين البحر الأبيض والأزرق، فنشأت منهم أمة عظيمة اشتهرت بطائفة الأسماط؛ أي حجاب، ولكن سياحي اليونان سمتهم باسم أوتوموليس، وبقي هذا الاسم معروفا إلى القرن الأول من الميلاد، ومات هذا الملك سنة 611ق.م، ودفن في صا الحجر، وورثه نيخاؤس الثاني.
ذكر الملك نيخاؤس الثاني 617-600ق.م:
تولى هذا الملك طاعنا في السن، وسلك بهمة ونشاط سلك مشاهير الفراعنة، حتى ألبس مصر ثوب المجد، ووجه همته إلى إتمام السفن الحربية، واعتني بأمرها كثيرا؛ لأنه كان يريد الاستيلاء على سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، فندب لهذا العمل مهندسين من اليونان أنشئوا له معامل بحرية، وغيروا المراكب المصرية القديمة بمراكب حربية جديدة تسير بالمجاذيف، وتسمى بالأغربة، وتشبث أيضا بمشروع مهم وهو إيصال البحر الأحمر بالبحر الأبيض لقطع برزخ السويس، فحفر ترعة امتدادها أربع مراحل بحرية، وعرضها يسع سفينتين، كان مبدؤها مدينة تل بسطة، وآخرها بركة التمساح، إلا أنه هلك في حفرها 120000 نفس، فتشائم الملك منها وأمر بإبطالها، سيما لما أخبرته الكهنة بأن حظ الانتفاع يكون لأمة أجنبية، وقال أرسطاطاليس إن الملك كف عن عمل الترعة بناء على إخبار المهندسين له؛ لأن سطح البحر الأحمر مرتفع عن أرض مصر فخاف عليها من الغرق، وبعد ذلك انفتح لهذا الملك مشروع مهم، وهو أنه بلغه من ملاحي صور وقرطاجة أنهم اكتشفوا على سواحل أفريقا بلادا فيها كثير من الذهب والعاج والأخشاب العجيبة فأمر الملك ملاحي الفنيقيين بأن يذهبوا بسفنهم في طلب تلك البلاد، فطافوا حول أفريقا مدة ثلاث سنين، لكنهم لم يجدوا تلك البلاد، وخاب سعيهم. وفي هذا الوقت كان انحطاط مملكة آشور، فقام نيخاؤس سنة 603 بحيش جرار إلى آسيا وهجم على بلاد فلسطين، فقهر ملك يهوذا المدعو يوشيا، وقتله في مدينة مجدو «مجدلة»، وألبس التاج إلى يهوياقيم، وضرب عليه الجزية، وبعد ذلك صار بدون معارض حتى وصل الفرات، مرتبا الحراس في كل إقليم استولى عليه، ولما أدخل الجهات البحرية تحت طاعته انعطف جهة الجنوب، ونزل بأرض بجوار حمص، وأقام هناك منتظرا قدوم أهل الشام للتحية عليه، فبلغه تظاهر اليهود عليه، فأحضر ملكهم وعزله وعين بدله وضرب عليه الجزية، وبعد أن استولى على بلاد الشام وفلسطين عاد لمصر، فقام بختنصر ملك بابل وحارب نيخاؤس، وأخذ منه جميع البلاد التي فتحها، وبعد ذلك أراد نيخاؤس أن يسترجع البلاد التي أخذت منه فمات بدون أن يبلغ إربه.
ذكر الملك واح أبرع أو أبرياس بن بساميتيك الثاني 594-570ق.م:
في عصر هذا الملك استنجد به صدقيا وجاهر بالعصيان على ملك بابل، فقام بختنصر وهزم ملك اليهود، ودخل بيت المقدس الشريف، وبعد ذلك توجه لقتال ملك مصر؛ حيث كان حضر هو وجنوده لإعانة ملك اليهود، فانهزم المصريون بمجرد وصول عساكر بابل، وعاد بختنصر إلى بلاد اليهود، وقتل أولاد صدقيا، فالتجأت اليهود بعد ذلك إلى مصر، فاستقبلهم ملكها وأقطعهم أرضا بقرب زفتى، وبعضهم سكن صعيد مصر. وبعد أن فرغ ملك بابل من قتال أهل آسيا رجع على مصر وقتل ملكها وأقام عليها حاكما من طرفه، وأخذ معه اليهود على ما رواه يوسيفوس المؤرخ اليهودي، ولكن هذه الحادثة نقضت ما قاله هيرودوت المؤرخ اليوناني من أن النصرة كانت للمصريين، وقيل إنه بعد هذه النصرة استنجدت به سكان سواحل ليبيا على قبائل اليونان بالقيروان، فأرسل عليهم جيشا مركبا من عساكر مصرية، فانهزم المصريون وقتلوا، ولم ينج منهم سوى من هرب لمصر، فتسبب عن ذلك عصيان وثورة من المصريين ضد الملك فأرسل عليهم جيشا تحت رياسة رجل من الرعاع اسمه أحميس، وبينما كان ينصحهم لردهم عن عصيانهم إذ أقبل عليه أحد الجنود العاصية وألبسه التاج، وقال قد رضيناك ملكا علينا، فقبل منهم ذلك وقام معهم لقتال الملك، فالتقى الجيش المصري والجيش اليوناني الذي كان مع الملك بقرب مدينة صا الحجر، فانتصرت الجنود المصرية، ووقع الملك في قبضة أحميس فأحسن مثواه وعامله معاملة الملوك، ولكن بعد ذلك طلب المصريون تسليم الملك لهم، فبمجرد ما أخذوه خنقوه.
الملك آموزيس وهو أحميس الثاني 570-529ق.م :
قال هيرودوت: «لما تولى هذا الملك تزوج بحفيدة الملك بساميتيك الأول، ليؤسس بذلك لنفسه عائلة ذات حق، وحافظ على نفوذ الشوكة المصرية في فنيقيا، وأتم فتوح جزيرة قبرص، وكان ذكي الفطنة، ولخوفه على بلاده من العجم أحسن سياسته مع ملكهم قيروش أو كرش، فتمتع بالراحة 25 سنة، وكانت مملكته في درجة عالية من الثروة، ووسع الترع، وأصلح شأن الزراعة والتجارة، حتى أصبحت مصر به غنية، وقطع الأحجار، وأصلح جميع آثار الكرنك وغيرها، وأصلح الوجه البحري؛ إذ كان متخربا وقتها، وبعناية هذا الملك صارت مصر في درجة لم تصل إليها غير أيامه، حتى قيل إن مدنها بلغت في عصره 20000 مدينة عامرة، وكثرت بها التجارة، خصوصا مع اليونان الذين كان دائما شاملا لهم بأنظاره، ولحبه لهم تزوج منهم، وقد بلغ عدد اليونان في ذلك الوقت 200000 نفس، فأعطاهم مدينة نقراطيس، ولعلها «فوه»، واشتغلت أولئك اليونان بنقل كل ما يسمعونه من أخبار المصريين إلى البلاد الأجنبية، فقويت أطماع الناس في مصر، وصار يأتيها كثير من الفلاسفة والتجار والعسكر الأغراب المتنوعة، وفي هذا الوقت توفي قيروش ملك العجم، وتولى بعده ابنه قمبيز الذي غزى مصر كما سيأتي، ولخوف قمبيز على عساكره من صحراء العرب قيض الله له رجلا يونانيا يدعى فانيس، حضر إليه من مصر، فأطلعه هذا اليوناني على حقيقة تلك البلاد، ودله على الطريق الموصل إليها، وبناء على ذلك عقد قمبيز معاهدة مع العربان الذين كانت لهم اليد على الطريق الموصل للنيل ليأتوا بالماء لجيشه، وعلى ذلك سارت جيوش العجم حتى حلت أمام الطينة، وفي هذا الوقت توفي أحميس وأخلفه «بساميتيك الثالث».»
الملك بساميتيك الثالث 525ق.م:
وفي عهد هذا الملك اشتدت الحروب بين العجم والمصريين عند الطينة، وكان من جملة الجيوش المصرية فرقة من اليونان أرباب الجمكية، فأرادوا أن ينتقموا من فانيس الذي ترك أولاده وهرب عند العجم، فأحضروهم إلى المعسكر وذبحوهم بين الصفين وأبوهم ينظر إليهم ويتقطع قلبه حسرة عليهم، ووضعوا دمهم في إناء ومزجوه بالنبيذ وشربوه، وبعد ذلك اقتحمت المقتلة بين الفريقين ، واحتال قمبيز على ما قيل بحيلة عجيبة، وهي وضع كثير من القطط والكلاب والحيوانات المقدسة في مقدم جيشه؛ لعلمه بأن هذه الحيوانات هي معبودات المصريين، ولذلك لا يمكنهم أن يرموا سهامهم عليهم، وبهذه الحيلة تقهقر المصريون، ولم يثبت في القتال سوى عساكر اليونان، فانتهت الواقعة بهزيمة المصريين، فأرسل بعد ذلك ملك العجم إلى المصريين رسولا في سفينة من عنده، يطلب منهم التسليم، فكسر المصريون السفينة وقتلوا من بها، فحضرت العجم قلعة منفيس، وحاصرتها واستولت عليها، وقتلت ابن الملك وكثيرا من أعيان المصريين، وبذلك خضعت مصر إلى الملك قمبيز، ووقع بساميتيك في الأسر فأبقاه حيا، ويقال إنه بعد تسليم «منفيس» أمر قمبيز بإحضار أولاد الملك وبناته بملابس الرق حاملين قدور الماء على رءوسهم، ثم طلب أيضا أولاد أعيان المصريين الذين حكم عليهم بالقتل ليمروا أمامهم قبل القتل، وكان بساميتيك مشاهدا لذلك مع إظهار الصبر، وأخيرا أراد أن يجعله نائبا على مصر بدله، فقال: «الموت ولا النيابة»، فقتله وسلم حكم مصر إلى إيرندس الفارسي، وبهذا الملك انتهت العائلة السادسة والعشرون، وتليها العائلة السابعة والعشرون الفارسية إن شاء الله. (1-2) ديانة قدماء المصريين
كانت الأمة المصرية أعظم الأمم تدينا، وفضلا عن تعدد الأصنام التي كانوا يعبدونها فإننا نرى أكابر مصر وحكماءها يعتقدون وحدانية الله، وما عداهم من الأمة فكانت عاكفة على عبادة الأصنام.
أما ديانة المصريين فكانت مؤسسة على عبادة الشمس، وكان لها عندهم أسماء وأشكال مخصوصة حسب سيرها في السماء مدة النهار، وكان لكل مدينة وإقليم إله مخصوص، فكان إله مدينة طيبة «آمون» وغيره، وكان إله مدينة منفيس «بتاح» وغيره. وكانت هذه الأسماء تتغير في بعض الأقاليم، أما عبادة أوزوريس وأبيس وهوروس، فكانت منتشرة أكثر من غيرها، وكثيرا ما كانت هذه الآلهة تتشكل عندهم بأشكال حيوانات كالطيور والتماسيح وغيرها، وكانت هذه الحيوانات عبارة عن رموز على قدرة الخالق سبحانه وتعالى، وكانوا يعرفون أن العبادة التي تقدم لهذه الآلهة إنما تقدم لله جل شأنه؛ حيث قدمت لصفاته.
وكانت هذه الحيوانات تعبد في أفخر هياكل البلاد، وتخدم كخدمة الملوك وتحنط عند موتها، وتدفن في مدافن عظيمة. وكان أقدس حيوان عندهم هو الثور «أبيس»، ومحل عبادته مدينة منف وهو رمز على الإله بتاح، وكان يعرف بعلامات مخصوصة عندهم، وكان موته يعتبر مصيبة كبرى على عموم الأمة، ويوم تنصيب غيره يكون يوم عيد عام، وبعد موته كان يحنط ويدفن في سيرابيوم «مدفن بسقارة». ومن أهم أركان ديانتهم الاعتقاد بخلود الروح؛ بمعنى أن النفس الصالحة تدوم مع أوزوريس ثلاث آلاف سنة، ثم تعود إلى الأرض وتدخل الجسم الذي خرجت منه، فيسعى ويعيش كما كان أولا، ويتكرر عليه الموت والبعث عدة مرات حتى يبلغ الدرجة العظمى وكمال السعادة.
واعتقادهم بخلود الروح هو السبب في حرصهم على أجساد موتاهم وتحنيطهم ودفنهم في المدافن العظيمة والقبور العجيبة والأهرام البازخة أعظم مباني العالم، وكان أمر خلود الروح وتوقف السعادة الأبدية على حسن السيرة.
ولغاية هنا قد انتهى ملخص ما ألقاه من دروس الفراعنة حضرة العالم الأديب واللوذعي الأريب، أستاذنا أحمد أفندي نجيب مفتش مصلحة الآثار المصرية ومعلم هذا العلم بمدرسة التجهيزية سابقا.
الفصل الثاني
في التاريخ القديم لأمم الشرق
«الشرق»: يعنى بهذا الاسم في علم الجغرافية أحد الجهات الأصلية؛ أي محل شروق الشمس، ولكن في التاريخ تطلق هذه الكلمة على الممالك الواقعة شرقي أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وهي مصر وفلسطين والشام وبلاد العرب وأرض الجزيرة «جزيرة ابن عمرو» وبلاد العجم والهند والصين، وهاتان الأخيرتان يعدونهما ضمن البلاد المشرقية في بعض الأحيان.
وقد ذكرنا فيما سلف أن مصر مضى عليها جملة أعصر وأحقاب، وهي حافظة لشوكتها وعظمتها، ثم خضعت لدولة الفرس التي امتدت من نهر الهندوس لغاية صحراء برقة أو ليبيا، ولكن قبل الشروع في ذكر أخبار هذه الدولة العظيمة التي هدمها الإسكندر الأكبر ملك مقدونيا نذكر طرفا من أخبار الأمم والممالك العظيمة التي تقدمت عليها، واندرجت ضمن هذه الدولة في أيام قيروش وخلفائه، وكانت آسيا الغربية مشتملة على عدة ولايات يحدها شمالا جبل قوقاز «الجركس» والبحر الأسود، ومن الغرب بحر الروم المسمى بحر سفيد (البحر الأبيض المتوسط)، وجنوبا صحراء العرب، وشرقا السهول العالية لبلاد فارس. وهذه الولايات عبارة عن الدولة العثمانية الواقعة الآن في آسيا. (1) في تاريخ الآشوريين والبابليين
كانت بلاد آشور عبارة عن الأراضي الواقعة بين أرمانستان والجزيرة وبلادميد وبابل. وسميت هكذا نسبة إلى آشور أو آسور بن سام بن نوح عليه السلام. وكانت بلاد الكلدانيين في جنوب آشور بين بلاد الفرس وجزيرة العرب والخليج الفارسي. وسميت هكذا نسبة إلى كاليدوس بن سام بن نوح عليه السلام.
وأما بلاد بابل بين نهري الدجلة والفرات، وهي المسماة ميزوبوتاميا «أرض الجزيرة»، وهي بين آسيا الصغرى وسوريا «أي الشام»، وسميت هكذا باسم بابيلون أي مدينة البرج، وقيل باب أيل أي مدينة الرب، وقد أسسها في سالف الأزمان نمرود الجبار، وبعد الطوفان نزل أولاد نوح عليه السلام من جبل عرارات «ببلاد القوقاز» إلى الأرض وسكنوا بهذه الأراضي وسموها أرض سنهار، وتناسلوا واجتمعوا على بناء برج عال يحفظهم من إغارة الطوفان، فبنوا برجا على شاطئ نهر الفرات وعلوا بناءهم، فأخذتهم صيحة فبلبلت ألسنتهم، ودكت برجهم، فتفرقوا شعوبا في الأرض، فأتى آشور ومن معه وسكنوا شرقي نهر الدجلة، وتناسل منهم قوم الآشوريين، وأتي كاليدوس ومن معه وسكنوا بجوار نهر شط العرب (نهر الفرات)، وتناسل منهم قوم الكلدانيين، وأتى أرامة ومن معه وسكنوا بين نهري دجلة والفرات، وتناسل منهم الأراميون، وأتى ميد ومن معه وسكنوا شرقي أرمانستان بجانب بحر الخزر، وتناسل منه الميديون، وأتى عيلام ومن معه وسكنوا في الوسط بجانب ميد، وتناسل منه العلاميون والفرس. وكلهم من أولاد سام بن نوح عليه السلام، ونزل كنعان بن حام في أرض بابل، ونزل مصرايم أرض مصر. (1-1) مبدأ سلطنة آشور وبابل
وبعد تفرق بني حام في الأرض تناسلوا، وكثرت ذريتهم في وقت يسير، وكان أول من قام بتدبير مملكة آشور هو «آشور»، فبنى لهم مدينة عظيمة على شاطئ نهر الدجلة، وجعلها قاعدة البلاد، وفي هذا الوقت بنى كاليدوس مدينة «كالدة»، التي هي محلها الآن كربلا، وجعلها قاعدة بلاده، وبنى نمرود أسوار مدينة بابل على شاطئ الفرات، ثم أخذت هذه الأمم في الارتباط والاتحاد؛ واجتمعوا مملكة واحدة تحت إدارة ملك واحد.
وأما ديانة الربانيين والبابليين وغيرهم فكانت أولاد نوح عليه السلام بعد الطوفان قد ضلت عن الحق وعبدت الكواكب ثم عبدت الأصنام، واعتقدوا في الأصنام اعتقادات تامة، فكانوا يعبدون صنم بعل مروداخ أو بعلوس «الشمس»، وكانوا أيضا يعتقدون الألوهية في بعض الأشخاص والطيور، ويبنون لها الأبنية العظيمة والهياكل، كما كانت تفعل الفراعنة المصرية، وكذلك عبدوا الملكة سمراميس، وقالوا إنها بعد موتها تحولت إلى حمامة، وبعد أن كانت بابل وآشور متفرقة تحت رؤساء جعلوا بلادهم سلطنة واحدة، فكانت هي أقدم ممالك الأرض بعد مصر، وجدوا في الفنون والصنائع، والكهنة هم أول من تكلم في علم الفلك، وقسموا الحركة الشمسية إلى بروج، وعرفوا كيفية سير الكواكب وحركاتها وانتقالها، وعرفوا المزاول، ووضعوا أحرف الكتابة التي أخذها الميديون منهم، وسموها بالكتابة المقدسة، ومن الميديين تعلم أهل فارس، وتمهروا في علم الفلك، وأتقنوه للغاية. وكانوا يكتبون أسماء الأدوية المفيدة في ألواح، ويعلقونها في هيكل إله الطب. (1-2) في الكلام على ملوك بابل وآشور
ذكر الملك نينوس
وهو أول من انفرد بالحكم في دولة آشور، وكان بطلا حارب البلاد، واستولى على بلاد ميد وأذربيجان والعراق العجمي والعراق العربي وبلاد بابل وسوريا. وبنى مدينة «نينوى» على نهر الدجلة، وجعل تلك البلاد جميعها مملكة واحدة سلطانية وذلك سنة 2000 قبل المسيح، وأقام مسلات ومعابد كثيرة، وعمل التماثيل في «نينوى»، وامتد حكمه من سواحل بحر الهند إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط (أو بحر الروم).
ذكر الملكة سمراميس
وهي في الأصل من نساء بعض أمراء العساكر، وكانت ذات قوة عظيمة، فلما كان «نينوس» مجدا في الفتوحات والغزوات رآها في بعض الوقائع، وهي تحارب محاربة الشجعان، فأعجبه فراستها، فأخذها من زوجها وتزوج بها، وسلم إليها في الأمور، فلما مات نينوس انفردت بعده بالملك، وجدت في تشييد المدن وأسوار مدينة بابل الذي كان يمر من وسطها نهر الفرات، وجعلت في وسطها البساتين والهياكل، وبنت هيكلا عظيما ليكون معبدا للصنم بعل أو بعلوس، وأقامت له تمثالا من الذهب. وبنت في وسط المدينة برجا ارتفاعه ستمائة قدم، وفوقه سبعة أبراج ارتفاع كل واحد منها 75 قدما، وجعلت في أعلى برج منها معبدا فيه مائدة من الذهب ، وفي أسفل برج معبدا فيه صنم من الذهب، وبقربه مائدة وكرسيا من ذهب، وخارجه مذبحين من ذهب لتقديم القربان، ومن بعد ذلك قامت للغزو والفتوحات ولم تقنع بهذه المملكة المتسعة، بل أرادت أنها تستولي على جميع أراضي الدنيا، فغزت بلاد فلسطين وسواحل مصر والحبش، ثم عادت لمحاربة الهندستان، وكان ملك الهند في ذلك الوقت مجهزا جيوشه وحصن قلاعه بالعساكر، وكانوا يحاربون على الأفيال، فلما وصلت الملكة سمراميس إلى الهند أمرت بسلخ البقر ذوات الجلود الحمر، فسلخوها وألبسوها للجمال بعد ما فصلوا الجلود على هيئة الأفيال، ولما التقى الجيشان هجم الهنود بالأفيال، وقابلتهم سمراميس برجالها، فانكشفت حيلة الآشوريين، فشددوا عليهم الهنود، فانهزموا وانهزمت سمراميس، وعادت إلى مدينة بابل مهزومة وتركت الحرب حتى قتلها ابنها نيلاس.
ذكر الملك نيلاس
تولى الملك بعد قتل والدته، وذلك سنة 350 من التاريخ الطوفاني، وكان ظالما لقومه، ضعيف الهمة، يحب الكسل، وترك الأحكام بلذات نفسه، وكان السريانيون قد تعودوا على الغزو والشجاعة، فلما رأوا حال ملكهم أضمروا على أذيته، فمن خوفه على نفسه وضع على محله خفرا وحفظة خوفا من الغدر والخيانة، ومكث على ذلك حتى مات، وبعد موته تعدت الأمراء على كرسي المملكة، وصاروا يحكمون واحدا بعد واحد مدة 800 سنة، ولكن لم تكتسب المملكة منهم في هذه المدة الطويلة غير الانحطاط والضعف؛ لسوء تدبيرهم، ولم يكن لهم ما يذكرون به في الآثار، ومضت مدتهم بدون منفعة، واستقلت البلاد التي كان فتحها الملك نينوس وسمراميس مثل سوريا والشام وفلسطين، ولم يبق تابع لآشور سوى بلاد بابل وبلاد ميد، ومن بعد هذه المدة الطويلة تولى السلطنة الملك سردنفول أو سردنبال الآتي ذكره.
ذكر الملك سردنبال من 800-789ق.م
تولى ملك آشور وبابل، وكان شابا جميل الصورة، ولما حكم ترك الأمور وانتبه إلى لذات نفسه، وكان يمضي أوقاته بالسكر ومجالسة النساء، حتى إنه كان يتخلق بأخلاقهن، وكان يتزين بلبسهن، فكرهته الرعية، فقام سر عسكر الميديين المدعو أرباس وسر عسكر بابل المدعو بيليزيس، واتفقا على خلعه من السلطنة، وجمعا 40500 فارس وهجما بهم على آشور وحاصرا سردنبال، فلما يئس من الحياة جمع أمواله ونساءه وخدمه في قاعة من قاعات سرايته، وأشعل فيها النار، واحترقت الدار بما فيها، وحرق نفسه ومن معه. واستقل أرباس بحكم ميد وبيليزيس بحكم بابل، وذلك سنة 789ق.م، وزالت الدولة الآشورية الأولى. (1-3) الدولة البابلية الأولى وذكر فول من 787-747ق.م
وبعد خراب مدينة نينوى كان الميديون قد اكتفوا باسترجاع استقلالهم وخروجهم عن طاعة الدولة الآشورية، ولكن القائد البابلي أو الكلداني المدعو باسم فول «بيليزيس المذكور» استولى على الأقاليم الآشورية وجعلها تابعة لبلاد بابل وضم إليها بلادا أخرى، ثم إن «فول» المذكور نزل على سوريا، وكان السوريون مقتسمين المملكة؛ عشرة أسباط منهم في سوريا، وقاعدة ملكهم مدينة السامرة، وسبطان «يهوذا وبنيامين» كانا يسكنان بلاد فلسطين أو كنعان، وقاعدة ملكهم أورشليم، فلما أغار فول على هذه البلاد وقاتله ملك الأسباط المدعو مخيم الإسرائيلي، وانتصر عليه فول المذكور استولى على أكثر ولايات سوريا حتى دفع له مخيما ألف طونولاته من الفضة. (1-4) الدولة الآشورية الثانية
وذكر الملك تجلات فلصر الثاني من 744-727ق.م
ولم تدم غلبة الكلدانيين على البلاد الآشورية إلا لغاية وفاة الملك فول سنة 747ق.م، ثم قامت الحروب على قدم وساق بين الآشوريين والكلدانيين مدة ثلاث سنين، وتمت أخيرا بهزيمة البابليين، وتقلد تجلات فلصر بملك الآشوريين والبابليين بما أنه كان رئيس هذا الهيجان، وذلك سنة 744ق.م، ولما حكم تجلات المذكور حارب الأراميين وانتصر عليهم مرارا، وفي وقتها نزل قوم من الأراميين سكان الجزيرة حاربوا اليهود وانتصروا عليهم، فاستنجدوا بتجلات المذكور فأنجدهم بجيوشه وقاتل الأراميين وحاصرهم مدة في القدس ثم افتتحها وسبى أهلها.
الملك سلمنصر بن تجلات فلصر من 727-722ق.م
كان ملكا جبارا يحب الغزو، ولما حكم أغار على ملوك سوريا وأهلك كثيرا من الإسرائيليين، وأخيرا دفع له الجزية يوشع ملك الإسرائيليين بعد ما أسر ملوك الأسباط العشرة، وأدخل مدينة السامرة تحت حكمه وحمل أهلها إلى آشور، وأتى بطائفة من الآشوريين وأسكنهم فيها، ثم نزل على الفنيقيين وقاتلهم، وحاصر مدينة صور تخت ملكها مدة سنة ثم تركها وعاد إلى بلاده، وبهذا الملك انقرضت العائلة الملوكية الآشورية؛ إذ كانوا انقرضوا بالكلية ولم يوجد منهم من يلي المرتبة السلطانية، واجتمع الأعيان وقلدوا بمنصب الملك رئيس الجنود المدعو «سرجون» الآتي ذكره.
ذكر سرجون من 722-704ق.م
وقد كان هذا الملك من أعظم الملوك أرباب الغزو والجهاد، وإن كانت مدته قد مكثت مدة قصيرة لكنها قد ألفت على وجه التاريخ بهجة عظيمة؛ لأن الملك سرجون في مبادي حكمه كان قد أخذ مدينة «السامرة» وأخربها بالكلية، وحارب الملك سباقون الحبشي ملك مصر وغلبه في واقعة «رافيا» ببلاد الشام سنة 721ق.م ثم شن الغارة على بلاد أرمينيا حتى أدخلها تحت الطاعة إلا أشياء قليلة منها، وفتح بلاد فلسطين سنة 710ق.م، وكذلك جزيرة قبرص سنة 708، وكانت هذه الجزيرة محكومة في ذلك الوقت بجملة ملوك طوائف صغيرة أصل أكثرهم من اليونان، وفي آخر حكمه اختط مدينة «خورازاباد» بدلا عن مدينة نينوى من بعد خرابها، ومات مقتولا في سنة 704ق.م؛ حيث قتله جماعة من أرباب الفتن ببابل.
ذكر سنحاريب بن سرجون 704-681ق.م
كان شجاعا صاحب حروب وغزوات كثيرة، ولما حكم آشور وبابل جهز الجيوش لقتال اليهود، ونزل على فلسطين وقاتل أهلها، فاستعان عليه اليهود بملك مصر سباقون الأتيوبي، فأنجدهم بجيوشه، فكسره سنحاريب - كما تقدم - وحاصر بيت المقدس، وكان على اليهود في ذلك الوقت حزقيا الصالح، فلما ضاقت نفوسهم من شدة الحصار تضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، واستغاثوا به، وكان فيهم النبي أشعيا، فلما أصبح سنحاريب ورأى جيشه قد تلف منه عدد عظيم خاف على نفسه، ورجع إلى بلاده ودخل نينوى، والتفت إلى تنظيم المباني، وبناء الهياكل والمعابد، وكانت عادته إذا زار الأصنام يسجد لها مدة، ففي يوم دخل هيكلا بعد ما تبرك بصنمه سجد طويلا، فدخل اثنان من أولاده وقتلاه، ثم خافا من أخيهما الثالث وكان جبارا، فهربا إلى جبال الموصل في أرمينيا واختفيا هناك، ثم أتيا إلى بيت المقدس، واستجارا بحزقيا ودخلا في ملته.
ذكر الملك آسارادون بن سنحاريب من 681-668ق.م
حكم آشور وبابل، وأخذ في الغزوات، وكان ملوك الأسباط بعد سنحاريب قد استقلوا بملكهم فنزل عليهم وقاتلهم كثيرا، ودخل مدينة «السامرة» بالسيف وسبى أهلها، وبعد انتصاره على سوريا، نزل فلسطين وقاتل اليهود، وأسر منشا بن حزقيا ملك اليهود واستولى على كنعان وديار مصر، ثم اعتراه المرض وأحس بالعجز عن القيام بواجب الملك فتنازل عن سرير المملكة لولده البكري المدعو آسور بانيبال في سنة 668ق.م.
ذكر آسور بانيبال 668-647ق.م
كان هذا الملك هو آخر الملوك الآشوريين المجاهدين، وهو الذي يعرف عند اليونان باسم سردانابال الثاني، ومكث مدة ثلاث سنوات متواليات بالديار المصرية وهو يقاتل الملك «طهراقه» ملك الأتيوبيا، وينازعه في مملكة مصر، واستولى على مدينة طيبة «بالصعيد» مرتين، وأسلمها إلى السلب والنهب، ثم انتهى أمره لأن ترك الديار المصرية؛ حيث رأى أن ملك مصر يحتاج إلى كثير من المشقة والتعب، وكان له أخ يدعى «سامو لسموجان» كان عاملا من طرفه على بابل، فقام عليه وأراد أن يستقل بنفسه، ورفع لواء العصيان، واستعان في ذلك بملك بلاد العرب، وذلك في سنة 663ق.م، ووقعت بينهما حروب عظيمة دارت الدائرة فيها على جنود القوم الخوارج، فهزمهم ملك نينوى، وأخذ أخاه أسيرا ثم أطلق سبيله وعفا عنه، ولما توفي آسور بانيبال تملك على مملكة نينوى ولد له يدعى باسم «آسور ديليلي»، وفي أيامه خرج عليه ملك الميديين «فراوورت»، وأغار على بلاد آشور فقابله «ديليلي» هذا بجيوشه في مضايق الجبال الكائنة بتلك البلاد في سنة 635ق.م، وحصلت واقعة وقتل بها الملك «فراوورت» المذكور، وهلكت الجيوش الميدية، وهذه غاية نصرة عسكرية حصلت على يد ملوك الطبقة الثانية بمدينة نينوى، وكان موت الملك آسور ديليلي سببا في ظهور الفتن والاختلال في بلاد السلطنة الآشورية، فحضر ملك الميديين «سياكزار» بجنوده أمام مدينة نينوى، وحصرها وضيق عليها، وكان العامل الكلداني المدعو «نابو بولصر» قد أثار الفتنة في مدينة بابل، وأعلن لنفسه بالسلطنة فيها، وكادت مدينة نينوى أن تسقط لولا ما حصل في ذلك العصر من إغارة القوم السيتيين «قبائل يأجوج ومأجوج» على بلاد الميديين سنة 625، فرجع الملك سياكزار من الحصار، وأراد أن يوقف إغارة هؤلاء الأقوام، ومكثت الإغارة المذكورة مدة 19 سنة، وكان الملك «ساروق آسور آفوس» قد قبض على قضيب الملك بمدينة نينوى في تلك المدة، وبعد خروج السيتيين من البلاد الميدية عاد سياكزار إلى ما كان عليه، وحاصر مدينة نينوى، وأخذها بعد قتل الملك «ساروق» وحرق القصور والهياكل العديدة، وصارت مدينة نينوى عبارة عن تلال وأطلال متهدمة، وذلك سنة 606ق.م وهذا هو خراب مدينة نينوى الأكبر؛ لأنها لم تعد للعمارة مرة أخرى بعد ذلك. (1-5) الدولة الكلدانية أو البابلية الثانية
ذكر نابوكودو نوزور 607-551ق.م
وهو المعروف عند مؤرخي العرب باسم بختنصر الجبار، تولى بعد موت أبيه نابو بولصر سنة 607ق.م، وهو أشهر ملوك بابل وأعظمهم، ففي مبدأ حكمه نزل بلاد الموصل ودخلها بالسيف ثم حارب الإسرائيليين، ونزع منهم أيالات سوريا، وكانت وقتئذ فلسطين أيالة خراجية يحمل ملكها يهوياقيم الجزية سنويا إلى نيخاؤس ملك مصر، فلما فتح بختنصر سوريا حمل إليه يهوياقيم الجزية بدون قتال، فتحول عنه وسار لقتال الفنيقيين، وحاصر مدينة صور، وفي هذا الوقت عصى «يهوياقيم» فعاد إليه بختنصر وأسره وحمله إلى بابل ومعه طائفة من الأحبار «علماء العبرانيين»، وكان منهم دنيال عليه السلام، وعاد بختنصر إلى محاصرة سوريا، وكان قد تولى على اليهود «يخنيو» بن يهوياقيم فعصى على بختنصر، فأرسل إليه وحمله إلى بابل فمات بالطريق، وولى مكانه عمه المدعو صدقيا، فجمع اليهود وعصى على بختنصر بمساعدة ملك مصر المدعو «أبرياس»، فأتى ملك بابل، وقتل خلقا كثيرا من اليهود وأسر صدقيا، وكحله بالنار وقتله ونهب أمتعة بيت المقدس وحرقها، ولحق القدس الخراب الأكبر، وهو الخراب الثاني، وذلك سنة 588ق.م وتشتت اليهود في البلاد، وأتت منهم طائفة إلى مصر، فاجتمعت بفرعون مصر «نيخاؤس»، فطلبهم بختنصر منه، فأبى وتجهز لمحاربته، والتقيا المصريون والبابليون في مدينة «قرقيش» جهة الفرات، وكسر «نيخاؤس» ودخل مصر مهزوما، وعاد بختنصر إلى صور ودخلها بالسيف، ونهبها وسبى أهلها، بعد أن حاصرها مدة 13 سنة، وبعد رجوعه إلى بابل تجبر وتنمرد، ودعا الناس إلى السجود لتمثاله، وفي آخر حكمه سلب عقله، فترك المملكة وخرج إلى الغابات وأقام بها، وصار يقتات بالحشائش، وفي هذه المدة كانت امرأته «نيتوكريس» تدبر الأمور، ثم إنه شفي من مرضه وعاد إلى المملكة، وحكم سنة واحدة ومات.
ذكر الملك بلطازار
وهو آخر ملوك الدولة البابلية الثانية، تولى ملك بابل وآشور، وعلق على اللذات، فترك الأمور للحكام، وفي ذات يوم جمع أحبابه وندماءه في وليمة أعدها لهم، وكان يوم عيد عند البابليين، فبينما هم في حالة الأنس وشرب المدام؛ إذ فاجأهم «قيروش» بجنوده الفارسيين، ودخل المدينة من مجرى النهر على حين غفلة من أهلها، فاتفق أن أحد قواد عسكر العجم المدعو باسم «دارا الميدي» المكلف بهذه الإغارة الليلية قتل بلطازار بيده فكافأه مولاه بأن قلده الولاية السترابية على بابل، وبذلك زالت مملكة آشور وبابل بالكلية سنة 835ق.م. (2) في تاريخ الميديين والعجم
بلاد ميد عبارة عن أرض أزربيجان، وهي تحد من جهة الشمال ببحر الخزر وبلاد أرمينيا والغرب ببلاد آشور الأصلية، ومن جهة الجنوب ببلاد فارس، ومن جهة الشرق بالبلاد المسماة ببلاد الفرثية، وهي القطر الكائن بشرقي العراق العجمي وغربي خراسان الآن، وجبال الخزر تستر سائر سطح الجهة الشمالية منها، وفي تلك الجهة أيضا ما يوجد من الأنهار، وذلك غديران يسمى أحدهما باسم فورش أوقور، والثاني يسمى آراس. وقد كانت مدنها الأصلية في سالف الأزمان كل من مدينة إيكباتان - وهي المعروفة الآن بهمدان - ثم مدينة «راجيس» أي مدينة الري الآن.
أما حدود بلاد فارس أو فارستان، فقد كانت في سالف الأزمان عبارة عن الأرض المحصورة ما بين بلاد ميد المذكورة أعلاه والخليج الفارسي من جهتي الشمال والجنوب، وبلاد الكرمان وبلاد بابل من جهتي الشرق والغرب، وفيها من جهتي الشمال والغرب جبال لا يمكن منها الدخول إليها إلا بغاية الصعوبة، وكانت مدنها الأصلية في سالف الأزمان كلا من مدينة برسبوليس - ولعلها الآن إتشهيل منار أو إستخر - ثم مدينة «بازار جاد» وهي مدينة «بازا أو فازا». (2-1) ديانة الفرس والميديين
وكانت ديانة الفرس تمتاز بصفة روحانية عن ديانة الآشوريين، فإن الفرس كانوا يعترفون بوجود ذات علية لا يحويها مكان، وكانوا يعبدون النار ويعدونها كأشرف العناصر.
واعلم أن الذي أسس دين القوم الفارسيين في سالف الأزمان هو زرادشت، ولم يتحقق تاريخ مضبوط لوقت وجود هذا الرجل، إلا أن الأقرب للصحيح أنه قد كان في القرن الخامس أو السادس والعشرين قبل المسيح عليه السلام، ولا يعلم شيء ثابت صحيح فيما يتعلق بحياة زرادشت المذكور، غير أنه قد كان هو المنشئ للمذهب الديني الذي اسمه لغاية الآن مشهور، وقد دون أحكامه الدينية في كتاب يعرف الآن باسم «زندوستا»، ولا يعرف له أيضا وطن معين، ويقال إنه كان في بلاد بكتريان.
أورموزد وأهريمان
وقد كان أورموزد في اعتقاد زرادشت ومن تبع دينه عبارة عن إله الخير فيقولون بأنه هو الذي خلق الخلق، وهو الروح العاقل الحكيم، ويعبر عنه بروح القدس وأصل الخير، ويتصور عندهم بالنور والشمس، والنار يدعونها بصفة ولده، وأنه خالق كل شيء، وله إله آخر، وهو على الدوام والاستمرار خصم له، وأن إله الخير في نزاع مستمر بقصد أن يتسلطن عليه ويعلو فوقه، وأنه هو الروح الخبيث أو أصل الشر، ويدعونه باسم «أهريمان» ويقال إنه خلق الشر والموت، ولا بد أن يأتي عليه يوم في آخر الزمان يغلبه إله الخير ويعلو عليه، ويستحيل إله الشر إلى حالة العدم، وتعود الخليقة كما كانت قبل من الصفو والنقاوة، ويذهب أهريمان المذكور إلى حيث لا يرجع، ويسمى مذهب زرادشت هذا بالديانة المزدية، وأما ديانة المجوس عبارة عن مذهب اعتزال ناشئ عن أصل دين زرادشت، مبني على عقيدة التثنية الإلهية، كدين المزدية، غير أن الفرق بينهما أن المجوس يعتقدون مساواة الأصليين أرموزد وأهريمان اللذين هما إله الخير وإله الشر عندهم، ويتعبدون لعدد عظيم من الآلهة المتعددين والأصنام المعبودين؛ حيث سرى لهم ذلك من ديانة الأمم المجاورة لهم، لا سيما الآشوريين، وهذا أمر مناقض بالكلية لأصل شريعة زرادشت الأصلية. (2-2) ذكر الدولة الميدية
أرباس والدولة الجمهورية الميدية
قد تقدم أن أرباس وفول البابلي قسما المملكة الآشورية قسمين، واستقل كل منهما بقسم، وبعد هذه الفتنة استقر «أرباس» في بلاده الأصلية، إلا أنه لم يكن فيها ملكا حقيقيا، بل كان قائدا عسكريا، ورئيسا جهاديا لملة مرتبة ترتيبا سياسيا أساسيا على هيئة ما يعرف الآن عند الأمم المتأخرين بالحكومة الجمهورية، وبقي الحال كذلك حتى لحقته الوفاة، فاستمر الميديون على تلك الهيئة الجمهورية من بعد وفاته، غير أنهم لم يوجد فيهم من يقوم بأشغالهم، فتفرق شملهم وتمزق حالهم، وبعد زمن قليل قامت الدولة الآشورية من سقطتها في أسرع وقت وأعادت قوتها العسكرية، فقامت هذه الدولة وعزمت على إعادة الدول التي كانت خرجت عن طاعتها لولا تعصبات الأمم عليها، وقد كادت بلاد ميد أن تقع في حبالة أسر الدولة العراقية بالثاني، ثم استمروا على ما هم عليه إلى أن اجتمعوا في هيئة دولة واحدة قوية، واتخذوا هيئة الحكومة الملوكية.
ذكر ديجوسيس، ومنشأ ترتيب الملك ببلاد الميديين
كان هذا الملك في مبدأ أمره رجلا معتبرا في قومه، فبذل جهده بأن يقضي بالحق بين أهل عشيرته بخلاف سائر القبائل الميدية الأخر، ولما شاهد أهل بلاده حسن سيرته ولوه عليهم قاضيا، فسلك في جميع أعماله مسلك العدل والاستقامة، واستمروا على ذلك إلى أن ولوه ملكا عليهم، وبعد ذلك أمرهم بأن يشيدوا له قصرا يليق بمرتبته ويرتبوا له حرسا يقومون بحفظ ذاته، فامتثلوا لذلك الأمر، وبنوا له في المكان الذي أشار إليه عمارة جسيمة متسعة حصينة، ودار مملكة جميلة متينة، وأباحوا له أن ينتخب من شاء من جميع أفراد الأمة، ليكونوا لنفسه طائفة حرس ملوكية، وبمجرد أن صعد على سرير الملك أخبر الرعية على أن يبنوا له مدينة ويزينوها بأنواع الزينة ويحصنوها بالقلاع، فأذعنوا إليه كل الإذعان، وشيدوا له ما أمرهم به، وهي المسماة في ذلك الوقت باسم «إيكباتان» وهي مكانها الآن «همدان».
ذكر الملك فراوورت من 657-635ق.م
ولما مات الملك ديجوسيس تولى بعده ولده المدعو فراوورت، وكان ملكا مغازيا محبا للجهاد، ولا نعلم شيئا صحيحا من أخبار أوائل مدة حكمه غير ما يظهر لنا من أنه كان قد أشغلها بطرد الآشوريين من سائر الأماكن التي كانوا لم يزالوا عليها مستولين من بلاد ميد، ولم يبتدئ في مغازيه الكثيرة إلا في سنة 650ق.م، فأطاع أولا بلاد فارس الأصلية، وكانت في ذلك العصر قد أخذت في أن تتكون في هيئة مملكة متحدة بعد أن كانت قد مكثت مدة مديدة وهي متجزئة إلى عدة قبائل صغيرة متعددة، وكان ملك الفرس المسمى عند اليونان باسم آشيمينوس هو آخر ملك استقل بمملكة فارس الأصلية، ثم حاربه الملك «فراوورت»، وأدخله تحت طاعته، وإليه نسبت العائلة الأشيمينوسية، وهي التي تسمى عند العرب والفرس بعائلة الكيانية.
ولم تك همة هذا الملك قاصرة على فتح تلك الجهات، بل إنه أطاع لدولته سائر الأمم المتوطنين وراء جبال «هندوكوش»، وأدخل أيضا بلاد بكتريان «وبكترية» وملحقاتها من ولاية «هركانيا» والمرجيان والسوجديان تحت طاعته، وكانت الأمة الأرمينية مذعنة بالتبعة لسلطنته، وحيث كان الملك فراوورت قد استولى على جميع هؤلاء الأمم، وبذلك جعل المملكة الميدية سلطنة جهادية متسعة ودولة عسكرية حربية، وظن أنه يمكنه الاستيلاء على مدينة نينوى، وكانت قامت من سقطتها لسالف بهجتها وعظمتها بعناية الملك ديليلي، وشرع في أن يطيعها لدولته، لكن خاب أمله، وهلك هو وجنوده جميعا، وذلك في سنة 635ق.م.
ذكر الملك سياكزار من 635-595ق.م
ولما مات الملك فراوورت تقلد ابنه المسمى «سياكزار» بملك الميديين، فكان أكثر حبا للجهاد من والده، وفي مبدأ أمره خرجت عن طاعته أمة الفرثيين، فسار إليهم بجيشه وحاربهم وأطاعهم، ثم عزم على تتميم قصد والده، وهو فتح مدينة نينوى، ولحسن تدبيره وسياسته تعاهد مع ملك الكلدانيين، وهو نابو بولصر. وزوج ابنته لابن ملك الكلدانيين المذكور، وهو بختنصر السابق الذكر بشرط أن يقتسما دولة بني آشور، فاجتمع جيش الميديين مع الكلدانيين، وأغاروا على مملكة آشور، وذلك بعد وفاة ملكها «ديليلي» سنة 635، وحاصروا مدينة نينوى، إلا أن في ذلك الوقت نزل أقوام عديدة من السيتيين وشنوا الغارة على سائر البلاد الميدية، فرجع الملك سياكزار من الحصار وأراد أن يوقف إغارة هؤلاء الأقوام، فلم يمكنه وانهزم، واضطر لأن يصير تحت طاعة هؤلاء الأقوام المتوحشين، واستمروا مدة 19 سنة يخربون في بلاد آسيا إلى أن وصلوا إلى الديار المصرية، ثم قام الميديون وأشهروا لواء العصيان وطردوا من كان عندهم من هؤلاء الأقوام.
وبعد ذلك قام الملك «سياكزار» وجدد المعاهدة مع نابو بولصر لتنفيذ ما كان قد عقد عزيمته عليه، وتحبب إليه العزم على خراب مدينة نينوى، فقاما لحصار تلك المدينة، وظفرا بها تمام الظفر، وقسما البلاد الآشورية إلى قسمين، فأخذ الميديون جهة الشمال، واستولى البابليون على جهة الجنوب، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات - أعني سنة 603ق.م - حصلت حروب بينه وبين ملك الليديين، تمت هذه الحروب أخيرا بالصلح بينهما، وتزوج ابن الملك «سياكزار» المدعو «إستياج» بابنة الملك أليات ملك الليديين.
ذكر الملك إستياج وزوال مملكة الميديين من 595-560ق.م
وكان إستياج بن سياكزار المذكور قد خلف أباه على سرير الملك في سنة 595ق.م، وكان ملكا ظالما، لا فخر ولا مجد له. وكان قد رأى في المنام أنه يعزله عن سرير مملكته ابن بنته المسماة باسم «مندانه»، وكان قد زوجها بولد من ذرية العائلة الفارسية القديمة، يدعى قمبيز - غير قمبيز الذي فتح مصر - فأراد أن يقتل الطفل الذي ولد لهما عند ولادته وهو «قيروش»، وكلف بهذه المأمورية رجلا من كبار ضباطه يقال له هرباجوس، وهذه القصة مبنية على ما حكاه أهل فارس نفسهم في حكاياتهم الأهلية ورواياتهم التاريخية، أن هرباجوس المذكور لما أمره الملك إستياج بفعل هذه المأمورية أخذته الرأفة على هذا الطفل ، فألقاه عند راع من الرعاة، فلما كبر خرج ذات يوم يلعب مع الأطفال، ويجري صورة رسوم المملكة عليهم، ويلقي الأوامر العلية إليهم، فعرفه الملك بتقاطيع وجهه فأخذه إلى قصره وضمه إلى دولته، وانتقم الملك من هرباجوس المذكور بأن أطعمه لحم ابنه في هيئة لحم جدي مشوي، فحقد هرباجوس المذكور، وحمل قيروش على الخروج عن طاعة جده وساعده على ذلك، فعمل الحيلة، وتوصل لأن أشعل نيران الفتنة والعصيان عند أبناء أوطانه الأصليين؛ أعني الأقوام الفارسيين، وكان الملك إستياج قد أساء التدبير؛ إذ قلد هرباجوس هذا برياسة جنده المتوجه لقمع الفتنة لداعي ما كان قد أسره في باطنه من الحقد عليه بما أجراه من ذبح ولده وإطعامه إياه، فترك راية الظفر ومزية الغلبة لرئيس جند القوم الفارسيين على الميديين، فقام الملك بنفسه على رأس جنوده، وأراد أن يدفع الجنود الفارسية فلم ينجح ووقع نفسه في يد أعدائه، وكان قد مكث على سرير السلطنة مدة 35 سنة، وهو آخر ملوك الدولة الميدية. (2-3) تاريخ الفرس القديم
ذكر قيروش 559-545ق.م
وكانت هزيمة «إستياج» المذكور وافتتاح بلاد ميد أن صار بيد الملك قيروش «كسرى الأول» الولاية السلطنية على سائر البلاد التي كانت تابعة للسلطنة الميدية، وصار له اليد العليا، خصوصا على الأمم الإرانيين المتوطنين فيما وراء جبال «هندوكوش» وصحارى بلاد القرمان، فبادر بوضع اليد بالفعل عليها، وأجرى رسوم السلطنة بالعمل فيها، وقد كان ذلك الأمر سهلا عليه؛ إذ كان سائر الملل يميلون إليه.
ولما كانت بلاد بكتريان معرضة لكثرة إغارات الأقوام الأغراب، وتكرر سقوط هؤلاء القبائل المتوحشة عليها بالقتل والنهب، كان أول ما تعلقت به همة الملك «قيروش» أن ابتدأ لقصد الحصول على الأمن فيها بأن حارب القوم التورانيين (المسمين الساسيين) وهم قوم من أقوام «يأجوج ومأجوج» كانوا قاطنين حوالي ينابيع نهر سيحون «سيرداريا»، فغلبهم وانتصر عليهم وأسر ملكهم المسمى «آمورجيس»، وجعل بلادهم سترابية أي محكومة بحاكم يدعى ستراب «أي مرزبان» بمعنى العامل على إقليم من أقاليم الدولة الفارسية، وفتح البلاد المجاورة لجبال القوقاز بعد أن قاسى فيها مقاساة عظيمة، وهلك منه أناس كثيرون، وقد أدخل تحت طاعته كلا من إقليمي طاغستان والجرج والأقوام المدعوين باسم «الكولشيديين» سكان إقليم كولشيدة، (وهو المعروف الآن بولايتي إيمرسيا ومنغوليا)، وكذا الأقوام الذين كانوا قاطنين في الجبال الكائنة على الساحل الجنوبي الغربي من بحر الخزر وهم المارديون والمكرونيون وأمة الطبرانيين، وهم قوم كانوا مشهورين عند الأمم السالفين من أقدم الأعصار السالفة بعمل المصنوعات المعدنية، وباختراع حديد الصلب كلهم كانوا أطاعوا لصولته، ودخلوا تحت أسر دولته، وبذلك صار قيروش الفارسي المذكور مستوليا على سائر الأقطار الكائنة بآسيا الصغرى - بلاد الأناضول الآن - إلى حد نهر قزيل يرموق.
وكان «كريزوس» ملك الليديين - أمة بآسيا الصغرى - معاصرا لقيروش، وكان هذا الملك مشهورا بغناوته، فاتفق ذات يوم أنه وجد أحد فلاسفة اليونان المدعو «سولون» في معيته، فسأله: هل يوجد أحد في الدنيا أغنى مني؟ فجاوبه هذا الفيلسوف اليوناني قائلا: إن الإنسان لا يعد نفسه غنيا إلا إذا انقضت باقي أيامه بالسلم. فلم تمض مدة من الزمن إلا وقد ثبت كلام هذا الفيلسوف الأجنبي.
نصرة قيروش على كريزوس:
ولما علم كريزوس بنصرة العجم على الميديين فبالنسبة لقرابته لإستياج «صهره» عزم على كسر شوكة الأعجام، وكان قد أخبره أحد كهنة المعبود «دلفوس» أنه إذا تعدى نهر قزيل يرموق لخرب مملكة عظيمة، فنظرا لذلك قام لمجادلة الأعجام، فالتقى الفريقان في محل متسع أمام مدينة «سردوس» قاعدة سلطنة الليديين، وتم الأمر بهزيمة الملك كريزوس، ووقع في قبضة الأسر، فأمر قيروش بإلقائه في النار، فصاح ملك الليديين قائلا: «سولون»، ثلاث مرات. فأراد قيروش أن يستفهم عن سبب ذلك، فقص عليه القصة، فلما سمع ذلك قيروش أخذته الرأفة، وخاف من تقلب الأزمان وأطلق سبيل كريزوس، وعامله بالإحسان، وكان في أغلب الأوقات يستشيره في مشروعاته.
وبعد أن أخضع قيروش آسيا الصغرى، هجم على مدينة بابل، ولم يمكنه الاستيلاء عليها؛ بالنسبة للحصون والقلاع المحصنة، فتصنع بحيلة، وهي أنه أمر بتحويل مياه نهر الفرات إلى بحيرة صناعية، فنقصت المياه إلى أن صارت لقرب الرضفة ، فدخل الفرس المدينة؛ حيث كانت الأهالي مشتغلة بيوم العيد، فلم يروا إلا مساء دخول الفرس عليهم، واستولى قيروش على المدينة، وقتل أحد قواده المدعو باسم «دارا الميدي» الملك بلطازار بن نابونيد كما تقدم.
وبعد ذلك بسنتين ترك سبيل القوم العبرانيين الذين كانوا بمدينة بابل مأسورين، وأذن لهم ببناء هيكل أورشليم «بيت المقدس» بالثاني، وذلك سنة 536ق.م.
وبعد أن أتمم فتوحاته رجع إلى محاربة الماساجيتيين، أمة من السيتيين، «يأجوج ومأجوج، قوم من الأتراك» كانوا قاطنين حوالي شاطئ بحيرة الخزر، فلم يمكنه إطاعتهم، فتصنع الملك بترك معسكره، فدخل جند الماساجيتيين، وشربوا النبيذ الذي تركوه الأعجام فغابت عقولهم، فعاد قيروش ومن معه، وقتلوا خلقا كثيرا منهم، فقتل ابن ملكتهم «توميريس»، فأرادت هذه الملكة أن تأخذ بثأر ولدها، فعقدت الحرب والقتال مع ملك فارس، فتم الأمر بنصر الماساجيتيين على الأعجام، وقتل قيروش في أثناء ذلك، ويقال إن «توميريس» المذكورة قطعت رأسه وغمرتها في قربة مملوءة بدم القتلى وهي تقول: «فلأشبعنك من دم البشر الذي كنت ترتوي منه مدة حياتك.» ومات قيروش سنة 529ق.م، وترك ولدين الأكبر منهما يدعى قمبيز، كان قد تقلد من بعده بتاج المملكة الفارسية، والأصغر يدعى «سمرديس» كان قد تقلد بالعمل على ولاية بلاد بكتريان من أعمال سلطنة فارس، بشرط أن لا يدفع لأخيه خراجا، وإنما يعترف له بالأعلوية السياسية، ولما تولى قمبيز وجد همته لأن يشهر نفسه بالفتوحات، فقام أولا لفتح الديار المصرية كما تقدم. (3) في تاريخ الليديين
اعلم أن مملكة الليديين كانت مملكة واقعة في غربي آسيا الصغرى، وكان قيروش فتحها بعد أن فتح مملكة الميديين، وكان تختها مدينة «سردوس»، وهي مدينة على ملتقى نهري بكتول وهرموس، وكانت مياه نهر البكتول، تحتوي على صفائح ذهبية، ومن هناك أتت ثروة ملوك ليديا التي طالما بولغ في كثرتها. (3-1) ذكر قندول وجيجيس
وقد مكثت هذه المملكة مدة طويلة وهي خاملة الذكر، وكان يحكمها الهرقيليون «أي ذرية هرقول»، وآخر الهرقيليين هو «قندول»، وقد حكى أفلاطون وسيسورون أن أحد رعاة الملك المسمى جيجيس وجد في صورة حصان من نحاس أصفر خاتما عجيبا خاصيته إخفاء من كان حامله عن أعين الناس، فأخذه جيجيس، وبواسطة هذا الطلسم دخل قصر قندول وقتله واغتصب الملك، وهذه القصة رويت عن هيرودوت ورويت بعبارات أكثر قبولا للعقل من هذه، وهي أن سبب قتل الملك قندول أنه ذات يوم أمر امرأته أن تكشف وجهها على جيجيس، فلما وجدت ما حصل لها من الإساءة؛ حيث كانت هذه العادة مذمومة عند أهل الشرف، فعزمت الملكة على أن تعاقب من أخل بشرفها، وعزمت أن لا تخلي سبيل جيجيس، وقالت له: «إما أن تقتل قندول الملك وإما أن تقتل نفسك»، وبناء على ذلك قتل الملك وجلس على كرسي الملكة، وذلك سنة 738ق.م.
إغارة السميريين على آسيا الصغرى
وكان لليونان جملة نزل على سواسل آسيا الصغرى، وهذه النزل كانت تمنع الليديين من الوصول إلى البحر، فقام جيجيس المذكور، وحارب سكان النزل اليونانية، واستولى على مدينة كلوفون، فلما مات سنة 720ق.م قام ابنه المدعو أرديس، وأخذ مدينة بريين وهدد مدينة «ميلته» ثم هلك هو وجيوشه في إغارة السميريين الذين طردهم السيتيون من بلادهم، فأتوا إلى آسيا الصغرى وهجموا عليها هجمة السيل على الأباطح، فأغرقوها في بحر ظلمهم، ودخلوا مدينة «سردوس»، ولا نعلم ما فعلوه هؤلاء الأقوام، لكنهم قد انقرضوا بالحروب شيئا فشيئا، وفي سنة 617ق.م قام «أليات»، وطرد من بقي منهم من بلادهم، وكان في ذلك العصر حصلت إغارة السيتيين على بلاد ميد كما تقدم.
وفي سنة 610ق.م حصلت بين الليديين والميديين حروب طويلة انتهت بالصلح عندما شاهدوا حادثة كسوف الشمس، وتزوج إستياج بن سياكزار ملك ميد بابنة ملك الليديين «أليات»، وحصل بين الفريقين جملة مواثيق وعهود. (3-2) ذكر كريزوس بن أليات
ولما مات أليات قام بالأمر بعده ابنه «كريزوس»، وهو آخر ملوك هذه الدولة، وكان ملكا قد اشتهر في الأزمان السالفة والأحقاب الخالية بالغناوة والثروة، فلما علم بأن قيروش هزم إستياج صهره قام لمساعدته كما تقدم، فالتقى مع جيوش الفرس، ووقعت بينهما مقتلة شديدة هلك فيها نفوس عديدة من الطرفين، إلا أنه لم تتحقق النصرة لأي من الفريقين حتى دخل الليل، فانتهى بذلك الحرب، فعاد كريزوس إلى مدينة «سردوس» التي هي قاعدة سلطنته ومركز حكومته وبعث يطلب المدد من الديار المصرية وبابل ولقدمونيا «ببلاد اليونان» لما كان بينه وبينهم من العهود، وعزم على أن يعود بالحرب في فصل الربيع الآتي، ثم بلغ الخبر ملك الفرس بأن كريزوس اعتمد على طول المدة وفرق شمل جنوده، فبادر في الحال ملك الفرس وحاصر مدينة سردوس، فجمع ملكها ما قدر عليه من العساكر، والتقى الصفان والتحم الجيشان في سهل متسع عظيم مكشوف أمام مدينة سردوس المذكورة عند ملتقى نهري هيلوس وهرموس، وهو النهر المعروف الآن بنهر «شرابات أو القادوس» بالقرب من مدينة أزمير، فهزمت الجيوش الليديون شر هزيمة، وانحصر الملك كريزوس في مدينته أربعة عشر يوما من ذلك الحصار، هجم ملك العجم بجنوده على تلك المدينة، فدفعهم القوم المحصورون في أول الأمر، وكان بعض جنود الفرس قد لحظ بالأمس طريقا يوصل إلى مكان من سور القلعة، فأرشد إخوانه إليه، وصعد عليها وتبعه كثير من أصحابه، وبذلك دخل قيروش المدينة وزالت مملكة الليديين. (4) في تاريخ الكنعانيين والفنيقيين
وقد كانت مدائن الكنعانيين من أول الأمر على سواحل الخليج الفارسي في إقليم بلاد العرب المعروف الآن باسم «القطيف أو البحرين»، وفي سنة 2500ق.م تقريبا كانوا قد اضطروا للخروج من مساكنهم الأولية هذه، إما لداعي زلازل أرضية وقعت فأخرجتهم منها كما ذكر ببعض الروايات، وإما لداعي حروب حصلت بينهم وبين ملوك بابل، وكانوا قد انتصروا عليهم فيها فاضطروا للمهاجرة من أوطانهم الأصلية، وهاجروا كلهم منها إلى بلاد الشام، ولما استقروا بها تغلبوا على تلك البلاد ووضعوا اليد عليها، وتفرقوا هناك إلى فروع عدة؛ طوائف منهم مكثت ببلاد فلسطين، وبعضهم مكث بين جبل لبنان والبحر المتوسط، ومنهم قبيلة تعرف باسم «الهينيين» استقرت بوادي نهر العاص، وقسم أغار على مصر مسترشدا بجماعة من القوم «الهينيين» المذكورين واستولوا عليها، وهم المعروفون باسم أمة الهكسوس السابقة الذكر.
أما أمة الفنيقيين الموصوفة بالجراءة والنشاط وحب السفر لما رأت نفسها محصورة بين جبل لبنان والبحر الأبيض، وجهت همتها للملاحة والتجارة، فامتدت أسفارها لأقاصي العالم المعروف وقتئذ، وبهذا زادت ثروتها وقوتها حتى فاقت عن غيرها في الصنائع التي منها معرفة عمل الزجاج الذي أخذته هو وباقي معارفها من المصريين، وقد اشتهرت منسوجات الفنيقيين المصبوغة باللون القرمزي، كما وأنه ينسب إلى هذه الأمة اختراع فن الكتابة التي وصل منها إلى اليونان ، وقد اشتهرت مدن فنيقيا منها مدينة صيدا وصور. (4-1) مدينة صيدا
وبينما كان جماعة من الكنعانيين قد توجهوا نحو ديار مصر وفتحوها في ذلك العصر «ملوك الرعاة» قد كان من بقي من مدينة صيدا من الكنعانيين وهم المعبر عنهم بالصيداويين «أي سكان مدينة صيدا» يظهر أنهم لم يكن لهم أطماع حربية ولا رغبة جهادية في الأرض القارة، فلذلك انصرفت قوتهم وتجردت نشاطتهم وشهامتهم للتشبت بالأعمال البحرية، وقد مكثت «صيدا» في قبضة المصريين من العائلة الثامنة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين.
وفي عصر فرعون رمسيس الثالث ملك مصر أغار على فنيقيا قوم يعرفون بالقوم الفلسطينيين، وهم قوم كانوا قد خرجوا بطريق البحر من جزيرة «كريت»، وكان أول نزولهم على سواحل بر الشام نواحي «غزة» و«أشدود» و«عسقلان»، وبعد ذلك بنحو مائة سنة كانت قد اشتدت قوتهم، وامتدت شوكتهم حتى تعلقت أطماعهم بأن يستولوا على سائر بلاد سوريا الجنوبية وتجاروا على أن شنوا الغارة على بني إسرائيل ووقعت لهم عدة وقائع حربية كان لهم فيها النصر عليهم وبذلك استولوا على سائر بلاد بني إسرائيل، وأذاقوهم أشد الجور والظلم مدة أكثر من نصف قرن وفي سنة 1209ق.م قام أسطول من سفن الفلسطينيين المذكورين، ووقف على حين غفلة أمام مدينة صيدا ولم يكن عند أهلها استعداد لذلك، فنزلت السفن الفلسطينية على مدينة «صيدا» الفنيقية العظيمة هذه التي كانت بنت كنعان البكرية، وأخذوها بالقوة القهرية وأخربوها وأزالوها من ظهر الدنيا بالكلية، وهذا هو المسمى بعصر الصيداويين أي وقت أن كانت صيدا هي مركز قوة الفنيقيين. (4-2) مدينة صور
وقد كانت جموع الأقوام المهاجرين من أهل «صيدا» قد اجتمعوا في مدينة صور، وكانت هذه المدن لغاية ذلك الوقت من المدن ذات الدرجة الثانية من جملة المدن الفنيقية، وبواسطة هذه الحادثة تحولت حالها وتغيرت صفتها وارتقت حالتها دفعة واحدة، وبلغ عدد سكانها إلى أكثر من أضعاف ما كانوا عليه مرتين، وصارت هي الكرسي الأصلي والمركز السياسي لسائر المدن الفنيقية بعد أن كانت لهم هي المركز الديني فقط، وخلعت مدينة صيدا من كل ما كانت عليه من السعادة والرفاهية ودرجة الأعلوية وكان بها معبد بعل ملوخ (ميلكارت).
ذكر محالفة مدينة صور مع بني إسرائيل في سنة 1051ق.م
وقد كان نزول القوم الفلسطينيين المذكورين سببا في تبديل أحوال العلائق التي كانت بين بني إسرائيل والفنيقيين في ذلك الوقت، وذلك أن الإسرائيليين في أول مبادئ فتحهم لبلاد الشام كانوا أعداء للصيداويين، كما كانوا كذلك بالنسبة لسائر الأقوام الكنعانيين، ثم لما رأى بنو إسرائيل والفنيقيون أن القوم الفلسطينيين قد شنوا الغارة عليهم دفعة واحدة وظفروا بهم، فخوفا من أن يستولوا عليهم ويستعبدوهم استعبادا مخلدا تمكن في أذهان الطرفين شدة لزوم عقد محالفة بين الجانبين، وكان الملك «هرام» الثاني ملك صور معاصرا لسيدنا داود عليه السلام ملك اليهود، فبعث إليه رسلا من طرفه عقدوا معه عقد محبة بين الملكين المذكورين، ثم تفرغ الملك هرام إلى بناء الهياكل والمعابد والقصور بمدينة صور وغير ذلك، فبينما كان ملك صور المذكور مشتغلا بهذه الأعمال النافعة العظيمة؛ إذ توفي داود وخلفه على سرير الملك ولده سليمان عليهما السلام، فبادر ملك صور وهو هرام بأن بعث إلى القدس الشريف سفارة لقصد تهنئة ولد حليفه على تقليده بملك بني إسرائيل، وكان داود قد عهد قبل وفاته إلى ولده سليمان بأن يبني هيكل بيت المقدس لعبادة المولى سبحانه وتعالى، فطلب هرام لمساعدته، وتعاهدا على أن يعملا بمصاريف مشتركة، وذلك سنة 1018ق.م، ولما مات هرام المذكور خلفه ملوك لا فائدة في ذكرهم بالنسبة لعلم التاريخ. (4-3) تأسيس مدينة قرطاجة
ولما مات «ماتان» ثالث ملوك هذه العائلة كان قد خلف اثنين، أحدهما ذكر يبلغ من العمر 12 سنة يدعى باسم «بيجماليون»، والثاني أنثى كانت أكبر منه سنا تسمى «ألياسار»، وكان أبوهما قد عهد إليهما بالاشتراك في الحكم، وكان عوام الرعية يرغبون في تغيير صورة ولاية الأمر الفنيقية من هيئة الحكومة الملوكية ويبدلونها إلى هيئة دولة أهلية، فأثاروا فتنة داخلية، وولوا على سرير المملكة الصورية بيجماليون وحده دون أخته، واتخذوا له مجلس شورى من أرباب المناصب الدولية المساعدين على هيئة الدولة الأهلية، وبذلك خرجت أخته من حق المملكة، فما كان منها إلا أن تزوجت برئيس طائفة خدمة المعبود «ميلكارت» المدعو «زيشاربعل»، فقتله بيجماليون المذكور؛ إذ كان يرى أنه مزاحم له على سرير المملكة، فتعصبت «ألياسار» مع جم غفير على عزل أخيها، فقويت الفتن واشتدت المطاعنة للحصول على الغرض المذكور، فلم ينجح سعيهم بمدينة صور، فصمموا على الخروج من ديارهم الصورية استنكافا من أن يبقوا فيها تحت ذل العصبة الأهلية، واستولوا على السفن المتجهزة للإقلاع على حين غفلة، وركبوا فيها وسافروا في البحر تحت قيادة «ألياسار»، وساروا حتى نزلوا بساحل أفريقا، واختطوا هناك مدينة قرطاجة «لعلها الآن تونس»، وذلك سنة 869ق.م، وصارت هذه المدينة قرينة «روما» الكبيرة - كما سيأتي - وسميت «ألياسار» المذكورة باسم ديدون (أي الهاربة باللغة الفنيقية، ومعنى قرطاجة المدينة الجديدة).
وبعد ذلك استمر ملوك صور مدة من الزمن في حروب بينهم وبين ملوك آشور إلى أن وقعت فنيقيا وما جاورها من المدن في قبضة الآشوريين، أما مدينة صور بعد أن حاصرها بختنصر ملك بابل مدة 13 سنة ودمر جزءا منها، انتقلت على جزيرة صغيرة مجاورة للساحل، إلا أنها لم تقدر على إعادة مجدها القديم، ثم وقعت مملكة فنيقيا بعد ذلك في حوزة فرعون مصر «واح أبرع»، وبعده دخلت ضمن مملكة فارس أيام قمبيز ملك العجم. (4-4) الأراميون
كان الأراميون الذين هم من بني سام ساكنين من منذ الأزمان الغابرة شمال سوريا الممتدة من جبال لبنان لغاية نهر الفرات، ولم ير في التاريخ ما يدل على أنها انضمت إلى بعضها، بل بقيت فروعها متفرعة، كل فرع قائم بذاته، وسنقص بالذكر أشهر هذه الفروع؛ كان الخيتاسيون أحد فروعها، وهي التي تلفت من القوى أقصاها، ومن الصولة أعلاها، حتى اقتدرت بما لها من قوى وعزائم وجليل الهمم على مكافحة فرعون مصر خصوصا رمسيس الثاني صاحب الفتوحات الباهرة، ومن أشهر مدن سوريا مدينة دمشق التي بعد أن انفكت من أسر الإسرائيليين ارتقت إلى درجة سامية من العز حتى صارت قاعدة مملكة شهيرة لها شأن عظيم في التواريخ، ومع كل ذلك لم نجد نصوصا تاريخية تدل على أن بلاد سوريا توحدت فيها الكلمة، بل توالت عليها القرون وهي متجزئة بين ساكنيها، وهذا التفرق وعدم توحيد الكلمة بين أهلها أضعف شوكتها، وبذا لم تتمكن من مصادمة هجمات الفاتحين العديدين الذين ساروا بالتعاقب على بلاد سوريا الغربية على ممر الأعصار، وبعد أن تعاقب عليها المصريون والآشوريون والبابليون انتهى أمرها بالدخول ضمن مملكة الفرس، واشتهرت على من جاورها من الممالك. (5) في تاريخ العبرانيين
كان إبراهيم الخليل عليه السلام من ذرية سام بن نوح عليهما السلام، وهو جد العبرانيين والعرب، ولد في مدينة أور (أورفا أو الرها) بالفرات، فهجر وطنه سنة 2200ق.م، ووصل أرض كنعان بجنوب الشام، وكان من نسله إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، الذين قاموا بعبادة الله وحده حينما كانت جميع الأمم غارقة في بحر الضلال يعبدون الأوثان، ولما ترقى يوسف عليه السلام، أحد الأسباط الاثني عشر أولاد يعقوب «إسرائيل» عليهم السلام إلى درجة سامية في عصر ملوك الرعاة أحضر بني إسرائيل وأسكنهم وادي غسان (المعروف الآن برأس الوادي)، ومن المحتمل أن حسن استقبال ملوك الرعاة لأولاد إبراهيم عليه السلام مترتب على بعض المجانسة في الشبه بين هذين الجنسين، وبعد أن قطن العبرانيون بمصر أربعة قرون كثر عددهم؛ حيث صاروا أمة لا تحصى، وكانت فراعنة العائلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة يبغضونهم كلما تذكروا عصر ملوك الرعاة، خصوصا لما عاينوا سرعة نمو هذا الأمة الأجنبية المغايرة لهم في الدين والعوائد، فحملوهم ما لا طاقة لهم به، وعاملوهم معاملة السوء، واستعملوهم في الأشغال الجسيمة التي شرعت فيها العائلة التاسعة عشرة مدة رمسيس الثاني؛ حيث استعملهم في تشييد هيكل مدينة بيتوم ورمسيوم بوادي غسان.
وكان موسى عليه السلام من نسل بني إسرائيل، وتربى في دار الفراعنة المصرية، وتعلم ما بيد الكهنة المصرية من العلوم، وقام لتخليص قومه، فنجاهم من العذاب، فقادهم إلى خارج مصر، ومن المحتمل أن يكون أحد خلفاء منفطا الأول هو فرعون ذلك العصر ، وكان أذن لبني إسرائيل بالخروج ثم ندم على ذلك واقتفى أثرهم بجيشه الجرار، فغرقوا جميعا في بحر القلزم (خليج السويس)، وقد ذكرت التوراة أنه هلك مع قومه في ذلك البحر.
أما العبرانيون فإنهم بعد ما جاوزوا البحر مكثوا في صحراء وادي التيه «بجبل الطور» في بلاد العرب مدة أربعين سنة، وأوحى الله إلى نبيه موسى عليه السلام بجبل الطور قانونا كلفهم بعبادة الله وحده سبحانه وتعالى، وعلمهم آيات أصول الأدب، وأدخل فيهم الحياة الدينية والمدنية، ولما مات موسى عليه السلام قام بالأمر بعده يوشع عليه السلام، وأغار بهم على أرض كنعان، فاستولى عليها وقسم أرضها التي على شاطئ نهر الأردن بين الأسباط الاثني عشر أولاد يعقوب عليهم السلام، وكانت هذه الأسباط عبارة عن أمم متعاهدة مع بعضها يجمعها علاقة الدين والأحاديث العامة، ولما كان العبرانيون تحيطهم الأعداء من كل ناحية جعلوا لهم حاكما، سموه قاضيا؛ ليدفع صولة الصائلين، وكان أشهر هؤلاء القضاة «جزعون» و«نفتح»، وهما اللذان خلصا قومهما من جور جيرانهم، وأما شمسون فكان ذا قوة مفرطة، فزع منها أهل فلسطين ثم شمويل عليه السلام، وكان حبرا وقاضيا للاثني عشر سبطا، وأراد أن يحدث حادثة كبيرة في ترتيب دولة بني إسرائيل؛ لقصد زيادة تثبيت دولتهم، فشرع في جعل ولاية أمرهم العليا وراثية لعائلته، لكن لم يتيسر فيهم من يقوم بواجب العدل والإنصاف، وصاروا يأخذون الرشا على الحكام، فحصلت فتنة داخلية، وأراد بنو إسرائيل أن يقيموا عليهم ملكا ينظر في أمورهم، فامتنع من ذلك أولا؛ مستندا للأصل القديم المقتضي أن بني إسرائيل لا ملك لهم غير الله سبحانه وتعالى، ثم لما أبوا الإجابة توجه نظره إلى شاب جميل الصورة بسبط بنيامين، وهو شاول - المعروف في تاريخ أبي الفدا باسم طالوت - فانتخبوه ملكا عليهم، وهو أول من تلقب بالملك منهم، وذلك في سنة 1092ق.م. (5-1) تاريخ بني إسرائيل مدة ملوكهم
ذكر شاول أو طالوت 1092-1056ق.م
وقام شاول المذكور بقيادة بني إسرائيل، لكن تملكه على الأمة العبرانية وولايته على الملة الإسرائيلية لم تكن إلا ولاية جهادية ومملكة عسكرية لا غير، بما أنه استمر مدة مديدة وهو تحت طاعة صاحب الولاية الدينية، وهو شمويل، وقد كان ملك العمونيين المدعو «نابال» كان قد غزى بني إسرائيل، ووضع الحصار على إحدى مدنهم «يبس» أو «سالم» التي نشأت في مكانها «أرشليم»، فجمع شاول من بني إسرائيل نحو ثلاثة آلاف مقاتل، فانهزمت أمة العمونيين، ونزل مدينة «جلجالة» منتظرا قدوم العبرانيين للتحية عليه، فحيوه بملك بني إسرائيل من جديد، وهنئوه بهذا النصر السديد، وكان الفلسطينيون قد عادوا بجنود عديدة للغارة على أرض بني إسرائيل بالثاني، ولكن انتصر عليهم؛ حيث ساعده ولده «يوناتاس» الذي كان اشتهر بالشجاعة والإقدام، وبعد ذلك شن الغارة على العمالقة انتقاما لما فعلوه ببني إسرائيل؛ حيث كانوا قد منعوهم عند حضورهم من مصر للتوطن بأرض كنعان، فحاربهم وقتلهم وأسر ملكهم المدعو «أجاج»، ثم إنه خالف أمر شمويل؛ حيث كان قد أمره بقتلهم وقطع دابرهم، فعفا عن «أجاج» المذكور، ومن ثم تمت المقاطعة بين شاول وشمويل، وتحكمت العداوة بينهما، وهاجر شمويل إلى بيت لحم، وجعل داود ملكا على بني إسرائيل، وكان شاول قد أصيب بداء «الماليخوليا»، وكان لا يسكن إلا إذا جاء داود عليه السلام، وضرب له على عوده المشهور، فأحبه وغمره بنعمه، ورقاه لمرتبة سائس ركابه، وهو لا يدري أنه قد لبس التاج في السر بدلا عنه، ثم اشتهر داود بقتل «جالوت» أحد أبطال الفلسطينيين، فلما عاين ذلك الأعداء فروا على أقدامهم هاربين، وتبعتهم بنو إسرائيل وفرقوا شملهم وغنموا منهم غنائم عظيمة، فلما بلغ ذلك شاول صاهره، لكن لما شاع صيته بالشجاعة عند بني إسرائيل بغضه شاول وأراد قتله ففر هاربا، واتفق أن الفلسطينيين كانوا قد شنوا الغارة على بني إسرائيل، فقتل شاول وابنه يوناتاس، فعاد داود وقلد بولاية الأمر، وذلك سنة 1056ق.م.
ذكر داود عليه السلام 1056-1016ق.م
ولما كانت الأقوام الفلسطينية يسطون على الدوام على أمة اليهود ويأخذون منهم الجزية، فلم يسع داود أن يستطع لهذا العار، فقام وحارب هؤلاء الأقوام، وأدخلهم تحت طاعته، وحارب العمالقة والأيدوميين جنوب بلاد الشام، وكذا العمونيين «سكان بلاد عمان»، وبالنسبة لذلك قامت القيامات والعصب في جميع البلاد الكائنة بين نهري الأردن والفرات، فلم ينزعج داود منهم، بل سار بنفسه إليهم، وقاتلهم واستولى على مدينة دمشق وسوريا وحمص، وشتت شمل أمة الأيدوميين بوادي الملح، وأحدث طرق مواصلات تجارية فيما بين ممالكه وبحر القلزم وأقصى بلاد آسيا وأفريقا، ونزل على القوم المسمين باسم «اليبسيين»، وهم أشجع الأقوام الكنعانيين فقاتلهم وأخذ منهم قلعتهم المسماة باسم «يبس» أو «سالم»، وهي التي نشأت في مكانها مدينة أورشليم أو بيت المقدس فيما بعد، وجعلها مقر مملكته وقاعدة دولته من ذلك العهد، وأدخل فيها النظام العسكري والمدني، وكان عصره أعظم أعصار أمة اليهود، وفي آخر سنة من حكمه خرج عليه ولده المسمى باسم «عادونياش»، وكان داود عهد بالملك لولده «سليمان»، فتخلى عن «عادونياش» أصحابه المتعصبون معه، فدخل تحت طاعة أبيه وعفا عنه.
ذكر سليمان عليه السلام 1016-976ق.م
قد اشتهر سليمان بالحكمة وفصل الخطاب. وكان أبوه وطد له دعائم المملكة، فلم يحتج عليه السلام لإقامة حروب مع أي أمة ما، غير أن أخاه المدعو «عادونياش» السالف الذكر قام عليه ونازعه في الحكم فقتله سليمان؛ ليصفو له سرير الملك من العاهات التكديرية، وبعد ذلك صرف مدة حكمه التي هي عبارة عن أربعين سنة في أنس، وكان مهادنا لكل من جاوره من الأمم، وهو الذي بنى معبد القدس الشريف حسب وصية من أبيه، فأمده «هرام الثاني» ملك صور كما تقدم، بكل ما يلزم لبنائه من عمال ومواد، وأتمه في سبع سنين، وكان يوجد به كثير من التماثيل التي لم يسمع بها.
وقد اشتهر سليمان بالحكمة كما أسلفنا، فكان مهابا محترما عند جميع الأمم، حتى سعت إليه بلقيس ملكة سبأ من أقصى بلاد العرب لسماع حكمته، وتزوج بها، وكان يميل للمشروعات الجسيمة، فكانت أساطيله تجول الإقيانوس الهندي لتبحث فيه على الذهب والعاج والأمتعة الثمينة، وكان ملاحوه من الفنيقيين، ولا يخفى أن هذا الأمر يحتاج لتبذير أموال جسيمة، فلذا ألزم أهل ملته بالمغارم، فحصل لها ضجر عظيم ظهرت نتيجته بعد موته. (5-2) ذكر مملكتي يهوذا وبني إسرائيل
ذكر راحبعم
وبمجرد موت «سليمان» كان قد قام بعده على الفور ابنه «راحبعم»، وذهب إلى مدينة سيشار أو «نابلس»؛ إذ كان قد اجتمع فيها سائر بني إسرائيل؛ ليقلدوه ملكا عليهم، وكان رئيسهم رجل يدعى يربعم، فطلبوا منه أن يحط عنهم بعض ما كان أبوه قد كلفهم به من كثرة الضرائب عليهم، فامتنع من ذلك وأغلظ لهم الجواب، فقام جميع بني إسرائيل ودخلوا خيامهم، فأرسل «راحبعم بن سليمان» وزيره المدعو باسم «عادورام» لمنع هذا القيام فرجموه بالأحجار حتى مات، وخشي «راحبعم» على نفسه ففر هاربا إلى أورشليم، وخرج عن طاعته عشرة أسباط من الإسرائيليين ما عدا سبطي يهوذا وبنيامين؛ حيث بقيا على طاعته، وبايع الأسباط العشرة يربعم المذكور، وهكذا انقسمت إلى قسمين: قسم في الجنوب: عبارة عن سبطين، وسمي مملكة يهوذا، وقاعدته القدس الشريف. وقسم في الشمال: عبارة عن عشرة أسباط، وسمي مملكة بني إسرائيل، وقاعدته مدينة السامرة.
ذكر مملكة يهوذا
مكنت هذه المملكة نحو 893 سنة، وفي السنة الخامسة من حكم راحبعم بن سليمان دخل شيشنق رأس العائلة الثانية والعشرين أرض فلسطين بجيش جرار، واستولى على بيت المقدس ونهب الأواني المقدسة من الهيكل، وكذا القصر السليماني، ثم رجع إلى بلاده بهذه الغنائم، وذلك سنة 970ق.م وقد كابدت هذه الدولة محنا جسيمة من مهاجمة الأمم المجاورة لها، من ذلك: أن سنحاريب هدد بيت المقدس، فالتزم حزقيا ملك اليهود وقتئذ أن يعقد معاهدة مع ملك مصر سباقون الأتيوبي، فهلك من جيش سنحاريب عسكر لا تحصى - كما سبق ذلك - ثم وقع منشا بن حزقيا الصالح في قبضة «أسارادون» ملك آشور سنة 675ق.م، ولما قام «نيخاؤس الثاني» تقدم إلى نهر الفرات، وحاصر مدينة قرقيش الكائنة على هذا النهر، بيد أنه انهزم أمام خصمه بختنصر، وعاد المصريون بالخيبة إلى بلادهم، أما البابليون فاستولوا على بيت المقدس، وقتلوا ملكه وولوا بدله صدقيا بن يوشيا، فعصى على بختنصر، واستنجد بملك مصر «أبرياس» «واح أبرع»، فانهزم أمام خصمه، ووقع بيت المقدس في يد بختنصر بعد حصار ثمانية شهور، ودمره الكلدانيون، وأسر صدقيا بن يوشيا الذي هو الملك المتمم للعشرين بعد سيدنا داود عليه السلام، وأسروا جميع من نجا من القتل.
ولو أنه لم يكن لليهود دور مهم في السياسة مع أنها دون غيرها من الأمم التي يختلط بها في المدن، إلا أننا نرى لها تأثيرا مهما على الآداب لمحافظتها على عقيدة وحدانية الله سبحانه وتعالى، ومع أنها احتجبت عن العلوم والصنائع، إلا أنها قد ارتفعت بواسطة الوحي إلى درجة عالية من سمو الأفكار كما يتبين ذلك من صحف الأنبياء التي التوراة إحداها.
ذكر مملكة بني إسرائيل
وقد بقيت هذه المملكة نحو 255 سنة، وفيها انتشرت عبادة الأوثان، ونرى تاريخها مشحونا بالكبائر والكفريات، حتى قام عليها ملكا آشور، وهما «تجلات فلصر الثاني» و«سلمنصر»، ودمراها وسبيا أهلها، ثم بعد ذلك بمدة حضر سرجون، وحاصر مدينة السامرة، ثم استولى عليها، ونهبها ونقل أهلها إلى بلاد ميد، وأرسل إلى تلك المدينة بدلهم بأمم من آشوريين وكلدانيين.
الفصل الثالث
في تاريخ مصر وهي في حكم الفرس
(1) العائلة السابعة والعشرون الفارسية
ذكر قمبيز بن قيروش من 529-525ق.م
ولما تمكن الملك قمبيز من ديار مصر وتسلطن عليها، سعى في أن يجذب قلوب المصريين إليه بواسطة تقليد من بقي من أعيانهم بعلامات الامتياز، وقرب إليه أمناء الديانة؛ ليتعلم منهم ما اشتهروا به من العلوم والفنون، حتى إنه كان قد اتخذ لنفسه ألقابا سلطانية مصرية، وأراد أن يوهم الناس أنه من نسل العائلات الملوكية الفرعونية، وسمى نفسه أيضا بختنصر الثاني.
وكانت مصر قد تمهدت للقوم الفارسيين، ولم ير فيها كما في عهد افتتاح الأتيوبيين لها واستيلائهم عليها في العصر السالف؛ أن قام بالأقاليم البحرية «أي الدلتا» منها بعض عصب أهلية، ولا حصل بها حروب حربية لقصد إخراج القوم الفاتحين لها منها، بل كان فتح الديار المصرية بالجيوش الفارسية قد أفزع سائر الأمم المجاورين لها، حتى إن الليبيين أذعنوا له بالطاعة من غير قتال ، وكذلك اليونان سكان برقة، ولما صفا له الحال شرع في ثلاث غزوات: الغزوة الأولى كانت مع أهل قرطاجة. والثانية نحو «واحات آمون». والثالثة نحو بلاد الأتيوبيا. فجهز للأولى أسطولا مركبا من أناس بحارة من الفنيقيين أي الصوريين، فامتنعوا من موافقته على التوجه للهجوم؛ لداعي قرابتهم بالقرطاجيين، فتوجه قمبيز بجنوده إلى بلاد الأتيوبية بجراءة لا يتصورها العقل غير ملتفت لمؤنة جيوشه من الذخائر الضرورية، ولا لما يلزم لنفسه من وسائل الاحتراس، ولما وصل إلى مدينة «طيبة» الصعيدية وجه فرقة من جنوده الفارسية تبلغ نحو خمسين ألف عسكري لمحاربة الآمونيين «سكان واحة سيوه» التي بها معبد آمون عند اليونانيين باسم «جوبيتير»، وأمر عسكره بإحراق ذلك الهيكل وما فيه من الكهنة، واستمر على السير بباقي جنوده إلى جهة بلاد الأتيوبية، وأراد أن يختصر الطريق، فانحرف عن شواطئ النيل من عند اعوجاجه الكبير، وتوغل بعساكره الكثيرة في الصحراء المعروفة الآن بصحراء «كروسكو» لكونها أقرب طريق للأتيوبيا، فلما قطع ربع الطريق ووصل إلى سهول متسعة من الرمال لا شجر فيها ولا علف للدواب، ولا ماء للشرب، فخلص زاده ولحق جيشه القحط والجوع حتى أكل بعضهم بعضا بالإقراع، ثم خاف على نفسه فرجع هو ومن بقي معه. وأما من توجه منهم إلى واحات «آمون» فلم يعرف لهم خبر، ولم يقف لهم على أثر، وبقي حالهم مجهولا لغاية الآن، وقد روي عن بعض الكهنة الآمونيين، أن فرقة الجيوش الفارسيين الذين كانوا قد توجهوا إلى تلك الناحية، لما وصلوا إلى نحو نصف الطريق من تلك الصحاري الليبية كانت قد قامت عليهم من جهة الجنوب ريح عاصفة شديدة، فدفنتهم تحت جبال من الرمال.
ثم اعتراه داء الجنون، وصارت أفعاله اختلالات ومفاسد، حتى اتفق عند رجوعه من غزوته الخائبة إلى مدينة «منف» عيد إقامة معبود لهم جديد، وهو العجل المشهور باسم «أبيس»، حيث مات لهم عجل قديم، فظن أنهم فرحوا لهزيمته، فقتل الكهنة وأرباب الحل والعقد دون أن يسألهم عن الأسباب، وطعن العجل معبودهم، فأدماه على الأرض، ونهب ما كان بالمقادير من النفائس القديمة، وقتل أخته التي هي زوجته أيضا، وكان قد تزوج بها على خلاف عاداتهم؛ إذ كانت العادة عندهم لا تجوز للأخ أن ينكح أخته إن كانا شقيقين.
ويقال إنه كان يتسلى بقتل الأعجام ويذبحهم كالأغنام، وقد قيل إنه دفن اثني عشر رجلا من أعناقهم أحياء في ساعة واحدة، وهال عليهم التراب؛ إذ خطر له أنهم يستحقون هذا العقاب، ونبش قبر الملك أمازيس، وضرب بالمنخاس جثته، وأيضا القبر المشهور باسم سيرابيوم «مدفن بسقارة كان يدفن فيه العجل أبيس بعد موته»، وأخذ ما كان به من الحلي، وإلى غير ذلك من الأحوال الشنيعة، ثم خرج من مصر بعد أن جعل نائبه على مصر «أرياندس» العجمي، قاصدا بلاد فارس لإطفاء الفتنة التي أقادها غومات المجوسي المسمى أيضا «جوماتيس» المدعى أنه «سمرديس» أو «برديا» أخو قمبيز؛ لكونه كان مساويا له في الذات، ولما وصل إلى بر الشام وجد غومات يدعو الناس للمبايعة، وبالجملة يطلب مبايعة عسكر قمبيز، فمنعهم من المبايعة متعللا أن أخاه قتل، وأن غومات المذكور ليس من بيت الملك، فلم يصغوا لقوله، بل حملوه على الحقد لأخيه، ثم نزل ليقضي بعض حاجته، وبعد قضائها أراد أن يركب جواده، فانزلق سيفه من غمده وجرحه جرحا بليغا ألزمه الفراش، فمات بعد ذلك بقليل.
ذكر سمرديس الكذاب
واستمر المجوسي المذكور ملك بلاد العجم حتى ظهر غشه، فقام سبعة من الأعيان، كان من جملتهم رجل يدعى داريوس - المعروف عند مؤرخي العرب باسم دارا - فأشار على الأمة بالتوجه في الحال ليهجموا على الملك المجوسي في قصره ويقتلوه، فوافقه جميعهم على ذلك، وقتلوه وكل من صادفوه في قصره من المجوس، وبلغ هذا الخبر إلى جميع البلاد الفارسية، فقام أهل البلاد وقتلوا كل من قابلهم من المجوس، ولما تم الأمر بهذا الوجه المذكور اجتمع السبعة المتعصبون على من يكون الملك؛ إذ كان أهل بيت الملك قد انقرضوا، فاتفقوا على أن يتوجه كل واحد من السبعة الأعيان المذكورين من صباح يوم الغد راكبين على ظهور أفراسهم أمام المدينة، وأول من يسلم على الشمس وهي طالعة بأول صهيل حصانه صار هو الملك المتقلد بتاج الملك دون غيره منهم، وكان الذي فاز بذلك هو دارا المذكور بواسطة حيلة وخديعة من سائسه، فتولى السلطنة سنة 521ق.م.
ذكر دارا الأول بن هيستاب 521-485ق.م
وبمجرد موت قمبيز كثرت الفتن، واشتدت العربدة بمملكة فارس، وما زالت تأخذ في الازدياد إلى عهد تقليد دارا بتاج المملكة، وكان بمدينة بابل رجل زعم أنه ابن الملك نابونيد «والد بلطازار» الذي هو آخر ملوكها، وعصى على دارا فتوجه إليه بجنوده، وقاتلهم أشد القتال، فانتصر عليهم على شواطئ نهر الدجلة، وأخرى على نهر الفرات، فالتجئوا إلى مدينة بابل فحاصرهم بها مدة عشرين شهرا، ولم ينته هذا الحصار - حسب ما حكاه هيرودوت (المؤرخ اليوناني) - إلا بواسطة خديعة حصلت على يد رجل فارسي يقال له زوبير (بالزاي المعجمة)، وهو أحد الأمراء السبع السالفي الذكر، فقطع أنفه وآذانه، وذهب على هذه الهيئة إلى القوم البابليين؛ لقصد أن يوهمهم أن الملك «دارا» هو الذي فعل به تلك الفعلة القاسية، وأنه انحاز إليهم؛ لينتقم لنفسه من سوء معاملته هذه الظاهرة، فتمت عليهم هذه الحيلة وصدقوه، فسلم المدينة لملك فارس بواسطة هذه المكيدة، فكافأه مولاه بأن قلده الولاية السترابية على بابل.
وحصلت جملة فتن في الأقاليم الشمالية، لكنها قمعت بعناية الملك دارا، وبعد أن أطفأ سائر الفتن الأهلية، ورتب جميع بلاد سلطنته ترتيبا سياسيا ، تراءى له من عزم الأمور السياسية وحزم الآراء الاحتراسية فتح بلاد أوروبا، فشن الغارة على القوم السيتيين من جهة شمال بحر «بنطوكسان»، فاجتاز بوغاز البسفور - وهو بوغاز القسطنطينية الآن - وذلك بوضع سفنه بجانب بعضها، واخترق أراضي «تراقيا» وأنشأ قناطر على نهر الدانوب «الطونة»، واجتاز بهم عليها وأقام من كان في جيشه من اليونانيين حرسا عليها، وأخذ يتتبع الأقوام السيتيين في تلك الجهات، فلم يثبتوا أمامه، بل صاروا كلما دنا منهم يتباعدون، وهكذا ما زالوا ينتقلون ويرتحلون أمام الفرس في سهول متسعة لا آخر لها، حتى كادت أن تنفذ ذخائر جنوده ، ويلحق القحط جيوشه، فرجع القهقرى لأجل أن لا يقع في مثل ما وقع فيه سلفه «قمبيز» من المصائب بديار مصر، وكانوا قد تركوا مرضاهم في الطرق ولم يحملوهم معهم؛ حيث كان العدو كاد أن يلحقهم ويبطش بهم؛ حيث علموا أن جيوش الفرس قد اضمحلت قوتها وعاد «دارا» إلى بلاد آسيا بعد أن هلك عدد عظيم من جيشه. وكانت مصر في أيامه سعيدة؛ لأنه عامل أهلها بحسن المعاملة كي ينسوا ما وقع من سلفه قمبيز، وهذا الملك هو الذي شرع في عملية حفر الترعة التي توصل النيل بالبحر الأحمر - كما دلت المنقوشات الفارسية التي وجدت بتلك الجهة - وأصلح الطريق الموصل من بندر قنا إلى القصير، وأمر بقتل «إيرياندس» العجمي؛ حيث ظلم المصريين، ولما كانت عادة الفرس الجور على رعاياهم خرجت مصر عن حكمه في السنة الأخيرة، ولبس التاج الملوكي المصري أحد ذرية بساميتيك المدعو «خببش» فاجتهد دارا في إدخالها تحت الطاعة، فمات والفتنة باقية بمصر سنة 485ق.م.
ذكر الملك خببش
وكان استيلاؤه على مصر باتفاق رأي الأمة المصرية، قال «مارييت»: «وفي مبدأ حكمه حصن مصر بالقلاع المتينة، حتى صارت مستعدة لدفع هجوم الفرس عليها، وكان مكث ثلاث سنين في تقوية الوجه البحري وتحصين الأباطح وأشاتيم النيل؛ لأنه كان يظن أن الفرس ستهاجمه من البحر، فجعل أقوى استحكاماته في السواحل، فلما فاجأه شيارش بالهجوم لم تثبت أهل الوجه البحري في صف القتال إلا قليلا حتى استسلمت العساكر الفرس، فعاملتهم الفرس معاملة القسوة والجبروت، وضربوا المغارم على كهنتهم، ونهبوا ما كان في معبد «بوتو» من الأمتعة والنفائس، وفي خلال تلك الواقعة اختفى خببش المذكور، ولم يعلم له مقر إلى الآن.»
ذكر الملك شيارش 485-492ق.م
ولما دخل مصر وضبط أهل الفتنة وعاقبهم، جعل أخاه «أخيمينيس» واليا على مصر، ومات الملك «شيارش» بعد ذلك بقليل، وبمجرد موت الملك المذكور رفع المصريون لواء العصيان؛ لأنهم كانوا يبغضون الأعجام، ولو أنه وجد مرسوما في هيكل من هياكل المصريين ما يفيد مدح الأعجام، فقد وجد منقوشا في آثارات لقصر التعبير عن شيارش بأنه المولى المحسن سيد الجميع، فهذه كتابة رسمية فقط، والدليل على بغض المصريين لهم أنهم كانوا يطلبون استقلالهم عند موت كل ملك من هذه الدولة.
ذكر الملك أرتخشيارش
وهو الرابع من ملوك الفرس، وقد اجتهد في قطع الفتن القائمة بأرض مصر، وكان بين المصريين واليونانيين محالفات وعهود على أن يطرد اليونانيون من سواحلهم سفن دولة فارس وعساكرها، حتى لا يبقى بمصر دولة للعجم كبيرة، ووضعت حكومة أتينا سفنها الحربية في البحر؛ لمنع عبور سفن العجم، وبعثت إلى مصر جنودا يونانية لتنضم إلى جنود مصر، فعند ذلك انهزم جند العجم، وانحازوا إلى جهة منف، فهجمت عليهم جنود المصريين في تلك الناحية، فاجتهد هذا الملك في تفريق عصبة اليونانيين من المصريين، وقبض ثانيا على زمام مملكة مصر واستعبد أهلها وأذلهم، واستمر على ذلك حتى مات.
ذكر الملك شيارش الثاني، وسوغوديانوس، ودارا نوطيس
ولم يحكم الأول إلا مدة 45 يوما، ثم قتله أحد أولاده المدعو «سوغوديانوس»، فحكم ستة أشهر وخمسة عشر يوما، ثم عزله وقتله دارا الثاني الملقب «رع ميامون»، وأخذ الحكم منه، ولبث حاكما تسع عشرة سنة على قول «مانيتون»، وفي عصره كانت دولة الفرس في اختلال، ولحق بأهلها الضيم والهوان، وكان متزوجا بخالته، وكانت امرأة قاسية فاسدة، فلما رأى المصريون ذلك الاختلال استدعوا «أميريتيس» للتخلص من دولة الأعجام، فحضر وأقاموه رئيسا عليهم سنة 408ق.م، فهم ومن معه من العساكر أن يطرد نائب دارا وعساكره المحتلة بالديار المصرية وأخذ في طردهم، ومات دارا في أثناء ذلك، وملك المصريون وطنهم، واشتغل بالملك، وأجرى الأصول والأحكام القديمة من سياسة وديانة، وبهذا الملك انقرضت دولة الفرس من مصر التي هي عبارة عن العائلة السابعة والعشرين، فكانت مدتها 121 سنة. (2) ذكر العائلة الثامنة والعشرين الصاوية
ذكر الملك أميريتيس
كان هو وأبوه «بوزيريس» حاكمين على بعض الأقاليم المصرية، ولكن لما استدعى المصريون «أميريتيس» سنة 408ق.م تقريبا من صا الحجر قام وطرد العجم بعزمه وتدبيره، فملكوه عليهم، فكان هو المؤسس للعائلة الثامنة والعشرين، وبمجرد صعوده على كرسي المملكة بعد وفاة دارا الثاني اشتدت بمصر الفتن، وقامت القيامات، فسعى في إطفائها وتوطيد سطوته وتأييد نفوذه، فلما اعترف له غالب المصريين بالسيادة تلقب بالألقاب الفرعونية، ومع كونه حكم سبع سنين فإنه أصلح ما دمرته دولة فارس من المعابد والهياكل والصنائع الأهلية بعد بذل همته في الحروب الطويلة مع العجم التي كان بها خلاص وطنه منهم، وبوفاته انقضت العائلة الثامنة والعشرون.
العقد الثمين (3) ذكر العائلة التاسعة والعشرين الأشمونية
نسبة إلى أشمون الرمان «منديس»، وكان ابتداء حكمها سنة 400ق.م تقريبا، وعدد ملوكها خمسة؛ الأول «نفروطس».
ولم يزل هذا الملك من وقت توليته على مصر يهدد الأعجام، ويبعث إليهم العساكر، واجتهد في عقد معاهدة مع جمهورية إسبارطة اليونانية لمعاونته على الأعجام؛ لأنها خصم للفريقين، وشيد قلاعا واستحكامات على حدود بر الشام، ومات بعد أن حكم خمس سنوات.
ذكر الملك هوقور
كان هذا الملك كسلفه أيضا في عقد المعاهدات مع الأجانب، فعقد معاهدة مع أهل قبرص والعرب وبرقة، وبالأخص مع اليونانيين الذين ساعدوه كل المساعدة عند محاربة العجم له ونصرته عليهم، وفي أيامه قدم جملة من حكماء اليونان ليتعلموا الحكمة من حكماء مصر، وكان من جملتهم أفلاطون الحكيم، ومات بعد أن حكم 13 سنة. (4) ذكر العائلة الثلاثين السمنودية
نسبة إلى سمنود، وكان ابتداء هذه العائلة سنة 378ق.م تقريبا، وعدد ملوكها ثلاثة: (1)
رأس هذه العائلة هو «نقطانب الأول »: وكانت أيامه كلها حروب وشدائد بينه وبين العجم، فقد حول جيوشه نحو الطينة أو الفرمة، فأغار الأعجام على مصر من جهة مدينة أشمون الرمان، وطردوا العساكر المصرية التي بتلك الجهات، فقام نقطانب من الفرمة مسرعا إلى مدينة أشمون الرمان، ووقع الحرب بين الطرفين، فهزمت الجيوش الفارسية، واغتنم المصريون منهم غنائم شتى وتبعوهم حتى نزلوا سفنهم، ومات هذا الملك بعد أن حكم عشر سنين. (2) «طاخوس»: وكانت أيامه أغلبها محاماة عن الأقطار من العجم، وقد مكن المعاهدة مع اليونان، فبعثوا إليه جيشا جرارا تحت قيادة أجزيلاس، فلما حضر القائد المذكور أشار إليه أننا لا نهتم على العجم إذا قدموا على مصر، فقام لاستقبالهم على سواحل بر الشام، فبمجرد خروجه من حدود مصر قامت عليه العساكر وخلعوه وولوا مكانه نقطانب الثاني ابن أخيه الذي هو السبب في خلع عمه طاخوس، وكانت مدة حكمه سنتين. (3) «نقطانب الثاني»: تولى هذا الملك عقب خلع عمه فقامت ضده أخصامه، فأشار إليه أجزيلاس أن يبدد شملهم قبل انتظامهم، فقام وحاربهم وانتصر عليهم، ثم عقد معاهدة مع أهل صور وصيدا؛ إذ كانا على خوف من العجم كأهل مصر، ولذا لما قصد العجم محاربة أهل مصر ابتدءوا بمحاربة الصوريين والصيدويين، فبعث ملك مصر لمساعدتهما أربعة آلاف مقاتل، وكذا ساعدتهم أهل قبرص، فانكسرت الجنود الفارسية، فغضب من ذلك «دارا أخوس» ملك فارس من هزيمة جيشه، فجمع 300000 نفس، وسار بهم إلى مصر. فلما سمع نقطانب ملك مصر بقدوم ملك فارس جهز من العساكر ما يقوم بمحاماة وطنه، ولما حاصر دارا أخوس مدينة الفرمة «بيلوزة» خرج نقطانب قبل حصول الواقعة وفر هاربا إلى السودان فخضعت مصر للأعجام فكان هذا الملك آخر ملوك مصر الوطنيين، ومن ذلك الوقت إلى عصرنا هذا، لم تعد مصر لحكم أهلها الأصليين، بل حكمت بأمة اليونان والرومان والعرب وإلى غير ذلك. (5) مصر تحت حكم العجم المرة الثانية
ذكر العائلة الحادية والثلاثين الفارسية
عدد ملوك هذه العائلة ثلاثة: دارا أخوس، وابنه أرسيس، ودارا الثالث.
دارا أخوس:
لما حكم هذا الملك - بعد موت أرتخشيارش الثاني الذي حصل في مدته رجوع العشرة آلاف الشهيرة كما سيأتي - سمى نفسه أرتخشيارش الثالث، واستعمل القوة والفظاظة مع دولة فارس، فأهلك أبناء وبنات الملك؛ لمحو ذكر أسلافه، وأدخل مصر تحت طاعته. ويقال إنه هو الذي شيد قصر الشمع «بمصر القديمة»، وجعل فيه هيكلا، وفي عصره أخذت مقدونيا في الظهور والارتقاء بين الدول، ووجهت أطماعها إلى أخذ آسيا الصغرى من الفرس، وسهل ذلك أن أدخل الأغا «باغواس» السم في طعام الملك دارا أخوس فمات، وترك الملك لابنه «أرسيس»، ولم يكن لهذا الملك شيء من الآثار يذكر به بعد موته، ومات بعد أن حكم سنتين، وتولى بعده دارا الثالث.
ذكر دارا الثالث
وكان هذا الملك معاصرا لملك مقدونيا، وهو الإسكندر الأكبر الذي شتت دولة فارس، وهدم أركانها وهزمه في واقعة «إربل» الشهيرة بزوال مملكة الفرس، وهو آخر ملوك العجم كما سيأتي بيانه إن شاء الله عند التكلم على الإسكندر الأكبر الرومي.
الفصل الرابع
في تاريخ قدماء اليونان
اعلم أن بلاد اليونان أو هيلاس كانت مشتملة على الجزء الجنوبي من تركية أوروبا وبلاد الروم والمورة، وعدة جزائر من البحار المجاورة لها، وقد انقسمت هذه البلاد إلى خمسة أقسام وهي: أولا مقدونيا، وهي الجزء الشمالي من بلاد العارناعود «ألبانيا»، وثانيا تساليا، وهي على شكل مربع في الجنوب الشرقي من بلاد العارناعود أيضا، وثالثا: بيروس، وهي على شكل مستطيل في الجنوب الغربي من بلاد العارناعود، ورابعا: بلاد اليونان الأصلية المسماة الآن بلاد الروم، وخامسا: بيلوبونيزيا المسماة أيضا بشبه جزيرة المورة، وكان يتبعها جزائر بحر الأرخبيل وجزيرة كنديا.
وينقسم تاريخ هذه البلاد إلى قسمين عظيمين؛ الأول تاريخ الأزمنة المجهولة، أي من أول ذكرها إلى مهاجمة الفرس تحت دارا بن هيستاب سنة 490ق.م، وتسمى العصور الخرافية. الثاني تاريخها من مهاجمة الفرس إلى إخضاعها للرومانيين. (1) تاريخ الأزمنة المجهولة
قيل إن اليونان من نسل ياوان بن يافث بن نوح عليه السلام، وكانوا قديما متوحشين يسكنون المغارات، ويلبسون الجلود ويأكلون جذور النباتات والبذور، وقيل لم يك يعرفون فائدة النار، وكانوا أولا يعمرون مساكنهم متفرقة عن بعضها، ثم وبالتدريج اجتمعت المساكن حتى صارت قرى صغيرة، وهذا هو السبب في انقسام بلادهم إلى ممالك صغيرة، واستمروا على هذه الحالة حتى أتى إليهم قوم من فنيقيا يدعون أمة التيتانيين، وأدخلوا فيها قليلا من التمدن، وأخيرا انقطع هؤلاء الأقوام بسبب الحروب فعاد اليونانيون إلى حالتهم الأولى، وبقوا على ما هم عليه مدة 200 سنة، ثم دخل عندهم «سكروبس» المصري، وجمعهم وجعل سكان قسم آتيكا اثنتي عشرة قرية، وأسس مدينة «أتينا» وعلمهم زراعة الزيتون، وملك بعده رجل يدعى أمفكتيون، وفي عصره أي سنة 1455ق.م أدخل قدموس الصوري حروف الهجاء وفن الكتابة، وكان اليونان أولا يكتبون سطرا من اليسار إلى اليمين، ثم سطرا من اليمين إلى اليسار، وهلم جرا. (1-1) حرب تروادة 1194-1184ق.م
تروادة كانت مملكة عظيمة في الشمال الغربي من قسم آسيا الصغرى، وملكها في ذلك الوقت كان يدعى «برياموس»، فأحد أولاده المسمى باريس سافر إلى بلاد اليونان، ونزل عند «منيلاوس» ملك «إسبارطة»، فأخذ زوجته «هيلانة» وفر هاربا إلى بلاده ليلا، فلما أصبح الصباح وعلم ملك «إسبارطة» ما حل بامرأته هو وأخوه «أغاممنون»، وكان شجاعا تهابه الناس، وغضب لذلك أمراء اليونانيين، وقالوا إن هذه فعلة ما حصلت لأمة من الأمم، وفضيحة ما وقع مثلها بين العرب والعجم، ولئن رضينا بهذا سقطنا من أعين الناس، فصمموا على حرب تلك المدينة ونهب أهلها انتقاما لهذه الحادثة، فتجهزوا للحرب، وصحبوا معهم ألف مركب حربية لابسين جلود النمور يقودهم «أخللاوس» كالليث الكاسر ومعه جملة من الشجعان، وكان أكبرهم سنا «نيتوس» من بيلوس (مدينة بالجنوب الغربي من المورة)، وأضعفهم من أخذت المدينة بحيلته وهو «أوديسايس» أو «عوليس» من إيتسكا (مدينة بجزيرة يابونيا بالأرخبيل)، ولم يكن أعداؤهم أيضا ضعفاء، بل كان منهم برياموس أبو الأمير باريس السابق الذكر، وكان شجاعا تنقاد لشجاعته الأبطال، وكانت مدينة «تروادة» ذات أسوار متينة، وقام لمعاونته أيضا جملة من أمراء آسيا الصغرى، وتقوى أيضا بولده «هيكتور»؛ لأنه كان شجاعا تذل لشجاعته الأبطال، فلما علم أهل تروادة بقدوم اليونان إلى مدينتهم دخلوا المدينة وأغلقوا الأبواب وحصنوا الأسوار، فمكث اليونانيون عشر سنين خارج المدينة، وهم يرمونهم بالنبال، وينتظرون بروزهم للقتال، حتى اشتد بأهل تروادة ما هم فيه من الحصر والكرب، ففتحوا الأبواب وخرجوا مشعلين نار الحرب، وبعد جملة مناوشات حصلت بين الطرفين، وقتل «أخللاوس» «هيكتور»، فقتله «باريس» انتقاما لأخيه «هيكتور»، ثم علم اليونان أنه لا يمكنهم أخذ هذه المدينة؛ لشدة حصونها ومقاومة أهلها، فأخذ «أوديسايس» في إعمال حيله لفتح المدينة وهلاك أهلها، فأمر بإعمال هيكل عظيم من الخشب على صورة حصان ودخل فيه مع جملة من شجعان اليونان، وأمر بوضعه أمام تلك المدينة، وأن يقوض اليونانيون خيامهم ويوهم أهالي المدينة بأنهم كفوا عن حربهم وقتالهم، فحملوا خيامهم ورحلوا حتى وصلوا البحر ونزلوا في السفن، واستمروا سائرين إلى أن وصلوا جزيرة «ثينيدوس»، ولما عاين أهالي تروادة ارتحالهم دخلهم الغرور، وأخذوا هذا الهيكل وأرادوا أن يدخلوه من باب المدينة، فلم يسع الباب لإدخاله، فهدموا سور المدينة وأدخلوه، فلما انتصف الليل فتح «أوديسايس» بطن الحصان وخرج ومن معه من الشجعان، وصاروا يضربون وينهبون ويأسرون، ورجع أيضا باقي اليونانيين وعلا صياحهم في المدينة، ونهبوا ما بها من الأشياء الثمينة وهرب برياموس مع أولاده إلى هيكل، فأدركه بعض اليونانيين فقتلوه هناك هو وأولاده، ولم ينج من أهل المدينة سوى من هرب، وأخذ منيلاوس زوجته الملكة التي هي السبب في خراب مدينة تروادة وأكرمها غاية الإكرام. وأتت طائفة من الترواديين بعد ذلك إلى مصر وأسسوا مدينة تره «من أعمال مصر» ومن ذلك الوقت سقطت تروادة الشهيرة. (1-2) إغارة الدريانيين 1104ق.م
ذكر المؤلف «دوبركس» في كتابه أن قبيلة الدريانيين إحدى قبائل اليونان الأربع الشهيرة، «وهم الآشيون والآيوليون والآيونيون والدريانيون»، إلا أنهم لبثوا في التوحش مدة طويلة عن باقي القبائل اليونانية، وكانوا يسكنون بالقرب من جبال ويتا - جبل بين بلاد هيلانة أو بلاد اليونان الأصلية وبلاد تساليا - في مملكة كانت تسمى دوريد، وفي سنة 80 بعد حرب تروادة تجاوز الدريانيون البوغاز الفاصل لبلاد اليونان الأصلية، وشبه جزيرة المورة «بيلوبونيز»، وأغاروا على هذه المملكة الأخيرة، وفتحوا أرغوليد وليكاونيا، واستولوا أيضا على قورنتة. فهاجر الآيونيون من شبه جزيرة المورة إلى قسم آتيكا، وصارت هذه المملكة الأخيرة ملجأ لجميع المهاجرين، ثم أراد الدريانيون طرد هؤلاء الأقوام من قسم آتيكا، فتجاوزا برزخ قورنتة، وتقدموا إلى مدينة أتينا، فأخبر وحي دلفوس الدريانيين أنه إذا مات ملك الأتينيين ظفروا بكم، وإذا مات ملككم ظفرتم بهم، فلما سمعوا قول ذلك الوحي احترسوا كل الاحتراس عن قتل ملك أتينا، وكان ملكها يدعى «قودروس»، فدخل متخفيا في معسكر الدريانيين، فقتله أحد هؤلاء القوم، فلما عرف الدريانيون جثة ملك الأتينيين رجعوا إلى بلادهم خائبين، وتسمى هذه الإغارة أيضا برجوع الهركلديين، وقد نشأ من هذه الإغارة جملة مهاجرات أسست نزلا يونانية على شواطئ آسيا الصغرى وأفريقا وسيسيليا وإيطاليا. (1-3) الكلام على ديانة اليونان
أما ديانة اليونان فكانت عبارة عن عبادة الغابات والجبال والرياح والمياه التي كانوا يشخصونها في جمعية الآلهة التي هي على صورة الإنسان ولهم الشهوات والمصائب.
وقد كان لأمة اليونان - فيما يزعمون - آلهة متفاوتون في الدرجات ومتباينون في الامتيازات والاعتبارات، فكان من أعظمهم عندهم قدرا وأرفعهم ذكرا سائس أو جوبيتير، وكانت سلطنته في السماء، وكان ملك باقي الآلهة، وعلى يمينه صاعقة وبجواره نسر معدا لركوبه عليه، ومنهم «بوسايدون أوربيتون» وهو مدبر البحر، وكان يسير على الموج بعربة من الصدف يجرها بعض المدبرين الآخرين، وكان بيده شيء كهيئة شكل مثلث له ثلاث شوكات أعدها للزلازل، ومنهم أبلوتون وهو مدبر الأرض السفلى والعالم المظلم، ومنهم آبولون «آبولو»، ومن شأنه الإخبار بالغيب وإظهار الفنون العجيبة كالموسيقى والأشعار، وكان أجمل من غيره، وله معرفة بضرب الطنبور، وكانوا يقدمون الذبائح والقربانات لآلهتهم، وكان لهم احترام زائد للهياكل والمعابد اعتبارا لآلهتهم، حتى إذا دخل مذنب في هيكل ليحتمي فيه لم يتعد عليه أحد ما دام داخل المعبد. (1-4) ذكر جمهورية إسبارطة
اعلم أن مدينة إسبارطة كانت قاعدة ليكاوينا، بناها القديمون في القرن الخامس عشر قبل المسيح، وبعد رجوع الهركلدية واستيلائهم على ليكاوينا وأرغوس وميسيني ملك على ليكاوينا ابنا «أرستود» اللذان اسم أحدهما «أورشين» والآخر «بردكليس»، وبقيت المملكة بعد وفاتهما مقسومة إلى قسمين بين نسلهما نحو 900 سنة، وجرى بين ملوك القسمين الشقاق والمخاصمات في غضون تلك المدة. وفي سنة 884ق.م توفي «بوليديكتوس» ملك أحد القسمين تاركا زوجته حاملا، وكان له أخ اسمه «ليكورغوس»، فراودته امرأة أخيه طالبة أن يتزوج بها ويتقلد بالملك بعد أخيه وأنها تهلك الجنين إذا قبل ذلك، فكره «ليكورغوس» أن يرتكب هذا الأمر القبيح، وعندما وضعت امرأة أخيه ذكرا اهتم بتربيته ودعاه ملك إسبارطة الشرعي، وكان يدبر أمور الدولة بالنيابة عن ابن أخيه، ولكن إذ حدث نفور بينه وبين امرأة أخيه كره أن يبقى على تلك الحالة، فسافر إلى جزيرة كريت (كنديا الآن) ثم إلى آسيا الصغرى ومصر لكي يدرس علوم تلك البلاد وشرائعها، فحدث في مدة غيابه مخاصمات وفتن كثيرة في إسبارطة، وجاهر كثيرون بالعصيان على الملك وشرائع المملكة، فأرسل الأهالي يطلبون من ليكورغوس أن يوفيهم عاجلا، ويتقلد زمام الملك، ويقي البلاد من الدمار، فأجابهم إلى ذلك، وأخذ في إصلاح البلاد وإخماد الفتن، وغير هيئة الحكومة من الملكية إلى الجمهورية؛ حيث اقتدى به كثير من ممالك اليونانيين، وأصبح الحكم الجمهوري غالبا في أكثر البلاد وأراد التسوية بين وجاهة الملوك والأكابر والعامة، ورتب لذلك ديوانا مركبا من 28 عضوا ينتخبون من أعيان الأهالي، وقسم المملكة بين الأهالي بالمساواة لكي لا يكون بينهم فقير ولا غني، وأبطل المعاملة بالذهب والفضة، وجعل عوضهما قطعا من حديد، وكانت تؤخذ أولادهم وقت ميلادهم، ويتربون بالحكومة ليتعودوا على اقتحام الأهوال، وكانوا يعلمون الأولاد احترام الشيوخ والشرائع واحتقار الآلام والموت. (1-5) ذكر جمهورية أتينا
كانت أتينا مركز حكومة قسم آتيكا، وكان حكمها ملكيا لغاية زمان «قودروس» السالف الذكر، أحد ملوكها الذي عاهد شاول أول ملوك بني إسرائيل، وفي زمانه كان رجوع الهركلدية كما تقدم، وبعد موته أبطل الأتينيون الحكم الملكي، وأقاموا عوضا عن الملك رئيسا سموه «أركونا»، وأول أركون أقاموه هو «ميدون بن قودروس » المذكور، وبقيت هذه الوظيفة في نسله 331 سنة، وكان الأراكنة في أول الأمر يقيمون في وظيفتهم مدة حياتهم، ثم بعد ذلك تغيرت إلى عشر سنين ثم إلى سنة واحدة فقط، وزيد عددهم رويدا رويدا إلى تسعة يشتركون في جميع الأمور، ولما لم تكن الشرائع مرتبة ترتيبا حسنا شرع أدراكون رئيس الأراكنة وقتئذ في تنظيمها وتجديدها وسن قوانين صارمة جدا جاعلا الموت عقابا لكل مذنب، وفي سنة 604ق.م كان رئيس الأراكنة سولون الحكيم من نسل قودروس، فسن قوانين وشرائع جديدة مناسبة لأحوال البلاد، وفي عصره حصر السلطنة العظمى في جمعية من الأهالي لا يدخلها إلا من بلغ من العمر 30 سنة، ورتب مجلسا عدد أعضائه 400 نفس، واهتم سولون بتوسيع التجارة وتكثير البضائع والمعامل، ثم سافر سولون إلى ليديا، وكان ملكها يومئذ «كريزوس»، ومكث هناك عشر سنين - وقد تقدم ذلك - ولما رجع إلى بلاده وجد الفتن قائمة، فلم يستطع أن يخمدها؛ لأن رجلا اسمه فستراتوس كان قد اختلس الحكم من الأراكنة، فبذل جهده لتخليص البلاد من يده فلم ينجح؛ إذ نجح «فستراتوس» باستمالة الأهالي إليه، ومات سولون بعد ذلك بسنتين، وبعد فستراتوس خلفه ابناه هبياس وهيرجوس، فقام اثنان من أهل أتينا على هيرجوس وقتلاه فقتلهما هبياس، وشرع يظلم الأتينيين، فاستغاثوا بأهل إسبارطة طالبين عزله من الملك، فأجابوهم وأخذوا المدينة، فهرب هبياس إلى آسيا الصغرى عند أحد نواب الفرس من طرف دارا الأول الذي كان عازما على استفتاح بلاد اليونان، فأرسل إلى الأتينيين طالبا ترجيع هبياس إلى ملكه وإذا لم يقبلوا ذلك جعل عدم قبولهم سببا لمهاجمته بلادهم. (2) تاريخها من مهاجمة الفرس إلى إخضاعها للرومانيين (2-1) الكلام على الحروب الفارسية
الحرب الأولى 490ق.م
وبعد أن فتح الأعجام آسيا الغربية ومصر، أرادوا فتح بلاد اليونان ففتحوا أولا نزلهم الموجودة بآسيا الصغرى، ثم أرسل دارا الأول ملك العجم رسلا إلى بلاد اليونان يعلنهم بالطاعة له أهل أتينا وإسبارطة، فألقوا هؤلاء السفراء في الآبار، فاغتاظ دارا من ذلك وتقدم إلى المحل المعروف باسم مراتون ببلاد اليونان ومعه 100000 مقاتل، فتقابل مع 10000 أتيني و1000 بلاتيني، فهزمت الجيوش الفارسية، واقتفى اليونانيون أثرهم حتى نزلوا سفنهم.
الحرب الثانية 480ق.م
وبعد ذلك بعشر سنين قام شيارش ومعه مليون مقاتل و1200 سفينة حربية، فقام الملك ليونيداس ملك إسبارطة ومعه 3000 مقاتل، فمات ومن معه في المضيق المعروف باسم ترموبيل، ودخل شيارش في أتينا وحرقها، ولكن هزمت جيوشه البحرية عند مرورها من جانب جزيرة سلامين، وفي السنة عينها هزمت جيوشه البرية في واقعة بلاتية، وفعلت هذه الواقعة الأخيرة بعناية بوزانياس ملك إسبارطة.
الحرب الثالثة أي انتهاء الحروب الفارسية
وبعد ذلك أيضا قام اليونانيون، وطردوا جيوش العجم الموجودة في جزائر بحر الأرخبيل والموجودة على سواحل آسيا الصغرى، وفتحوا جزءا من جزيرة قبرص التي كانت تابعة لهم.
ولما رأى أرتخشيارش الأول ملك الفرس أن مملكته قد ضعفت في الحروب الكثيرة المستطيلة اضطر إلى أن يطلب الصلح، فأجابه سيمون (رئيس في أتينا) إلى ذلك تحت شروط ثلاثة، وهي أولا: أن يرفع يده عن ممالك اليونان الموجودة بآسيا فتكون ممالك مستقلة بذاتها. ثانيا: أن يمنع سفنه عن السير في بحر الأرخبيل. ثالثا: أن لا تتجاوز عساكره أكثر من ثلاثة أميال ضمن حدود النزل اليونانية. (2-2) عصر بريكليس
أما سيمون فلم يتمتع بثمرة أعماله العظيمة؛ إذ توفي من جرح أصابه في حصار جزيرة قبرص سنة 449ق.م، فبقي بريكليس رئيسا في أتينا بعد موت سيمون مدة عشرين سنة، واهتم كثيرا بتحصينها وترتيبها، وفي عصره بلغ أهل أتينا الدرجة القصوى في الصنائع والفنون ومعامل البناء، لا سيما بالنقش والتصوير، واشتهرت بالمعارف والعلوم. (2-3) حرب المورة
لما وقعت الحرب بين مملكة كورنته وجزيرة قرسيرا المسماة الآن قرقوس، حرض بريكليس الأتينيين على مساعدة أهل قرسيرا، فحسب ذلك الإسبارطيون نقضا للعهد الذي أقيم بين ممالك اليونان، فانشبكوا جميعا في حروب شديدة، فكان من الجهة الواحدة إسبارطة وكورنته وجميع ممالك المورة إلى أرغوس وأكثر الممالك الشمالية، ومن جهة أخرى أتينا وتساليا وبعض جزائر الأرخبيل. وكان عدد جيش إسبارطة 60000 مقاتل تحت أمر أرخداموس ملكهم، وعدد جيش أتينا 32000، لكنها فاقت على إسبارطة كثيرا بقوتها البحرية، ومكثت هذه الحروب 28 سنة، تارة انتصرت أتينا وتارة إسبارطة. وكان في السنة الثامنة والعشرين رئيس جيش إسبارطة رجلا يدعى ليساندر، فانتصر على الأتينيين في واقعة بحرية، وحاصر مدينة أتينا برا وبحرا حتى سلمت له، وصارت أتينا تحت حكم إسبارطة، وأما ليساندر فأبطل الحكم الجمهوري من أتينا، وجعل مكانه ثلاثين رئيسا تحت أمر حكومة إسبارطة الذين ظلموا الأتينيين ظلما شديدا، وقتلوا منهم في مدة ثمانية شهور 1500 نفس، ثم قام عليهم الأتينيون وطردوهم، ورجعوا الحكم الجمهوري، وفي هذا العصر ظهر سقراط أشهر فلاسفة اليونان، وكان يعلم بوجود إله واحد سبحانه وتعالى.
وفي آخر زمان حرب المورة توفي دارا نوطيس ملك فارس، وخلفه ابنه أرتخشيارش منيمون الثاني، وكان له أخ اسمه قيروش الذي حسب وصية أبيهما تولى على ليديا والولايات المجاورة لها، فقام قيروش هذا على أخيه قاصدا عزله عن الملك، فأخذ عشرة آلاف من عساكر اليونانيين تحت أمر كليارخوس رجل من إسبارطة، فانتصر أرتخشيارش عليهم في واقعة بقرب من مدينة بابل، وقتل قيروش، وتسمى هذه الواقعة بواقعة «كونا كزه»، ثم مكر ملك الفرس بكليارخوس وقتله، وبعد ذلك انتخب اليونانيون «كسينيفون» رئيسا عليهم، وأخذوا في الرجوع إلى بلادهم، وقاسوا مشقات كثيرة من البرد والجوع إلى أن وصلوا البحر الأسود ووصلوا مدينة «طرابزون» التي كانت أحد نزل اليونان، وسميت هذه الحادثة برجوع العشرة آلاف.
واعلم أن تجريدة العشرة آلاف هي إحدى الحوادث العظيمة القدر والشهرة التي حفظها التاريخ منذ الأزمان الغابرة، نظرا لها ولنتائجها؛ فإن شهامة اليونانيين في أواخر القرن الخامس وأوائل الرابع قبل الميلاد قد ظهرت مظهر الفخار، وكانت محط التعجب أكثر من غيرها؛ حيث كانت الجنود المؤلفة منها هذه التجريدة جنودا مجمكة من أقوام ذوي شراهة ومحبي السلب والنهب، غير أنهم وصفوا بالبأس الصادق وقوة العزم والاقتدار على تتبع مقصدهم ولو بالقتال. فيا لها من خصال عجيبة! وزد على ذلك ما اشتهروا به من النظام وفن تصفيف الصفوف العسكرية اللذين فاقوا بهما معاصريهم كافة عامة ، ولهذه الفرقة أيضا مزية لا تقدر هي علم بأصول الحرب لا يقتصر على القواد، بل للضباط أيضا اليد الطولى فيه، وعدم الزيغ عن طريق مستقيم إذا حل بهم الخطب أو نزل ما لم يكن على بالهم، وقصارى الكلام أن الشعائر الدينية بقت فيهم معززة السلطان حتى حين المجازفة وقطع الطريق؛ فهي كانت لهم مصدر وثوق وحماسة، فكان رؤساؤهم لا يشرعون في زحف ولا ينشبون أقل حرب قبل أن يؤكدوا أن الآلهة عنهم راضون، فلو أن أمة عندها جيش من هؤلاء الأقوام - ولو قل عدده - لن تجد أمة في المشرق قاطبة تقاومها، ولن تجد في المغرب غير الرومانيين، فإنهم هم الذين ربما أوقفوا سيرها، وإن تجريدة اليونانيين الذين كانوا في خدمة قيروش استلفتت أنظار اليونان ووجهت أطماع المغرب بأثره نحو الشرق، وأن عدة عجالات تألفت في عصرها، منها رسالة كسينيفون التي زادت هذه الحادثة شهرة على شهرتها التي أفادتها إياها الروايات، فكيف يتصور أن عشرة آلاف يوناني قد قاوموا في مضمار القتال أربعمائة ألف من الفرس وقاوموا القوة والخداع، فكانت هذه التجريدة سببا في إذاعة ضعف المملكة الفارسية، واعتبرت كقاعدة سياسية أن عشرة آلاف قاوموا جنود الفرس إذن ثلاثون ألفا منهم يكونون أكفاء لإخضاعهم، فكانت تلك القاعدة سببا في غزوة أجيسيلاس والإسكندر الأكبر؛ وأن غزوة الإسكندر ليست إلا نتيجة من غزوة العشرة آلاف وإن لم تعقبها مباشرة.
فكانت التجريدة المذكورة إحدى الحوادث التي من بعض الجهات شرفت الإنسانية وأعلت قدرها، ففي أي ظرف من الظروف كان يتعالى عزم الإنسان هذا في العالم الدنيوي، وما كانت الحوادث تنقاد زمنا طويلا لعزم أو لذكاء مستمرين، وما أفادته هذه الغزوة لفن الحرب هو الركن الأعظم والفائدة الكبرى؛ فلقد كانت له هذه الغزوة أساسا ينتمي إليها ويرجع في مؤلفاته عليها، فإنها مثل يضرب لقواد وضباط وعساكر كل عصر. ومن أعمال هذه التجريدة النظامات العسكرية والحيل المصطنعة لمفاجأة العدو وأنواع التكتيكات للبيادة والسواري.
ولما كان اليونانيون القاطنون في آسيا الصغرى قد قاموا على أرتخشيارش مع قيروش المذكور أرسلت إسبارطة عساكر لمعاونتهم تحت قيادة أجيسيلاس ملك إسبارطة، فوقعت الحرب ثانيا بين اليونان والفرس، فحرض ملك الفرس ممالك المورة أن يقوموا على إسبارطة، فالتزم أجيسيلاس أن يرجع إلى بلاده لحمايتها وبعد حرب عدة سنين عقد الصلح تحت شرط تسليم آسيا الصغرى وجزيرة قبرص للفرس وجزيرة لمنوس وسيرا لأتينا، واعتمد ذلك الصلح سنة 87ق.م. (2-4) جمهورية طيوة
إن طيوة كانت مدينة معتبرة من بيوثيا، ولما كانت الحروب قائمة بين أتينا وإسبارطة وضعفتا كلتاهما تقوت طيوة حتى صارت قاعدة السلطنة لجميع البلاد المجاورة لها، فخافت إسبارطة لئلا تزيد قوة طيوة وسطوتها، فأرسلت جيشا وأخذت المدينة، وأقامت عليها ولاة من قبلها فقتلوا كثيرين من أهاليها، وهرب آخرون إلى أتينا منهم رجلان اسم أحدهما «أبامينونداس» والآخر «بلوبيداس»، فقاما على ظالم بلادهم وقتلاه بمساعدة بعض الأهالي، فاضطربت بسبب ذلك حرب شديدة بين إسبارطة وطيوة، فانتصر جيش طيوة بقرب «لوكريا» - إحدى مدن أركاديا - بالمورة وأضربوا ليكاونيا بالنار والسيف حتى أبواب إسبارطة ذاتها، وعادوا إلى بلادهم، ثم تجددت الحرب بعد برهة من الزمن، وانتصرت طيوة، ولكن قتل أبامينونداس.
وبقرب هذا الوقت حدث في مقدونيا قلاقل كثيرة؛ إذ توفي إمنتاس ملكها تاركا ثلاثة أولاد، فشرع هؤلاء يتنازعون الملك، فطلب المقدونيون الإسعاف من طيوة، فأرسلت جيشا تحت قيادة بلوبيداس لكي يصلح أحوال تلك البلاد، وعند وصوله إلى هناك ثبت الملك في يد فرديكاس، وأخذ أخاه فيلبش وثلاثين من أولاد أكابر البلاد رهنا، وأرسلهم إلى طيوة، وفي مدة إقامة فيلبش هناك تعلم قواعد الحكم والحرب من أبامينونداس وبلوبيداس، وبعد عقد الصلح بين طيوة وإسبارطة لم يحدث بين اليونانيين أمر مهم إلا في زمن الملك فيلبش المذكور. (2-5) تاريخ مقدونيا
اعلم أن مبدأ تاريخ هذه المملكة مجهول الحال، فقيل إن مؤسسها هو أول ملوكها المدعو كرانوس سنة 794ق.م، وكان إمنتاس أبو فيلبش سادس عشر ملوكها بعد كرانوس، وقد تقدم أن فيلبش تعلم من طيوة قليلا من أمور السياسة، وكان عمره وقتئذ عشر سنين، فأقام فيها اثنتي عشرة سنة، ولما بلغه خبر قتل أخيه هرب من طيوة، فوجد أهل بلاده مكتئبين من قتل ملكهم فرديكاس في واقعة مع أهل «إيليريا»، وكان لفرديكاس ابن صغير، فأخذ فيلبش على نفسه أن يكون وصيا له، وحكم باسمه، إلا أنه بعد قليل طلب المقدونيون أن يكون هو الملك، وأنهم لا يريدون طفلا يملك عليهم، فأجاب طلبهم وملك سنة 360ق.م وعمره 56 سنة، ثم أخذ في تدبير الوسائط لإخضاع الممالك اليونانية، وضمها إلى مملكته وإذ كانت أتينا وإسبارطة قد ضعفتا في الحروب مع الأعجام، وكانت طيوة أيضا قد ضعفت من حروبها مع إسبارطة، فأخذ يزرع الفساد بين ممالك اليونان، وكان له في جميعها خدمة في أهلها وأكابرها ساعدوه على إجراء مقاصده، وفتح بقرب مدينة «فيلبي » معادن الذهب والفضة، واستخرج منها كل سنة مبلغا وافرا من المال، فيغلب بالدراهم إذ لم يستطع أن يغلب بالسلاح. وفي السنة الرابعة من حكمه ولدت زوجته «ولمبياس» ابنا في مدينة «بلا»، وسماه الإسكندر، وكلف بتعليمه وتهذيبه أرستطاليس الفيلسوف.
وبقرب هذا الزمان نشأت حروب بين اليونان سميت بالحروب المقدسة، سببها أن أهل قوسيا وضعوا أيديهم على أرض تابعة لهيكل «أوبلون» في «دلفوس»، وحكمت عليهم المشورة الأمفكتيونية أن يدفعوا مبلغا وافرا للتكفير عن هذا الذنب، فلم يخضعوا لهذا الحكم، بل زعموا بأنهم أحق من غيرهم بتدبير أوقاف الهيكل وصيانتها، فاضطربت عند ذلك حروب مدة عشر سنين بين «قوسيا» و«أتينا» و«إسبارطة» من جهة وطيوة ولوكريا وتساليا من جهة أخرى، فعرض «فيلبش» نفسه وسيطا أو مصلحا بينهم وصيروه عضوا من أعضاء المشورة الأمفكتيونية خلافا لإرادة الأتينيين؛ إذ كان «ديموستين» الخطيب بأتينا يحذرهم دائما من فيلبش، ويريهم أن مقاصده نزع حريتهم وإخضاعهم تحت سلطنته، وبعد ذلك وضع أهل «لوكريا» أيديهم على أوقاف الهيكل المذكور، وأبوا الخضوع للمشورة الأمفكتيونية، فدعت المشورة فيلبش؛ لكي يجري حكمها غصبا، ولما أجابهم متقدما إلى بلاد اليونان بجيشه رأى «ديموستين» نتائج عمله فتوجه إلى إخضاع البلاد، فحرض أهل أتينا وطيوة على مقاومته، فجمعوا جيشا ولكن هزمهم فيلبش في واقعة كيرونيه «في بيوثيا»، واستولى على بلاد اليونان، وإذ كان مستعدا لمحاربة الفرس قتله بوزانياس أحد أتباعه في السنة السابعة والأربعين من عمره، وخلفه ابنه الإسكندر الآتي ذكره.
ذكر الإسكندر الأكبر 336-323ق.م
تولى بعد موت أبيه فيلبش، ويعرف في التواريخ باسم إسكندر الأكبر الرومي، ويلقب بذي القرنين (غير ذي القرنين المذكور في القرآن الشريف)، وهو صاحب الفتوحات العجيبة التي خلدت اسمه في دفاتر مشاهير المؤرخين.
واعلم أن غزوة الإسكندر للبلاد الفارسية هي أعظم حادثة حفظها التاريخ بعد الحروب الميدية وأجلها شهرة ونفعا، كيف لا وقد أقامت الحروب الميدية التمدن من مهده، فأرشدته تلك العزوة وهو في شرخ شبابه طريق رفعته وفوزه! وكان ذلك أول القتال الذي انتشب بين التمدن والهمجية؛ حيث لم يكن قبلا يتجاسر على نزال خصمه، فمن سعده وحسن حظه أنه انقلب على عقبيه مدبرا ونجا بعمره، فنما مستقلا في ركن من زوايا الأرض وترك المملكة لخصمه، فخرج أخيرا بعد كسرته وأقبل بعد أدباره تحت كنف الإسكندر، فوضع قدميه في ساحة القتال ونازع خصمه في ملكية الأرض، فكأن أوجدت هذه الغزوة شيئا جديدا، ألا وهو التمدن.
ولم تكن هذه الغزوة على نهج الغارات البربرية والغزوات الوحشية التي سبقتها، بل كان الإسكندر بدل أن يقهر بالقوة غلب بالحيل، وقد كان يشيد ولا يهدم، ويرفع ولا يضع، خلا بعض مدارس الكهنة الذين كانوا يخفون ما عندهم من العلم على قلته، فلم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما كسبوا، بل دمر مساكنهم وأحرقها، فلم تسمع لها بعد ذلك ركزا، ولم يصادف الإسكندر في طريقه إلا همجية تتبجح بدعوى المال عارية عن الفضائل ومرزبانات وأرقاء ليسوا بأناس فانتشرت سلطة اليونان في النفوس والعقول، وخلع الناس ناف الذل والبلاء، فكانت هذه التجريدة بعثة نورا وهدى للناس الذين استعبدتهم الدولة الفارسية فوقاهم الله شر ذلك، ونجاهم بهذا القائد الذي اتصف بذكاء الرسل وفطنة الأنبياء، ألا ترى أنه كان بعد نصرته يعتبر نفسه أنه تلميذ أرستطاليس، أوليس هو ملك مقدونيا الذي أعطى النصر في مواطن الحروب والمواقف أوليس هو الذي أخضعهم باقتحام المخاطر والمخاوف، وقبل غزوة الإسكندر لم يكن وجود دنيا تستحق هذا الاسم، بل كانت أرضا معمورة بأقوام منفردين يجهلون بعضهم البعض ذوي عوائد وأخلاق مختلفة المقصد قد جمعها قيروش كباقي الملوك المتبربرة، وجعلها مملكة واحدة، وأما غزوة الإسكندر فربطت تلك الأمم بروابط الائتلاف والمودة، وجعلتهم تحت ناموس واحد، فبهذه المثابة علمت كل أمة معارف الأخرى وأفكارها وتعلموا ما لم تتوصل عقولهم إليه، ووقفوا على حقائق الأمور، وتجمعوا حول مصباح معارف اليونان، وبهذا الاتحاد وجد عالم متمدن جدير بهذا الاسم حري، ولم يبارح الإسكندر بلاد اليونان إلا بعد أن أمن على مقدونيا من الأقوام المتبربرين المجاورين لها وبعد أن أخضع بلاد اليونان بأثرها، ولم يخضعها إلا تنفيذا لمآربه؛ هاجم الأقاليم البحرية، وأمر جيشه البري أن يسير وسواحل البحر؛ لكيلا يفصل بينه وبين أسطوله فاصل، وقد استعان بالنظام على العدة بما يقضي العجب، وإذا كان من المحقق أن النصر قد منحه كل شيء، فإنه أيضا عمل كل شيء في نوال النصر، وفي أوائل مشروعه حيث كانت أقل هزيمة تكفي لعكس أمله لم يركن إلى الصدفة إلا في قليل من أموره، ولما أسعفته المقادير بالظفر بالحوادث اتخذ المجازفة من وسائله، وقبل سفره كان قد زحف على الإيليريين، ولما رجع إلى بلاد اليونان لم يفتح طيوة ويهدمها إلا رغم أنفه، فإنه عسكر أمامها مدة؛ ينتظر أن تعقد معه الصلح، فكانوا هم الجانين على أنفسهم، واستعان في هدم قوى الفرس العسكرية بجسارة القائد «بارميتيون» وبمهارة نفسه، فكان من حكمته فصل الفرس عن أسطولهم وإكراههم بأنفسهم الملاحة، وكانوا فيها بارعين، وكانت «صور» تابعة للفرس، وكانوا لا يستغنون عن تجارتها وملاحتها، فأعدمها ودخل مصر التي كان قد تركها دارا بلا حماية حيثما كان يجمع قوته في جهة أخرى.
فعبوره نهر «الجرانيك» سنة 334 ترتب عليه الاستيلاء على المستعمرات اليونانية وواقعة طرسوس أهدته صور وملك مصر، وواقعة إربل - بالقرب من الموصل - سنة 331 قلدته سيادة العالم، وبعد واقعة طرسوس المذكورة ترك دارا واشتغل في تثبيت دعائم فتوحاته وتنظيمها. وأما بعد واقعة إربل تبعه حتى لم يترك له ملجأ في دولته، فكان زحف الإسكندر سريعا جدا، حتى إنه يخيل لنا أن تملكه على العالم كان جزاء له على سيره لا أجرا لما أحرزه من النصر، كما كان يحرز قصب السبق من سبق في ألعاب بلاد اليونان.
فهكذا كان فتح البلاد، فانظر الآن كيف ساسها! لم يطاوع الإسكندر من أراد معاملة اليونان معاملة السادة، والفرس معاملة الأرقاء؛ بل فكر في أن يؤلف بين الأمتين وأن يعدم امتياز الأمة الغالبة على الأمة المغلوبة. وقد ترك بعد الفتح جميع الأوهام والخزعبلات على حالتها وتخلق بأخلاق الفرس وعوائدهم ليرضيهم، وليتقلدوا هم بعوائد اليونان، واحترم غاية الاحترام امرأة دارا ووالدته حين وقعن في قبضته بعد واقعة طرطوس، فأرسل دارا إليه طالبا أن يفدي نساءه بمبلغ وافر وأنه يعقد الصلح معه، ويزوجه بابنته، وأن يجعل صداقها الأراضي الواقعة بين نهري الفرات وبحر الروم، فأجابه الإسكندر أن يسلمه إياهن بشرط إذا جاء بنفسه يطلبهن، فخاف دارا، واستمر حتى ساقه الإسكندر بعد واقعة إربل ثم لم يعلم له أثر بعد ذلك، وقد ذكر المعلم بطرس البستاني في دائرة المعارف أنه مات في السنة الثالثة من حكم الإسكندر.
فاستعمال الرأفة واحترام الديانات واستعمال المشورة في الأمور كل ذلك مما جعل أمة فارس تأسف لفقده، فانظر أيها القارئ - سهل الله إلى نفائس الخيرات طريقك - هذا الفاتح الذي بكت عليه الأمم التي أخضعها بسيفه ورادفها بسهامه، وهذا المغتصب الذي عند موته سكبت عليه العائلة التي اغتصب منها الملك الدموع زفرات وساءهم إعدامه، فتلك آية من آيات حياته ما روى لنا المؤرخون أن أحدا من الفاتحين تباهى بمثلها.
ولما كان يعلم أن لا شيء يؤيد الفتح أكثر من التأليف بين الأمتين تزوج الإسكندر بنساء فارسيات، وأمر معيته كذلك، وقد حزا حزوه بقية أهل مقدونيا، وشيد في بلاد فارس نزلا يونانية وشاد عدة مدن، وأرسى قواعد الدولة الجديدة في جميع أنحائها حتى إنه بعد موته لم ينشر لواء العصيان إقليم بعد طيه، ولكيلا يقلل اليونان والمقدونيين أرسل إلى الإسكندرية طائفة اليهود، ولم يعبث بما اعتادت عليه هذه الأمة ما داموا له من المخلصين، ولم يترك للأمم المقهورة أخلاقهم وعوائدهم فقط، بل ترك لهم قوانينهم المدنية وأيضا ملوكهم وحكامهم الأصليين، وجعل المقدونيين قوادا للجيوش وأهل الشرطة والوطنيين حكاما لجهات الإدارة والقضاء، وكانت ملوك الفرس قد هدمت معابد المصريين وهياكلهم وكذا معابد البابليين واليونان، فأعادها فكأنه لم يفتح أمة إلا ليكون ملكها الخصوصي وليكون أول وطني بها.
وقد جاء بأمرين منكرين وهما حرق مدينة إستخر وقتل «كليتوس» الذي نجاه من الفارسين اللذين قصدا قتله بعد واقعة نهر الجرانيك، إلا أنه ندم على ذلك شديد الندم، حتى إنه أنسى الناس أفعاله القاسية وذكرهم احترامه للفضيلة؛ حيث اعتبرهما من المصائب التي فاجأته في عمره والتي أتى بها من خطأ إرادته.
وكان الإسكندر مغلول اليد في مصاريفه الخصوصية مبسوطها في المصروف العام؛ والدليل على ذلك أنه كان في نظام بيته «مقدونيا» ولدفع ديون العساكر وإخبار اليونان بفتوحاته، وفي إسعاد كل رجل من جنده كان «الإسكندر».
وبعد أن تم فتح ملك فارس دخل بلاد الهند وهزم ملوكها لا سيما بيروس العظيم القدر، ولم توقف سيره الصحاري ولا الأنهار ولا الجبال، إلا أنه اضطر أن يطيع أمر جنده الذين ملوا من الحروب وطلبوا الراحة، واكتفى بترك آثاره الفاخرة على شواطئ نهر آراسب، وعاد بجيشه من طريق آخر، وأخضع جميع البلاد التي قابلته وعاد إلى بابل مهابا محترما، ولكن هذه المملكة الواسعة لم تقم إلا بمقدار عمره القصير ومات وهو في سن الثلاث والثلاثين من عمره، بينما كان متشبثا بأجل المقاصد التي لم يتشبث بها أحد على وجه الأرض بعشم زائد في نجاحها، فاختطفته المنية ولم تتركه زمنا لتثبيت أعماله، وأخلف أخا له مهبولا وولدا رضيعا غير أكفاء للقيام بأعباء هذا الحمل العظيم، ومما عاد على بيته بالشؤم ومملكته بالخراب والدمار أن ترك قوادا عودهم على الحروب والغزوات والطمع، فلا يرجون شيئا سواها. وكان مستشعرا بما سيحصل بعد موته، ومن خوفه أن لا يطاع أمره لم يتجاسر على تعيين خليفة له ولا وصي لأولاده، بل أخبر أن أصحابه سيشيعون جنازته بوقائع سافكة للدماء، وقد رأى في حياته تقسيم مملكته وخراب بيته، وأما مملكته التي ورثها من أجداده منذ أزمان طويلة وهي مقدونيا فقد أغير عليها كأنها ميراث ليس له وارث وحكمتها عائلة غير عائلته، فهكذا تكون حالة الفاتح العظيم الذي ذهب بفضل الشهرة، وأن يكون آخر ملوك عائلته، فلو أنه قعد في مملكته ساكنا فما كانت مملكته تقسمت بين ضباطه وكان ترك مملكة آبائه لأبنائه، ولكنها لما كبرت واتسعت كان سببا في زوال ملكه الخاص، فتلك ثمرة كثرة الفتوحات والغزوات.
وهو الذي اختط مدينة إسكندرية في محل القرية التي كانت تعرف في ذلك اليوم باسم «راكوتيس» وجعلها على نسق المباني المقدونية، وذلك سنة 332ق.م وقد عين بنفسه محل المباني والهياكل سواء كانت مصرية أو مقدونية، وهذا دليل على إباحة الديانة المصرية عنده وجعلها مركزا للتجارة المشرقية والمغربية، ومات الإسكندر بالحمة المتقطعة، وذلك من انهماكه على شرب الخمور زيادة عن الطاقة، وذلك سنة 323ق.م، ومدة حكمه 12 سنة، وعمره 33 سنة. قال بعض المؤرخين إنه مات ببابل، وقد ذكر المعلم بطرس البستاني في دائرة المعارف أنه مات بشهرزور بعلة الخوانيق، وكان عمره 36 سنة، ودفن في تابوت من ذهب مرصع بالجوهر، وطلي بالصبر لئلا يتغير، وحمل إلى أمه بالإسكندرية، وبنى الإسكندر 12 مدينة منها أصبهان وهراة ومرو وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك وبأرض اليونان مدينة وبمصر الإسكندرية.
خلفاء الإسكندر
ومات الإسكندر ولم يعين خليفة له، وكان له ابن ولد بعد موته ببضع شهور وأخ أحمق لا شرف ولا مجد له، فصارا يتقلبان على سرير الملك مدة من الزمن، ثم قام أتباع الإسكندر وقسموا ممالكه إلى خمسة أقسام؛ استولى «أنطيباتيه» على مقدونيا، و«أنتيجون» على آسيا الصغرى، و«إيمين» - بإمالة الألف والميم - على قبادوسيا، و«سيلوخوس» على بابل، و«بطليموس» على مصر، وجعلوا «لفرديكاس» الذي كان قد أعطى له الإسكندر قبل موته خاتمه الرياسة عليهم؛ لكن بعد ذلك أبوا رياسة فرديكاس وأرادوا أن يكون لهم الرياسة المطلقة على أقاليمهم، ومن ثم حصلت مخاصمات ومنازعات، فاشتد الحرب بين هؤلاء الطمعة فقتل «فرديكاس» وقام «أنطيباتيه» ثم «إيمين» وجدوا في طلب حقوق عائلة الإسكندر، ولكن «إيمين» بعد أن انتصر نصرات عظيمة هزمه أخيرا «أنتيجون» وقتله، وبعد موته لم تجد عائلة الإسكندر من يقوم بحمايتها ووقعت بين أيدي أعدائها واتبعوها بالقتل حتى أهلكوها ولم يبق منها غير المستضعفين، وقبض «أنتيجون» وابنه «ديمتروس» على زمام أقاليم آسيا، فتعصب عليهما بطليموس وسيلوخوس وأحزابهما، ووقعت الحروب بينهما، فدارت الدائرة فيها على أنتيجون ومن معه بالقرب من مدينة أبسوس «بآسيا الصغرى» سنة 310ق.م، وقتل أنتيجون. وأما ابنه ديمتريوس ففر هاربا، وكانت واقعة «أبسوس» المذكورة سببا في انقطاع الشقاق والتطاعن، وانقسمت ممالك الإسكندر بعد ذلك إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: مصر، وتولاها بطليموس صوتير. والثاني: سوريا، وتولاها سيلوخوس. والثالث: مقدونيا، وتولاها كساندر. (2-6) تاريخ اليونان بعد موت الإسكندر
الحزب الأخيواني وذكر أراتوس
ولما انحطت بلاد اليونان جميعها استعبدها ملوك مقدونيا، فشرعت في إنقاذ نفسها وأول من اجتهد في ذلك من أهلها الشهير «أراتوس» فخلص مدينته التي ولد بها من الطاغية، وأراد كذلك إنقاذ وطنه بتمامه من طغيان أهل مقدونيا، ولكن كان يتوقف نجاحه على اتحاد البلاد اليونانية في الكلمة كما فعلت أيام الحروب الميدية فتسنى لها طرد الأجانب، لكن لما كانت مدائن «أشاء» أو «أخيا» يدا واحدة عقد أهلها مع بعضهم المعاهدات، فجمع شملهم، وعامل كل منهم أخاه على وتيرة واحدة، وبالجملة كانت «أخيا» عبارة عن حزب، فبث «أراتوس» في الحزب الأخيواني روح الحمية، وسعى في ضم بلاد اليونان جميعها إلى حزبه، فتمكن من ذلك وأنقذ كورنته من حاميتها المقدونية، وأدخل في الحزب جملة مدائن منها «أتينا»، وكان ذلك نحو سنة 250ق.م.
الحزب الإيطولياني
قد اضمحلت مقدونيا بالفتن الداخلية وصارت هي والحزب الأخيواني أعداء ألداء للأقوام المعروفين باسم الإيطوليين «بشمال المورة» الذين كانوا يشنون الغارة دائما على أطراف تلك الجهات ويهددونها بالسلب والنهب، ثم اجتمعوا في هيئة حزب سمي بالحزب الإيطولياني، وانتشبت الحرب بين الأخيوانيين والإيطوليين انتهت بحصول معاهدة بينهما، وقبل ذلك أراتوس. وكانت إسبارطة قد قامت من سقطتها بعناية أحد ملوكها المدعو «آجيس» الذي نشر أحكام «لوكورغه» ليحيي بذلك وطنه، فابتدأ بإبطال الديون، ثم قسم الأرض بين الأهالي، فغضب لذلك أغنياء إسبارطة، وأغروا على قتله. ولما تولى كليومين الثالث «بإمالة الميم» الملك صمم على تنفيذ مشروع «آجيس»، فابتدأ في تنظيم القوة العسكرية لبلاد «لقديمونيا»، وأراد كسر شوكة الحزب الأخيواني، فقام وهجم على أراتوس، وانتصر عليه جملة نصرات، ورجع إلى «لقديمونيا»، وحبب إليه العزم في استرجاع أحكام لوكورغه، وشدد في ذلك، ومن ثم عاد لإسبارطة شوكتها القديمة، وصار كليومين له الرياسة الملوكية على أغلب مدن المورة، فلما شاهد «أراتوس» ذلك وعرف مقاصد «كليومين» استنجد بملوك مقدونيا، فبعثوا لمساعدته جيشا من المقدونيين والأخيوانيين، فانهزم الإسبارطيون بالقرب من مدينة «سيللازيا» «لاكونيا» سنة 222ق.م، وأما كليومين ففر هاربا إلى مصر والتجأ إلى بطليموس الثالث، ثم قتل نفسه، وذلك سنة 221ق.م.
وبعد واقعة «سيللازيا» انتشبت الحروب بين الأخيوانيين والإيطوليين؛ حيث كان غرض الإيطوليين أن يكون الحكم المقدوني في أيديهم، وسميت هذه الحرب «حرب الحزبين»، فانهزم الأخيوانيون والتجئوا إلى مقدونيا، وكان ملكها وقتئذ فيلبش الثالث، وفي سنة 213 مات أراتوس مسموما بأمر فيلبش المذكور، وبذلك تحكمت يده على بلاد اليونان.
الفصل الخامس
في الكلام على مصر تحت حكم اليونان أي زمن البطالسة
اعلم أن ملوك البطالسة هم ذرية بطليموس السالف الذكر، وقد مكثت مصر تحت حكمهم مدة 270 سنة، وكان مقر حكومتهم الإسكندرية، وعدد ملوكهم أربعة عشر بما فيهم كليوبترة التي كانت خاتمة لهذه الدولة، ولنذكرهم على الترتيب فنقول:
ذكر الملك بطليموس الأول
ويلقب باسم صوتير - أي المخلص - وقد وقعت مصر في قبضته حينما انقسمت ممالك الإسكندر، وكانت مصر أعظم ممالك العالم وأبهجها، ولما تحكمت يده في مصر أحسن التدبير والسياسة، واستمال عقول الأهالي، وقد أدخل جمهورية القيروان تحت حكمه لما قامت بها فتنة داخلية، وهو الذي تمم الهياكل والمباني، وصارت الإسكندرية من أعظم مدن الدنيا، فمن ضمن هذه المباني ضريح الإسكندر الذي خفي الآن عن العيون، وظن أنه في محل بمدفن النبي دنيال عليه السلام، ومنارة الإسكندرية التي أنشأها بجوار المينة البحرية لمنافع التجارات وفوائد السياحات والمعاملات، وهي إحدى بنيان العالم العجيب الذي بقي على ممر الزمان من عجائب الدنيا، ومن أنفع مباني بطليموس المذكورة مدرسة الإسكندرية المسماة بالرواق؛ حيث جمع فيها علوم ذلك الوقت من فلسفيات ورياضيات وطبيعيات وحكم وآداب، فكانت هذه المدرسة موصلة لقصره بقرب عمود السواري المشهور، وقد جلب إليها علماء اليونان وغيرهم من سائر البلدان، وما مضى على الإسكندرية برهة من الزمن إلا وصارت مركز التمدن والعلوم والفنون، وأنشأ فيها خزائن كتب ملوكية جمع فيها الكتب القديمة المعتنى بها، وكان له مزيد عناية بالفنون المتجربة حتى كان عنوانه في ديوان مقدونيا قابودان الأسطول، وكثرت في أيامه التجارات والمخالطات مع البلاد البعيدة، وقد ذكر المؤرخون أن مصر في أيامه كان في وسعها الاستحضار على مائة ألف من العساكر وأربعين ألف من الفرسان وعلى ألف مسلح من المناشير والمناجل، وكان في مخزن المملكة مائة ألف طقم مجهزة من الزرد، وكانت بالترسخانة نحو 3590 سفينة كبيرة، وكان ما يبقى في كل سنة من الإيراد بعد الصرف 200000 كيس، ومات سنة 285ق.م.
بطليموس الثاني 285-247ق.م
ويلقب فيلادلفيس، سمي بهذا الاسم من باب التهكم والتمسخر؛ لأنه كان يبغض إخوته ويتقصدهم بالقتل، وكان سنه وقت تقليده السلطنة 24 سنة، وقد سار على سيرة أبيه وتفرغ إلى تقديم العلوم، وهو الذي أمر القسيس «مانيتون» المصري بتأليف تاريخ مصر باللغة اليونانية، ثم ترجم إلى اللغة الفرنساوية، ثم إلى اللغة العربية في عصرنا هذا «الأستاذ عبد الله بك الشهير بأبي السعود مدير عموم المكاتب الأهلية سابقا»، فجمع المؤلف تاريخها من الدفاتر المصرية والتذاكر القديمة المحفوظة بالهياكل والمعابد المصرية، ولم يبق من هذا التاريخ إلا بعض جزئيات وصلت إلى الفرنج ضمن كتب المؤرخين، وكانت مصر في عصره أعظم البلاد، وقد اعتنى بمعرفة حقائق البلاد، فاستكشف داخل بلاد أفريقا وسواحل بحر فارس المعادن والأحجار الكريمة، وقد اجتهد في استكشاف منبع النيل، وأرسل لذلك جملة إرساليات، واستكشف أيضا السودان والنوبة وجنوب بلاد «مرو»، وقد جدد عملية حفر ترعة السويس التي كان شرع فيها من الفراعنة نيخاؤس ومن الفرس دارا الأول، ففتح هذا الخليج من فرع الطينة بالقرب من تل بسطة عند الزقازيق ووصله إلى البحر الأحمر بقرب السويس في الجهة الشمالية، وأرسل كثيرا من الكشافين لاستكشاف شبه جزيرة العرب إلى بحر الهند وأخذ مساحتها، وقد شرع في بناء هيكل عظيم لزوجته التي هي أخته أيضا، وهو أول من أمر بترجمة التوراة من اللسان العبراني إلى اللسان اليوناني، ومات سنة 247ق.م.
الملك بطليموس الثالث 241-222ق.م
ويلقب أيضا أورجيطة - أي المرحوم - لقب بذلك من باب التهكم، ولم يمكث زمنا طويلا إلا وقد اضطر إلى الحرب مع سيلوخوس الثاني ملك الشام، واستمرت المشاجرة بينهما أزمانا؛ وسبب ذلك أن سيلوخوس المذكور قتل أخته بعد أن تغلب على ملك زوجها أنطيوخوس الثاني، فآل الأمر بهزيمة سيلوخوس، ودخل بطليموس المذكور بلاد الشام واستولى على سواحل آسيا الصغرى، وتقدم إلى نهر الفرات، ودخل أرض الجزيرة وبلاد بابل والعجم والميديين، وزحف لغاية بلاد بكتريان ثم رجع إلى مصر؛ لداعي الاضطرابات التي حصلت بها، فترك هذه الولايات ولم يبق منها سوى فلسطين وسواحل آسيا الصغرى لغاية بوغاز الدردنيل، ولما عاد إلى مصر وأطفأ نار الفتنة زحف بجيوشه إلى بلاد الأتيوبيا، فقهر ملك مملكة مرو واستولى على بلاد الحبش واتسع نطاق مملكته من ينابيع النيل الأزرق لغاية بوغاز باب المندب، وقد أدخل جزيرة قبرص تحت طاعته وأيضا برقة وليبيا، وجلب من هذه الفتوحات غنائم شتى، ولما كان غائبا خافت عليه زوجته فنذرت نذرا إن رجع زوجها سالما تكرس شعر رأسها للزهرة، فحين رجع وفت بالنذر وكرست شعرها ووضعته في هيكل الزهرة، ومكث بالهيكل المذكور عدة أيام، ثم سرقه أحد القسس، فأمر الملك بقتل جميع القسس الموجودين بالهيكل، فخاف الحراس على أنفسهم، فنجاهم أحد المنجمين بقوله للملك إن الزهرة قد نقلت شعر الملكة إلى السماء ووضعته بين النجوم، ومن ثم سمي مجموع من مجاميع النجوم «شعر برنيقا» المعبر عنه بالثريا، وهو الذي بنى «المعبد الأكبر» بمدينة «إدفو»، وكان في مدته وجود الفلكي «إيراتوستين» الذي ثبت ثبوت الأرض وتحرك الأجرام السماوية، واستمر رأيه مدة أربعة قرون؛ أعني إلى ظهور بطليموس الذي كان بمدينة «الفرما»، وأثبت رأي إيراتوستين ولم يزل علماء هذا الفن يعتقدونه إلى الجيل الخامس عشر حتى جاء العلامة كوبرنيق الألماني وأظهر حقيقة المسألة، ومات أورجيطة سنة 222ق.م.
بطليموس الرابع 222-205ق.م
ويلقب فيلوباطور أي المحب لأبيه، لقب بهذا الاسم على سبيل التهكم والاستهزاء؛ لأنه اتهم بقتل أبيه بالسم، وفي عصره خرج عليه أنطيوخوس الأعظم ملك الشام، يريد بذلك القبض على زمام الأقاليم التي فتحها أورجيطة، فتقابلا الجيشان في مدينة رافيا، وهزم الجيش الشامي، وفتح فيلوباطور بلاد فلسطين وجزءا من بلاد سوريا، وكان ضعيف الرأي؛ حيث كان وزيره «سوسبيوس» يدخل عليه الأراجيف والوهميات التي لا أصل لها، واستمال عقله حتى أغراه على قتل أخيه وأعيان دولته وزوجته، وأمر أيضا بقتل يهود الإسكندرية؛ حيث منعه «الحاخام» من زيارة بيت المقدس، ومات سنة 205ق.م.
بطليموس الخامس 205-181ق.م
ويلقب «أيبيفان» أي الماجد، تولي هذا الملك وهو ابن خمس سنوات، وأقيم عليه أحد وزرائه كفيلا، وصار هذا الوزير يرتكب الجرائم والمفاسد، وكذا قامت عليه الأهالي وأخذوه واستأذنوه في قتله، وقتلوه مع جميع أحبابه، ونقلت الكفالة، وولت الأهالي كفيلا غيره، فتغيرت الأحوال، فأغار عند ذلك ملك الشام، ولكن انتصر عليه ملك مصر بكثرة جنوده.
الملك بطليموس السادس والسابع 181-117ق.م
ويلقب أيضا فيلوماطور أي المحب لأمه، سمي بهذا الاسم تهكما، وكان بينه وبين ملك الشام حروب شديدة انهزم فيها بطليموس وأخذ أسيرا، ولما رأت أعيان البلد ما حصل لملكهم أقاموا أخاه بطليموس السابع فيسكون «الحنطاء»، ولما سمع بذلك ملك الشام ذهب إلى الإسكندرية وحاصرها، ثم إن اليهود شاعت أن ملك الشام مات في حصار مدينة الإسكندرية، فاضطربت أحوال بلاد الشام، فلما علم ملك الشام تلك المسألة توجه إلى وطنه وترك الحصار.
وعاد بطليموس، فعند ذلك حصل النزاع بين الأخوين، فذهب فيسكون إلى بلاد اليونان واستعان بهم، فحكم له أن يكون واليا على بلاد القيروان وبرقة فلم يرض، فزادوه جزيرة قبرص، فغضب بطليموس المحب لأمه، وانتشبت الحرب بين الأخوين، فغلب بطليموس محب أمه أخاه فيسكون، وأخذه أسيرا ثم عفا عنه وزوجه بنته كليوبترة الصغيرة.
بطليموس الثامن 117-107ق.م
فكان ملكا على القيروان، ولما سمع بموت أخيه فيسكون تزوج بأخته كليوبترة التي كانت زوجة أخيه المتوفى، وذبح يوم عقده ابنها على حجرها، ثم تزوج بابنتها أيضا، وانهمك على اللذات والمعاصي، فبغضته الرعية، ففر هاربا إلى جزيرة قبرص، وخاف أن يمتلك ابنه المملكة، فأرسل إليه ولما حضر عنده أمر بذبحه، ووضعه بزنبيل وأرسله إلى زوجته كليوبترة، ولما نظرت ما حصل بابنها جهزت عساكر وتحاربت مع عمها الذي هو زوجها، فهزمها وتولى على مصر ثانيا.
بطليموس التاسع 107-88ق.م
ويلقب أيضا بالأرقط؛ لأنه كان له علامة في وجهه، وكان الملك مبغوضا عند أمه؛ لأنه كان عازما على قتلها بالسم، فقومت عليه الأهالي، ففر هاربا إلى جزيرة قبرص وأخفى نفسه، فجاءت أمه وألبست التاج لأخيه الأصغر المدعو الإسكندر الثاني.
بطليموس العاشر 81ق.م
ومكثت أمه تحاربه وهو في جزيرة قبرص، فكانت تارة تغلبه وتارة يغلبها، ثم قتلها ابنها الإسكندر المذكور وأراح العباد منها، ونبش قبر الإسكندر الأكبر، وأخذ التابوت الذهب الذي كان مدفونا فيه، ووضع تابوتا بدله من البلور؛ فلذا بغضته الأهالي، وأحضروا أخاه بطليموس الزامر ملكا محل أخيه، ومات سنة 80ق.م.
بطليموس الحادي عشر 80-52ق.م
ويلقب بالزامر، سمي بذلك الاسم لتولعه بسماع المزمار، وكان بينه وبين أخيه الإسكندر اضطرابات عظيمة وحوادث جسيمة إلى أن مات الإسكندر سنة 80ق.م، ولما انفرد بطليموس الزامر بالحكم تعاهد مع بومبيوس ويولص قيصر ملكا روما ودفع لهما مبلغا جسيما، وتحصل على هذه الأموال بزيادة الجزية، فبغضته الأهالي ففر هاربا من مصر، ثم عاد مع جيش روماني وقتل الأمراء وأعيان مملكته واستولى على أمتعتهم.
بطليموس الثاني عشر والثالث عشر وكليوبترة الكبيرة
تولى بطليموس الثاني عشر على مصر سنة 52ق.م وهو قاصر مع أخته كليوبترة، فبغضها الأهالي فهربت إلى الشام، وبقي بطليموس الثاني عشر حاكما وحده، وفي هذه المدة قامت فتنة بين ملكي روما وهما يولص قيصر وبومبيوس قيصر، ولما انهزم بومبيوس فر إلى مصر واحتمى عند بطليموس الثاني عشر، فما كان منه إلا أن قتله وبعث رأسه إلى يولص قيصر، فشق عليه ذلك الأمر، وأمر بإحضار بطليموس الثاني عشر وأخته كليوبترة، وحبسهما عنده، فالتمس أهل الإسكندرية من يولص قيصر أن يرسل لهم بطليموس ليكون حاكما عليهم، ولأجل أن ينتقموا من كليوبترة فامتنع من ذلك، فوقع الحرب بين أهالي الإسكندرية والملك يولص قيصر، فغلبوه وأرادوا أن يأخذوا سفنه فأحرقها بيده أيضا ، واشتعلت نيرانها من البحر حتى وصلت إلى القصر الملوكي، ومنه اتصلت إلى كتبخانة الإسكندرية، ثم إن مدينة روما لما استشعرت بذلك أرسلت إلى يولص قيصر عددا من العساكر، فانتصروا على المصريين، وبعد ذلك أطلق لهم يولص قيصر بطليموس الثاني عشر، ولما خرج من عنده جهز عساكر بحرية، فانهزم أمام خصمه، فأخذه وقبض عليه وأغرقه هو وعساكره في النيل، وعاد يولص قيصر إلى بلاده سالما سنة 48ق.م.
وأمر يولص قيصر بطليموس الثاني عشر وكليوبترة أن يحكما بالاشتراك، ومات بطليموس مسموما سنة 44ق.م فتزوجت أخته بأنطينيوس ملك روما، فكان له شريك في الملك يدعى أقطاوس فحصل بينهما مثل ما حصل بين يولص قيصر وبومبيوس، فانهزم أنطينيوس، ورجعت كليوبترة من الشام إلى مصر، وأرسلت لزوجها تعلمه أنها قتلت نفسها، فلما بلغه الكلام قتل نفسه، ودخل أقطاوس مصر، ولما استشعرت بذلك قتلت نفسها بثعبان، وقيل إنها قتلت نفسها حينما لم يقبل أقطاوس أن يتزوج بها وذلك سنة 31ق.م، ومن ذلك الوقت صارت مصر إقليما رومانيا.
الفصل السادس
في تاريخ قدماء الرومان
(1) تأسيس مدينة روما
اعلم أن اللذين أسسا مدينة روما هما «رومولوس» و«ريموس»، من سلالة ملوك «ألب لالنغ» سنة 753ق.م، ووضعا هذه المدينة على نهر التبر، ثم جعلاها بعد ذلك تختا لملكهما، ثم قتل «رومولوس» أخاه «ريموس» وانفرد بالحكم، واشتغل بالجهاد والحروب مع من جاوره من الأمم لا سيما السابينيين، فإنه قتل رجالهم وسبى نساءهم وأدخلهم تحت طاعته، ثم قسم الأراضي بين رعاياه، وأسس مجلسا مكونا من مائة عضو، وسماه مجلس السناتو - أي مجلس الأعيان - ليقوم بخدمة المملكة، وقسم الأهالي ثلاثة أقسام؛ أشراف الناس، والشوالية، وهم اللذين يخرجون إلى الحرب بخيولهم. وفقراؤهم وعامتهم، ثم تجبر وتنمرد، فقتله أرباب المجلس، وأشاعوا أنه رفع إلى السماء، فعبدوه وسموه «كيرينوس»، وذلك سنة 716ق.م.
وبعد موت «رومولوس» بقي التخت بلا ملك نحو سنة، وكان الحكم في هذه الفترة لأعضاء المجلس، ثم اتفق أهل المدينة على تولية رجل يدعى «تومامبليوس» ملكا عليهم، فسار فيهم سيرا حسنا واجتهد في تهذيب أخلاقهم، ورتب لهم محافل دينية، وأسس طائفة الرهبان الوستالية - أي لعبادة الإله «وستا» - ومات بعد أن حكم 43 سنة، وذلك سنة 672ق.م ومن ملوك روما أيضا تركان الثاني الملقب بالتكبر، وهو السابع من ملوكهم، جلس هذا الملك على تخت المملكة قهرا عن أهل المدينة، حينما قتلت زوجته «توليا» أباها سيرويوس توليوس، ونفى رؤساء المجلس السناتو، وجعل معيته رجالا أغرابا، وجعل على الأهالي ضرائب مختلفة، فأذعنوا له وأدوها إليه، ثم إن ابنه سكستوس فحش بامرأة تسمى لوقريس، فقتلت نفسها، وأوصت زوجها أن يأخذ بثأرها، وعند ذلك بلغ نفور قلوب الأهالي منه منتهاه، فانتهز الفرصة نمونيوس بروطوس، وكان الملك «تركان» هذا قد قتل أباه وأخاه، فحرض أهل المدينة على العصيان وإشهار السلاح، ولم يكن الملك «تركان» وقتئذ بالمدينة، فأجمعوا على نفيه مع عائلته مدة حياته، وإبطال السلطنة الملوكية، ونشروا في ذلك قرارات، وذلك سنة 509ق.م. (2) تأسيس الجمهورية الرومانية
وبعد طرد «تركان» سنة 510ق.م وخروجه من المدينة شرعوا في تأسيس الحكم بكيفية جديدة، فأجمعوا على عقد جمعية من مشاور الفرق المئينية؛ لانتخاب حاكمين - أي قنصلين - لإجراء الأحكام العليا، فكانت سطوتهما كسطوة الملوك، إلا أنهما لا يحكمان إلا سنة واحدة، فوقع الانتخاب أولا على بروطوس وقللتان زوج لوقريس المذكورة، فلم يعد على الأمة من هذه التغيرات فائدة؛ لأنه بعد أن كان الظالم واحدا صار متعددا، وصار أهل المدينة حزبين أغراضهما مختلفة؛ أحدهما الأشراف، وغرضهم أن يكون الحكم لهم، والثاني الرعاع، ورغبتهم أن يكون لهم دخل في الحكم، ومكث تركان بعد طرده يحارب أهل المدينة مدة مديدة من الزمن فلم ينجح، وقيل إنه فتح المدينة لكن تركها لعصيان رعيته. (3) الشقاق الداخلي بين الرعاع والأشراف
لما صارت الحكومة جمهورية سطت يد القوي على الضعيف، وتجاهر بعض الأهالي بالعصيان، فحصل بروما نزاع عظيم بين رعاع الناس وأشرافهم؛ بسبب معاملة الأشراف لهم من شدة الظلم والصعوبة في الحكم، فخرجت الرعاع وتركت المدينة إلى جبل صغير مجاور لها يسمى الجبل المقدس، فلما شاهد ذلك مجلس السناتو التزم بأن ينتخب قاضيين يقومان بالمدافعة عن حقوقها؛ لأجل تهديد تلك الأمة، فصار بعد ذلك قاضيان نائبان عن الأمة، وصار الحكم في أيديهم يتزعزع كما كان في يدي مجلس السناتو، وانتهى أخيرا بتفريق الجمهورية وشطاطها، وبعد مضي زمن قليل قالوا على حسب ما بدا لهم من رأي العين أن لا يحكمان بالقوانين الموضوعة في الأصل إلا بعد إضافة بعض أحكام أخر لها، ولأجل نهي ذلك الأمر أرسلوا رسولين إلى مدينة أتينا لإحضار قوانين سولون، وعند رجوع الرسولين من تلك المأمورية كلف عشرة رجال من الأشراف بتحرير تلك القوانين، وأطلقوا عليهم «جمعية انتخاب القوانين»، فعملوا ما أمروا به، ولكن درجوا ما ليس هو مدون فيه من الظلم والعدوان، فقامت عليهم الأمة لما ظهر لها من ظلمهم وجورهم وطردوهم، وأما المسيو «أبيوس كوديوس» الذي كان فائقا في الظلم فكان عقابه الموت، وبعد ذلك حصل بين هاتين الأمتين معاهدات عظيمة، أهمها عقد الزواج بينهما، وبعد مضي 70 سنة حصل من أحد قضاة الأمة المسمى سيسينوس ستولون هيجان عظيم، بقوله إن القانون لا يجوز لأي وطني أن يستأجر أكثر من 500 فدان من الأراضي الميرية، ولا بد أن أحد القضاة يكون من أصاغر الناس - أي من عائلة فقيرة - فلم يقبل منه ذلك إلا بعد مضي عشر سنوات أي بعد انقطاع الشقاق الداخلي.
وفي سنة 366ق.م كان أول قاض في البلد هو سيكتيوس من أسافل الناس، وأخيرا فإن صحة أقوال ذلك القانون تم قبولها بواسطة رعاع الناس بشرط أن يستحقوا ألقاب الشرف أو رؤساء الديانة، وقد انقطع من وقتئذ الشقاق الداخلي من تلقاء نفسه الذي جعل روما منذ مدة مديدة في اضطراب عظيم، وتقدمت في فتوحاتها من ذلك الوقت تقدما لا يدرك العقل سبيل كنهه. (4) إغارة الغول على روما سنة 390ق.م
ولما كانت الحرب عند الرومانيين من أعظم الوسائل لاتساع مملكتهم، تقدم عندهم هذا الفن واشتهروا به، وحيث كانت مصاريف الحرب في أول الأمر على الأهالي فكانت أيامه قصيرة، وكانوا إذا مضى عليهم في الحرب عشرون أو ثلاثون يوما قعدوا عنه وانصرفوا لأشغالهم، فأشار مجلس السناتو بترتيب ماهية للعساكر، فقبلت الأهالي منه ذلك وعدوه إحسانا، وفي ذلك الوقت ابتدأت شوكة الجمهورية في الظهور لدوام جيوشها تحت السلاح، ولولا الوسائل التي بها حجز الرؤساء العسكرية تحت السلاح لما نجحوا في واقعة مدينة «وييس» التي مكثوا في محاصرتها عشر سنين، وكان الفخر في هذه المدينة التي هي قرينة مدينة روما لكاميل - أحد الجنرالات الرومانية - وذلك قبل المسيح بنحو 405 سنة، فكوفئ هذا الرجل الشهير بالنفي؛ لأنه اتهم ظلما وعدوانا بإخفاء جزء من الأموال المغتنمة من المدينة المذكورة، فلما حكم عليه بالنفي ذهب إلى الأدرياتيين وأقام عندهم، وفي ذلك الوقت هجم جيش عظيم من الغول - وهم قدماء الفرنساويين - كان عبر جبال الألب تحت قيادة «برينوس» وأتلف كل ما مر به، وأفنى الجيش الروماني قريبا من نهر الأليا، ودخل روما وكان قد تركها أهلها، وحرقت المدينة، وذلك سنة 390ق.م، وكان مانيليوس في ذلك الوقت انضم إلى بعض الشبان الرومانيين وتحصن معهم في قلعة الكابيتول، فسد الغول طرقها ومسالكها وضيقوا عليهم، ودفعهم مانيليوس مرارا، فلما بلغ كاميل ما حل بأهل وطنه نسي ما كان وقع منهم في حقه من الإساءة، وخرج من عند الأدرياتيين لمساعدة وطنه، فقلده مجلس السناتو برتبة الدكتاتورية - ولي الأمر المنفرد بالحكم - فقيل إنه حاربهم وقطع دابرهم ولم يبق منهم من يبلغ خبرهم لأهل وطنه، فكان كاميل ومانيليوس هما اللذان أنقذا وطنهما من الغول إلا أن طمع مانيليوس كان سببا في إلقائه من أعلى قلعة الكابيتول. (5) الحروب القصصية (5-1) الحرب الأولى
قد ذكرنا فيما تقدم أن قرطاجة قد أسسها جملة من المهاجرين الصوريين سنة 869ق.م، وكان الرومانيون قد عقدوا جملة معاهدات تحالفية وتجارية مع أهل قرطاجة، ثم إن كلا من هاتين الأمتين كان متطلبا الاستيلاء على جزيرة سيسيليا، فصار ذلك منشأ لوقوع الشقاق بينهما، فلما استولى المامرتينيون على مدينة مسينا وهي إحدى مدن تلك الجزيرة، حاربهم هيرون ملك سيراقوزة «بالجزيرة عنها»، فأتى القرطاجيون وأعانوهم عليه، إلا أن المامرتينيين لخوفهم من عدوهم هيرون المذكور وغدر القرطاجيين لهم دخلوا في حماية روما، وفي سنة 264ق.م ذهب القنصل أوبيوس قلوديوس إلى سيسيليا وكسر القرطاجيين والملك هيرون، فتعصب الفريقان على روما، فاقتضى الحال محاربة الرومانيين مدينة قرطاجة التي كانت لها الشوكة القوية والمكانة العلية عند من جاورها من الأمم لا سيما الملاحة، ولم يكن للرومانيين وقتئذ قوة بحرية فصنعوا مراكب حربية، وتولى القنصل دويليوس قيادة الدونانمة الجديدة وفاز بنصرة عظيمة على القرطاجيين، وهذه أول واقعة بحرية حصلت من الرومانيين وانتصروا فيها، واستولوا على جزيرتي قورسة وسردينيا.
وبعد ذلك توجه أحد الجنرالات الرومانية المدعو ريجولوس مع جيش إلى قرطاجة، إلا أن كزنتيب اللقديمونياني الذي كان قد أتى لمساعدة المدينة المذكورة هجم على ريجولوس وكسره وأخذه أسيرا، ووضعه في الحديد، واستمرت الحرب إلا أنها كانت متراخية ودولا بينهم، وقيل إن القرطاجيين عذبوا ريجولوس عذابا شديدا حتى مات، ثم فاز الرومانيون بنصرة عظيمة قريبا من جزائر أغاتة تحت قيادة القنصل لوتاسيوس سنة 242ق.م، والتزم القرطاجيون بدفع جزية سنوية لروما، وهذا هو الحرب الأول القصصي الذي مكث مدة 22 سنة. (5-2) الحرب الثانية
وذكر أنيبال وكورنيليوس سيبيون
واستمر القرطاجيون يدفعون الجزية للرومانيين إلى أن نشأ فيهم أنيبال أحد جنرالاتها وقتئذ عدوا للرومانيين، فحرض أهل بلاده على حربهم، فشرعوا في محاربة ساجونتا إحدى مدن إسبانيا، وكانت هذه المدينة حليفة روما، فحرقها أنيبال وصيرها رمادا، واجتاز جبال بيرينية ونهر الرون وجبال الألب وذلك سنة 218ق.م، فهزم ثلاثة جيوش رومانية، وأعظم هذه الوقائع وقعة «كانه» سنة 217ق.م، فقتل فيها القنصل إيمليوس 70000 من العساكر الرومانية، إلا أن هذه الواقعة أفقدت القرطاجيين عساكر كثيرة، فذهب بعد ذلك إلى جهة «كابو» التابعة لبلاد قبانية، فلينت لذات الجهة المذكورة طباع عساكره، فنسي الرومانيون الشقاق الداخلي، وجمعوا جيوشا جديدة، وصار بذلك إنقاذ روما، وفي أثناء ذلك الوقت فتح مارسيلوس مدينة سيراقوزة سنة 212ق.م، واشتهر سيبيون في إسبانيا، وطرد القرطاجيين من شبه جزيرة إسبانيا، ولما عاد إلى روما أراد التوجه والهجوم على أفريقا فقبل منه المجلس، وفي السنة الثانية أزعج قرطاجة بجيشه المهول ، فدعت من إيطاليا أنيبال لمعاونتها، إلا أنه كان لم يتيسر لأحد مقاومة هذا الشهم الروماني، فهزم أنيبال في «أودية زاما» سنة 202، ولما غلب أنيبال ومن معه نصح أهالي مدينته بقبولهم الصلح من عدوهم؛ حيث لم يتيسر لهم غلبة بعد ذلك، وأما أنيبال فإنه خرج من بلده وذهب يبحث في غير تلك البلاد على من يكون عدوا للرومانيين، أما قرطاجة فضرب عليها الجزية، وهذا هو الحرب الثاني القصصي.
الحروب الأخيرة بين الرومانيين وأهل مقدونيا والشام
ولما أمد فيليبش الثالث ملك مقدونيا أنيبال بالإمدادات الحربية جرد الرومانيون عليه التجريدات الحربية للانتقام منه، وانضموا إلى اليونان أعدائه، وهجموا على مقدونيا تحت قيادة القنصل «فلامينينوس»، فهزمه بالقرب من مدينة سيتوسيفالة «بتساليا»، فالتزم هذا الأمير بتحمل مشارطة صلح موجبة لذله وحقارته، وبإعطاء ديمتريوس أحد أولاده رهينة عند الرومانيين، وذلك سنة 196ق.م.
وفي سنة 191ق.م ابتدأت الحروب بين الرومانيين وأنطيوخوس الأكبر ملك الشام الذي كان قد التجأ إليه أنيبال، وأيضا كان قد قام لمساعدة الإيطوليين ببلاد اليونان، فهزمه الرومانيون في مضايق ترموبيل، وفر هاربا إلى آسيا الصغرى، فتبعه القنصل «لوسيوس سيبيون» أخو سيبيون الأفريقاني وانتصر عليه أيضا بالقرب من مدينة مانيزيا سنة 179ق.م، فالتزم الملك المذكور أن يترك للرومانيين جميع أقاليمه التي بآسيا إلى جبل الطور، فأخذ الرومانيون منها أموالا جسيمة، ولقب سيبيون المذكور بالآسياتيقي.
وفي سنة 170ق.م جد بيرسي بن فيليبش الثالث في التخلص من رق الرومانيين، فغلبه القنصل «بول إيميل» في واقعة بيدنا - مدينة بمقدونيا - وبعث به أسيرا إلى روما ومعه جماعة من أكابر اليونان، وكان من ضمن هؤلاء الأسارى المؤرخ الشهير «بوليب»، وبعد ذلك ببضع سنين قام ابن بيرسي المذكور وأشهر لواء العصيان، لكنه هزم أمام حصن ميتيليوس، وصارت مقدونيا من ذلك الوقت إقليما رومانيا.
وفي سنة 146ق.م دخل الرومانيون بلاد اليونان، وكانت قد ضعفت من الفتن والعرابيد المتوالية، فلذا لم يجدوا عندهم من يكافحهم غير الحزب الأخيواني، فحصلت وقعة بالقرب من مدينة كورنته فانهزم الحزب المذكور، ودخل القنصل موميوس المتوحش المدينة المذكورة ، ونقل إلى روما جميع ملحها وبضائعها ونفائسها وأسلمها إلى اللهيب، وصارت مملكة اليونان من ذلك الوقت إقليما رومانيا وسموه إقليم إخيا. (5-3) ذكر الحرب الثالثة
ولما أغار «ماسينسه» ملك نوميديا - بلاد الجزائر - على أراضي قرطاجة الذي كان يهددها بالهجوم دائما، ترتب على ذلك مشاجرات ألزمت مجلس السناتو بإرسال رسل لإزالة هذه المشاجرات؛ حيث كان هذا الملك حليف روما، وكان ضمن الرسل المذكورين «قاتون»، فلما رأى هذا الجنرال وسائل الاستعداد عند القرطاجيين رجع إلى روما منزعجا، وحرض أهل بلاده بالتخلص من كل خوف يخشونه في المستقبل، وختم كلامه بقوله: يلزم هدم قرطاجة، فتولى سيبيون إيميليان قيادة الجيش الروماني، وكانت الأوامر التي صدرت له عارية عن الشفقة بالكلية، فلما رأى أهل قرطاجة أنه لا ناصر ولا مانع لهم من أعدائهم دافعوا عن أنفسهم بكل ما في وسعهم من الحمية، إلا أنهم فترت قواهم من كثرة عدد عدوهم وأخذت المدينة قهرا، وسلمت ليد اللهيب، فبقيت النار سبعة عشر يوما ، وهدمت جميع ديارها وذلك سنة 146ق.م، ولقب سيبيون كجده بالأفريقاني لكونه تمم الحرب الثالث القصصي. (5-4) مجاذفة الجراكيين من 133-121ق.م
فلما تمت الحروب الخارجية وقع الشقاق بين أهالي المدينة، فكان يرى في روما جم غفير من الفقراء لا يمتلكون القوت الضروري، وجم آخر يملك أراضي كان من الواجب أن تكون تحت يد الجمهورية، فشرع رجلان مشهوران بمعارفهما وهما طيبريوس جراكوس وكيوس جراكوس أولاد كورنيليا بنت سيبيون الأفريقاني على أن يحاميا عن الأهالي، ويغرسا شجرة العدل والإحسان ليدثر بذلك آثار الظلم والعدوان، وكان طيبريوس قد استحصل على نيابة الأهالي، فأمر بنشر قانون الفلاحة وصار يساعد الفقراء في أمرهم هذا، ومن ثم كثرت أعداؤه، فصار قريبه سيبيون نازيكة مقدم الفرقة المضادة له، وأغار على محل اجتماعه بالأمة، وكانت الأمة مجتمعة هناك، فقتل طيبريوس من شدة الضرب مع ثلثمائة من أحزابه، وذلك سنة 133ق.م.
وأما كيوس جراكوس فإنه مع ما حصل لأخيه من القضاء والقدر توظف مكانه وسلك طريقته، فكانت عاقبته مثل عاقبة أخيه، وذلك أن أوبيموس الذي كان من أعدائه لما تقلد بالقنصلية قام على جماعته وقتل منهم ثلاثة آلاف، وكان من جملتهم كيوس جراكوس المذكور، وألقى رممهم في نهر التبر، وذلك سنة 121، ومن ثم انتصرت أشراف الناس، لكن بئس ما فعلوه. (5-5) الحروب الداخلية بين ماريوس وسيللا
ذكر ميتريدات
ولما انتصر ماريوس على ليوغورتا ملك نوميديا وأيضا على الجيشين العظيمين من السمبريين والطوطونيين المتوحشين الذين كانوا قد شنوا الغارة على أطراف إيطاليا الشمالية بغضه سيللا، فاتحد ماريوس مع أرباب الفتن والفساد لنزع الحكم من يد الأشراف ونقلها لأيدي العامة؛ حيث كان هو من رعاع الناس وأسافلهم، وسعى هو وحزبه في عزل سيللا، فخرج الأمير الأخير وعساكره على روما سنة 87ق.م، فولى ماريوس ومن معه هاربين، ثم توجه سيللا لمحاربة متيريدات الأكبر ملك بونت بآسيا الصغرى، فقويت قلوب حزب ماريوس واستولوا على روما ثانيا، وأحضر ماريوس، إلا أنه تجاوز الحد في الظلم والقساوة وقتل جميع أحزاب سيللا، وقلد نفسه بالقنصلية ، وتوفي وهو في أعظم شوكة وسطوة، إلا أنه لما بلغه نصرات سيللا على ميتريدات كدر عليه آخر أيام حياته، وعاد سيللا إلى إيطاليا بجيشه ودخل روما وهو ظافر بأعدائه، إلا أنه دخلها خاليا من الرأفة والشفقة كما كان ماريوس كذلك، فلم يقاومه أحد، وأعطى لعساكره أموال القتلى، وجمع لنفسه جميع الوظائف فانزعج منه مجلس السناتو، وقلده بوظيفة ولاية الأمر الدائمية، وذلك سنة 81ق.م، ثم تنازل عن الحكم ومات بعد قليل. (5-6) حكومة الثلاثة رجال الأولى
الحروب الداخلية بين يولص قيصر وبومبيوس قيصر
ولما مات كراسوس شريكهما في الملك واشتهر يولص قيصر «سيزار» بفتح بلاد الغول، حقد عليه بومبيوس قيصر «بومبيه»، وأغرى المجلس عليه حتى نزع منه رياسته، إلا أن يولص قيصر المذكور كان قد أحدث له بروما حزبا عظيما، ومع ذلك فإن الجيوش التي قادها مدة مديدة من الزمن كانوا محبين له، فامتنع من الامتثال لأمر مجلس السناتو، فأشهره في الحال عدوا عموميا، وأمر بومبيوس بالقيام بملاحظة المملكة وذلك سنة 49ق.م، فخرج يولص قيصر على روما، ولما دنا منها هرب بومبيوس إلى مقدونيا، فتبعه خصمه فيها، فاقتضى الحال لمعركة قاطعة لهذا المشكل، فحصل ذلك في أودية فرساله وذلك سنة 48ق.م، فانتصر عليه يولص قيصر وفر هاربا إلى بطليموس الثاني عشر ملك مصر الذي كان له الفضل عليه؛ حيث ساعده في توليته ملك مصر، فقتله هذا الملك الخائن. وقيل إن يولص قيصر لما بلغه هذا الخبر لم يستطع أن يحجز دموعه، وتم الأمر كما تقدم، ثم توجه إلى آسيا لمحاربة فرناس بن ميتريدات وانتصر عليه، ومحا آثار حزب بومبيوس من الدنيا، وتقلد بمنصب الدكتاتور الدائمي - أي الذي لا يعزل - وحكم بغاية العدل والإنصاف، وعفا عن أعدائه، ولكن تعصب عليه جملة من الجمهورية، فلما بلغه هذا الخبر تعند ودخل المجلس في اليوم الذي كان قد اجتمع فيه المتعصبون على قتله فضربوه ثلاثة وعشرين خنجرا، وذلك سنة 44ق.م. (5-7) حكومة الثلاثة رجال الثانية «وذكر واقعة أكسيومه»
ولما قتل يولص قيصر حصل عصيان مهول بين الأمة وحوادث جسيمة، تسبب عنها التجاء مرك أنطوان إلى ليبيدوس رئيس الغول القاطنين وراء جبال الألب، وأما أقطاوس «أوكتاف» وارث الدكتاتور المقتول - لم يكن ابنه وإنما كان متخذه ابنا - لما رأى أن اعتباره بروما أخذ في الانحطاط ذهب إلى أنطوان وليبيدوس وأشركهما معه في الحكم، فبدءوا بتشتيت جميع أعدائهم وجرى الدم في أطراف روما، وكان يعلق في المحل العمومي صبيحة كل يوم قوائم طويلة بأسماء من صدرت الأوامر بقتلهم، فلما تعبت القضاة الثلاثة من الأمر بالشنق والانتقام ختموا ذلك بقتل بروطوس الذي كان موجودا في مقدونيا، ثم إن الاتفاق بينهم لم يطل؛ وذلك أن أقطاوس ابتدأ بنفي ليبيدوس وحكم هو وأنطوان بالاشتراك مع بعضهما، ثم قسم المملكة بينهما، واكتفى أقطاوس بأمر المغرب، وأنطوان بأمر المشرق، لكن لما تنازل أنطوان عن الأقاليم الرومانية الشرقية لامرأته كليوبترة ملكة مصر قام أقطاوس وأعلن حرب أنطوان، الذي كان نسي نفسه من وجوده عند كليوبترة التي دهشته محاسنها، فانهزم أمام خصمه في واقعة بحرية قريبا من مدينة أكسيومه - في الشمال الغربي من بلاد اليونان - وذلك سنة 31، وقتل أنطوان وكليوبترة نفسهما كما تقدم ذلك، ودخلت مصر تحت حكم الرومان.
الفصل السابع
في تاريخ مصر تحت حكم الرومان
ولما انفرد أقطاوس بالحكم لقب نفسه بأغسطس قيصر، وأبطل تأثير الجمهورية، ولم يبق لها إلا الاسم فقط؛ لأن أغسطس قيصر كان مطلق التصرف والحكم، ولما صار ملكا تشبث بالعدل، مع أنه قبل توليته كان ذا قساوة، وشرع في ترتيب القوانين العدلية لراحة الرعية، فرغبت في حكمه ممالك الشرق، وكان العامل من طرفه على مصر إليوس غالوس، فاجتهد هذا العامل في إصلاح ما أفسدته يد الفتن في آخر حكم البطالسة، ثم عزله أغسطس؛ لداعي أنه رحب بأعدائه المنفيين من روما، وولى مكانه بطرونيوس، ففي مدته صدرت إليه الأوامر القيصرية بمحاربة بلاد العرب، فما أمكنه إطاعتها؛ لداعي صعوبة أقطارهم، ولما كان هذا النائب غائبا ببلاد العرب هجمت على مصر ملكة السودان المسماة قنداس، واستولت على أقاليم الصعيد، فحين رجع هزم السودانيين شر هزيمة، وضرب عليهم الجزية وصير مملكتهم تابعة لبلاد روما.
وكان العامل من طرف أغسطس قيصر على أمة اليهود هو هيرودوس الذي في عصره ولد المسيح عيسى عليه السلام 622 قبل الهجرة، فأراد قتله هذا العامل، فأخذته أمه السيدة مريم ويوسف النجار وهربت إلى مصر، ومكثت مدة سنتين، وكانت ولادته في بيت لحم «بالقدس»، ثم عادت إلى الشام ونزلت بمدينة الناصرة، وبها سميت النصارى، وكان في ذلك الوقت مات هذا العامل، ومات أغسطس 14م، فكانت مدة حكمه 43 سنة غير رياسة الجمهورية، وفي عصره وفد على مصر الجغرافي استرابون اليوناني ووصفها وصفا عجيبا.
ذكر الإمبراطور طيبريوس بن أغسطس
وكانت مصر في أيامه سعيدة الطالع لم تتنازل عن بهجتها، ولكونه كان قاسي القلب على أكابر روما كان لا يسوغ لحكام أقاليمه بظلم الرعية أصلا، وهو الذي بنى مدينة طبرية بالشام، وفي عهده رفع المسيح عيسى عليه السلام إلى السماء، وكان هو الذي أمر بتسليمه لليهود؛ كي يصلبوه - والقصة مشهورة - وكان قد تعدى قبحه أن قتل جميع أقاربه وأصدقائه ومن كان محترما من الأهالي، وكان المساعد له سيجان وزيره، فكسا مدينة روما ملابس الحزن، وذهب إلى جزيرة كابريه - في مدخل خليج نابولي - وانهمك على اللذات والمعاصي إلى أن مات سنة 37م.
وتحت حكم كاليغولة تكاثر ورود بني إسرائيل إلى مصر، وأرادوا أن يتمتعوا فيها كما كان ذلك زمن البطالسة؛ حيث كان لهم علاقات مع المقدونيين، فأمرهم عامله على مصر بدخول تمثال الإمبراطور في كنائسهم، ومن يمتنع من ذلك ولم يؤد له حق الإله على المعبود عذب عذابا شديدا، فذهب فوكون أحد علماء ذلك العصر إلى روما ليترافع عن حقوق أبناء وطنه، فلم يعد من سفره فائدة، وكان أقسى قلبا من طيبريوس وأخف عقلا منه، حتى إنه قلد حصانه بوظيفة القنصلية.
ومن ابتداء حكم الإمبراطور كلود الذي خلف هذا الإمبراطور لغاية حكم الإمبراطور ويسبيزيان لم يحدث بمصر أمور مهمة تستحق الذكر، وفي عصر الإمبراطور الأخير حصل مصاب عظيم ببلاد إيطاليا أورث المملكة هما وغما؛ وذلك أن جبل النار المسمى قيزوف حصل فيه فوران فابتلع مدينتي هيرقولانوم وبومبي، وخرب الحريق معابد كثيرة في روما، ومكث بها ثلاث أيام ثم أعقب ذلك طاعون أهلك أناسا كثيرين.
فتح تيتوس عاشر إمبراطورات روما مدينة بيت المقدس، وعمر هيكل الإسرائيليين الذي كان بمحل يعرف باسم «تل اليهود»، وفي نصف القرن الثاني من التاريخ المسيحي أغار على مصر والنوبة أمم متبربرة كانوا على شواطئ البحر الأحمر، فقتلوا العباد وأحرقوا البلاد ودمروا الهياكل والمعابد.
وفي زمن الإمبراطور تراجان استولى الرومانيون على بلاد العرب النباتيين، وأخذوا مدينة «بترة» وزخرفوها بمباني على نسق المباني اليونانية، باقية آثارها إلى الآن، وحق على التاريخ أن يلوم عليه على ما وقع منه من التسلط في حق النصارى، وفي ذلك الوقت نقصت مياه الترعة التي كان فيها تل بسطة، وتصب بالبحيرات المرة التي كان حفرها بطليموس فيلادلفيس، فأنشئت ترعة أخرى فيها بالقرب من مصر القديمة «بابيلون مصر» وتصب بالبحر الأحمر بالقرب من القرية المسماة قديما بالقلزم - السويس الآن - وتوفي تراجان في سيسيليا، فاختار عساكر الشام قريبه أدريان، وصدق مجلس السناتو على ذلك، فأخذ بالسياحة في جميع ممالكه، وفي أيامه عصت عليه أمة اليهود فطردهم من فلسطين وتفرقوا في البلاد. وفي زمنه وعصر أنطونين ومرك أوريل كانت بلاد مصر في هدوء وراحة، والإمبراطور الأخير هو الملقب باسم «الفيلسوف»؛ لأنه كان فيلسوفا علما وعملا، ولم يمنعه ذلك من القيام بواجب المملكة، فإنه انتصر مرارا على متوحشي الجرمانيين، وكانت جيوشه من النصارى، ومن ثم عاملهم بالعدل والإنصاف، وتوفي مرك أوريل سنة 180م، وفي ذلك العصر كان وجود الجغرافي بطليموس صاحب الكتاب المجسطي الشهير، وكان بمدينة الفرما - من أعمال مصر.
وفي عصر الإمبراطور غاليان كان قد لحق الإسكندرية الخراب التام، وأشركه في الملك شيخ عربي يدعى «أودينه» الذي هزم الفرس شر هزيمة، وبعد موت العربي قام بالأمر بعده امرأته المسماة زينوبيا التي أتت إلى مصر، ولم يمكنها فتح مدينة الإسكندرية إلا بعد موت قلوديوس الذي كان قد أشهر نفسه إمبراطور مدينة الإسكندرية، وكان مقر حكومتها مدينة البالمير - بالشام - ثم هزمها الإمبراطور أوريليان وحملها إلى مدينة «إيمسه»، فأحد أتباعها المدعو فورموس الشامي أثار فتنة بالوجه القبلي كانت سببا في عصيانه على أوريليان، فبذل همته الإمبراطور المذكور وأطفأ نار تلك الفتن، وقتل الشامي المذكور، وذلك سنة 271م. وفي زمن الإمبراطور دقلطيانوس الذي حكم من 284 إلى 305م عصت عليه أهل مصر؛ لجور نوابه على رعاياهم، فأتى الإمبراطور المذكور وجاليريوس شريكه في الحكم إلى مصر؛ لإطفاء نيران ذلك العصيان، فخربا الوجه القبلي وأحرقا بلاده حتى مدينة قبط 292م، وقد ترك دقلطيانوس لأمة النوبة الأراضي الواقعة بين الشلالين الأوليين، وبنى سورا باق في آثاره إلى الآن؛ لمنع تعدي الأمم المتبربرة على مصر، وبعد ذلك ظهر بالإسكندرية العامل «أشللي»، وأعلن لنفسه الإمبراطورية، فأتى دقلطيانوس بنفسه وحاصر مدينة الإسكندرية مدة ثمانية شهور، وأخذ المدينة المذكورة وقمع أهل الفتنة، ووضع تمثال الإمبراطور على عمود في وسط هيكل سيرابيوم بالإسكندرية، وسموه عمود بومبيه، وهو المعروف الآن بعمود السواري، وقتل أناسا عديدين من المسيحيين، وألقى رممهم غنيمة للحيوانات المفترسة، قاصدا بذلك دخول أهل مصر في ملته، ومع ذلك لم ينجح في جميع مقاصده، وتؤرخ القبط من حادثته.
وأما الإمبراطور قسطنطين الذي حكم من 306-337م ففي عصره انتشرت ديانة المسيح عليه السلام، وتوجه أحد سكان الإسكندرية المدعو فريمنتوس إلى بلاد الحبشة وتكلم في شأن الديانة المسيحية التي لم تتبع إلا بعد ذلك بقرنين، وفي عصر قسطنطين انتقل تخت المملكة من روما إلى القسطنطينية؛ حيث كان الذي أسسها وجمع البطارقة ووضعوا له الشرائع النصرانية، وسارت أمة هيلان - أي اليونان - إلى القدس، وأخرجت خشبة الصليب، وأقامت لذلك عيدا، ومن ذلك الوقت أطلق على أهل مصر اسم الأقباط نسبة إلى مدينة قبط التي بالصعيد.
وقبل موته قسم المملكة بين أولاده، فمن هذا التقسيم حصل الاختلاف بينهم وقتل بعضهم بعضا، وما زال هذا الاختلاف إلى عصر الإمبراطور تيودوز الذي حكم سنة 379م، وفي مدته صدرت الأوامر القيصرية لجميع الولايات الرومانية باتباع الديانة المسيحية، ونشرت قرارات بغلق معابد وهياكل الديانة الوثنية وهدمها، ومن ثم هدم هيكل سيرابيوم سنة 879م واحترقت الكتبخانة، وأصلح الأحوال بحسن سياسته وتدبيره، وكان له ولدان وهما أرقاديوس وهونوروس فقسم المملكة بينهما، ولكن لم يحصل ذلك إلا بعد موت شريكه فالنتينيان الثاني سنة 389، وجعل الأول على المشرق وتخته مدينة القسطنطينية، وجعل الثاني على المغرب وقاعدته مدينة روما، وهذا التقسيم كان سببا في خرابها الأخير وزوالها بظهور دولة آل عثمان.
الفصل الثامن
في الكلام على إمبراطورات القسطنطينية ودولة اليونان السفلى
حكمت هذه الدولة بعد انقسام المملكة الرومانية سنة 395م، وانقرضت بظهور السلطان محمد خان الثاني من آل عثمان 1453م. ولنذكر أشهر إمبراطوراتها فنقول:
ذكر الإمبراطور أرقاديوس
وهو أول ملوك هذه الدولة وكانت مملكة الروم في عهده ضعيفة؛ لأنه كان قاصرا وكان الحل والعقد في يد وزيره رومين، وفي مدته صدرت أوامر لجميع الولايات الرومانية باتباع الديانة العيسوية، وأمر بغلق الهياكل والمعابد ولا سيما هياكل مصر، ومات بعد أن حكم 13 سنة وذلك سنة 408م.
جوستسيانوس الثاني
وكان أول أمره حميد السيرة موصوفا بالعدل، ثم ظلم وجار على الرعية وانكب على الملاهي، وترك الحكم لامرأته «صوفية» التي أحبت شابا يسمى «طيباريوس» متصفا بالذكاء والآراء السديدة، فكانت تستشيره في جميع أمورها، فحملت زوجها بأن يوصي له بالقيصرية، قاصدة بذلك أن يتزوج بها، وأرسل إليه ملك التتار الهبارة سفير العقد معاهدة، فرفض «جوستسيانوس» هذا الطلب وأظهر التعاظم والكبرياء، ثم اتفق بعد ذلك مع ملك التركمان وتحالف معه على حرب «كسرى أنوشروان» ملك الفرس؛ بسبب منازعتهما على بلاد أرمينيا، فقامت الحروب بين «جوستسيانوس» وأنوشروان، واستمر القتال بين الدولتين إلى موت الملكين، فانقطعت الحروب بموتهما بعد أن حكم 13 سنة، وقام بالأمر بعده «طيباريوس الثاني».
طيباريوس الثاني
عند جلوسه على كرسي المملكة تحارب مع «هرمز بن أنوشروان»، وكان أرسل لقتاله قائدا من قواده يدعى «موريس» مع ثمانين ألف فارس، فحارب العجم وانتصر عليهم أكثر من ثلاث مرات، فكافأ الملك هذا القائد وزوجه ابنته، وتعهد بأن يكون هو الملك بعده، وعند موت هذا الملك المذكور تولى «موريس» على الملك.
موريس
وفي أيامه حدثت فتنة في بلاد العجم جبرت «هرمز بن أنوشروان» أن يفر من بلاده إلى «موريس» ليغيثه، فقابله المذكور بالترحاب، وأمده بجيوشه، وأعاده ملكا على بلاد العجم تحت اسم خسرو برويز، ثم حول جيوشه إلى محاربة التتار الهبارة الذين كانوا قد أتوا من آسيا إلى بلاد المجر وسكنوا فيها، فانتصر عليهم عدة نصرات عظيمة، وكان ملك التتار أسر في هذه الواقعات عشرة آلاف فارس، فطلب منه ملك التتار فداء كل واحد منهم دينارا فلم يقبل، ثم طلب منه على كل رأس نصف دينار فأبى أن يعطيه شيئا، فاغتاظ ملك التتار وذبح جميع أسراء الروم، فلما اشتهر هذا الأمر نفرت قلوب الرعية منه ورفعوا لواء العصيان عليه، وولوا بدله رجلا من رعاع الجند يدعى «فوكاس»، فبايعوه بالسلطنة سنة 602م، وكان «موريس» وقتئذ بالقسطنطينية، فلما بلغه الخبر فر هاربا مع عائلته، فأرسل «فوكاس» مجدا في طلبه، فقبضوا عليه، وأمر بضرب أعناق أولاده ثم قتله.
فوكاس
ولما حكم فوكاس أمر عماله الموجودين بمصر برفت جنس المصريين من الوظائف الميرية، فحدث من ذلك اضطراب وفتنة في الإسكندرية، وكان أكثر أهل هذه الفتنة طائفة اليهود، فحكم عليهم هذا الملك بأن يتنصروا فأطاعوه.
وأما خسرو الثاني ملك الفرس الذي هو أبرويز فعند سماعه بقتل موريس الذي أعاده إلى ملك أبيه أظهر الحزن والأسف، وانتهز الفرصة لفتح باب الحرب مع الروم متخذا ذلك حجة وسببا للانتقام من فوكاس، فأخذ جملة حصون وقلاع، واتصلت إغاراته إلى بلاد سوريا، وكان فوكاس قد جرد له جيشا، فانهزم هو وجيشه وتفرق شمله، وكانت أمة الروم قد صممت على خلعه من أعماله القبيحة، فكتبت إلى هيراقليوس أو هرقل والي أفريقا أن يحضر ليخلص القسطنطينية من يد فوكاس، فسار هيراقليوس بجيش مهول إلى القسطنطينية، فقبض الشعب على فوكاس، فأمر بضرب عنقه وعنق إخوته، وبايعوا هيراقليوس سنة 610 وعمره 35 سنة.
هرقل
قد ذكرنا أن «أبرويز خسرو» ملك الفرس تغلب على أكثر ولايات الروم الشرقية في زمن فوكاس، وقد استمر أيضا في افتتاح البلاد في زمن هرقل حتى فتح أنطاكية وبيت المقدس، ثم اتصلت إغاراته إلى الديار المصرية وبلاد المغرب، وصالح المصريين واتفق معهم على أن يدفعوا له أموالا معلومة كما كانوا يدفعون إلى قياصرة الروم، ثم بعد ذلك قصد بلاد الأناضول فاستولى على بروسة الواقعة على بوغاز البوسفور، واستعان هناك بقبائل التتار الهبارة، وتعاهد معهم على أن يهجموا على بلاد الروملي، فأغاروا على تلك الجهات ونهبوا المدن والقرى، واستمروا على ذلك حتى دنوا من أسوار مدينة القسطنطينية، فلما اشتد الحال على هيراقليوس وآيس من النصرة؛ لقلة عدد جيوشه ولعدم وجود النقود الكافية لتعيين الجيوش، صمم على أن يسافر إلى تونس وينقل تخت المملكة هناك؛ لأنها كانت تابعة لدولته، فصده عن ذلك بطريق القسطنطينية، وفتح خزائن الكنيسة، وأمده بما لزم من الأموال لتعيين الجنود، فصالح التتار ورفع عنه أشغالهم نظير مبلغ معلوم من المال، ثم إنه عين جيشا عرمرما وزحف بنفسه لقتال الفرس، وعند وصوله إلى مدينة أبسوس - حيث انتصر هناك الإسكندر على الفرس - وافته جنود الفرس فانتصر عليهم بعد قتال شديد، ثم رجع إلى القسطنطينية ظافرا منصورا، ولم تزل عساكر الفرس بعد هذه الهزيمة تشن الغارة وتلقي الفساد في أطراف تلك البلاد، فحاربهم هيراقليوس مرة ثانية لصدهم وردعهم، وذلك لكونه عبر البحر الأسود، وقطع جبال أرمينيا، وكان قد اتحد مع التركمان على قتال الفرس فأمدوه بجانب من الجيش، ثم قصد بلاد العجم، وعند وصوله إلى نينوى حصل بينه وبينهم قتال مهول فانتصر أيضا عليهم، واتفق بعد ذلك بأيام قليلة أن شيرويه قتل أباه المدعو أبرويز خسرو وجلس مكانه، وعقد صلحا مع هرقل بعد أن رد إليه جميع ولايات الروم الشرقية التي كان أخذها والده، ورجع إلى القسطنطينية فائزا بالنصر، ثم ترك إدارة الحكم وانهمك في مجادلات دينية من جهة لاهوت المسيح، وقد أرسل إليه النبي
صلى الله عليه وسلم
كتابا فقام يسلم لولا امتناع البطارقة، ولم يقع بينه وبين الرسول حروب، لكن حاربه أبو بكر الصديق وأخذ منه دمشق واستولى على جانب عظيم من سوريا، وكانت مدة حكمه 31 سنة، وكان عامله على مصر المقوقس الذي حاربه عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب وهزمه شر هزيمة وأخذ مصر منه، واستمرت القياصرة واحدا بعد واحد إلى أن جاءت ولاية تيوفيل الذي حاربه المأمون كما سيأتي، ثم ميخائيل الثالث وهو آخر ملك من ذرية هرقل، وحكم سنة 842م.
واستمر حكمه إلى أن قتله رجل يدعى باسيل واغتصب الحكم منه سنة 867م، وفي مدة حكمه لم تنقطع الحروب بينه وبين المسلمين في خلافة المتوكل على الله.
ذكر الإمبراطور باسيل
وقام بالولاية سنة 867، وهو أول إمبراطورات الدولة المقدونية، أصله من عائلة فقيرة، كان سائسا عند سلفه ميخائيل الثالث، وكان ماهرا جدا في تربية الخيول، فأحبه ميخائيل لما ساعده على توليته كرسي المملكة بقتل الإمبراطور بردايس، وأشركه معه في الأحكام؛ ولذا كان هذا الإمبراطور موصوفا بالفراسة والذكاء ومحبا لانتشار المعارف، لم يتحمل أطوار ميخائيل الفظة وقساوته الشنيعة فعمل على قتله، واستبد بالحكم سنة 886م، وأعاد للسلطنة جانبا من عزها وشرفها الأولين، وأصلح شرائع البلاد وتحصينها وتقويتها بحيث تستطيع أن تفتح حروبا وتقاوم هجوم العرب وقبائل أوروبا؛ ولهذا الإمبراطور تأليف يعرف بفن الأحكام كتبه لابنه «ليون» وطبع في باريس سنة 1584، وترجم إلى اللغة الفرنساوية سنة 1590، وله أيضا مجموع للشرائع في ستين مجلدا تعرف بالباسيلية، ابتدأ فيها باسيل وأتمها ابنه وهي مطبوعة أيضا.
ومن أشهر سلاطينها وأعظمهم نيفوروس فوكاس - غير الذي حاربه الرشيد بما أن نيفوروس الذي حاربه الرشيد كان من عائلة هرقل - ويوحنا زمسيس فكانت البلاد في أيامهما نامية زاهية، وكان يوحنا زمسيس قد حارب المسكوف عند إغارتهم على القسطنطينية فانتصر عليهم وقهرهم، ثم زحف إلى بلاد الشام المعروفة باسم سوريا واستخلص جملة مدن من أيدي المسلمين، وعبر نهر الفرات وفتح مدنا حصينة في تلك الجهات، ولما مات هذا الملك أخلفه ملوك غير مشهورين، فلهذا الداعي ضربنا صفحا وصرفنا النظر عن ذكرهم، وكان آخرهم ميخائيل السادس الذي في مدته اضمحلت دولة الروم، ووقعت في أيامه الدولة في حالة السقوط والضعف.
ولما رأى الروم ضعف ملوكهم وسقوط دولتهم بايعوا إسحاق كومنينوس بالسلطنة سنة 1056م، وكان المذكور من عائلة معتبرة من أعيان الرومانيين، فاستبد بالأحكام سنتين، ثم تنازل عن الحكم لداعي مرض أصابه. ومن خلفائه كومنيوس أليكسيوس الذي جلس على سرير الملك سنة 1081، وفي أيامه وقعت دولة الروم في حروب عظيمة مع الترك، وحاربه روبرت غسكار ملك النورمنديين فغلبه وانهزمت الروم شر هزيمة، واشتهر أليكسيوس هذا في التاريخ بخيانته للصليبيين، ومقاومته لهم سرا، فكان يدعوهم في مبدأ الأمر من أوروبا ويعدهم بالمساعدة على أعدائهم؛ ليضعف بواسطتهم قوة الأتراك السلجوقيين الذين كانوا يهددونه بالحروب، ثم عند انتصاراتهم يعمل على ضررهم، وكان جل قصده بهذه التدابير السياسية تهييج ممالك أوروبا، وتشغيل أفكارهم بتجهيز الرجال وجمع الأموال لمحاربة سوريا وفلسطين، لكي يقي سلطنته من محاربة طوائف الفرنج التي كانت طالما تشتاق لمحاربة تلك البلاد لتفتحها طمعا لاكتساب غناها، وقد نال مرامه في ذلك؛ لأنه بسبب حروب الأتراك مع الصليبيين انتهز الفرصة واستخلص عدة مدن وجزائر كانت فتحها المسلمون واستولوا عليها حالة كون هذه البلاد في يده، وبقيت البلاد بعده في أمن وسلم مدة طويلة من الزمان، ومات سنة 1195.
وفي سنة 1355 تولى الملك يوحنا باليولوغوس، وكانت مدة حكمه نحو 36 سنة، وكان ملكا ظالما قاسيا قبيح السيرة، ومن ضمن قبائحه أنه جعل أخاه الأكبر المسمى أندرونيكوس مفقود العينين، وحفيده يوحنا، وسجنهما فهاج الشعب من هذا العمل الشنيع، واجتمع أعيانهم وأخرجوا الأعميين من السجن، وأعادوهما رغما عنه إلى كرسي المملكة، فالتزم باليولوغوس أن يهرب مع ابنه مانويل، وبسبب ذلك وقعت تحزبات وانقسامات بين الأهالي ألجأتهم إلى إشهار السلاح بعضهم على البعض الآخر، وأخيرا اتفقوا على تقسيم السلطنة إلى قسمين أحدهما لباليولوغوس وهي مدينة القسطنطينية، والثاني إلى الأميرين الأعميين وهو ما بقي من المملكة، وفي سنة 1365 أغار على القسطنطينية السلطان بايزيد من آل عثمان وتهدد ملكها بالخراب، فضرب عليها الخراج، ثم هجم عليها ثانيا سنة 1399 تحت حجة الأخذ بثأر يوحنا الأعمى، وحاصرها فهرب مانويل إلى فرنسا يطلب المدد فلم ينجده أحد، واتفق ظهور تيمورلنك وإغارته على البلاد العثمانية، فاضطر السلطان بايزيد أن يرحل عن القسطنطينية خوفا من سطوة تيمورلنك، فهزم بايزيد وقتل في واقعة بالقرب من مدينة أنقرة، واستمرت القسطنطينية في أيدي أهلها إلى عهد السلطان محمد الثاني، وكان من الشجعان الموصوفين بالفراسة؛ حيث جهز جيشا لفتح القسطنطينية، وكان ملكها في هذا الوقت قسطنطين الثالث عشر الذي هو آخر ملوكها، فحاصرها محمد خان برا وبحرا إلى أن افتتحها سنة 1453، وصارت كرسي مملكة الدولة العثمانية.
الفصل التاسع
في تاريخ العرب
اعلم أن العرب يسمون بلادهم جزيرة العرب، وهي في الحقيقة شبه جزيرة، ويحدها من الشمال فلسطين وبعض سوريا والجزيرة، ومن الشرق الجزيرة أيضا والعراق العربي والخليج الفارسي وجزء من بحر الهند، ومن الجنوب بحر الهند أيضا، ومن الغرب بوغاز باب المندب والبحر الأحمر المعروف بخليج العرب وبوغاز السويس.
وتنقسم بلاد العرب إلى خمسة أقسام: وهي اليمن والحجاز ونجد واليمامة وأرض البحرين وهي معدودة عند أكثرهم من العراق، وهي في الحقيقة في بلاد العرب إلا أنها متصلة بالعراق. (1) أمة العرب قبل الإسلام
اعلم أن العرب ينسبون أنفسهم إلى ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام، فكان قحطان وإسماعيل أصلين للنسلين العظيمين اللذين عمرا شبه جزيرة العرب، الأول في جنوبها والثاني في شمالها، ويقال لهذين النسلين العرب المستعربة والعرب المتعربة لتمييزهما عن عرب العربا الذين يقال إنهم من نسل قومي عاد وثمود.
فأما عاد فعلى حسب الروايات القديمة كان يسكن ومعه قومه صحراء الأحقاف - شمال حضرموت - وقد أرسل الله إليهم هودا عليه السلام، فلم يؤمن بالله منهم إلا قليل، فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا فأهلكهم عن آخرهم. وأما ثمود وقومه فكانوا يسكنون الأقطار الحجازية، فأرسل الله إليهم صالحا عليه السلام، فدعاهم إلى التوحيد، فما تبعه إلا المستضعفون منهم، فأرسل الله عليهم صيحة من السماء فأصبحوا في ديارهم جاثمين على الركب، وسار صالح عليه السلام إلى الشام.
والعمالقة وهم من ذرية سام على رأي البعض أو من ذرية حام على رأي البعض الآخر، وأما العرب المتعربة وهم بنو قحطان فقد توطنوا باليمن وأسسوا فيها عائلتين ملوكيتين؛ عائلة ملوك سبأ والثانية عائلة ملوك حمير، وبقي لسان العرب العرباء هو اللغة العربية الحقيقية المستعملة إلى الآن في الحجاز ونجد، ولكن سكان مدن اليمن قد استعملوا لغة بني حمير التي تعلمتها بنو قحطان من آبائهم الأول.
وأما العرب المستعربة فظهروا بعد زوال بني قحطان بزمن طويل، وقد قيل إن إبراهيم الخليل عليه السلام لما أوحي إليه من قبل الله عز وجل بأن يبني في مكة المشرفة هيكلا أي معبدا مباركا رحل من الشام امتثالا لأمر الله، ونزل في بلاد العرب وشيد فيها الكعبة سنة 2740ق.م التي عظمتها العرب منذ أزمان طويلة بأنواع التعظيمات الدينية، وقد أقعد بناؤها خليل الرحمن عن الرحيل من الحجاز مدة عدة سنين، وعاونه على بنائها ابنه إسماعيل عليه السلام المولود بأرض مكة عينها، وعين الماء التي عثرت عليها هاجر - والدة إسماعيل - تسمى بئر زمزم، وأن الحجر الأسود المشهور جاء به لإسماعيل جبريل عليهما السلام، ولم يزل هذا الحجر موضوعا من قديم الزمان في بناء الكعبة، ومن نسل إسماعيل عدنان الذي ينتهي إليه النسب الصحيح للنبي
صلى الله عليه وسلم .
وأما حمير الخامس عشر من أولاد يعرب بن قحطان - الذي هو أول من تكلم باللغة العربية - إليه تنسب عائلة بني حمير التي حكمت باليمن ما ينوف عن عشرين قرنا، وهو الذي طرد ثمود وقومه إلى الحجاز، ومن ملوك الحميرية إسكندر ذو القرنين المذكور في القرآن الشريف، ومنهم أيضا أفريقش وذو الأذعار والهدهاد وبنته بلقيس التي أتت طائعة إلى سيدنا سليمان كما تقدم وتزوجها، ومنهم تبع وإليه تنسب التبابعة، وحكم منهم 24، واستمر حكمهم إلى سنة 96ق.ه، ومنهم ذو نوانس ودخل في دين اليهود وجبر الناس على الدخول في هذا الدين، ومن لم يدخل فيه يحرق، وظلم المسيحيين فاستعانوا بالنجاشي ملك الحبشة الذي كانت ديانته مسيحية، ولما طلبوا معاونته لإنقاذهم من هذا الظلم أرسل المذكور ابنه أرياط مترئسا على جيش مهول ليستولي على بلاد اليمن، فدخل فيها وفتح بعض مدنها وهزم آخر ملوك التبابعة، ثم قتل أرياط فترأس على الجيوش أبرهة الأشرم صاحب الفيل الذي عزم على فتح مكة المشرفة، وكانت في هذا الوقت تحت رياسة عبد المطلب جد النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقام عبد المطلب وحارب خصمه وهزمه في سنة 571م، ومات أبرهة عند وصوله إلى اليمن، وسميت هذه السنة بعام الفيل، وآخر ملوك الحبشة باليمن كان مسروق، ثم حكمت اليمن ثانيا ملوك حمير، والذي حكمها هو سيف بن ذي يزن الحميري، وقد أمده كسرى أنوشروان ملك الفرس على الحبشة بجيش، فطرد جيوش الحبش، وتقرر سيف في الملك واستمر حاكما إلى أن قتل، فأرسل كسرى عمالا من طرفه على اليمن واحدا بعد واحد إلى أن كان آخرهم بازان الذي دخل في الديانة الإسلامية المحمدية سنة 10 هجرية.
وأما المهاجرون الذين خرجوا من بلاد اليمن بعد السيل العرم الذي حصل سنة 700ق.ه فأنهم أسسوا في شمال بلاد العرب مملكتين، إحداهما على شاطئ نهر الفرات وتعرف باسم مملكة الحيرة، دخلت في دين الإسلام سنة 11ه، وثانيتهما مملكة غسان، وهي في ضواحي مدينة دمشق، وأسلمت سكان هذه المملكة سنة دخول أهل بلاد الشام في الديانة الإسلامية؛ أعني في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. (1-1) الكلام على طباع العرب وأخلاقهم
ذكر المؤلف هردر أن العرب كانت منتشرة من قديم الزمان خلف شبه جزيرتهم - أعني في زمن الجاهلية الذي يطلق على الأعصر الأول من تاريخهم - وكانت العرب قد أسست ممالك صغيرة في العراق والشام كما تقدم، وكان بعض قبائلهم يسكن وادي مصر، وكان الحبش من نسلهم، وقد توطن العبرانيون الذين بعث إليهم موسى بن عمران عليه السلام مع قبائل العرب في أغلب الأزمان، وكانت تحافظ قدماء العرب على أخلاق أجدادهم، ولكن تغيرت طباعهم بعد ذلك فصاروا سفاكين للدماء، ومع كونهم ذوي حرية وكرم وعزة نفس فإنهم سريعو الغضب أقوياء الجراءة، فترى في الواحد منهم صفات الفضائل والرذائل التي عليها أمته، وفخارهم بالسيف وإقراء الضيف وفصاحة اللسان، بل كان السيف هو الكفيل الوحيد في إثبات حقوقهم والوقوف على معرفتها جيدا، وكان إقراء الضيف معتبرا أنه القانون الجامع لقوانين الإنسانية، وكانت الفصاحة لعدم معرفتهم بالكتابة والقراءة تستعمل في فصل المخاصمات التي كانت لا تنهيها المحاربات، وكانوا لا يتزوجون أمهاتهم ولا بناتهم، ويسمون من يتزوج امرأة الأب الضيزن ويعيبونه بذلك، ولهم عوائد كثيرة لا يسع المقام شرحها. (2) سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم (2-1) صاحب الشريعة الغراء
ولد
صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين 9 ربيع الأول الموافق 20 إبريل سنة 571م - كما أثبت ذلك سعادة المرحوم محمود باشا حمدي الشهير بالفلكي في كتابه المؤلف باللغة الفرنساوية، وترجمه حضرة أحمد أفندي زكي، المسمى نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام - وهو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (كذب النسابون بعد عدنان)، توفي أبوه عبد الله بالمدينة وكان عمره 25 سنة، ودفن بمحل يعرف بدار النابغة الجعدي، وكان رسول الله يومئذ حملا، وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بالمحل المعروف بالأبواء بين مكة والمدينة، حين بلغ عمره ست سنين، فكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ النبي ثمان سنين مات عبد المطلب، فقام بأمره عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، وأقام عنده حتى بلغ، فكان أحسن الناس منطقا إذا تكلم، وأصدقهم حديثا، فدعي الأمين في قومه، ولما بلغ عمره
صلى الله عليه وسلم
25 سنة سافر إلى بر الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد التي صارت زوجته فيما بعد، وعمرها أربعون سنة، وكل أولاده منها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية - التي أهداها له المقوقس - وتوفيت خديجة وأبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين أي في سنة 16 من النبوة.
وفي سنة 35 من عمره بنت قريش الكعبة، وتنازعوا في وضع الحجر الأسود؛ لأن كل قبيلة تريد أن تضعه، ومكثت في المنازعة مدة أربعة أيام، ثم اتفقوا على تحكيم أول داخل من باب «بني شيبة»، فكان أول داخل منه النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بأن يحضروا ثوبا فوضع الحجر الأسود فيه وكل قبيلة أخذت طرفا من أطرافه، ولما وصلوا إلى محله أخذه النبي
صلى الله عليه وسلم
ووضعه وبنى عليه.
ولما بلغ سن الأربعين بعثه الله على فترة من الرسل إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا، وكان ذلك بعد ولاية كسرى أبرويز ملك الفرس بعشرين سنة، وأول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة الصريحة، فكان لا يرى رؤيا إلا وتقع مثل ما يرى، ثم حبب إليه الخلا، فكان يتعبد في غار «حراء»، وكان يمكث فيه ليالي مختلفة إلى أن جاءه الوحي، وقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، ثلاث مرات، ثم قال له:
اقرأ باسم ربك الذي خلق
الآية فكانت هذه أول آية نزلت من القرآن، وبعد ذلك فتر الوحي، ثم تتابع، فقام يدعو الناس سرا، فأول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن النساء خديجة الكبرى، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن الموالي زيد بن حارثة . ومكث يدعو إلى دين الله سرا مدة ثلاث سنين، ثم أمر بإظهار دعوته، ولما اشتد أذى المشركين لأصحابه أذن لهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، وهذه هي الهجرة الأولى، فأرسلت قريش في طلبهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا للنجاشي ملك الحبش، فخاب سعيهم جميعا، فتعاهدت قريش على بني هاشم والمطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم وإلى غير ذلك، وأسري بالنبي عليه السلام في السنة الثالثة عشرة من النبوة من مكة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء، وفرضت عليه الصلاة، وفي هذه السنة كانت الهجرة الثانية. (2-2) الهجرة
وفي سنة 622م تكاثر دخول أهل يثرب في دين الإسلام، فلما علمت كفار قريش بذلك أجمعوا على قتله
صلى الله عليه وسلم
وتفريق دمه في القبائل، بأن يأخذ رجل من كل قبيلة سيفا ويضربوه مرة واحدة فيتفرق دمه ولا يمكن الأخذ بثأره حينئذ، فأذن له بالهجرة عليه الصلاة والسلام من مكة دار ولادته إلى المدينة دار وفاته، فخرج ليلا مع أبي بكر الصديق، بينما كان علي بن أبي طالب يبذل نفسه في صرف المهاجمين عنه
صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي والصديق قد سلكا معا طريقا مغايرا لطريق يثرب، فمكثا جملة أيام في غار بجبل ثور الكائن على بعد ثلاثة أميال من مكة من جهة الجنوب، وأدركا بفطانتهما أن الأعداد تبعت أثرهما، فسارا حتى وصلا إلى ساحل البحر الأحمر وبعد أن نجاهما الله من أعدائهما وصلا بعد ذلك بستة أيام إلى أرض يثرب، فنزلا قباء التي بنى فيها أول مسجد للإسلام، ولم يزل ذلك المسجد باقيا إلى الآن، وقد صارت الهجرة من مكة إلى يثرب مبدأ تاريخ السنين والحوادث عند الإسلام بناء عن أوامر سيدنا عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، وكانت في يوم الاثنين 8 ربيع الأول/20 من شهر سبتمبر سنة 622م (نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام)، فأقام النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام في قباء حتى لحقه علي بن أبي طالب، ثم دخل يثرب بمحفل عظيم، وقبل فيها ضيافة أبي أيوب، واشترى قطعة أرض وبنى فيها مسجدا، وسميت يثرب بالمدينة المنورة، واختلطت القبيلتان الأوس والخزرج اللتان تجمعتا تحت لواء الإسلام بعد التشاحن والتباغض، وسميتا بالأنصار - أي المساعدين للنبي
صلى الله عليه وسلم
على أعدائه - وسمي المسلمون من أهل مكة بالمهاجرين، وفي السنة الثانية من الهجرة حولت القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس، وفرض صوم رمضان وتزوج علي فاطمة الزهراء. (2-3) ابتداء الحروب بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وكفار قريش ووصف واقعة بدر سنة 624م الموافقة 3 هجرية
قد مضت تلك المدة على النبي
صلى الله عليه وسلم
في مقاساة تلك المحن السابقة، ثم أذن له بالحرب لإحياء الأحكام الدينية التي يدعوهم إليها، وبالجملة فكانت نصرته في غزواته هي البرهان الأكبر على إمداده بنصر الله وحمايته إياه، فلما عزم على فتح مكة تعاهد مع أصحابه على أن يكونوا معه في جهاد أعدائه للانتقام منهم لمخالفتهم ومبارزتهم له بالإساءات التي أساءوه بها مدة إقامته في مكة، وإخراجهم إياه منها. فلما نهب عبد الله بن جحش قافلة في شهر رجب لأحزاب النبي
صلى الله عليه وسلم
جهز غزوة لمحاربته، ثم لما بلغه أن قافلة قريشية راجعة من الشام، وكان قائد هذه القافلة أبا سفيان بن حرب، فلما أخبر بسير المسلمين لنهب القافلة أرسل إلى أهل مكة أن يغيثوه بإمداد، فتوجه ألف مقاتل من قريش قائدهم أبو جهل إلى وادي بدر، وكان أهل الإسلام قد سبقوهم إليه، فبعث أبو سفيان إلى أبي جهل سفيرا يخبره بأن القافلة نجت، فلم يرجع إلى مكة، وظن أنه قد تحققت النصرة لقريش على الإسلام، فقامت الحروب بين الفريقين، وقتل أبو جهل في تلك الواقعة، وعاد منها على النبي أعظم النصر والفخار
صلى الله عليه وسلم . (2-4) وصف واقعة أحد وحرب الخندق 626-627م الموافقة 5-6ه
ولما اجتمع تحت قيادة أبي سفيان ثلاثة آلاف من المشركين، وساروا من مكة حتى وصلوا إلى المدينة، وخرج النبي
صلى الله عليه وسلم
لقتالهم في ألف، فانخذل عنه المنافقون وبقي معه سبعمائة، ونزل الشعب من أحد، وجعل ظهره إلى أحد، ثم تقارب الجيشان، فانهزم المشركون، فطمعت الرماة في الغنيمة، فرجع المشركون إليهم، وأشاعوا بأن محمدا قتل، وانكشف المسلمون فقتل منهم سبعون، ومن المشركين اثنان وعشرون، وأصيبت رباعية الرسول، وشج وجهه، وجرحت شفته، ثم صعد أبو سفيان الجبل وقال: الحرب سجال، يوم بيوم بدر. ثم قال: موعدكم العام المقبل، فأمر النبي أن يقال له: هو بيننا وبينك. وفي هذه الواقعة جرح علي بن أبي طالب الذي أشهر نفسه في ابتداء القتال بعجيب الفروسية وغريب البسالة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله على الجميع، وقتل عم النبي حمزة رضوان الله عليه، ولما بلغ الرسول
صلى الله عليه وسلم
تحزب قبائل العرب عليه أمر أصحابه بحفر الخندق حول المدينة المنورة، فلما أراد الأعداء ومعاهدوهم أن يهجموا على المدينة عجزت عزائمهم عن الوصول إليها، وفي ذلك الوقت اتضح انفساخ المعاهدة اليهودية التي كان انضم إليها بنو قريظة، وذلك أن المسلمين ألقوا الشقاق بين رؤساء تلك المعاهدة، ورفع الحصار عن المدينة المنورة بعد مناوشات أظهر فيها علي بن أبي طالب عزائمه وبأسه وانتصاره، فبذل الرسول
صلى الله عليه وسلم
بعد رفع الحصار الجهد في محاربتهم حتى أذلهم واحدة بعد الواحدة، فحارب أولا بني قينقاع فقتل منهم علي - على قول مؤرخي العرب - سبعمائة رجل، ثم غزا قبيلة قريظة ثم قبيلة لحيان ثم قبيلة المصطلق بينما كانت بعوثه ينتقمون من القبائل الأخر المعادية لهم. (2-5) سير الرسول إلى الحديبية وحرب خيبر
وفي سنة 628م أي سنة 7ه خرج الرسول معتمرا في ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار لا يريد حربا، وساق حتى نزل الحديبية أسفل مكة، فبعثت قريش إليه عمر بن مسعود الثقفي رئيس الطائف يقول: إن قريشا لبست جلود النمور وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبدا، فرأى من احترام الصحابة للرسول ما لم ير مثله لملك من الملوك، فرجع إلى قريش، وقال لهم: «إني أتيت كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكا في قومه مثل محمد في أصحابه.» ثم بعث الرسول إليهم «عثمان بن عفان » يعلمهم أنه لم يأت للحرب وإنما جاء معتمرا، فذهب وأخبرهم بذلك فمنعوه من الرجوع إلى النبي، وأشيع في الصحابة أن عثمان قتل، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ودعا إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعهم على أن لا يفروا ولا يتخلفوا عنه، وبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، وقال هذه بيعة عثمان، فبينما هم كذلك؛ إذ بعثت قريش إلى الرسول سهيل بن عمرو في الصلح فأجاب، وكتبوا بذلك كتابا فيه وضع الحرب على الناس عشر سنين وغير ذلك. ثم نحر الرسول هديه وحلق رأسه، وكذا المسلمون، ورجع المدينة.
وفي سنة 7ه تزوج النبي أم حبيبة وميمونة وصفية بنت يحيى بن أخطب، وقدم مهاجرو الحبشة، وسار الرسول والصحابة إلى قتال يهود خيبر؛ حيث كانوا ساكنين في موضع على بعد قدره خمسة فراسخ من المدينة المنورة، وكانوا يستجلبون لأنفسهم معظم متاجر الحجاز ونجد، وأبدى علي بن أبي طالب في هذه الواقعة من الشهامة ما أزال به جميع العوائق وتحصن أهل خيبر في القلاع الحصينة التي كانت خزائن أموالهم مدخرة فيها، فأعدم بذلك الحرب إلى الأبد شوكة اليهود السياسية، ثم سار النبي إلى وادي القرى وحاصرها وفتحها عنوة، وبعد ذلك جاء كثير من قبائل نجد إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فحيوه بسيد سادات جزيرة العرب، وأذعنوا له بالحكم المطلق عليهم، وسألوه أن يصحبوه في الحروب التي سيخرج إليها، وفي هذه السنة تتابعت رسله
صلى الله عليه وسلم
إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى كسرى أبرويز ملك الفرس، فمزق كتابه، ولما بلغه
صلى الله عليه وسلم
أن المذكور فعل هذا الفعل قال: «وكذلك سيمزق الله ملكه.» وأما الملك هرقل فبعث بجواب تلطف فيه، وكذلك المقوقس عامل مصر من طرف هرقل، والنجاشي ملك الحبش، فبعثوا إليه هدايا، ودخل بازان عامل اليمن من قبل الفرس في دين الإسلام، وأما الحارث ملك غسان وهوذة ملك القبيلة النصرانية من بني حنيفة سكان اليمامة فأبيا الإجابة لما دعيا إليه. (2-6) حرب مؤتة سنة 8ه، وفتح مكة سنة 630م وسنة 9ه، وحرب حنين وحصار مدينة الطائف
ولما قتل شرحبيل أحد ملوك غسان التابع إلى الملك هرقل (إمبراطور القسطنطينية) سفيرا من سفراء النبي
صلى الله عليه وسلم
كان قد نزل بمدينة بصرى أثار حربا سافكة للدماء ما بين العرب والروم، فسار من المسلمين ثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة زيد رضي الله تعالى عنه، ودهموا الجيش الرومي والجيش العراقي بقرب مؤتة في جنوب دمشق بأرض البلقاء، فاستشهد زيد بن حارثة قائد المسلمين، وخلفه جعفر بن أبي طالب فقطع الأعداء يديه، فمسك الراية بذراعيه، واستشهد في هذه الواقعة وبه نحو خمسين جرحا كلها في الجهة الموجهة للأعداء، فأخلفه عبد الله بن رواحة واستشهد كذلك ، ثم خلفه خالد بن الوليد وانتصر على الأعداء وردهم القهقرى، ورجع إلى المدينة المنورة حائزا أشرف النصر في تلك الواقعة.
وكان قد بقي على النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يفتح مكة حتى يتم له النصر؛ إذ كانت مركزا لعبادة الأصنام وتخت مدن بلاد العرب؛ لكي يؤسس فيها ما جاء به من الدين تأسيسا متينا بدلا عما كانت عليه العرب من العبادة الجاهلية، فلاحت له الفرصة في فتحها؛ وهي أن كفار مكة نقضوا العهد فقام الرسول عليه الصلاة والسلام وجميع القبائل البدوية الحديثة الدخول في الإسلام، ثم سار مع عشرة آلاف مقاتل لقتال أهل مكة، فلما رأوه بهذه الحالة وقع الرعب في قلوبهم ولم يقاوموه أدنى مقاومة، وسلم العباس وأبو سفيان له من غير قتال سنة 630م سنة 9ه، فسار النبي عقب ذلك إلى الكعبة وكسر جميع الأصنام قائلا: «جاء الحق وزهق الباطل.» وفي هذه السنة بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة، وفيها غزوة حنين، وبينه وبين مكة ثلاث ليال تجمعت هوزان وثقيف وبنو سعد بن بكر لحرب الرسول، ولما بلغه خرج إليهم من مكة مع اثني عشر ألف، فانهزم المسلمون أولا؛ إذ أعجبتهم كثرتهم كما أخبر الله، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم يروها فانهزم المشركون، وألجئت ثقيف إلى الطائف.
وأما عرب ثقيف المتعاهدون مع هوزان فإنهم وإن كانوا مصرين بعنادهم على عبادة إلههم اللات فقد قاوموا المسلمين المحاصرين مدينة الطائف عشرين يوما، ولما رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
ذلك منهم أمر برفع الحصار عنهم مؤملا أن مقتضيات الزمن المستقبل تئول إلى الدخول في دين الإسلام، فرجع عن تلك المدينة إلى مكة وزار الكعبة ثم رجع إلى المدينة المنورة.
فصار فتح مكة وإسلام كفار قريش وهزم قبائل هوزان وهدم الهياكل التي كانت معدة لعبادة الأصنام سببا في زوال عبادة العرب الجاهلية. (2-7) الكلام على غزوة تبوك وسنة السفارات للملوك
ولما أشيع أن الروم والعرب النصارى يجمعون جيوشهم في حدود بر الشام خطب النبي خطبة حث فيها المؤمنين على الجهاد، وأمده الأغنياء بأموالهم، فجهز عشرة آلاف فارس وعشرين ألف رجل واثني عشر ألف جمل، وسار بذلك الجيش حتى وصل إلى تبوك الكائنة في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق الشام، ثم أمر بالرجوع واكتفى بانقياد أربع مدن وهي جرباء وأذرح وأيلة ودومة الجندل.
وأما باقي السنة أي سنة 620م الموافقة سنة 10ه، وهي المعروفة في تواريخ الإسلام بسنة السفارات للملوك، فقد اشتهرت بدخول خلق كثير من الأجلة في الدين المحمدي، وكذلك سكان مدينة الطائف وقبائل ثقيف ومشايخ اليمن الحميرية ومشايخ إقليم مهرة وملوك حضرموت وعمان وجزائر البحرين واليمامة، قد بعثوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
رسلا ليبايعوه على الإسلام، وباقي القبائل أطاعهم خالد بن الوليد بعضهم بالحرب وبعضهم طوعا. وبعث علي بن أبي طالب إلى اليمن ومعه معاذ بن جبل، فأسلمت همذان في يوم واحد.
وفيها حجة الوداع، فخرج النبي حاجا في ذي القعدة، وعلم الناس مناسك الحج والسنن، وأنزل عليه:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا . وفي سنة 11ه في سنة 622م توفي النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكفن في ثلاثة أبواب أدرجا، وصلوا عليه ودفن في الموضع الذي قبضت روحه فيه.
وعلى حسب أبحاثات سعادة محمود باشا حمدي، وجد أنه
صلى الله عليه وسلم
لاقى ربه إما يوم الأحد 11 ربيع الأول الموافق 7 يونيو، وإما الاثنين 12 ربيع الأول الموافق 8 يونيو سنة 632م، وعمره 61 سنة شمسية و84 يوما أو 63 سنة قمرية وثلاثة أيام. (3) الخلفاء الراشدون (3-1) خلافة أبي بكر الصديق
ويلقب بخليفة رسول الله، ولما قبض الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
قال عمر: «من قال إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مات علوت رأسه بسيفي هذا، وإنما ارتفع إلى السماء»، فقرأ أبو بكر:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
الآية، فرجع القوم إلى قوله، ومات
صلى الله عليه وسلم
ولم يعين خليفة له، ومن ثم كثرت المطامع التي أراقت الدماء في القرن الأول من الهجرة، ومع ذلك فلما علم أصحابه
صلى الله عليه وسلم
أن أمراء الأنصار يتهيئون لانتخاب سعد بن عبادة الخزرجي خليفة بادروا بانتخاب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان كلفه بأن يصلي بالناس بدلا عنه، فبايعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقتدى به الصحابة في المبايعة، ولم يمتنع من مبايعته إلا أناس قليلون بايعوه بعد قليل، وأنفذ جيش أسامة بن زيد الذي كان رسمه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل وفاته، فصار يحثهم على الجهاد ويشجعهم وهو ماش وأسامة راكب، ثم رجع، واستمر أسامة في الجهاد، وأطاع القبائل المترددة، وشن الغارة على أهل أبنى وقتل رجالهم وسبى نساءهم ورجع إلى المدينة، وكان عمر أسامة وقتئذ سبع عشرة سنة، وفي مدة خلافته امتنعت قبيلة بني يربوع عن أداء الزكاة فأرسل إليهم خالد بن الوليد لمحاربتهم، فحاربهم حتى رجعوا. وفي أيامه فتحت الحيرة بعد وقعة عظيمة بين أهلها والمجاهدين من الإسلام، وادعت النبوة سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، واتبعها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من بني ربيعة، وقصدت مسيلمة الكذاب، ولما وصلت إليه اجتمعت به مدة ثلاثة أيام، وآل أمرها إلى أن أسلمت في زمن معاوية، وماتت بالبصرة. وأما مسيلمة الكذاب المدعي النبوة فأرسل إليه خالد بن الوليد فقاتله باليمامة وقتله. وأما «الأسود العنسي» المدعي النبوة فقتل في حياة الرسول، وفي أيام أبي بكر الصديق جمع القرآن في مصحف واحد وحفظ في دار السيدة حفصة زوجة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان قبل جمعه في المصاحف في صدور الناس، وفي أيامه فتحت مدينة بصرة ودخل محافظها المدعو رومانوس في دين الإسلام؛ حيث إنه هو السبب في استيلاء العرب على هذه المدينة تحت قيادة خالد. ولما فتح المسلمون مدينة بصرة قصدوا عقب ذلك دمشق فحاصروها، فأرسل هرقل إليها جيشا تحت قيادة وردان أوباهان، فلما علم المسلمون بذلك كفوا عن الحصار وساروا لقتال الروم، فقتل عدد عظيم من جيوش الروم، فولوا الأدبار، وهذه هي المعروفة بوقعة أجنادين، وذلك سنة 633م الموافقة لسنة 12ه. ثم عادوا لحصار مدينة دمشق، وحصلت جملة مناوشات بين العرب والروم الذين كانوا قد تجمعوا تحت رياسة توما صهر الإمبراطور هرقل، فكانت النصرة فيها للإسلام، وأخيرا فتحها أبو عبيدة عامر بن الجراح صلحا. وفي سنة 13م مات خليفة رسول الله رضي الله عنه وعمره 63 سنة، ودفن بجوار الرسول
صلى الله عليه وسلم . (3-2) خلافة عمر بن الخطاب 634-644م
بويع بالخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق بوصية منه، وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين، وبينما كان خالد مقيما في دمشق؛ إذ بلغه الخبر بوفاة أبي بكر وجلوس عمر رضي الله عنه، وهو العدو الأكبر له، وبلغه أيضا عزله من منصب قيادة الجنود فامتثل للعزل ولم يظهر غضبا ولا ضجرا، واستمر يحارب تحت أوامر أبي عبيدة عامر بن الجراح، وفتحت حمص وحماة. وتوجهوا بأمر أمير المؤمنين عمر لفتح أنطاكية فصاروا محازين لشاطئ نهر العاص، وبينما هم مشتغلون بفتحها؛ إذ بلغهم خبر التجريدات الحربية التي جهزها لهم «هرقل»، وأن هذه التجريدات انقسمت إلى فرقتين؛ إحداهما سافرت إلى أنطاكية لتوقف سير العدو إليها، والأخرى آتية من إقليم فلسطين؛ لتحمل على المسلمين من خلفهم، وذلك سنة 635 من الميلاد الموافقة لسنة 14 هجرية، فرجعوا إلى ناحية نهر الأردن ليمنعوا الجيش المقبل من فلسطين من أن يمر إلى جهة أنطاكية، وكان «قسطنطين بن هرقل» يقوده بنفسه، فذهب إلى مدينة قيصرية واكتفى بتفريق كتائبه على المدن البحرية من غزة إلى طرابلس الشام، وكان أبو عبيدة وخالد بعساكر الإسلام على شواطئ نهر اليرموك (نهير منبعه من جبل هرمون ويصب في بحيرة طبرية)، وكان الجيش الرومي يقدمه عرب غسان تحت قيادة رئيسهم جبلة بن الأيهم، فانتصر المسلمون على هؤلاء الأقوام وسميت هذه الواقعة بواقعة اليرموك، وفي هذه السنة أمر الخليفة ببناء البصرة، وبعد ذلك سلم أبو عبيدة قيادة الجيوش إلى خالد، فاستمرت الحروب بين الجمعين أياما، وغلبت الروم فيها المسلمين ثلاث مرات، ثم آل الأمر بنصر المسلمين على جيش المشركين. وكان ثمر هذه النصرة انقياد أهل غسان ودخولهم في دين الإسلام، أما رئيسهم جبلة بن الأيهم ففر هاربا إلى القسطنطينية، ولم تزل ذريته فيها إلى أن هربوا منها في القرن الخامس عشر بعد الميلاد العيسوي إلى جبال بلاد الجركس فرارا من حكم الملوك العثمانيين.
وفي سنة 15 من الهجرة حاصر عمرو بن العاص مدينة القدس «المسماة قديما إيليا» التي كان البطرق سوفرونيوس يحامي عنها بغاية عزمه وجهده، وكان فتح هذه المدينة من أعظم الأهميات عند الإسلام، فقدم أبو عبيدة وأحدق بها بجيوشه وشدد عليها في الحصار حتى أشرف أهلها على الهلاك، فارتضى «سوفرونيوس» أن يسلمها للمسلمين بشرط أن يعقد المشارطة مع الخليفة نفسه، فأجابه عمر بن الخطاب لما طلبه، واستخلف عليا على المدينة، ولم يمنعه عن السفر تخويف سيدنا عثمان ومنعه إياه، فسار إلى مدينة القدس وبايعهم على أن يبقوا على دينهم، وأن لا يتعدى مسلم على كنيسة من كنائسهم، ولم يلزمهم إلا بدفع الجزية، وقد بحث عن موضع الهيكل الذي بناه نبي الله سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى وبنى محله مسجدا عظيما سمي بمسجد عمر، ولما فرغ من بنائه عاد إلى المدينة المنورة ومعه عمرو بن العاص، وكان أعده لفتح وادي مصر، وذلك سنة 637م؛ أعني سنة 16ه.
ولما بلغ سيدنا عمر فتح مدينة الرملة فرح بنصر الله ورضي عن خالد، وأعاد إليه الإمارة على المجاهدين، فسار إلى حلب وأنطاكية وفتحهما وطرابلس ويافا وجملة بلاد من الشام، فلما أيس هرقل من الشام رحل إلى مدينة القسطنطينية، وفي هذه السنة وضع عمر الدواوين وفرض العطاء للمسلمين، وقد حصلت وقعة بين المسلمين والفرس الذين كانوا تحت قيادة رستم وقائد المسلمين سعد بن أبي وقاص انتهت بهزيمة العجم وقتل رستم المذكور، وذلك سنة 15ه.
وفي سنة 16ه عبر سعد ومن معه نهر الدجلة، وهرب الفرس من المدائن، وكان كسرى يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان (من أعمال فارس) وخرج هو ومن معه بما قدروا عليه، فدخل المسلمون المدائن وقتلوا كل من وجدوه، ونزل سعد بالقصر الأبيض، واتخذ إيوان كسرى مصلى، واحتاط على أموال تخرج عن الإحصاء وأدركوا بغلا وقع في الماء عليه تاج كسرى ودرعه وغير ذلك مكللا بالجواهر، واستوهب سعد ما يخص أصحابه من بساط كسرى؛ حيث كان على هيئة روضة فيها الزهور بالجواهر على قضبان الذهب، وبعث به إلى عمر فقسمه بين المسلمين، وأقام سعد بالمدائن «بالقرب من كتيسيفون القديمة»، وحصلت بينه وبين الأعجام وقعة فقتل عدد عظيم من الفرس، وفر يزدجرد من حلوان فقصدها المسلمون، ثم فتحوا تكريت وقرقيسيا، وفيها قدم جبلة بن الأيهم على عمر وحج معه، ثم هرب إلى القسطنطينية وتنصر بعد إسلامه. وفي سنة 17ه اختطت الكوفة وتحول سعد إليها، وفي سنة 18ه كان طاعون عمواس الذي مات فيه أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، وأما خالد فإنه نجا من هذا الطاعون؛ لكونه غضب عليه أمير المؤمنين عمر وعزله ثانيا لما أوشي في حقه، واستخلف أبو عبيدة معاذ بن جبل فمات بالطاعون فاستخلف عمرو بن العاص، ثم بعد ذلك أمر الخليفة عمرو بن العاص بفتح مصر، فتوجه إليها هو والزبير بن العوام وفتحوها «كما سيأتي»، وكان استخلف يزيد بن أبي سفيان ثم معاوية فمكث واليا وخليفة مدة أربعين سنة، وفي سنة 21ه وقعت نهاوند مع الأعجام تمت بهزيمتهم، وفتح المسلمون مدينة أصفهان وهمذان وطبرستان وأزربيجان، وتوفي خالد بن الوليد في هذه السنة ودفن، قيل بحمص وقيل بالمدينة. وفي آخر سنة 23ه توفي عمر بن الخطاب بطعنة ابن أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة، وعمره 63 سنة، ودفن بجوار النبي
صلى الله عليه وسلم . (3-3) خلافة عثمان بن عفان 644-655م
وفي سنة 24ه الموافقة لسنة 644م عقب موت عمر اجتمع أهل الشورى وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وشرط عمر أن يكون ابنه عبد الله شريكا في الرأي ولا يكون له حظ في الخلافة ، وجعل المدة ثلاثة أيام، وقال: «لا يمض اليوم الرابع إلا ولكم أمير، وإن اختلفتم فكونوا مع فريق عبد الرحمن بن عوف»، فوقع الانتخاب على سيدنا عثمان رضي الله عنه، فبويع بالخلافة، ولما تولى الخلافة عزل المغيرة عن الكوفة وولى سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح، وفي مدته امتدت فتوحات العرب إلى بلاد المغرب وصحراء ليبيا وسواحل بلاد الروم وجزيرة قبرص، وفي سنة 30 من الهجرة بلغ الخليفة اختلاف أهل الشام والعراق في القرآن، فأمر الخليفة الصحابة بنسخ جملة مصاحف من المصحف الذي كتب زمن أبي بكر وأودع عند حفصة رضي الله عنها، وتولى نسخها زيد بن ثابت وعبد الله الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث، وقال عثمان: «إذا اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش؛ لأن القرآن نزل بلسانهم.» وفي هذه السنة سقط خاتم الرسول من يد عثمان في بئر «أريس»، وفي سنة 31 هلك كسرى يزدجرد آخر ملوك العجم، قيل قتله أهل مرو - من أعمال فارس، وقيل قتله الترك وقتلوا أصحابه، وفيها عصت خراسان ففتحها ثانيا، ومات أبو سفيان بن حرب.
وفي سنة 33ه تكلم جماعة أن عثمان ولى من أهل بيته أناسا لا يصلحون للولاية، فكتب سعيد بن العاص والي الكوفة إليه بذلك، فأمره عثمان أن يسير الذين تكلموا بذلك إلى معاوية بالشام فأرسلهم، فقدموا على معاوية وجرى بينهم كلام كثير، وحذرهم الفتنة فوثبوا وأخذوا بلحيته ورأسه، وكتب بذلك إلى عثمان، فكتب إليه يردهم إلى سعيد بن العاص فردهم، وأطلقوا ألسنتهم في عثمان، واجتمع إليهم أهل الكوفة، وفي سنة 34ه قدم سعيد إلى عثمان وأخبره بما فعله أهل الكوفة وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري، فولى عثمان أبا موسى الكوفة، فخطبهم أبو موسى وأمرهم بطاعة عثمان فأجابوه لذلك. وفي سنة 35 قدمت جموع الأمصار من مصر والكوفة والبصرة، وكانت رغبة المصريين مع علي، ورغبة الكوفيين مع الزبير، وميل البصريين إلى طلحة، فدخلوا المدينة وأثاروا على عثمان يوم الجمعة وهو على المنبر، ودافع جماعة من المدينة عنه منهم سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة، فأرسل عثمان يعزم عليهم بالانصراف، وطلبوا منه عزل عبد الله بن أبي سرح عن مصر ومروان بن الحكم عن كتابته فأجابهم لذلك، ومكثت الجموع في المسجد ثلاثين يوما، ثم منعوه من الصلاة، ولزم أهل المدينة بيوتهم وعثمان محصور في داره أربعين يوما وقيل خمسين، ثم اتفق علي مع عثمان على ما طلبه الناس منه من عزل مروان عن كتابته وعبد الله بن أبي سرح عن مصر فأجاب عن الثانية دون الأولى، وولى محمد بن أبي بكر مصر، وتوجه المذكور مع مهاجرين وأنصار، فبينما هم في الطريق وإذا بعبد علي هجين يجهد فقالوا له: «إلى أين؟» قال: «إلى العامل بمصر.» قالوا: «هذا هو العامل.» يعنون بذلك محمد بن أبي بكر. قال: «بل العامل الآخر» يعني ابن أبي سرح. ففتشوه فوجدوا معه كتابا مختوما بختم عثمان يقول:
إذا جاءك محمد بن أبي بكر ومن معه بأنك معزول فلا تقبل واحتل لقتلهم وأبطل كتابهم.
فرجع محمد ومن معه وجمعوا الصحابة بالمدينة، وقرءوه عليهم، وسألوا عثمان عنه فاعترف بالختم وخط كاتبه، وحلف بالله أنه لم يأمر بذلك، فطلبوا منه مروان ليسلموه إليهم بسبب ذلك، فامتنع فجدوا في قتاله، فأقام علي ابنه الحسن يذب عنه، وأقام الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمدا، بحيث جرح الحسن وانصبغ بالدم، ثم تسوروا على عثمان من دار بجانب داره، ونزل عليه جماعة منهم محمد بن أبي بكر فقتلوه صائما يتلو في المصحف، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 35 هجرية. (3-4) خلافة علي بن أبي طالب 655-666م
بويع بالخلافة بعد قتل سيدنا عثمان فامتنع في مبدأ أمره عن الخلافة؛ حيث قال: «لا حاجة لي في أمركم، من اخترتم رضيت به، وأكون وزيرا خير من أن أكون أميرا.» فأبوا إلا مبايعته، فأتى المسجد فبايعوه، وقيل بويع في بيته، ولم يمتنع من المبايعة إلا أناس قليلون، وبعد أن بايعه طلحة والزبير سافرا إلى مكة ولحقا بعائشة هناك ، وفي سنة 36 أرسل علي عماله إلى البلاد، فمنهم من رجع إليه من الطريق، ومنهم من وصل وعزلته فرقته، فخرج طلحة والزبير وعائشة أرملة النبي
صلى الله عليه وسلم
وعبد الله بن عامر وجماعة من بني أمية يطلبون دم عثمان؛ لأنه اتهم بقتله، وصاروا في جم عظيم لفتح البصرة، واكتفوا بمعاوية في أمر الشام، وأرادت عائشة الرجوع فلم يسمحوا لها، وأخيرا استولوا على البصرة. ولما بلغ ذلك الإمام عليا خرج إليهم في أربعة آلاف مقاتل، وانضم إليهم جم غفير من الكوفة، والتقوا بمكان يسمى الخريبة، فرجع الزبير إلى المدينة، فقتل في الطريق، وتزاحف الفريقان واقتتلا وعائشة على الجمل، فتمت الهزيمة على من معها وقتل طلحة في هذه الواقعة المسماة واقعة الجمل، وأمر الإمام علي عائشة بالرجوع إلى المدينة، وجهز لها ما احتاجت إليه، ورجعت إلى المدينة وبصحبتها الحسن والحسين، وبعد وصولها إلى المدينة رجعا إلى أبيهما، واستعمل على البصرة عبد الله بن عباس، وسار إلى الكوفة، وتم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان، ثم أرسل إلى معاوية ليعطي بيعته فماطله، وكان النعمان بن بشير سار إليه بثوب عثمان ملطخا بالدم إلى الشام، فكان معاوية يعلقه على المنبر تحريضا على قتال علي كرم الله وجهه، ثم اتفق مع عمرو بن العاص على حربه، فلما بلغ علي ذلك خرج من الكوفة، وخرج لذلك معاوية وعمرو من الشام، والتقى الفريقان في محل يدعى «صفين»؛ ولذلك سميت تلك الواقعة بهذا الاسم، وذلك سنة 37 هجرية، وقتل من الطرفين خلق كثير، وحصلت بينهم أكثر من تسعين واقعة، ثم قال علي كرم الله وجهه: «يا معاوية، ابرز إلي، فأينا قتل صاحبه تم له الأمر، فعلام نقتل المسلمين؟!» فلم يرض معاوية بذلك، واستمر القتال مدة من الزمن، وبعد ذلك رفع أهل الشام المصاحف في وجوه فريق سيدنا علي، وكانت حيلة وخديعة من عمرو بن العاص، وانتهى الأمر أخيرا إلى الحكم بينهما، فوكل سيدنا علي أبا موسى الأشعري، ووكل معاوية عمرو بن العاص، واتفق الحكمان على خلع معاوية وعلي، ويجعل الأمر شورى بين المسلمين، واجتمع الشعب «بدومة الجندل» فتكلم أبو موسى الأشعري وقال: «إني خلعت خليفتي كما أخلع سيفي هذا من غمده.»
ثم مكر عمرو وقال: «إني أثبت خليفتي كما أثبت سيفي هذا في غمده.» فسلمت على معاوية أهل الشام بالخلافة، ورجع الإمام علي إلى الكوفة، ودعا الناس إلى اتحاد الكلمة وهم يخادعونه مدة مديدة من الزمن حتى دخلت سنة 40 هجرية، فاجتمع ثلاثة من الخوارج وهم «عبد الرحمن بن ملجم، وعمرو بن بكير التميمي، والبرك بن عبد الله التميمي وقيل اسمه الحجاج» وقالوا: «لو قتلنا أئمة الضلالة أرحنا منهم العباد.» فقال ابن ملجم: «أنا أكفيكم عليا.» وقال البرك: «أنا أكفيكم معاوية.» وقال عمرو بن بكير: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.» وتواعدوا على ليلة 17 رمضان سنة 40ه، واتفق مع ابن ملجم وردان من تيم الرباب وشبيب، ووثبوا على علي وقد خرج إلى الصلاة، فضربه شبيب فوقع سيفه فهرب شبيب ونجا، وضربه ابن ملجم في جبهته، وهرب وردان، وقبض على ابن ملجم وأحضر مكتوفا بين يدي علي رضي الله عنه، وأحضر الحسن والحسين، وقال: «أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا ولا تبكيا على شيء زوي عنكما منها.» ثم قبض، وأما البرك فجرح صاحبه جرحا بليغا، وأما عمرو فقتل نائب صاحبه في الصلاة تلك الليلة، ودفن علي بالكوفة وكان عمره 63 سنة. (3-5) فتح مصر بالإسلام 638-641م
وبظهور الإسلام تضعضعت دولة الروم الشرقية، وأخذت في الانحطاط شيئا فشيئا. ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مصر عمرو بن العاص، وكان العامل عليها من طرف هرقل هو المقوقس، وكان عمرو شاعرا شجاعا قد اشتهر في وقائع الإسلام الأولية، وبذل عزمه وحزمه أيضا في فتح الشام مع الأمراء الأخر، وكان غاية منيته أن يكلفه أمير المؤمنين عمر بفتح مصر، فبمجرد ما وعده أمير المؤمنين بأن يرسله لفتح مصر سافر من غزة ومعه أربعة آلاف مقاتل، وسار حتى وصل إلى مدينة «بيلوزه»، ولما ظهر عمرو بجنوده في أرض مصر وقعت الحرب بين العرب والروم في مدخل برزخ السويس، فانهزم الرومانيون والتجئوا إلى المدن الحصينة، ولما لم يجد عمرو من يقاومه مر برجاله من صحراء برزخ السويس وجعل معسكره أمام مدينة «بيلوزه»، وكانت هذه المدينة مفتاح الوجه البحري، وحاصرها فلم تصبر على الحصار إلا شهرا واحدا، فاستولى عليها في أسرع وقت، وذلك سنة 639؛ أعني 18ه، وساروا بعد ذلك حتى وصلوا إلى مدينة منف التي كانت قاعدة الحكم، وبادروا بحصارها فانجبرت أهلها لعقد المبايعة مع عمرو بن العاص، وأمر كل من بأرض مصر من الأقباط أن يعترفوا بحكم المسلمين، وأن يدفعوا عن كل نفس دينارين في السنة، فتحصل من تلك الجزية في السنة الأولى اثني عشر مليونا، وأنه لا مانع من أن يبقوا على دينهم، ولما فرغ عمرو والمقوقس من المبايعة وامتثال الأقباط لها دخل مدينة منف واتخذها تخت حكومته، وذلك سنة 641م؛ أعني سنة 40ه.
فتح مدينة الإسكندرية سنة 640م
وبعد ذلك بادر عمرو بن العاص بالعود إلى المحاربة مع الروم فسار برجاله من منف إلى الوجه البحري، وهزم الروم في واقعة كوم الشريك؛ حيث كانوا قد تجمعوا بعد الشتات، واقتفى أثرهم حتى دخلوا مدينة الإسكندرية فحاصرها مدة أربعة أشهر، وكان عمرو قد أخذ أسيرا ولم يطلق سبيله إلا بحيلة من عبده وردان، فكانت النصرة للإسلام على الروم بما عندهم من الحمية الدينية، فهجموا على تلك المدينة هجمة الآساد على الأغنام، فامتلكوها في 21 ديسمبر سنة 641م؛ أعني سنة 21ه.
ووكل الأقباط بتحصيل الأموال؛ حيث رآهم أعرف من المسلمين بإدارة الفروع المتنوعة من أمور التدبير؛ لأنهم يعرفون درجات الناس ولغتهم، فتحصلت من ذلك أموال جسيمة صرف معظمها أمير المؤمنين عمر في أشغال نافعة لبلاد مصر، منها تجديد خليج السويس الذي كان يوصل النيل بالبحر الأحمر، وكان عمرو يريد أن يحفر برزخ السويس؛ ليصل البحر الأحمر بالأبيض إلا أن عمر أبى من ذلك؛ خوفا من فتح طريق للروم إلى مكة والمدينة. وقد بنى عمرو جامعه المشهور باسمه لغاية الآن، واختط مدينة مصر القديمة، وكانت تعرف قديما باسم الفسطاط - أي الخيمة - والسبب في ذلك أنه لما أمر المسلمين بالرحيل إلى مدينة الإسكندرية أخبر بأن زوج يمام عشش فوق خيمته، وأنه قرب على الفقس. فأجابهم قائلا: «معاذ الله أن يأبى مسلم أن يكون ملجأ لأي مخلوق، دعوا خيمتي بمحلها حتى أعود.» فبقيت الخيمة في محلها، وأسست حولها المدينة، وسميت باسم الفسطاط بدلا عن مدينة منف التي انهدمت.
عمرو بن العاص
اعلم أن عمرا كان في الجاهلية من الثلاثة الهاجين لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهم عمرو المذكور وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن الزبعرى، وقد تقدم أنه فتح الديار المصرية في سنة 20ه في خلافة عمر بن الخطاب، ومكث واليا مدة خلافة أمير المؤمنين، ثم عزل في خلافة سيدنا عثمان، وأعيد واليا عليها من طرف معاوية أول خلفاء الدولة الأموية، وكان مستقلا بأحكامها حسب شروط معه؛ لأنه هو الذي أعان معاوية على سيدنا علي في حروبه، وهو الذي صنع الحيلة على أبي موسى الأشعري، وعزل عليا وثبت معاوية، ولما ظهر معاوية على علي وتم له الأمر بالخلافة جهز جيشا تحت قيادة عمرو بن العاص؛ لمحاربة عامل سيدنا علي بمصر وهو محمد بن أبي بكر الصديق، فكتب محمد إلى علي يستنجده، فأرسل له جيشا تحت قيادة ابن الأشتر، فصنع عمرو حيلة وأحضر عجوزا من أهالي مصر وأعطاها عسلا مسموما وقال لها: «أعطي هذه الهدية لرئيس الجيش العربي الذي حضر بالقلزم»، فأهدت الهدية لابن الأشتر فمات، ولما بلغ ذلك معاوية قال: «إن لله جنودا من عسل.» ودخل عمرو مصر وقاتل أصحاب محمد بن أبي بكر ومن بقي منهم، وأخذ أسيرا فأحضروه إلى معاوية بن خديج فقتله وألقاه في جيفة حمار، وأحرقه. وكانت مصر مدة ولاية عمرو طعمة له بعد رواتب الجنود حسب شروط بينه وبين معاوية، ومكث عمرو واليا على مصر إلى أن مات، ودفن بالمقطم، وذلك سنة 43 من الهجرة؛ أعني سنة 663م. (4) الدولة الأموية
أصل هذه الدولة من بني هاشم، وكان مقر ملوكها بدمشق الشام، وعدتهم أربعة عشر خليفة، ومدة حكمهم 52 سنة، وكان ابتداء ملكهم سنة 39 من الهجرة؛ أعني سنة 661م، وانتهائها سنة 133ه الموافقة لسنة 750م، ولنذكر خلفاءهم على الترتيب فنقول: (4-1) خلاف معاوية بن أبي سفيان 661-681م
بويع بالخلافة يوم الحكمين، ويوم قتل سيدنا علي، قيل ببيت المقدس، ويوم تنازل الحسن، وقيل إن عليا جهز جيشا لحرب معاوية، فاتفق قتله في هذه السنة، فلما بويع الحسن بلغه مسير أهل الشام إليه مع معاوية، فتجهز الحسن في ذلك الجيش وسار من الكوفة، فحصلت فتنة في الجيش أثناء الطريق، فنفر قلبه منهم وأرسل إلى معاوية واشترط شروطا إن أجابه إليها سمع وأطاع، فأجابه معاوية إليها، فتنازل الحسن وأقام بالمدينة إلى أن مات، وقيل إن زوجته «جعدة بنت الأشعث» سمته، قيل بأمر «معاوية»، وقيل بأمر «يزيد بن معاوية»، أطمعها بالتزوج بها ولم يف، ولما بلغ معاوية الخبر بوفاة الحسن سجد لله سبحانه وتعالى، ولما مات عمرو بن العاص استخلف معاوية ابنه عبد الله على مصر ثم عزله، وكان علي استعمل زيادا على فارس، ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية منع زياد بفارس الطاعة، فأهم معاوية أمره؛ خوفا أن يدعو إلى أحد من بني هاشم فيعيد الحرب، وقدم المغيرة عامل معاوية بالكوفة على معاوية، وشكا إليه امتناع زياد بفارس، فتوجه المغيرة بالأمان إلى زياد، فأحضره وبايع معاوية، وفي سنة 48ه أرسل جيشا تحت قيادة سفيان بن عوف، فحاصر القسطنطينية ولم يتمكن منها، فقتل جانب عظيم من جيشه، وفقدت منه عدة مراكب بالحريق. وفي هذه السنة بنى عقبة بن نافع عامل معاوية على أفريقا مدينة القيروان.
وفي سنة 54ه ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان خراسان فقطع جيحون إلى سمرقند، وفتح جملة بلاد، وكان معه قثم بن العباس، ثم بايع معاوية الناس ليزيد بولاية عهده، وبايعه أهل الشام والعراق، وأراد مروان بن الحكم عامله بالمدينة البيعة له، فامتنع الحسين رضي الله عنه منها وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، وامتنع الناس لامتناعهم، ثم قدم معاوية الحجاز بألف فارس وبايع ليزيد أهل الحجاز إلا المذكورين. وفي سنة 58ه توفيت عائشة رضي الله عنها وأخوها عبد الرحمن، وفي سنة 59ه توفي أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر، وفي سنة 60ه توفي معاوية وعمره 75 سنة، ومدة خلافته 19 سنة، فكان واليا وخليفة مدة أربعين سنة وهو أول من بايع ولده وعمل المقصورة في المسجد وخطب جالسا. (4-2) خلافة يزيد بن معاوية 681-683م
ولما مات أبوه أرسل إلى عامله بالمدينة بإلزام الحسين وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر: «إن أجمع الناس على مبايعته بايعته.» وأما الحسين وعبد الله بن الزبير فلحقا بمكة ولم يبايعا، وأرسل عامل المدينة جيشا مع عمرو بن الزبير لقتال الحسين وأخيه، وكان شديد البغض لأخيه، فانتصر عبد الله بن الزبير عليه، وأخذه أسيرا وحبسه حتى مات، ثم ورد إلى الحسين مكاتبات أهل الكوفة بالمسير إليهم ليبايعوه، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليأخذ البيعة، وكان العامل على الكوفة وقتئذ النعمان بن بشير، فقيل بايعه ثلاثون ألفا، وقيل ثمانية وعشرون ألفا، وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير كلام لا يرضيه فولى الكوفة عبيد الله بن زياد والي البصرة، ورأى ما الناس عليه، فخطب وحث الناس على طاعة يزيد، وقبض على مسلم بن عقيل وأمر بضرب عنقه، ولما بلغ الحسين سار من مكة قاصدا العراق، ووقعت بينه وبين عبيد الله بن زياد حروب انتهت بقتله بأرض كربلاء، وذلك يوم عاشوراء سنة 61ه، وبعثوا برأسه مع أولاده ونسائه إلى ابن زياد، ومنها إلى يزيد، وعلقت على باب دمشق ثم طيف بها في البلاد، وقيل دفنت بعد ذلك بالمدينة، وقيل بعسقلان. ثم نقلها أبو طلائع بن رزبك من وزراء دولة الفواطم وبنى عليها المشهد الحسيني المشهور بالقاهرة، وكان عمره رضي الله عنه خمسة وخمسين سنة، وفي سنة 63ه اتفق أهل المدينة على خلع يزيد، فأرسل إليهم جيشا وردهم عن ذلك ثم حاصروا مكة مدة 40 يوما وارتحلوا عنها حين بلغهم موت يزيد سنة 64ه، وكان عامله على مصر سعيد بن يزيد ابنه. (4-3) خلافة معاوية بن يزيد
وكان شابا دينا، تولى الخلافة ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك جمع الناس، وقال: «قد ضعفت عن أمركم ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا من أحببتم.» ثم دخل منزله وأقام به حتى مات، وأوصى أن يصلي الضحاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة. ولما مات بويع ابن الزبير بمكة، فقصد مروان بن الحكم المسير إليه من المدينة لمبايعته، ثم توجه إلى الشام مع بني أمية، وقيل كتب ابن الزبير إلى عامله بالمدينة أن لا يترك بها أحدا من بني أمية، وهرب عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام، وبايع أهل البصرة ابن الزبير وأيضا أهل العراق والحجاز واليمن وأهل مصر، وبايع له في الشام الضحاك بن قيس والنعمان بن بشير بحمص، وزفر بن الحارث الكلابي بقنسرين، وكاد يتم له الأمر، وأقام مروان بن الحكم بالشام في أيام ابن الزبير واجتمع به بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين؛ اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك مبايعين لابن الزبير، واقتتلوا بمرج راهط، وتمت الهزيمة على الضحاك ومن معه، ودخل مروان دمشق، واستوثق الشام له، وسار فملك مصر، ومات مروان بخنق أم خالد زوجته، ودفن بدمشق، وكان عامله على مصر عبد العزيز بن مروان ابنه. (4-4) خلافة عبد الملك بن مروان 685-705م
بويع بالخلافة يوم موت أبيه سنة 685م الموافقة سنة 66ه، وكان هذا الملك سفاكا للدماء، وهو أول من ضرب السكة في الإسلام، ونهى عن التكلم في حضرات الملوك، وفي أيامه خرج المختار بن عبيد الله الثقفي بالكوفة طالبا دم الحسين في جمع كثير، واستولى عليها وبايعوه بها على كتاب الله وسنة رسوله والطلب بدم أهل البيت، وتجرد المختار لقتل قتلة الحسين، وظفر بشمر بن ذي الجوشن المتهم بقتل الحسين، واستولى على الموصل، وقدم على الجيش إبراهيم بن الأشتر النخعي، وقاتلوا جيش «عبيد الله بن زياد»، وقتل عبيد الله المذكور وانهزم أصحابه، وبعث برأسه وعدة من رءوس أصحابه إلى المختار، وذلك سنة 67ه، وفي هذه السنة ولى ابن الزبير أخاه مصعبا البصرة، ثم سار مصعب من البصرة بعد أن جاء له المهلب بن أبي صفرة من خراسان بمال وعسكر كثير، فسارا جميعا إلى قتال المختار - حيث لم تكن نيته صافية في طلب دم الحسين - بالكوفة، فالتقاهما المختار بجموعه، فانهزم المختار وأصحابه بعد قتال شديد، وحصر في قصر الإمارة بالكوفة، فقاتل المختار حتى قتل. وفي سنة 69ه تجهز عبد الملك إلى العراق وتجهز مصعب لملتقاه، وأقبل الجمعان فتخلى العراقيون عن مصعب، وكانوا قد كاتبوا عبد الملك، فقاتل مصعب حتى قتل، ودخل عبد الملك الكوفة واستوثق له ملك العراقيين، ثم رجع إلى دمشق وحول العمرة من بيت الله الحرام إلى بيت المقدس؛ لحصول الألفة بأهل الشام، ولتتخلى عن الزبير أصحابه. وبعد ذلك جهز عبد الملك الحجاج بن يوسف في جيش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، فسار حتى نزل بالطائف، وجرت بينه وبين أصحاب ابن الزبير حروب، وكانت الهزيمة فيها على أصحاب ابن الزبير، وآخر ذلك أنه حصر ابن الزبير بمكة، ونصب المنجنيق على جبل أبي قبيس بالقرب من مكة، وصار يرمي الكعبة بالأحجار، واستمر ذلك سبعة أشهر، وقاتل ابن الزبير حتى قتل، وبعد ذلك بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، وبعث رأسه إلى عبد الملك، ثم صلب جسده نحو سنة، ثم أنزل بشفاعة أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجعل عبد الملك واليا على مكة والمدينة، وكان الحجاج عنيف السياسة. وفي سنة 74ه هدم الحجاج الكعبة وأخرج الحجر عن البيت، وبنى الكعبة على ما كانت عليه في زمن الرسول
صلى الله عليه وسلم
وهي على ذلك إلى الآن.
وفي سنة 75 ولى عبد الملك الحجاج العراق، فسار من المدينة إلى الكوفة، وخرج في أيامه شبيب الخارجي بالعراق، وله مع الحجاج حروب كثيرة، وانتهى أمره أن تفرقت جموعه وغرق شبيب بالفرات. وكذلك خرج عبد الرحمن بن الأشعث واستولى على خراسان ، ثم قصد الحجاج وتغلب على الكوفة، وقويت شوكته، فأمده عبد الملك بالجيوش من الشام، وآخر الأمر أن جموع عبد الرحمن تفرقت وانهزم إلى ملك الترك، ثم تهدد الحجاج ملك الترك بالغزو وطلبه منه، فقبض عليه ملك الترك وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إلى الحجاج، فألقى عبد الرحمن نفسه في الطريق فمات، وفي أيامه توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، ومات عبد الملك وخلافته منذ قتل ابن الزبير 13 سنة، وكان حازما عاقلا عالما دينا، ولبخله سمي برشح الحجر، وعهد بالخلافة بعده لابنه الوليد، وذلك سنة 86ه، وكان عامله على مصر عبد الله ابنه. (4-5) خلافة الوليد بن عبد الملك 705-715م
بويع بعد موت أبيه، وفي أيامه كثرت الفتوحات في بلاد الأندلس، وولى الحجاج خراسان مع العراق، فتغلغل في بلاد الترك، ودخل مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، وفتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد الهند، وولى الوليد ابن عمه عمر بن عبد العزيز المدينة، فصدرت إليه أوامر الخليفة بهدم مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهدم بيوت أزواجه رضي الله عنهن، وأن يدخل البيوت في المسجد ويضع أثمان البيوت في بيت المال، فأجاب أهل المدينة إلى ذلك، وتجرد لذلك عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وبنى الجامع الأموي بدمشق بأموال جسيمة، وفي سنة 92ه غزا طارق بن زياد وموسى بن نصير عامل الوليد على أفريقا بلاد الأندلس «إسبانيا» وتجاوز البوغاز المعروف باسم جبل طارق، فلما علم بذلك ملك إسبانيا «روديريك» جمع جيشا عظيما، ولكن انهزم بالقرب من مدينة كسيريس «بإمالة السين والراء»، ثم قاومتهم أمة «الجوت» مدة مديدة، وأخيرا فترت قواها بكثرة عدد عدوهم، لما دخلت أقارب الكونت جوليان في حماية العرب كان ذلك سببا في انهزام جموع المسيحيين، وفر الإمبراطور روديريك هاربا فغرق في النهر المسمى بالوادي الكبير، وبعد هذه النصرة العظيمة لم تحصل وقائع مهمة، فأسرع طارق وموسى بن نصير وابنه عبد العزيز في إتمام فتح باقي الأقاليم، ولما تمهد ملك إسبانيا لهم أدخلوا فيها ديانتهم وأخلاقهم وعوائدهم وإلى غير ذلك، وفتحوا جزيرة سردينيا، وتوفي الحجاج سنة 95ه، وتوفي الوليد سنة 96ه وكان عامله على مصر «قرة بن شريك». (4-6) خلافة سليمان بن عبد الملك 715-717م
بويع بالخلافة بعد سبعة أيام من موت أخيه، وأحسن السيرة ورد المظالم، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيرا له، وبينما كان موسى بن نصير متهيأ لفتح بلاد الغول «فرنسا» إذ بلغه موت الخليفة وتولية أخيه سليمان، وبلغه أيضا عزله هو وطارق المذكور، وحضرا إلى دمشق، وحكم عليهما بالنفي إلى مكة، ثم أمر الخليفة بقتل عبد الله وعبد العزيز اللذين كانا بقيا بالنيابة عن أبيهما ببلاد الأندلس والمغرب الأقصى، فمات ابن نصير حينما بلغه خبر موت ولديه، ومع ذلك فإن نفي موسى وطارق لم يوقف فتوحات العرب، فإنهم بعد أن جاوزوا جبل البيرينية استولوا على مدينة «ناربون» وبعض مدن من فرنسا الجنوبية، وامتدت فتوحاتهم إلى قسم «يرجونيا» ثم قام عبد الرحمن بجيش جرار قاصدا بذلك فتح باقي بلاد الغول، فوضع الحصار على مدينة «بوردو» واستولى عليها، وتقدم إلى نهر «لوار» فقابله «شارل بن ييبين دوهير ستال» لما علم بقدوم عبد الرحمن المذكور، فانهزم العرب أمام الجيش المكون من الغول والجرمانيين تحت قيادة شارل المذكور بالقرب من بندر بواتيه، ورجعوا إلى إسبانيا واكتفوا بأمرها، وذلك سنة 118 من الهجرة الموافقة لسنة 732م. وفي سنة 97ه خرج سليمان بالجيوش، ونزل بمرج دابق وبعث أخاه مسلمة إلى القسطنطينية، وقال: «أقم عليها حتى تفتحها». وأقام مسلمة قاهرا لها حتى جاءه الخبر بموت أخيه سليمان، وذلك سنة 99ه، وفي أيامه بنى أسامة بن يزيد الملقب «بالتنوخي» مقياس النيل بالروضة سنة 97ه حينما وقع مقياس النيل الموجود بحلوان، وأوصى بالخلافة بعده لعمر بن عبد العزيز، وكان عامله على مصر عبد الملك بن رفاعة. (4-7) خلافة عمر بن عبد العزيز 717-720م
وهو الأشج الذي ورد في حقه الحديث الشريف، بويع بالخلافة بعد موت سليمان، فمن يوم توليته رفع المظالم التي صدرت ممن سبقه من الملوك، وغير سب الإمام علي كرم الله وجهه على المنابر، ووضع محلها آية من القرآن:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . ولهذا الخليفة مناقب كثيرة لا تحصى؛ منها: أنه باع جميع ما يملكه وكذا نساؤه برضاهم وأدخله في بيت المال، ومنها المحافظة على ما في بيت مال المسلمين، قيل إن خادمه أتاه يوما بماء يقضي به حاجته، فقال: «بأي شيء أسخنت هذا الماء؟» فقال له: «من خشب بيت المال.» فأمر بشراء غيره ورده إلى محله، وكان العامل من طرفه على مصر هو أبو أيوب بن الصباح، وبشير بن صفوان. وقد مات رضي الله عنه مسموما، سمه خدامه بواسطة أقاربه، فتفحص عن الأسباب، فقيل إنه أخذ منه جعلا فأخذه منه وأدخله بيت المال، ولم يتعرض له بسوء، وفوض أمره إلى الله، ومات بعد أن حكم سنتين، ودفن بدير سمعان بالشام، وبويع بعده لزيد بن عبد الملك، فلم يحدث في أيامه أمور مهمة إلا خروج يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فأرسل إليه أخاه مسلمة، فقتل آل المهلب المشهورين بالكرم والشجاعة، وتوفى سنة 105ه بعد تصرفه أربع سنين. (4-8) خلافة هشام بن عبد الملك 720-747م
تولى الخلافة عقب موت يزيد بن عبد الملك، وفي أيامه غزا مسلمة بن عبد الملك الروم، وغزا نصر بن سيار ما وراء النهر، وقتل ملك الترك. وفي سنة 122 خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، ودعا إلى نفسه، وبايعه خلق كثير، وكان والي الكوفة من جهة هشام يوسف بن عمر الثقفي، فجمع الجموع وقاتل زيدا، فأصابه سهم في جبهته، فمات وعمره 42 سنة، وصلب يوسف بن عمر جثته، وبعث برأسه إلى هشام فنصبت بدمشق، ودامت جثته حتى مات هشام وتولى الوليد، فأحرقت وأدريت في الهواء، ومات هشام سنة 125ه، وبموته ختم الوليد على ماله، فكفن بالدين، وقال شعرا:
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن
وكان العامل من طرفه على مصر «محمد بن عبد الملك» وفي مدته حصل بمصر وباء عظيم مكث شهرين، وجملة ولايته على مصر ثمانية أشهر. (4-9) خلافة الوليد بن يزيد 748-749م
كان هو وأصحابه في البرية؛ خوفا من هشام في ضيق وسوء حال، فكتب إليه بموت هشام، فحضر وتولى الخلافة، وعكف على الشرب والغناء، وزاد الناس في عطائهم عشرات، ثم زاد أهل الشام زيادة بعد العشرات عشرة أخرى، وفي سنة 126ه قتله «يزيد بن الوليد بن عبد الملك» الملقب بالناقص بعد أن ثقل على الناس لهو الوليد وشربه واجتماعه بالفساد، دعا يزيد إلى نفسه، ونهاه أخوه العباس بن الوليد بن عبد الملك وتهدده، فأخفى الأمر عنه، وكان يزيد مقيما بالبادية؛ لوخم دمشق، فلما تم له أمره قصد دمشق متخفيا ودخل دمشق ليلا، وبايعه أكثر أهلها، وكان عامل الوليد على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فظهر يزيد بدمشق واجتمع عليه الجند وغيرها، وأحضر عامل الوليد بالأمان، ثم جهز يزيد جيشا إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك تحت قيادة عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، وكان الوليد وقتئذ بالأعذق في عمان، فسار الوليد إليه وجرت بينهما حروب انتهت بتفريق الناس عن الوليد، فركب بمن معه وقاتل قتالا شديدا، ثم انهزم هو وأصحابه، فدخل القصر وأغلقه، وحاصروه ثم قتلوه، وبعثوا برأسه إلى يزيد فسجد شكرا لله سبحانه وتعالى، وطيف بالرأس على رمح في دمشق. (4-10) خلافة يزيد بن الوليد
وبعد قتل الوليد استقر الحكم له فنقص العشرات التي زادها الوليد، فلقبوه بالناقص، وفي أيامه خرجت عليه أهل حمص ونهبوا دار أخيه العباس، فسار إليهم وهزمهم، وأخذ البيعة عليهم، وكذا خرج أهل فلسطين على عامله، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم، ودعا الناس إلى قتال يزيد الناقص، فأرسل إليه يزيد الناقص جيشا مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، فلما قرب منهم الجيش المذكور تفرقوا ، وقدم سليمان في طلب يزيد بن سليمان ونهبه، وسار سليمان حتى نزل طبرية وبايع بها ليزيد، ثم بالرملة وبايع بها كذلك، وعزل منصور بن جمهور عن العراق وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وتوفي الناقص بعد أن حكم خمسة أشهر تقريبا. (4-11) خلافة إبراهيم بن الوليد
وكانت مدة خلافته أربعة أشهر، وفيها سار مروان بن محمد بن مروان بن الحكم في جيش عظيم قاصدا عزله من الخلافة، ولما علم بذلك إبراهيم بن الوليد جهز إليه جيشا مع سليمان بن هشام، واقتتلوا فانهزم أصحاب إبراهيم الخليفة وسليمان المذكور، وقتلوا ابني الوليد بن يزيد وكانا في السجن، ثم اختفى إبراهيم ونهب سليمان بيت المال وقسمه على أصحابه وخرج من دمشق. (4-12) خلافة مروان بن محمد
بويع بالخلافة عقب فرار إبراهيم بن الوليد، ولما استقر له الأمر أرسل له إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام يستأمنان منه، فأمنهما وقدما عليه ومع سليمان إخوته وأهل بيته، فبايعوا مروان، وفي أيامه عصت عليه أهل حمص ففتحها وقتل وصلب بعض أهلها، ثم خالف عليه أهل فلسطين، فكتب مروان إلى أبي الورد، فسار وهزمهم بالقرب من طبرية، ثم خرج عليه سليمان بن هشام بن عبد الملك واجتمع إليه من الشام سبعون ألفا، وعسكر بقنسرين، وسار إليه مروان، والتقوا بأرض قنسرين، فانهزم سليمان وفر هاربا إلى حمص واجتمع إليه أهلها، فهزمه مروان. وعصى عليه أهل حمص ثانيا، فحاصرهم طويلا، وأخيرا سلموا إليه، وكان عامله على مصر عبد الملك ابنه. وفي سنة 129ه ابتدأت الدعوة لبني العباس في خراسان وغيرها من طرف محمد الملقب بالإمام ابن علي بن عبد الله بن عباس على يد أبي مسلم الخراساني الذي ولاه محمد الإمام الأمر في استدعاء الناس سرا، ولما مات محمد الإمام العباسي وقام بعده ولده إبراهيم الإمام أقر أبا مسلم على الدعوة وأمره أن يظهرها بخراسان، وكان الوالي عليها من طرف مروان «نصر بن سيار»، ولما بلغ مروان ذلك أرسل إلى عامله بالبلقاء أن يرسل إليه إبراهيم الإمام المقيم بقرية الحميمة «بضم الحاء» بلدة الشام، فبعثه إليه، فحبسه مروان بحران حتى مات، وبويع أبو العباس بالخلافة بعد موت إبراهيم الإمام أخيه، فجهز جيشا تحت قيادة عمه عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد، فالتقى الجمعان بالقرب من الموصل، فكانت النصرة لعبد الله، وانهزم مروان والتجأ إلى حران، ومكث بها عشرين يوما حتى دنا منه عسكر أبي العباس، وانهزم إلى حمص، وقدم عبد الله بن علي حران ثم سار مروان إلى دمشق ثم سار إلى فلسطين، وكان السفاح قد كتب إلى عمه عبد الله بن علي اتباع أثر مروان، فسار حتى وصل إلى فلسطين، وفي أثناء الطريق وجدوا جماعة من بني أمية، فأمر بمدهم وصاروا يجلسون عليهم ويأكلون ويشربون عليهم إلى أن ماتوا، ثم ورد إليه كتاب أبي العباس بإرسال أخيه صالح بن علي في طلب مروان، ولم يزل متتبعا أثر مروان إلى أن أدركه في قرية أبو صير بالجيزة «من أعمال مصر»، فضربه بالرمح واحتز رأسه وسار بها إلى أبي العباس بالكوفة.
ولم يزل أبو العباس يتبع أثر بني أمية حتى أهلكهم؛ ولذا سمي بالسفاح؛ (أي سافك الدماء)، ولم يبق منهم إلا المستضعفين من الرجال والنساء، ثم هرب منهم جماعة إلى المغرب منهم: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الذي دخل الأندلس، وبويع فيها بالخلافة، وأسس دولة قرطبة، فكان مروان الجعدي هذا آخر ملوك بني أمية، وهرب عبيد الله وعبد الله ابنا مروان إلى الحبشة، فقتل عبيد الله، ونجا عبد الله في عدة ممن معه وبقي إلى خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، وبعث به إلى الخليفة، وكانت مدة خلافة مروان 5 سنين تقريبا. (5) الدولة العباسية
أصل هذه الدولة من سلالة العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان مقر ملكهم بالعراق وعدتهم 37 خليفة بالعراق، و15 بمصر، ومدة تصرفهم 500 سنة، وكان ابتداء ملكهم سنة 133ه الموافقة سنة 750م، وانتهاؤه سنة 657ه الموافقة لسنة 1658م، ولا نتكلم هنا إلا على من دخلت مصر تحت حكمه، فنقول: (5-1) خلافة أبي العباس السفاح 750-754م
وبعد أن تم له الأمر على الوجه المذكور دخل سديف الشاعر وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان أمنه وأكرمه، فأنشد يقول:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن بين الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع الصوت حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
ففي الحال أمر بقتل سليمان المذكور، وأمر عبد الله بن علي بنبش قبور الأمويين وإحراق ما فيها من العظام، وتتبع قتل بني أمية، ولم يسلم من القتل سوى الرضيع أو من فر إلى الأندلس، وقتل سليمان بن علي بالبصرة جماعة من بني أمية، وألقاهم في الطريق تأكلهم الكلاب، فتشتت من بقي منهم واختفوا في البلاد، وجعل السفاح أخاه المنصور واليا على الجزيرة وأزربيجان وأرمينيا، وولى عمه المدينة ومكة واليمن، وولى ابن أخيه عيسى بن موسى الكوفة، وكان على الشام عمه عبد الله، وعلى مصر أبو عون، وعلى خراسان أبو مسلم. وفي سنة 133 استولى قسطنطين ملك الروم على مالطة، وفيها ولى السفاح عمه سليمان البصرة وأرض البحرين وعمان، وفيها عزل السفاح أخاه يحيى عن الموصل؛ لكثرة قتله فيهم وولى عمه إسماعيل بن علي. وفي سنة 134 تحول السفاح من مقامه بالحيرة إلى الأنبار، ومات السفاح سنة 136 وخلافته من قبل مروان أربع سنين، وعهد بالخلافة لأخيه المنصور. (5-2) خلافة أبي جعفر المنصور 754-775م
ولما مات السفاح كان المنصور في الحج، فأخذ له عيسى بن موسى البيعة على الناس، وأرسل أعلمه بذلك فبايعه أبو مسلم والناس، ولما قدم من الحج إلى الكوفة وصلى بأهلها الجمعة وسار فأقام بالأنبار، وفي أيامه بايع عمه المنصور عبد الله بن على لنفسه بالخلافة، فأرسل إليه أبو مسلم، فانهزم عبد الله وأصحابه، واستولى أبو مسلم على عسكره، ثم قتل أبا مسلم الخراساني؛ لوحشة جرت بينهما؛ لأنه كتب لأبي مسلم بعد أن هزم عبد الله عمه بالولاية على مصر والشام وصرفه على خراسان، فلم يجب أبو مسلم إلى ذلك، وتوجه يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب يطلب أبا مسلم فاعتذر عن الحضور، وطالت بينهما المراسلات، وأخيرا قدم إليه أبو مسلم في ثلاثة آلاف، وخلف باقي عسكره بحلوا ن(من أعمال فارس)، ودخل على المنصور فأمر بقتله. وفي سنة 133 وسع المنصور المسجد الحرام، وفي أيامه دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بلاد الأندلس، واستولى عليها. وفي سنة 145 أمر الخليفة ببناء بغداد وسماها مدينة السلام، وانتقل من مدينة أبي هبيرة إلى بغداد، ونقل إليها أبواب مدينة واسط لتكميل عمارتها، وأمر بنقل أنقاض القصر الأبيض «إيوان كسرى» إلى بغداد، ثم كف عن ذلك الشغل لصعوبته. ومات الإمام أبو حنيفة في مدته. وفي سنة 151 بنى المنصور الرصافة لابنه المهدي، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وسار المنصور بعد ذلك إلى الشام وجهز جيشا إلى المغرب لقتال الخوارج، ومات المنصور سنة 158، وكان العامل من طرفه على مصر أبو عون الجرجاني، وفي مدته صدرت إليه أوامر الخليفة بسد قنال السويس الذي كان شرع فيه عمرو بن العاص، وقد بلغ عدد نوابه بمصر ثمانية، أولهم أبو عون المذكور وآخرهم موسى بن العباسي. (5-3) خلافة المهدي 775-785م
بويع بالخلافة بعد موت أبيه، وفي أيامه أمر باتخاذ المصانع في طريق مكة وتجديد الأميال والبرك، وتجهز المهدي لغزو الروم واستخلف ابنه الهادي ببغداد، ولما وصل إلى حلب بلغه أن بتلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم. وجهز ابنه هارون لغزو بلاد الروم، فرحل الرشيد إلى خليج القسطنطينية، ولم يمكنه فتحها فعاد، وأقام المهدي بريدا بين مكة والمدينة واليمن بغالا وإبلا، وزاد المهدي في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومات المهدي سنة 168، وتولى من طرفه على مصر ستة أولهم عيسى بن نعمان، ومنهم أبو داود الذي منع غلق الدروب ليلا، ومنع حرس الحمامات وقال: «من ضاع له شيء فعلي أداؤه.» ومنهم إبراهيم بن صالح الذي خرج في مدته «دحية بن مروان» بالصعيد، ودعا لنفسه بالخلافة، فتراخى إبراهيم ولم يحفل بأمره حتى ملك عامة الصعيد، فسخط عليه المهدي وعزله. ومنهم عصامة بن عمر الذي بعث إلى دحية جيشا مع أخيه «بكار»، فحارب يوسف بن نصر وهو على جيش دحية فتطاعنا، فوضع يوسف الرمح في خاصرة بكار ووضع الرمح في خاصرة يوسف فقتلا معا، ورجع الجيشان منهزمان. (5-4) خلافة الهادي 785-786م
ولما مات المهدي كان الهادي مقيما بجرجان يحارب أهل طبرستان، فأخذت البيعة له، فلما بلغه بجرجان موت أبيه سار حتى دخل بغداد. وفي مدته ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسين رضي الله عنه بالمدينة في جمع من أهل بيته، وجرى بينه وبين عامل الهادي على المدينة، وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قتال، فانهزم عمر المذكور، وبايع الناس الحسين، ثم خرج الحسين ومن معه إلى مكة، وكان قد حج جماعة من بني العباس منهم سليمان بن أبي جعفر المنصور، وانضم إليه شيعتهم ومواليهم، واقتتلوا فقتل الحسين وانهزم أصحابه وأخذت رأسه ورأس جملة من أهل المدينة وبعثوا بها إلى الهادي، وكان العامل من طرفه على مصر «علي بن سنان». (5-5) خلافة هارون الرشيد 786-809م
وهو الخامس من بني العباس، تولى الخلافة بعد موت أخيه الهادي سنة 170 هجرية؛ أعني سنة 786م، كان هذا الخليفة أشهر وأفضل بني العباس، عاقلا مهابا موصوفا بالحكمة والتدبير، مولعا بمطالعة التواريخ والكتب الأدبية، وفي عصره اتسعت دائرة التجارة ونطاق المعارف؛ لأنه أصدر أمرا بترجمة الكتب اليونانية من فلسفيات ورياضيات وغيرها إلى اللغة العربية، وتنافست الكتاب في ترجمتها، وله غزوات كثيرة، من أشهرها غزوة بلدة هرقلة في عصر ملكها «نيسيفوروس»، المعروف في التواريخ الإسلامية باسم «نقفور»، حين امتنع عن أداء الخراج، فهزمه شر هزيمة، وعاد عليه الخراج كما كان، وقيل إن الرشيد حضر بنفسه ثمان غزوات، وقاتل فيها قتالا حسنا، ومن مناقب هذا الخليفة أنه كان غير محتجب عن أرباب الدعاوى، محافظا على راحة الرعية، كان يطوف أغلب الليالي مختفيا في شوارع بغداد؛ ليطلع على أحوال الرعية، فإذا رأى مظلوما أعانه وانتقم من ظالمه. قيل إن امرأة دخلت عليه وشكت إليه أذى العساكر حين مرورهم في أرض تخصها، فأجابها الرشيد قائلا: «جاء في الحديث أن من عادة العساكر أن يضروا بالأرض عند مرورهم بها للغزو والجهاد، فيجب على أصحاب الأملاك أن يتحملوا أضرارهم ويقوموا بخدمتهم.» فأجابته على الفور قائلة: «جاء في الحديث أن الملوك الذين يسمحون بظلم رعيتهم تجلب خرابا على مملكتهم.» فاستحسن الرشيد جوابها، ودفع لها ضعف خسائرها من بيت المال. وله مناقب كثيرة من هذا القبيل، وكان عامله على مصر موسى بن عيسى العباسي الذي أمر القبط في إعادة الكنائس ثانيا التي كان هدمها على بن يوسف، وقاموا عليه أهل مصر، وقالوا إنه يصلح للخلافة، ولما سمع الرشيد بذلك سخط عليه وعزله وولى مكانه موسى المذكور، وجملة نوابه بمصر أكثر من عشرة.
ولما اشتهر الرشيد في الأقطار الغربية بالحكمة والتدبير أرسل له «شرلمان» أو «شارل الأكبر» ملك الفرنج ومدبر السلطنة الغربية رسلا، فأرسل إليه الخليفة هدية ساعة ميكانيكية وأشياء أخرى فاخرة، وكانت الساعات لم تكن معروفة من قبل، فكانت هي أول ساعة ظهرت في أوروبا، وفاق الرشيد من سلفوا من الخلفاء والملوك، وزخرف بغداد والمدن الشهيرة بأنواع البساتين والزينة، وصرفت امرأته زبيدة مليون ومائة ألف دينار لحفر عين ماء لشرب أهل مكة والمدينة، وكان الرشيد قد استوزر يحيى البرمكي، ثم استوزر بعده ابنه جعفر، وكان الرشيد لا يفعل شيئا إلا باستشارته، ومن فرط حبه له زوجه أخته ميمونة بشرط عدم الاجتماع بها، ثم نكب به وقتله ونصب رأسه على الجسر وجعل جثته نصفين، كل نصف على جسر، وحبس أهله، وأخيرا قتلهم، وذلك لأسباب سياسية، وقيل إن البرامكة أحضروا له الزندقة، وقيل إن جعفرا اجتمع بأخته المذكورة فحملت بغلام، وهذا القول بعيد، وقيل إن الرشيد كلما مر على قرية أو ضيعة سأل: «هي لمن؟» قيل: «لجعفر.» وهذا هو الصحيح. ومات الإمام مالك وسيبويه إمام النحو في مدته، ومات الرشيد بمدينة طوس من أعمال خراسان حين توجه لقمع رافع بن الليث وقت إظهاره العصيان عليه، وذلك سنة 193، وعهد بالخلافة لابنه الأمين ثم المأمون. (5-6) خلافة محمد الأمين 809-813م
بويع بالخلافة يوم مات أبوه، وفي زمنه هاجت الجنود بمصر، فحصل من ذلك فتنة شديدة قتل فيها أناس كثيرون، فسار الحسن بن البحباح من مصر بمال الخراج إلى الخليفة الأمين، فخرج عليه أهل الرملة ونهبوه وأخذوا مال الخراج منه، فولى الحاتم بن هرثمة، فأتى إلى مصر بألف فارس، ونزل بهم في مدينة بلبيس، وأخذ الخراج من البلاد وذهب إلى مدينة الفسطاط، ثم عزل وتنصب على مصر مكانه جابر بن الأشعث الطائي، فاستمر إلى أن حدثت الفتنة بين الأمين والمأمون، وسبب ذلك أن أخاه الأمين خلعه من الخلافة وأبطل اسمه من الخطبة وخطب لموسى ابنه ولقبه الناطق بالحق، فأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، فحاصراه ببغداد، فهرب بمركب في البحر، فرماه رجال أصحاب طاهر بالحجارة، فشق الأمين ثيابه وسبح في الماء إلى بستان، فلما خرج أدركوه وركبوا عليه وذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه إلى طاهر بن الحسين، فأرسلها إلى المأمون وبصحبتها خاتم الخلافة وبردة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما وضعت الرأس بين يدي المأمون خر ساجدا شكرا لله تعالى على ما رزقه من الصغر، وأعطى الرسول ألف درهم، وكان قتل الأمين سنة 198 في محرم، وأتى السري بن الحكم إلى مصر، وبايع الناس للمأمون، وعزل جابر الذي كان عاملها من طرف الأمين. (5-7) خلافة المأمون 813-833م
بويع بالخلافة عقب قتل أخيه، وكان هذا الملك متحليا بجميل الأخلاق، يحب العلم وأهله، مشتغلا بالعلوم لا سيما علم الفلك، فتحارب مع الإمبراطور «تيوفيل» حينما امتنع عن إرسال أحد علماء الفلك المدعو «ليون» إليه، وجمع مكتبة من الكتب اليونانية، وأمر بترجمتها إلى اللغة العربية، فمن أفخر كتبها كتاب «إقليدس» المهندس المشهور.
واعلم أن المأمون هو أول من قاس الدرجة الأرضية، وعرف مقدارها، وقد كان مع هذه الأوصاف صاحب غزوات وفتوحات، فإنه غزا بلاد «سيليسيا» وجزيرة «كنديا». وجملة نوابه بمصر ثمانية منهم صالح بن شيراز الذي ظلم الناس وجار عليهم فقتلوه، ومنهم عيسى الجلودي الذي حارب أهل الحوف بالمطرية وهزموه، فأتى إليه المعتصم بأربعة آلاف من الأتراك، فقاتلهم وقتل أكابرهم، ومنهم عيسى بن منصور الذي خالف عليه عرب مصر وأقباطها، وكانت بينهم حروب عظيمة، وذلك سنة 216، وفي مدته حضر المأمون إلى مصر، وبحضوره طفئت نار الفتنة، ثم أراد البحث عن حقيقة أهرام الجيزة ، وهدم جزءا منها فكف عن ذلك الشغل لصعوبته. وقال: «إن الملوك الذين بنوا الأهرام كانوا بمنزلة لا ندركها نحن ولا أمثالنا.» وقد تقدم الكلام على الأهرام، وقد حمل الناس على القول بخلق القرآن الشريف وتفضيل الإمام علي على جميع الصحابة، فأجابته طائفة وامتنع الإمام أحمد بن حنبل، فأمر بشد يديه وحبسه. وفي سنة 200 أمر المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا 3300 ما بين ذكر وأنثى كما ذكر ذلك ابن الوردي. وفي سنة 202 بويع لإبراهيم بن المهدي ببغداد، ولقب المبارك، وذلك بعد أن خلعوا المأمون، واستولى إبراهيم على الكوفة وعسكر بالمدائن، واستعمل على الجانب الغربي من بغداد العباس بن موسى الهادي، وعلى الجانب الشرقي إسحاق بن الهادي، واستخلف المأمون على خراسان «غسان بن عباد»، وقصد العراق، ولما وصل سرخس وثب أربعة فقتلوا الفضل بن سهل، وبلغ إبراهيم بن المهدي والمطلب الذي أخذ البيعة لإبراهيم قدوم المأمون، فتمارض المطلب وتوجه إلى بغداد وسعى باطنا في البيعة للمأمون وخلع إبراهيم، وبلغ ذلك إبراهيم وهو بالمدائن، فقصد بغداد وطلب المطلب فامتنع، فنهبه ونهب أهله، ولم يظفر بالمطلب. وفي سنة 203ه خلع أهل بغداد إبراهيم المذكور ودعوا للمأمون، فقدم المأمون وكانت ولايته سنتين تقريبا، فانقطعت الفتن بقدوم المأمون سنة 204ه. وفي هذه السنة توفي بالفسطاط الإمام الشافعي رضي الله عنه واسمه محمد بن إدريس، وكان العامل على مصر وقتئذ السري بن الحكم. وفي سنة 210ه ظفر المأمون بإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم ابن الإمام المعروف بابن عائشة وبجماعة معه سعوا في البيعة لإبراهيم بن المهدي، فحبسهم ثم صلب ابن عائشة. وفي هذه السنة قبض على إبراهيم بن المهدي وأحضر إلى المأمون فحبسه، فأنشد يقول:
أتيت ذنبا عظيما
وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن
وإن أخذت فعدل
فعفا عنه، وقال:
قومي همو قتلوا أميم أخي
فإذا رميت يصيبني سهمي
وفي سنة 216ه سار إلى مصر المأمون كما تقدم، وأمر عماله ببناء ما تهدم من مقياس النيل ونقش ذلك عليه بالحروف الكوفية. (5-8) خلافة المعتصم
وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، تولى الخلافة سنة 218ه الموافقة 838م، كان هذا الملك عاريا عن العلوم والمعارف، وحمل الناس على القول بخلق القرآن، وعقد في ذلك مجالس كثيرة وأمر بشد يدي أحمد بن حنبل حتى تخلفت أكتافه، وما زال متوجعا إلى أن مات رضي الله عنه، وكان عامله على مصر كيدر ثم ابنه المظفر، وقد استخدم في معيته نحو خمسين ألفا من الأتراك والتتار، فقويت شوكتهم، وصار الأمر بين يديهم، ولم يكن للخليفة في زمنهم إلا مجرد الخطبة والاسم، وقبض المعتصم على وزيره الفضل بن مروان، ولم يكن للمعتصم معه أمر، وولى مكانه محمد بن عبد الملك الزيات. (5-9) خلافة الواثق هارون
بويع بالخلافة يوم وفاة أبيه، وفي مدته فتح المسلمون أماكن من جزيرة صقلية، وكان أميرها محمد بن عبد الله بن الأغلب، وخرجت المجوس من أقاصي بلاد الأندلس في البحر إلى بلاد المسلمين، وجرى بالأندلس وقائع انهزم فيها المسلمون، ثم وافاهم عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس والمسلمون، فانهزم المجوس وغنم المسلمون منهم أربعة مراكب بما فيها، وعاد المجوس إلى بلادهم، وكان عامله على مصر كيدر بن عبد الله الصفدي ومنصور بن عيسى. (5-10) خلافة المتوكل على الله
بويع بالخلافة يوم مات أخيه الواثق، فولى ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وفي أيامه ظهر بمدينة سامرا «من أعمال فارس» محمود بن فرخ وادعى النبوة وأنه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلا، فألزم المتوكل أصحابه أن يصفعوه كل منهم عشر صفعات، ثم حبسه وضربه حتى مات، وأمر المتوكل بهدم قبر الحسين رضي الله عنه، وهدم ما حوله من المنازل لشدة بغضه لعلي كرم الله وجهه وأهل بيته، وكان نديمه عبادة المخنث، ومنع القول بخلق القرآن، ومات في أيامه الإمام أحمد بن حنبل وذو النون المصري، وقتل المتوكل برأي ابنه المنتصر، وقتل معه وزيره الفتح بن خاقان سنة 247. (5-11) خلافة المنتصر
امتنع الناس أولا من مبايعته؛ حيث إنه قتل والده، فأخرج أحمد بن الخطيب كتابا من المنتصر أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل، فقتلته به ، فبايعوه. وفي مدته توفي أبو العباس أمير صقلية، فولى الناس ابنه عبد الله. ثم ورد من أفريقة خفاجة بن سفيان أميرا، فغزى وفتح، ثم اغتاله بعض أصحابه فولى الناس ابنه محمدا، ثم أقره محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب القيروان، وبقي محمد بن خفاجة أميرا إلى سنة 257 من الهجرة، فقتلته طوشية وهربوا، فقتلوا. والمنتصر هو الذي أمن العلويين وأمرهم بزيارة قبر الحسين، ومات بسامرا سنة 248ه. (5-12) خلافة المستعين بالله
وهو أحمد بن محمد بن المعتصم، بويع بالخلافة عقب موت المنتصر، وفي أيامه ورد إليه خبر موت طاهر بن عبد الله أمير خراسان، فولى ابنه محمد بن طاهر عليها، وحمل أهل حمص على كيدر عامله فأخرجوه. وفي سنة 249 التقى المسلمون والروم بمرج الأسقف وقتل عمر بن عبد الله الأقطع مقدم عساكر الخليفة، فانهزم المسلمون وقتل منهم كثير، فأغار الروم على ثغور الجزيرة. وفي هذه السنة شغب الجند والعامة على الأتراك بسبب استيلائهم على الأمور، يقتلون من شاءوا من الخلفاء ويستخلفون من شاءوا، ثم اتفقت العامة بسامرا وأطلقوا من في السجون، فقتلت الأتراك من العامة جماعة حتى سكنت الفتنة، وقتل العبيد «أيامش» رئيس الترك ونهبوا داره، وفي أيامه ظهر أبو الحسن من نسل الحسين بالكوفة، وكثرت جموعه، فأرسل إليه جيشا مع محمد بن طاهر، فقتله وبعث رأسه إلى الخليفة، وخرجت عليه أهل حمص، وطردوا العامل الفضل بن فارن، فأرسل المستعين إليهم جيشا تحت قيادة موسى بن بغاء الكبير ففتحها وقتل خلقا كثيرا وأحرقها. وفي سنة 251 شغب الجند وحصروا المستعين في القصر بسامرا، فهرب هو وبغاء الصغير ووصيف باغر التركي إلى بغداد، واستقر بها المستعين فخافت الأتراك منه، فأخرجوا المعتز بن المتوكل من الحبس وبايعوه. (5-13) خلافة المعتز بالله
بويع بالخلافة عقب خلع المستعين، فأرسل جيشا يبلغ خمسين ألفا من الأتراك إلى حزبه، فتحصن المستعين ببغداد وألزمه بخلع نفسه ومبايعته له بعد قتال شديد، ثم نقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بأهله وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، ومنعه من مكة فأقام بالبصرة ووكل به جماعة وانحدر إلى «واسط»، وكتب إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، فامتنع ابن طولون من ذلك فسلمه إلى الحاجب سعيد بن صالح فضربه سعيد حتى مات، وبعث برأسه إلى الخليفة المعتز بالله، وخلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وفي أيامه عقد «لعيسى بن الشيخ» على الرملة فجهز نائبه أبا المعتز إليها لما كانت فتنة الأتراك بالعراق، وتغلب «ابن الشيخ» على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة، وملك يعقوب الصفار هراة وبوشنج وهابه أمير خراسان.
وفي سنة 254ه؛ أعني سنة 868م ولي أحمد بن طولون مصر، وفي سنة 255ه استولى يعقوب بن الليث الصفار على كرمان ثم استولى على فارس، ودخل شيراز ونادى بالأمان، وكتب إلى الخليفة بطاعته، وصار سلطانا بها سنة 255ه الموافقة سنة 868م، وأسس دولة بني الصفار وخلع المعتز سنة 255ه أي سنة 868م، وذلك أن الأتراك طلبوا حقوقهم فلم يكن عنده مال، فاتفق الأتراك فساروا إلى منزله وضربوه، ثم اتفقوا على خلعه، ثم حبس ومنع من الطعام والشراب مدة ثلاثة أيام، فمات ودفن بسامرا. (5-14) خلافة المهتدي
وهو محمد بن الواثق، بويع بالخلافة سنة 255ه/868م، وفي أيامه كان أول خروج صاحب الزنج علي بن محمد، فجمع الزنج الذين كانوا يحملون السباخ جهة البصرة وادعى أنه من نسل الحسين، وعبر نهر الدجلة ونزل الأنبار، وكان المذكور بمدينة سامرا، وخرج منها سنة 249ه/862م إلى البحرين فدعى نسبته بالعلويين، وأقام في الإحساء ثم في البصرة سنة 254ه/868م، ثم خرج في هذه السنة واستفحل أمره وبث أصحابه للإغارة والنهب. وفي سنة 256ه/870م خلع المهتدي؛ لأنه قصد قتل موسى بن بغاء، وكتب إلى «بابكيال» من مقدمي الترك أن يقتل موسى ويصير موضعه، فأطلع بابكيال موسى على ذلك واتفق على قتل المهتدي، فسار بابكيال إلى سامرا ودخل على المهتدي، فحبسه وقتله، وركب لقتال موسى فتخلوا عنه الأتراك، فضعف المهتدي وهرب، فقبض عليه وصفعوه حتى مات، ولما قتل «بابكيال» صارت الأمور بيد «ياركوج» التركي، وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودة متأكدة، فاستعمله على ديار مصر جميعها؛ حيث كان بابكيال قد استعمله على مصر سوى الثغور، فلما تولى مصر قوي أمره وعلا شأنه ففي خلافة المعتمد تغلب أحمد بن طولون وصار ملكا. (6) الدولة الطولونية (6-1) أحمد بن طولون
تولى سنة 258ه أي سنة 872م، وهو أول من تسلطن بمصر من ولاة الدولة العباسية، وكان عاقلا حازما كثير المعروف والصدقة، يحب العلماء وأهل الدين، وهو الذي بنى قلعة «يافا» وبنى الجامع المشهور باسمه بالمقطم في محل يعرف مكانه باسم «تنور فرعون» سنة 263ه أي سنة 277م وبنى «القطائع» المعروف أطلالها الآن باسم «كيمان طولون»، ونقل إليها كرسي المملكة؛ حيث كان بالفسطاط، وبنى أيضا قلعة الكبش، وفي أيامه عصت عليه أهل برقة، فجهز جيشا مع لؤلؤ غلامه، وأمره بالرفق واستعمال اللين، فإن انقادوا كان بها وإلا بالسيف، فسار إليها وحاصرها، فما أمكنه فتحها مع استعمال ما أمره به، فأرسل ابن طولون بالجد في حربهم، فنصب عليهم المنجنيق وجدوا في قتالهم فطلبوا الأمان، وقبض على جماعة من رؤسائهم وضربهم بالسياط وقطع أيدي بعضهم، وأخذ معه جماعة وعاد إلى مصر، ولما وصل لؤلؤ إلى مصر خلع عليه ابن طولون، وطيف بالأسرى في البلد.
وفي سنة 265ه أي سنة 879م أراد الموفق أخو المعتمد كسر شوكة ابن طولون فأرسل جيشا مع موسى بن بغاء السالف الذكر، فخرج ابن طولون عليه واستخلف ابنه العباس بمصر، ولم يستطع ابن بغاء لمكافحته، فدخل الشام وسلم إليه العامل «علي بن أماجور» فخلع عليه ابن طولون، وملك دمشق وحمص وحماه وكذلك حلب، فملك ذلك كله ثم سار إلى أنطاكية ودعا العامل التركي «سيما الطويل» أمير أنطاكية إلى طاعته، فأبي فقاتله وملك أنطاكية عنوة وقتل سيما المذكور، ثم ملك عدنة وطرسوس من سيليسيا، وأراد الإقامة بطرسوس فغلا سعرها فعاد منها إلى الشام، فأتاه خبر ولده العباس الذي قد استخلفه على مصر أنه عصى عليه وأخذ الأموال وسار إلى برقة مشاققا لأبيه، فلم ينزعج من ذلك وثبت حتى قضى أشغاله وضبط بلاده ثم عاد إلى مصر وأرسل إلى ابنه ولاطفه فلم يرجع، فحاربه حربا شديدا، فأخذ العباس أسيرا وحمل إلى أبيه فحبسه في داره إلى أن قدم باقي الأسرى من أصحابه، فأمره أبوه أن يقطع أيدي أعيانهم وأرجلهم ففعل، فلما فرغ منه وبخه وضربه ثم رده إلى الحبس فخنق به. وفي عصره حصلت حادثة فلكية وهي تساقط النجوم من السماء، فخافها الناس وانزعجوا منها، وحصلت في أيامنا هذه مثلها سنة 1303ه أي سنة 1885م، وفسرها علماء الفلك الحاليون بأنها ليست نجوما، وإنما هي حجيرات صغيرة صعدت إلى الجو وصارت بجانب بعضها فمزقتها الكهربائية الجوية وتصاعد من ذلك شرار. ومات ابن طولون سنة 270ه أي سنة 884م، ومدة خلافته 26 سنة نائبا وخليفة. (6-2) خمارويه بن أحمد
بويع بعد موت أبيه، وكان ملكا صاحب أفعال حميدة وآراء سديدة، وأبقى في حكومته جميع من كان مستخدما مدة حياة أبيه، وشرع في تزيين القطائع بمباني فاخرة وأخذ الميدان العمومي وجعله بستانا واحدا، وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر وإلى غير ذلك من أشياء النزهة. وفي سنة 271ه أي سنة 885م جرت واقعة بين الموفق وخمارويه بن أحمد بالقرب من دمشق، وتسمى بواقعة الطوحين، آخرها هزيمة المعتضد وأصحابه بين دمشق والرملة، وانهزم خمارويه إلى حدود مصر وثبت عسكره ولم يعلموا بهزيمته، وانهزم المعتضد ولم يعلم بهزيمة خمارويه، أي إنها كانت واقعة غير قطعية كان سببها عداوة قديمة بين الموفق والطولونيين، وبعد ذلك بقليل تولى أحمد بن الموفق الخلافة، ولقب بالمعتضد بالله، فلما علم بذلك خمارويه أرسل يهنئه بذلك وتعهد له أن يدفع جزية سنوية قدرها 300 ألف دينار، وحصل الاتفاق بينهما، وتزوج الخليفة «قطر الندا» بنت خمارويه، فأرسل إليه الخليفة الحسين بن عبد الله بن الجصاص بهدايا عظيمة، وقد أرسل جيشا مع طغج بن جف لمحاربة الروم، فبلغ مدينة طرسوس وانتصر هناك على الروم جملة نصرات، ثم توجه إلى دمشق لإطفاء الفتنة التي بها فقتل. وذلك سنة 282ه أي سنة 896م.
ولما مات خمارويه بويع لابنه جيش الملقب بأبي العساكر، ثم خلع طغج بن جف أمير دمشق جيش بن خمارويه منها، واختلف جيش أبي العساكر المذكور عليه؛ لحداثة سنه وتقريبه الأرازل وتهديده لقواد أبيه، فثاروا عليه وقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا أخاه هارون في الولاية، وكانت مدة جيش المذكور تسعة أشهر، وفي مدة هارون اختل حال ملك بني طولون، واختلف القواد عليه، وانحل نظام مملكته، فانتهز الفرصة ابن جف واستقل بالشام، وفي ذلك الوقت مات المعتضد، وأخلفه ابنه المكتفي، فبعث جيشا مع محمد بن سليمان فاستولى على دمشق ثم على مصر وصاحبها هارون بن خمارويه، ففارقه غالب قواده ولحقوا بعسكر الخليفة، وخرج هارون بمن بقي معه، وجرى بينه وبين محمد بن سليمان واقعات، ثم وقع في عسكر هارون خصومة فاقتتلوا، فركب هارون لتسكينهم، فزرقه مغربي بمزراق فقتله، فقام عمه شيبان بالأمر وطلب الأمان فأمنه محمد بن سليمان، ثم هرب شيبان ليلا واستولى ابن سليمان على مصر، وأمسك بني طولون وكانوا بضعة عشر رجلا فحملهم إلى بغداد، وذلك سنة 292ه أي سنة 904م، وعادت مصر إلى الدولة العباسية ثانيا. (7) الدولة العباسية المرة الثانية (7-1) خلافة المكتفي بالله
بويع بالخلافة عقب موت أبيه المعتضد، وهو السابع عشر من خلفاء بني العباس، وكان «بالرقة» وبلغه الخبر فأخذ البيعة على من عنده أيضا ودخل بغداد. وفي سنة 290ه أي سنة 902م ابتدأت شوكة القرامطة حتى هزموا جيش طغج بن جف أمير دمشق وحصروها، ثم اجتمعت عليهم العساكر، وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ، فقام في القرامطة أخوه الحسين، وسمى نفسه أحمد، وأظهر شامة بوجهه، وزعم أنها آيته، وكثر جمعه فصالحه أهل دمشق على مال دفعوه له، وانصرف عنها إلى حمص، وخطبوا له على منابرها، وسمي بالمهدي أمير المؤمنين وعهد إلى ابن عمه عبد الله ولقبه «المدثر». ثم سار إلى حماة والمعرة وغيرهما، وقتل أهلها وأخذ سلمية بالأمان وقتل أهلها، ولما اشتد أمر القرمطي صاحب الشامة خرج المكتفي من بغداد ونزل الرقة وأرسل إليه الجيوش. وفي السنة الثانية وقعت عساكر الخليفة مع صاحب الشامة بقرب حماة، فانهزم القرمطي المذكور، وقبضوا عليه هو وابن عمه المدثر، وأحضروا إلى الخليفة فسار بهم إلى بغداد ، وطيف برأس صاحب الشامة، وقد علمنا أن هذا الخليفة هو الذي أرسل محمد بن سليمان إلى مصر وملكها، ولما خرج محمد بن سليمان من مصر ظهر الخلنجي الخارجي بمصر واستفحل أمره، فسار إليه أحمد بن كيعلغ عامل دمشق، فطمعت القرامطة فيها عند غيابه فنهبوها وقتلوا كثيرا من أهلها، ونهبوا أيضا طبرية، ثم قصدوا جهة الكوفة، فسير إليهم المكتفي عساكره فانهزمت عساكر الخليفة. وفي سنة 249ه أخذت القرامطة الحجاج من طريق العراق وقتلوهم، وكانوا نحو عشرين ألفا، وأخذوا منهم أموالا جسيمة، وكان رئيس القرامطة إذ ذاك «زكرويه» فبعث المكتفي إليه جيشا، فانهزم «زكرويه» وقتل، فبعث برأسه إلى الخليفة.
ومات الخليفة سنة 295ه أي سنة 906م، وكان عامله على مصر عيسى النوشري، وبويع بالخلافة بعده للمقتدر وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وحكم سنة واحدة وخلع، وبويع لعبد الله بن المعتز، وجرت في أيامه بين المريدين له والمريدين للمقتدر حروب، تمت فيها الهزيمة عليه وعلى أصحابه فهرب وقبض عليه وحبس، قيل خنق بالحبس، وقيل مات حتف أنفه، وعاد المقتدر ثانيا إلى الخلافة، وكان عامله على مصر عيسى النوشري أيضا، الذي في مدته قدم مصر زيادة الله الأغلبي صاحب القيروان، وسبب ذلك أن زيادة الله المذكور انهمك على اللذات وشرب الخمور وقتل من الأغالبة جما غفيرا، فقوي أمر أبي عبد الله الشيعي القائم بدعوة الدولة الفاطمية بالمغرب، فأرسل إليه زيادة الله جيشا تحت قيادة إبراهيم ابن عمه فهزمهم الشيعي، فضعف زيادة الله وجمع أمواله ووفد على مصر عند عيسى المذكور، فكتب عامل مصر إلى الخليفة المقتدر يعلم الخليفة بذلك، ثم سار زيادة الله إلى الرقة فأمره المقتدر بالعود إلى المغرب لقتال الشيعي المذكور، وكتب إلى النوشري عامله بإمداد زيادة الله، فقدم إلى مصر فمطله النوشري هذا، وزيادة الله ملازم للهو وسماع الغناء وشرب الخمر، وطال مقامه فتفرق أصحابه ومرض وآيس من النوشري، فسار ليقيم بالقدس فمات ودفن بالرملة، ولم يبق من بني الأغلب أحد. وكانت مدة ملكهم 112 سنة، فكان زيادة الله هو آخر ملوك بني الأغلب وابتداء ملك العلويين، وفي أيامه بعث المهدي جيشا مع ابنه أبي القاسم محمد إلى ديار مصر فاستولى على الإسكندرية والفيوم، فبعث إليهم المقتدر جيشا فأجلاهم فعادوا إلى المغرب.
وفي سنة 302ه/913م أرسل المهدي ثانيا جيشا مقدمه حباشة بطريق البحر فاستولى على الإسكندرية، فأرسل المقتدر جيشا مقدمه مؤنس الخادم، فانهزمت المغاربة وقتل خلق كثير منهم، وعادوا إلى بلادهم. وفي سنة 306ه/915م كان العامل تكين الذي في أيامه جهز المهدي جيشا مع ابنه القائم إلى مصر، فوصل الإسكندرية واستولى عليها، ثم وصل الجيزة وملك جزءا من الصعيد، وبعث المقتدر مؤنسا الخادم، وجرت بينه وبين القائم وقعات، ووصل إلى الإسكندرية من جهة المغرب مراكب حربية للقائم، فأرسل المقتدر مراكب من طرسوس لقتال مراكب القائم، فاقتتلت العساكر في البر، فانهزمت عساكر المغرب، وعادوا إلى أفريقا. وفي سنة 312ه/923م قبض المقتدر على وزيره ابن الفرات وقتله هو وابنه المحسن. وفي سنة 319ه/931م أرسل المقتدر عسكرا لقتال مرداويج، فالتقوا بنواحي همدان، فانهزم عسكر الخليفة، فأرسل مرداويج إلى أصفهان فملكها، وفي سنة 320ه/932م قتل المقتدر لوحشة جرت بينه وبين مؤنس الخادم، فتوجه مؤنس إلى الموصل، فكتب أهلها إلى بني حمدان بصد مؤنس عن الموصل، وجرى بينهم قتال شديد، واستولى مؤنس على الموصل، وأتى بجيش وحارب المقتدر، فانهزم الخليفة وقتل. (7-2) خلافة القاهر
وهو محمد بن المعتضد، فحصلت وحشة أيضا بينه وبين مؤنس فعمل الحيلة على قبض مؤنس وقتله. وفي أيامه استولى عماد الدولة بن بويه علي شيراز، وذلك سنة 323ه/934م، وأصل بويه المذكور رجل متوسط الحال بالديكم، وكان له ثلاثة أولاد؛ عماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة، وكانوا في خدمة «ما كان الديلمي»، فلما قهره مرداويج السالف الذكر دخلوا في خدمته وتركوا «ما كان»، فأحسن إليهم مرداويج، وقلد عماد الدولة بن بويه كرج، فقوي وكثر جموعه، فأرسل مرداويج جماعة للقبض عليه فقابلهم بالترحاب واستمال عقولهم حتى وجبت عليهم طاعته، فلما بلغ ذلك «مرداويج» اغتاظ، ثم قصد ابن بويه أصفهان، فأرسل مرداويج إلى ابن بويه يلاطفه وابن بويه يعتذر، ثم استولى أيضا على أرجان، وأرسل ابن بويه المذكور أخاه ركن الدولة إلى «كازرون» وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج أموالها، وامتد ملك بني بويه من بحيرة الخزر إلى العراق العجمي. رجعنا إلى ما نحن بصدده. وفي سنة 322ه الموافقة سنة 934م خلع القاهر وبويع الراضي بالله، فولى مصر لمحمد بن طغج بن جف السالف الذكر، ولما تولى على مصر كان العامل عليها أحمد بن كيعلغ فأجبره على الرحيل إلى بلاد المغرب؛ إذ قد ظهرت دولة العلويين فالتجأ ابن كيعلغ المذكور إلى القائم بأمر الله وأقام هناك، وذلك سنة 323ه الموافقة سنة 934م، ولما توطدت صولته في مصر خرج عن طاعة الراضي بالله، ولقب نفسه بالإخشيد «آق شيد أي شمس بيضاء»، ودخلت مصر تحت حكم الدولة الإخشيدية. (8) الدولة الإخشيدية (8-1) محمد الإخشيد
تولى محمد الإخشيد نائبا على مصر من جهة الراضي بالله، وقبل ذلك تولى مدينة الرملة من قبل المقتدر، وأقام بها إلى سنة 318، ثم جاءته أوامر الخليفة بولايته على دمشق، واستمر واليا عليها إلى خلافة الراضي بالله، فأمره بالولاية على مصر والشام، واستقر بها فطمع في ثروتها سنة 323ه الموافقة سنة 935م، ثم جرد له الراضي جيشا تحت قيادة أبي الفتح بن جعفر لخلع الإخشيد، فوقع بينه وبين أبي الفتح عدة وقائع انتهت بهزيمة أبي الفتح، فصار الإخشيد من وقتئذ سلطانا، وفي سنة 328ه الموافقة سنة 940م استولى ابن راتق على الشام، وطرد بدرا نائب الإخشيد، وبلغ العريش يريد مصر، فأرسل إليه الإخشيد جيشا مع كافور أحد مواليه، فانهزم كافور فخرج إليه الإخشيد بنفسه، وجرى قتال شديد آخره انهزم ابن راتق إلى دمشق، ثم جهز الإخشيد إلى ابن راتق الجيوش مع أخيه، واقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد وقتل أخوه، فأرسل إلى ابن راتق يعزي الإخشيد في أخيه، ويقول: إنه لم يقتل بأمري، وأرسل ولده مزاحما وقال: إن أحببت فاقتل ولدي به، فخلع الإخشيد على مزاحم المذكور، وأعاده إلى أبيه، واستقرت مصر للإخشيد والشام لابن راتق. وفي سنة 330ه الموافقة سنة 942م استولى ابن البريدي على بغداد، وهرب ابن راتق والخليفة المتقي إلى جهة الموصل، ونهب ابن البريدي بغداد ، ولما وصل المتقي وابن راتق تكريت كاتبا ناصر الدولة ابن حمدان ليستنجدا به. وقدما الموصل فخرج عنها ناصر الدولة إلى الجانب الآخر، فأرسل المتقي إليه ابنه المنصور وابن راتق فأكرمهما ناصر الدولة، ولما قاما لينصرفا أمر ناصر الدولة أصحابه، فقتلوا ابن راتق. ثم سار ابن حمدان إلى المتقي، فخلع عليه الخليفة المذكور وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن علي ولقبه سيف الدولة، ثم سار المتقي وناصر الدولة إلى بغداد، فهرب عنها ابن البريدي، ودخل الخليفة واستقر بها، ولما بلغ الإخشيد قتل ابن راتق سار إلى الشام واستولى عليها وضمها إلى الديار المصرية، ومات الإخشيد بالقدس سنة 334ه الموافقة سنة 946م، وتولى بعده ابنه أبو القاسم الملقب بأبي الحور، واستولى على الأمر كافور الإخشيد لصغر سنه، ثم سار إلى مصر بعد موت مولاه، فسار سيف الدولة إلى دمشق وملكها، فتوجه كافور إلى دمشق وأخرج سيف الدولة، ورجع كافور إلى مصر بعد أن ولى عليها بدرا الإخشيد، فأقام سنة ثم ولاها لأبي المظفر بن طغج، وسيف الدولة حلب.
وفي مدة أبي القاسم ولد الإخشيد هجم ملك النوبة على مصر وزحف لغاية أسوان، فقام كافور وهزمه، واقتفى أثره لغاية قلعة أبريم التي هي على بعد 50 فرسخا من أسوان، ولما مات أبو القاسم أخلفه أبو الحسن أخوه، وفي مدته حصل قحط بمصر استمر تسع سنين، وعند وفاته انتقلت الشوكة إلى كافور، وفي عصره استولى عسكر الفاطميين على الفيوم، وهجموا عليه ونزعوا منه أغلب بلاد الصعيد، ومات سنة 968م الموافقة سنة 357ه، وكان كافور أحد أرقاء محمد الإخشيد، فلما اشتهر بالسياسة والعدالة قلده مولاه قيادة الجيوش المصرية، ومدحه المتنبي الشاعر المشهور، ثم هجاه وهرب إلى بلاد العجم ومات هناك، وتوفي كافور بعد أن تصرف سنتين، وتولى بعده أبو الفوارس سنة واحدة، وبه انتهت دولتهم كما سيأتي، ومدة حكمهم 43 سنة وكسور. (9) ابتداء ملك العلويين أو الفاطميين
قد علمنا فيما سبق أن زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب وفد على مصر زمن الخليفة المقتدر بسبب ظهور شيعة العلويين؛ لأن الدعاة بالمغرب كانوا يدعون إلى محمد والد المهدي، وكان بمدينة سلمية «بالمشرق»، فلما توفي أوصى بالخلافة بعده لابنه عبيد الله المهدي وأطلعه على حال الدعاة، وكان ذلك في أيام الخليفة المتقي، فطلب الخليفة عبيد الله، فهرب هو وابنه أبو القاسم الملقب بالقائم وتوجها نحو المغرب، ثم ورد إلى عيسى النوشي عامل مصر كتاب الخليفة بطلب المهدي وابنه، فجد المهدي وقدم طرابلس الغرب، وكان قبل ذلك بقليل قدم مصر زيادة الله الأغلبي كما تقدم ذلك، فأرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة بالقبض على عبيد الله، فهاداه المهدي على أنه تاجر، فأرسل إليه زيادة الله يقول له: إن هذا هو الذي يدعو أبو عبد الله الشيعي إليه، فحبسه ابن مدرار بسجلماسة «من أعمال طرابلس الغرب»، فقدم الشيعي وحاربه، فهرب ابن مدرار ودخل الشيعي المذكور سجلماسة، وأطلق المهدي وابنه من الحبس ثم جدوا في طلب اليسع بن مدرار، وأحضروه بين يدي المهدي فأمر بقتله، وسار حتى وصل إلى «رقادة» فدون الدواوين وبعث العمال إلى سائر بلاد المغرب، وزال بالمهدي ملك بني الأغلب وبني مدرار وبني رستم من «تاهرت»، وباشر المهدي الأمور بنفسه، ولم يبق للشيعي ولا لأخيه أبي العباس حكم فحقدا عليه، فطلبهما وقتلهما سنة 296ه الموافقة سنة 908م، وبنى المهدي مدينة مهدية «بتونس» وجعلها دار مملكته وقاعدة سلطنته، وذلك سنة 303ه الموافقة سنة 914م. والفاطميون ينسبون أنفسهم إلى فاطمة الزهراء كريمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وكان ابتداء هذه الدولة سنة 297ه الموافقة سنة 909م وانقراضها سنة 597ه الموافقة سنة 1171م، وعدد خلفائهم أربعة عشر؛ ثلاثة منهم حكموا ببلاد المغرب، وهم عبيد الله المهدي وابنه القاسم الملقب بالقائم بأمر الله، ثم ابنه المنصور بالله، وأحد عشر حكموا بمصر أولهم المعز لدين الله. (9-1) خلافة المعز لدين الله
وكان شهما شجاعا اتسعت مملكته وكثرت عساكره، وكان صاحب خيرات، ولما مات كافور الإخشيد اضطربت أحوال مصر فسير إليها جوهرا الصقلي غلام والده المنصور «وسمي بالصقلي نسبة إلى صقلية؛ لأنه رومي الأصل» في جيش عظيم إلى الديار المصرية فاستولى عليها بلا حرب ولا قتال، وعسكر في المحل المعروف الآن بالجامع الأزهر وخان الخليلي وبيت القاضي، وأقيمت الدعوة للمعز بالجامع العتيق، وكان ذلك في سنة 358ه، ثم قدم جوهر إلى جامع ابن طولون، وأمر فأذن فيه بحي على خير العمل. ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة، وسميت القاهرة لرمي أحجارها عند توسط المريخ المعروف عند أرباب الفلك من الإسلام باسم القاهر، وسميت الفسطاط بمصر القديمة، وحول إلى القاهرة كرسي النيابة بعد أن كان بالقطائع، ثم أمر ببناء الجامع الأزهر سنة 359ه أي سنة 969م، وأتمه سنة 361ه أي سنة 971م، وجعل جوهر حارة زويلة وغيرها وما جاورها للعساكر القادمة مع المعز من المغرب، وشيد سراي القصر العيني للخليفة وسير جمعا كثيرا مع جعفر بن فلاح إلى الشام، فبلغ الرملة وبها الحسن بن عبد الله بن طغج وغيره، فاستولى عليها ثم سار إلى طبرية فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله، فسار عنها إلى دمشق فقاتلوه، فظفر بهم وملك دمشق ونهب بعضها، وأقام الخطبة للمعز وذلك سنة 359ه، وقطعت الخطبة العباسية، وجرت في أثناء هذه السنة بعد الخطبة العلوية فتنة بين أهل دمشق وجعفر بن فلاح، ووقع بينهم حروب، وقطعت الخطبة العلوية، ثم استظهر ابن فلاح، واستقرت دمشق للمعز.
وفي سنة 360ه أي سنة 970م وصلت القرامطة إلى دمشق وكبسوا جعفر بن فلاح نائب المعز خارج دمشق وقتلوه، وملكوا دمشق وأمنوا أهلها، ثم ملكوا الرملة، واجتمع إليهم خلق من الإخشيدية، فقصدوا مصر ونزلوا بعين شمس، وجرت بينهم وبين المغاربة حرب، فانتصرت القرامطة ثم انتصرت المغاربة، فعادت القرامطة إلى الشام، وكان رئيس القرامطة وقتئذ الحسن بن أحمد بن بهرام. وفي آخر سنة 361ه سار المعز من المهدية واستعمل عليها يوسف بن بلكين بن زيري، وعلى صقلية الحسن بن علي، وعلى طرابلس الغرب عبد الله بن يحلف الكناني، ولما وصل إلى برقة كان معه محمد بن هانئ فقتل ولم يظهر الذي قتله، وكان شاعرا عند المغاربة بمقام المتنبي، وقد اتسع في مدح المعز حتى كفر؛ فمما قاله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وسار حتى وصل الإسكندرية، فأتاه أهلها وأعيانها، فأكرمهم ودخل القاهرة في رمضان سنة 362ه أي سنة 973م وحصل بينه وبين القرامطة بالقرب من عين شمس «المطرية» حروب، وكان رئيسهم الحسن بن أحمد بن الإحسائي، فلما رأى المعز كثرة جموعه استعظم ذلك وأهمه وتحير في أمره، ولم يقدم على إخراج عساكره لقتاله، فاستشار أهل الرأي من نصحائه، فقالوا: «لا حيلة غير السعي في تفريق كلمتهم وإلقاء الخلف بينهم.» ففعل المعز ذلك بواسطة ابن الجراح أحد قوادهم؛ حيث برز له مقدارا من الدراهم، فانهزمت القرامطة وتبعتهم عساكر المعز، وأخذ جماعة منهم وأمر بضرب عنقهم، ثم اقتفوا أثرهم إلى بلدهم الإحساء والقطيف، وهي بالقرب من الخليج الفارسي شرقي بلاد العرب.
وفي سنة 364ه/974م لما انهزم أفتكين مولى معز الدولة أمير الترك من بختيار صاحب «واسط» سار إلى حمص، ثم إلى دمشق، وكان العامل عليها من طرف المعز «زبان الخادم»، فاتفق أفتكين مع أهل دمشق على إخراج «زبان»، وقطعوا خطبة المعز وولوا أفتكين، فعزم المعز على قتاله فاتفق موت المعز، وذلك سنة 365ه/سنة 975م. (9-2) خلافة العزيز بالله
ولما مات أبوه جهز القائد جوهر لقتال أفكتين بدمشق، فاستنجد بالقرامطة، فلما قربوا رحل جوهر إلى جهة مصر فتبعه أفتكين والقرامطة وتبعهم خلق فلحقوا جوهرا قرب الرملة فدخل عسقلان ضعفا عنهم، فحصروه فعاين الهلاك هو وأصحابه من الجوع، فبذل لأفتكين أموالا ليطلقه، فرحل أفتكين عنه، وسار جوهر إلى مصر وأعلم العزيز بالحالة، فسار العزيز بنفسه إلى الشام، ووصل الرملة فقاتله أفتكين والقرامطة ، فانتصر العزيز وقتل وأسر كثيرا، وجعل لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، ودخل أفتكين في هزيمته ببيت صاحبه «مفرج بن دغفل الطائي»، فأسره مفرج في بيته وأعلم العزيز به فأعطاه الجعل، وأحضر أفتكين فأطلقه العزيز وأطلق أصحابه وأنعم عليه وصحبه إلى مصر، وبقي بمصر معظما حتى مات بها. وفي سنة 372ه بعث العزيز بالله من مصر جيشا مع بكتكين إلى الشام، فوصل فلسطين وقد استولى عليها مفرج بن الجراح، فاقتتلوا وانهزم ابن الجراح، ثم سار بكتكين إلى دمشق فقاتله قسام المتولي عليها، فغلبه بكتكين وملك دمشق وأمسك قساما وأرسله إلى العزيز، فاستقر بدمشق وزالت منها الفتن، وكان العزيز مولعا بالصيد، ومات ببلبيس سنة 386ه أي سنة 996م. وتولى بعده ابنه الحاكم، وكان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا، لم يل مصر بعد فرعون أشر منه رام أن يدعي الألوهية كما ادعاها فرعون، فأمر الرعية إذا ذكر الخطيب اسمه على المنبر أن يقوموا إجلالا لذكره واحتراما لاسمه، فكان ذلك في سائر ممالكه حتى الحرمين الشريفين، وأراد أن يفعل الفاحشة بأخته فعملت على قتله، فركب ليلة إلى الجبل المقطم ينظر في النجوم مثل عادته، فآتاه عبدان فقتلاه بالقرب من حلوان وحملاه إلى دار أخته ليلا فدفنته في دارها سنة 411ه/1021م، وهو الذي بنى الجامع المعروف الآن بجامع الحاكم بالقاهرة. وتولى بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، وكانت أفعاله جميعها تقرب من أفعال أبيه، ومات سنة 427ه أي سنة 1036م. (9-3) خلافة المنتصر بالله معد بن الظاهر
تولى بعد موت أبيه سنة 1036م، وأقام حاكما مدة ستين سنة، ولم يقم هذه المدة خليفة ولا ملك في الإسلام قبله، وفي مدته قطع المعز بن باديس بالمهدية خطبة العلويين، وخطب للقائم بأمر الله العباسي فجرد عليه الجيوش، فلاقاهم ومعه ثلاثين ألف فارس، فانهزم ودخل القيروان مهزوما، ثم استولت جيوش المستنصر على القيروان ففر هاربا إلى المهدية ونهبوها. وفي سنة 449ه/1057م قبض المستنصر بمصر على وزيره اليازرودي لما وجد عنده مكاتبات من بغداد، وكان قبل توليته الوزارة قاضيا بالرملة.
وفي أيامه سار أرسلان البساسيري لإقامة الدعوة للمستنصر بالعراق، وكان طغرلبك قد ترك بغداد، واقتفى أثر أخيه إبراهيم نيال إلى همدان؛ حيث كان خرج عن طاعته مرارا، فلما خرج عليه هذه السنة أسره طغرلبك وخنقه، فانتهز الفرصة عند غياب طغرلبك عن بغداد ودخلها البساسيري ومعه قريش بن بدران العقيلي ومعه مائتا فارس وأربعمائة غلام، وخطب للمستنصر بجامع المنصور وأذن بحي على خير العمل، وقطع من الخطبة اسم الخليفة القائم بأمر الله العباسي، ثم خطب للمستنصر أيضا بجامع الرصافة، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب، ثم نزل القائم بأمر الله وأمير الأمراء إلى قريش، وسارا معه باتفاق منه، فأرسل البساسيري يذكر قريشا بما عاهده عليه من المشاركة في الأمر، ثم اتفقا على أن يتسلم البساسيري أمر الأمراء لأنه عدوه، وبقي الخليفة عند قريش، ونهبت دار الخلافة، ثم سلم قريش الخليفة لابن عمه مهاوش، فسار مهاوش والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزلا بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلبك، فعاد طغرلبك مع جيشه لقتال البساسيري فهزمه وأصحابه، وقتله وبعث برأسه إلى الخليفة، وكان البساسيري مملوك بهاء الدولة بن بويه.
وفي سنة 454ه أي سنة 1062م حصلت فتنة بين الأتراك والعبيد كانت سببا في خراب الأقاليم المصرية، وسببها أن أحد الأتراك قتل عبدا وهو سكران، فاجتمعت العبيد وقتلوه، وبلغ ذلك الأتراك فاجمعوا على مقاتلة العبيد، وتقابل الفريقان في كوم الشريك «بمديرية البحيرة»، وحصلت وقعة انهزم فيها فرقة العبيد، فشق ذلك على والدة المستنصر؛ حيث إنها قد كانت السبب في كثرة جموعهم بمصر بشرائها لهم، حتى بلغ تعدادهم نحو خمسين ألفا، وقد أمدتهم في تلك الوقعة سرا، وكانت قد تحكمت في الدولة ونفذت كلمتها، وحثت على قتال الأتراك، فوقعت الفتن ثانيا بين الطرفين آل أمرها إلى وقعة بالقرب من الجيزة، وانهزم فيها العبيد أيضا، وفروا إلى الصعيد وذلك سنة 459ه/1066م، فازدادت قوة الأتراك بمصر واستخف رئيسهم ناصر الدولة حفيد ناصر الدولة بن حمدان بالخليفة، وصاروا يطلبون منه أموالا حتى نفذ جميع ما في الخزينة والتزم ببيع ما عنده، وبعد ذلك سار ناصر الدولة إلى الصعيد لقتال العبيد، فقتل منهم خلقا كثيرا، وعاد إلى القاهرة واستبد بسلطنة مصر، حتى دخلت سنة 461ه فثقل مكانه على الأتراك فاجتمعوا جميعا على عزله، فأمره الخليفة بالخروج من القاهرة، فخرج إلى الجيزة ثم عاد ليلا، ودخل دار القائد تاج الملوك شادي، وترامى عليه فقام لنصرته، وحصلت وقعة عظيمة بينه وبين عسكر الخليفة، فانكسر فيها ناصر الدولة وفر إلى البحيرة، وكثر النهب واشتد الغلاء حتى أكل الناس الجيف، وقطعت الطرق، وكثر القتل فيها إلى أن دخلت سنة 463ه أي سنة 1069م. فجهز الخليفة جيشا لقتال ناصر الدولة، فانهزمت عسكر الخليفة واستولى ناصر الدولة على الوجه البحري وخطب باسم الخليفة القائم بأمر الله العباسي، ونهب أكثر الوجه البحري، فعظم البلاء واشتد القحط وكثرت الموتى، فاضطر الخليفة إلى مصالحة ناصر الدولة بمال يحمل إليه، وبعد قليل وقع الاختلاف بينهما فأتى ناصر الدولة وحاصر القاهرة ونهبها ورجع إلى البحيرة، ومكث هذا الغلاء سبع سنين، وخربت الفسطاط والقطائع.
ولما رأى الخليفة ضعفه واستيلاء ناصر الدولة على مصر والعبيد على الصعيد كتب إلى أمير الجيوش محمود بدر الجمالي الأرمني، واستدعاه من عكا لقمع أرباب الفتن. وفي ذلك الوقت فطن لأمور ناصر الدولة حموه المدعو إيلدكوز، فاتفق هو وجماعة على قتله، وقصدوا داره فخرج إليهم مطمئنا بقوته، فضربوه بسيوفهم حتى قتلوه وأخذوا رأسه، وقتلوا أخاه فخر العرب، وقتلوا جميع بني حمدان بمصر، وأتى بدر الجمالي لما استنجده الخليفة من الشام إلى دمياط، وانحدر جهة الجنوب وسار حتى وصل قليوب، فأمر أمير الجيوش بدر الجمالي أمراء الترك بالقبض على «إيلدكوز» فأجابوه لطلبه، وبعد ذلك عزمهم في وليمة وقتلهم جميعا، ومن ثم صار بدر الجمالي مهابا محترما، وصارت له الكلمة النافذة على مصر، فقلده الخليفة بأمير الجيوش، وأخذ في قمع أرباب الفتن بعد أن قتل إيلدكوز، وشرع في إحياء التمدن، ونشر العلوم التي اندثرت مدة تلك الحروب الداخلية، ومنع الضرائب السنوية مدة ثلاث سنين عن سكان المدن والأرياف؛ لينصلح بذلك حال الأهالي، ولم تحصل بمصر أمور مهمة في مدته سوى إغارة أمة التركمان تحت قيادة «أتزيز» الذي استولى على القدس ودخل مصر ووصل إلى القاهرة، فقام أمير الجيوش وطردهم ومزقهم كل ممزق واقتفى أثرهم إلى أن أدخلهم أرض الشام، وهناك مات رئيسهم «أتزيز»، ومات أمير الجيوش في سن الثمانين، وحكم مصر مدة 20 سنة، ونشر العلوم وأوسع نطاق التجارة والزراعة والفنون، وله آثار عظيمة باقية إلى الآن؛ منها باب زويلة وباب الفتوح وباب النصر، ومات المستنصر سنة 1094م أي سنة 487ه، وكان ضعيف الرأي متكاسلا، ومن ثم قاسى أهوالا جسيمة ، مع أن آخر حكمه عادت مصر لبهجتها القديمة أي لما كانت عليه زمن الفراعنة، ثم أخذت بعده دولة الفواطم في الاضمحلال شيئا فشيئا.
وتولى بعده ابنه أحمد، ولقب نفسه بالمستعلي، وكان الحكم في أيامه لوزيره جاهين شاه بن بدر الجمالي، ولقب نفسه بالأفضل، وفتح القدس في زمن أميرها «أورنك» وابنه «أكساك»، وبعد ذلك بقليل حصلت حرب الصليب الأول تحت قيادة «جدوفروادو بويون»، فأرسل الأفضل جيشا مع سعد الدولة، فهزم أصحاب الصليب في عسقلان، وهو الذي بنى الجيوشي فوق المقطم، ومات المستعلي بعد ذلك بسنتين، وصار الأفضل وصيا على ابنه المنصور؛ حيث كان صغير السن، ولقب بالآمر بأحكام الله، وفي مدته استولى المسيحيون على أغلب المدن البحرية من الشام كعكا وطرابلس الشام، وأرادوا التوجه والهجوم على مصر، وذلك سنة 1101م سنة 495ه تحت رياسة بودوين الأول ملك القدس الشريف، وساروا حتى وصل مدينة الفرما، ونهب ما مر به من البلاد، ثم اعتراه مرض فمات بالعريش في محل يعرف باسم «رمال بودوين»، وقتل الخليفة بعد قليل وخلفه ابن عمه الحافظ لدين الله، فأخذ في اللهو وشرب الخمر وانهمك على اللذات مدة عشرين سنة، ثم نقل الخلافة إلى ابنه إسماعيل ولقب الظافر بأعداء الله، فكانت أفعاله كأفعال أبيه، ثم أهان وزيره عباسا فقتله وولى الخلافة إلى الفائز بنصر الله فحكم ست سنين، ومات عباس الوزير، ومات الخليفة بعده بقليل، فتولى الوزارة بعد عباس طلائع بن رزيك، وتولى الخلافة العاضد سنة 1160م سنة 555ه وهو آخر خلفاء الفاطميين. وطلائع بن رزيك هو الذي نقل رأسا من عسقلان قيل إنها رأس الحسين وبنى عليها المشهد الحسيني المشهور بالقاهرة، وزوج ابنته للخليفة فعظمت شوكته وتكبر وتنمرد فقتلوه أعداؤه، فاستوزر الخليفة بعده شاور، فتغلب عليه درغام فسار شاور إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الموصل، فأمده نور الدين، وأعاده إلى وظيفته بالثاني؛ حيث أرسل معه جيشا مع أسد الدين شركوه الكردي، وكان معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف، فهزم درغام وقتل، وأعيدت الوزارة إلى شاور، ولخوفه من غدر نور الدين بن زنكي تعاهد مع «أموري الأول» ملك القدس، فأتى وحاصر مدينة بلبيس، فهزمه شركوه وفر أموري المذكور إلى الشام، فخلع الخليفة عليه وقلده الوزارة بدل شاور؛ حيث هو الذي أطمع الفرنج في الإسلام بعد أن قتله.
واستمر شركوه وزيرا إلى أن مات، فخلفه صلاح الدين يوسف الكردي. وفي أيامه أراد أموري الاستيلاء على دمياط فخاب أمله بالكلية الجزئية؛ حيث تبعه صلاح الدين إلى أن أدخله أرض فلسطين وانتصر عليه بالقرب من مدينة «غزة»، وعند رجوعه من هذه الغزوة صدرت إليه أوامر نور الدين بقطع اسم العاضد الفاطمي من الخطبة، ورجوع الدعوة إلى الخليفة العباسي المستدعي بالله، وهو الخليفة الثالث والثلاثون من خلفاء بني العباس، ومات العاضد بعد ذلك بقليل، وبه انتهت الدولة الفاطمية، وذلك سنة 1171م سنة 567ه.
الفصل العاشر
الدولة الأيوبية الكردية
صلاح الدين يوسف بن أيوب
قبل موت الأتابكي نور الدين لم يكن معتبرا إلا كقائد أو عامل الأتابكي المذكور، وعند موت نور الدين الشهيد سنة 570ه أي سنة 1175م أشهر لواء الاستقلال، وصار سلطانا. وفي حياة نور الدين اجتمع السودانيون في جمع كثير قاصدين ملك بلاد مصر، وحاصروا مدينة أسوان وقصدوا نهب قراها، وكان بها الأمير كنز الدولة، فبعث يعلم صلاح الدين ويطلب منه المدد، فأرسل له جزءا من جيشه مع الشجاع البعلبكي، فلما وصل إلى أسوان وجد السودانيين قد رحلوا عنها بعد أن أخربوا أرضها فأتبعهم الشجاع المذكور وكنز الدولة، وحصلت وقعات عظيمة قتل فيها من الفريقين عالم عظيم، ورجع الشجاع المذكور، ثم أنفذ الملك الناصر صلاح الدين أخاه شمس الدولة في عسكر كثيف إلى السودان، فوجد السودانيين دخلوا بلاد النوبة فسار قاصدا بلادهم، وشحن مراكب كثيرة في النيل بالعساكر والذخائر وأمرهم بالمسير إلى بلاد النوبة، وساروا حتى وصلوا أبريم وافتتحوها بعد حصار ثلاثة أيام، وغنم منها أموالا عظيمة.
ثم رجع شمس الدولة إلى أسوان وذلك سنة 568ه أي سنة 1173م بعد أن سلم قلعة أبريم إلى جماعة من الأكراد تحت قيادة إبراهيم الكردي، ثم خرج إبراهيم قاصدا جزيرة زبدان، فغرق إبراهيم وجماعة من أصحابه، ورجع الباقي إلى قلعتهم أبريم، ثم أخلوها بعد ذلك بسنتين، ولما مات نور الدين صاحب الموصل سار صلاح الدين إلى الشام فحاصر كثيرا من مدنها واستباح أهلها وفتح أرض الجزيرة، وهزم عز الدين صاحب الموصل واستولى عليها، وعاد إلى مصر وأمر ببناء القلعة الموجودة الآن بالقاهرة، وكان محلها يعرف وقتئذ بقصر الهواء، وقد ذكر العالم المدقق والجهبذ المحقق سعادة علي مبارك باشا في خططه ما نصه:
بنى قلعة الجبل لتكون له معقلا وحصنا يعتصم به من أعدائه، فإنه كان يحذر من شيعة الفاطميين، فاختار لها المحل الذي بنيت فيه، وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وبنى سور القاهرة في سنة 572ه، وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة، وكانت كثيرة العدد، ونقل أحجارها وبقى بها السور، وبنى قناطر الجيزة لأجل سهولة نقل الأحجار، وقصد صلاح الدين أن يكون السور محيطا بالقاهرة والقلعة فمات قبل أن يتم، فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل. انتهى.
وعاد صلاح الدين إلى الشام بجيش آخر وفتح بيت المقدس بعد وقعة عظيمة بالقرب من مدينة طبرية سنة 1187م سنة 583ه أسر فيها ملك بيت المقدس «جي لوزينيان» وسجنه ومعه جماعة من رؤساء المعابد والمضايف، وفتح كثيرا من البلاد الشامية التي كانت بيد الإفرنج، وله حروب كثيرة مع الصليبيين سيأتي ذكرها، وكان شجاعا كريما حليما حسن الأخلاق متواضعا صبورا. ومات بقلعة دمشق سنة 589ه أي سنة 1193م، ودفن بشمال الجامع الأموي.
الملك العزيز بن صلاح الدين
ولما مات صلاح الدين قام بالأمر بعده ابنه العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، وكان ينوب عن أبيه بمصر في حياته، ولما قبض على زمام مملكة أبيه حصلت حروب بينه وبين أخيه الملك الأفضل استولى فيها على دمشق؛ لوحشة جرت بينهما، وكان العزيز حسن السيرة حميد الأخلاق، وإنما كان ضعيف الرأي حتى إن جماعة من أمراء مملكته وأعيانها أشاروا عليه بهدم الأهرام الكبيرة؛ لزعمهم أن بها دفائن وكنوز، فأصدر أمرا بهدمها، فجمعوا لذلك العمال وصناع اللغم، وجعل عليهم بعض الأمراء، وأقاموا على ذلك ثمانية أشهر، وكان لا يمكنهم إلا خلع حجر أو حجرين في اليوم، فكف عن هذا الأمر بعد أن صرف عليه أموالا جسيمة، وكان ذلك سنة 593ه/1196م، وفي سنة 594ه/1198م منع ما كان يحصل في موسم خليج القاهرة، وكان الناس قد اعتادوا على ذلك من القديم، فعظم الأمر عليهم وحصل الاضطراب، حتى هموا بخلعه والخروج عن طاعته لولا أن بلغهم خبر موته، وذلك سنة 595ه/1199م ودفن بتربة الإمام الشافعي.
الملك المنصور بن الملك العزيز
وبموته اشتدت الفتن؛ لأنه عهد لابنه الملك المنصور وعمره تسع سنين، فقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسدي (عبد خصي) الأتابكي، فاختلف عليه الأمراء وكاتبوا عنه الملك الأفضل علي، فقدم من «صرخد» واستولى على الأمور، فلم يبق للمنصور معه سوى الاسم، وولد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه في ذلك الوقت، أي سنة 596ه/1200م، وأراد الأفضل أخذ دمشق من عمه الملك العادل، فجهز الجيوش إليها، وحصل بينهما وقائع تمت بهزيمة الأفضل، فدخل العادل مصر وأعاد الأفضل إلى صرخد، وقام بكفالة المنصور ثم خلعه وحبسه بالقلعة حتى مات، واستبد بسلطنة مصر وبلاد الشام، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها، وأخذ في تدبير مملكته، وأعلى شأنها بمحاربة أعدائها والدفاع عنها، وكان جسورا صبورا على الأهوال حليما كريما جزيل العطاء، ومات سنة 615ه/1218م.
الملك الكامل أبو الفتح ناصر الدين محمد
تولى بعد موت أبيه العادل، وهو الذي أتم بناء قلعة الجبل، وأنشأ بها الدور السلطانية في أثناء نيابته عن أبيه سنة 604ه، ولما مات أبوه انتقل من دار الوزارة الكبرى بالدرب الأصفر إليها، وهو أول من سكن القلعة، وجعلها منزلا للرسل، ونقل سوق الخيل إلى الرملية، فأخذت الناس من وقتئذ في تعمير ما حولها من الدرب الأحمر والمحجر وجهة القطائع والصليبة، بعد أن كان بعضها بساتين وبعضها مقابر، وعمر القبة على ضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه ومات سنة 635ه ودفن بدمشق.
سيف الدين أبو بكر
ولما مات الكامل قام بالأمر بعده ابنه سيف الدين، ولقب بالملك العادل الأصغر، فوقع بينه وبين أخيه الملك الصالح نجم الدين منازعات، انتهت بخنقه بيد الأمراء؛ لكونهم استوحشوا منه بسبب انهماكه على اللهو واشتغاله بالشهوات، وكان موته سنة 637ه ودفن عند الإمام الشافعي.
الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل
تولى بعد موت أخيه سيف الدين، وفي مدته سنة 647ه أخذ الإفرنج دمياط، تحت قيادة لويز التاسع ملك فرنسا، وهو المعروف عند مؤرخي الإسلام باسم «فرنسيس»، فمات بالمنصورة فأخفت زوجته شجرة الدر موته، وصارت تعلم بعلامته سرا، وحمل إلى القاهرة ودفن هناك، وأرسلت إلى ابنه «توران شاه»، فحضر وكان بديار بكر، فحارب الفرنج وأسر ملكهم لويز التاسع السالف الذكر في واقعة فرسكور، وسجنه بالمنصورة بمحل يعرف بدار لقمان، ووكل بحفظه طواشي يقال له صبيح، وبقي أسيرا إلى ولاية شجرة الدر، وقتل «توران شاه» المذكور بعد أن حكم شهرين، فقامت بالأمر بعده شجرة الدر، وكانت تحسن التدبير عن زوجها، وجعلت عز الدين أيبك التركماني نائبا عنها، وأطلقت لويز من السجن بعد اتفاق بينها وبين الفرنج، وسلموا دمياط إلى المصريين، ودفعوا أموالا جسيمة، وتركوها بعد أن أقامت بيدهم أحد عشر شهرا، ثم تزوجت بنائبها المذكور، وبعد ذلك اتفق الأمراء على تولية الملك الأشرف موسى ابن الملك الصالح، وأشركوا اسمه مع شجرة الدر، وذلك سنة 648ه/1251م، وفي ذلك الوقت عظم أمر المماليك البحرية، وتسلطنوا على مصر، وكانوا ألف مملوك، قد اصطفاهم الملك الصالح لخدمته، وأسكنهم بالقلعة التي بالروضة، وكان لهم على شطوط النيل مراكب مشحونة بالسلاح، ومهمات الحرب، ولهذا كانوا يسمون المماليك البحرية.
وقبل التكلم على هذه الدولة أي دولة المماليك البحرية نذكر طرفا من أخبار السلجوقيين، الذين بظهورهم ضعفت خلفاء بني العباس وزالت بالكلية والجزئية بإغارة المغول.
الفصل الحادي عشر
السلجوقيون وحروب الصليب
كان دقاق أبو سلجوق من مقدمي الترك، ونشأ سلجوق وعليه أمارات النجابة، فقدمه بيغو ملك الترك، ثم خاف من بيغو فدخل وكل من أطاعه في دين الإسلام لسعادته، وأقام بنواحي جند - بفتح فسكون - قرية وراء بخارى، وصار يقاتل كفار الترك، وتوفي سلجوق المذكور بجند وعمره 107 سنة، واستمر أولاده أرسلان وميكائيل وموسى في غزو الترك، حتى قتل ميكائيل في الغزوات وخلف أربعة؛ بيغو وطغرلبك وجعروبك داود وإبراهيم نيال، قربوا من بخارى فأساءهم أميرها، فالتجئوا إلى بغراخان ملك التركستان، واتفق طغرلبك وأخوه داود أن لا يجتمعا ببغراخان حذرا من غدره، فتقدم إليه طغرلبك فقبض عليه ملك التركستان وسجنه، ولم يمكنه القبض على داود، فأرسل بغرا جيشا لقتال داود، فانهزم عسكر بغرا، وسار داود وأخرج أخاه من السجن، وأقاما بجند حتى انقرضت الدولة السامانية، وملك إيلك خان بخارى، فعظم عنده أرسلان بن سلجوق.
ثم سار إيلك خان وجعل عامله على بخارى علي تكين ومعه أرسلان، حتى جاء السلطان محمود بن سبكتكين وقصد سنجار، فهرب علي المذكور من بخارى، وكاتب أرسلان السلطان محمودا، فلما دخل بخارى قبض على أرسلان وجماعة السلجوقيين، وفرقهم نواحي خراسان على خراج يدفعونه إليه، فجارت العمال عليهم، فانفصل جماعة منهم وساروا إلى أذربيجان ومكثوا بها، واسمهم هناك الترك الغزية، وسار طغرلبك وأخوه داود وبيغو إلى بخارى، فقاتلهم عسكر علي تكين، وأخيرا استمرت الحروب بين طغرلبك وإخوته وبين مسعود ابن السلطان محمود انتهت بهزيمة مسعود، واستولى السلجوقيون على خراسان ، وخطب لهم على المنابر في آخر سنة 431ه، واستمر طغرلبك في فتوحاته إلى أن قدم إلى العراق ونزل بحلوان، فعظم الإرجاف ببغداد، وبذل قوادها له الطاعة والخطبة بإذن الخليفة العباسي القائم بأمر الله، ثم استأذن طغرلبك في دخول بغداد فدخلها، وقبض أيضا على الملك الرحيم آخر ملوك العراق من بني بويه، واستيلاء طغرلبك على الأمور كان سببا في انحطاط الدولة الإسلامية، وانتقال شوكة العربية إلى الأتراك الذين كانوا قد دخلوا في خدمة الدولة منذ قرنين، فلما ارتفع شأن طغرلبك ازدادت قوة الأتراك وأشهروا السلاح، واستمروا في الفتوحات الإسلامية التي وقفت بظهور دولة بني العباس، وهم الذين قاوموا المسيحيين مدة حروب الصليب، إلا أن نمو التمدن وقف بالبلاد المشرقية، وحصل التعصبات والفشل والمصائب الكبيرة التي أهمها إغارة المغول.
ولما مات طغرلبك أخلفه ابن أخيه ألب أرسلان ، فأخذ في الغزوات، واستولى على سيليسيا التي كان قد أخذها من العرب إمبراطور القسطنطينية المدعو «حنازيميسكس»، فقهر الإمبراطور المعاصر له وهو «ديوجين»، وامتد حكم ألب أرسلان إلى أقصى بلاد العرب، ثم توجه لغزو بلاد التركستان، فقتل هناك فأخلفه ابنه جلال الدين ملك شاه، الذي به ازدادت قوة السلجوقيين، فاجتهد في توطيد سطوته وتوسيع مملكته، وكان وزيره نظام الملك قد اشتهر بالفضل والكرم كجعفر البرمكي، وفي مدته كثرت المدارس والجوامع ببغداد وتجددت الشوارع وإلى غير ذلك من الأشغال الداخلية، وقد بعث جيشا مع وزيره نظام الملك لفتح البلاد، ففتح مدينة أنطاكية، وجملة مدن أخرى من بلاد الجزيرة وطرد الروم، وتبعهم إلى بوغاز البوسفور وجميع البلاد الممتدة من جبال قوقاز لغاية بلاد أرمينيا، ولم يبق للروم سوى المدن البحرية فقط، وصارت جميع البلاد من نهر الهندوس لغاية البحر الأحمر وبحر الأرخبيل مذعنة الطاعة لملك شاه، ولما مات قسمت مملكته بين أولاده الأربعة؛ محمود وبارقيارك وسنجار ومحمد إلى أربعة أقسام، بعد حروب شديدة حصلت بينهم وهي العجم والقرمان والشام والروم «قبادوسيا»، وكان تخت الأخيرة قونية، وتمزقت ممالك ملك شاه، واستقل عماله على أقاليمهم، فإن زنكي الملقب بالأتابكي استقل بالموصل، وأرتك التركماني تغلب على المقدس، وفي مدته قاست النصارى الظلم والجور، فلما أتى أحد الحجاج الفرنساويين المدعو بطرس أرميت لزيارة الأرض المقدسة، وعاين ما هو فيه أبناء جنسه، عاد إلى فرنسا وقص ما شاهده، فكان ذلك سببا للحرب الصليبية الأولى، وسميت بهذا الاسم؛ لأنه كان بملابس المجاهدين فيها صلبان حمر من معادن مختلفة.
الحرب الأولى
وكانت ركبة غير منتظمة، ولم تكن رؤساؤها من أهل الخبرة، قاموا من أوروبا سنة 1096م الموافقة سنة 426ه، وساروا على شواطئ نهر الدانوب، وأخربوا جزءا عظيما من بلاد المجر والصرب ودمروا كل ما مروا به، وعند وصول هؤلاء الأقوام إلى القسطنطينية أدخلهم إمبراطورها «أليكسيوس كومنينوس» آسيا الصغرى، فلما وصلوا إلى مدينة أنجورا قام عليهم ملك الروم السلجوقي وهزمهم ومزقهم كل ممزق، ولم يعد عليهم شيء من هذه الإغارة إلا فقد أرواحهم . وفي السنة الثانية أتى جيش أقل عددا من الجيش المتقدم، إلا أنه كثير الجراءة، وكان قواده أناسا ذوي شهامة ومهارة، وكان الرئيس الأكبر لهذه الركبة هو «جدوفروادو بويون» فاجتاز بوغاز البوسفور، وحاصر مدينة نيسيا وأدخلها تحت طاعة الإمبراطور السابق الذكر، ثم انتصر على الأتراك في وقعة بالقرب من مدينة دورليا، وكانت هذه المدينة مفتاح آسيا الصغرى، لكنه هلك منهم جزء عظيم بالأمراض والحروب المستمرة بينهم وبين الأتراك، فلما وصلوا إلى مدينة أنطاكية كان في طاقة المسلمين الظفر بأعدائهم لولا الشقاق الداخلي بين الرؤساء السلجوقيين، وبعد ثمانية شهور من الحصار وقعت هذه المدينة في قبضة الصليبيين، فقام أمير الموصل «كتبغا» لمساعدة تلك المدينة، فهزم شر هزيمة سنة 1099م الموافقة سنة 429ه، ومع أن بيت المقدس كان ذا حصون متينة أخذه الصليبيون وصار «جدوفروادو بويون» ملكا عليه، وذلك بعد موت أخيه «بودوين» السالف الذكر بسنتين، وعاد الصليبيون إلى أوروبا بعد أن نظموا بيت المقدس على نسق الممالك الغربية، واستمر أهل القدس النصارى في حروب دائمة مع المسلمين حتى اتسعت مملكتهم، وفتحوا مدينتي أنطاكية وأورفا، وجعلوهما مدينتين حصينتين لتكونا لهم ملجأ عند الشدائد.
الحرب الثانية
ولما استولى عماد الدين زنكي على مدينة أورفا وطرد منها نواب الصليبيين كان ذلك سببا في حرب صليبية ثانية تحت قيادة «لويز السابع» ملك فرنسا و«جونراد الثاني» إمبراطور ألمانيا، فماصروا دمشق ولكنهم التزموا بالرحيل عنها؛ لأن جيوشهم قد هلكت من الحروب والأمراض المتكاثرة، وقد كانت مملكة بيت المقدس في حالة سيئة، ولما تولى «صلاح الدين يوسف» ملك مصر واستولى على دمشق وحلب والموصل وهزم ملك بيت المقدس «جي لوزنيان» ودخل القدس وهدم مملكة بيت المقدس النصرانية كما تقدم، شرع «فريديريك بربيروس» إمبراطور ألمانيا و«فيليبش» ملك فرنسا و«ريتشار قلب الأسد» ملك إنجلترا في حروب صليبية ثالثة، فتوفي فريديريك في الطريق، ووصل الصليبيون إلى فلسطين، واستولوا على عكا وبعد هذا النجاح العظيم عاد أغلب الصليبيين إلى أوروبا فاستمر «ريشار» بنفسه في قتال المسلمين، ولكنه بعد ذلك نزل أرض فلسطين بعد أن تعاهد مع صلاح الدين يوسف سنة 1192م الموافقة سنة 522ه، وشرع في حروب صليبية أخرى، فحصلت بعد ذلك بيسير، وكانت تارة بالشام وتارة بمصر وتارة بتونس، ولكن كانت سجالا ودولا بين الطرفين، وأخيرا بقيت الشام للمسلمين وانضمت إلى مصر في زمن الأيوبيين والمماليك البحرية والجراكسة.
إغارة المغول
وفي سنة 1257م أي في زمن الخليفة المستعصم الذي هو آخر خلفاء بني العباس أغار على العراق أمة المغول، فنهبوا الأموال والخزائن الموجودة ببغداد وقتلوا كثيرا من عساكر الخليفة، وسبب ذلك أن وزيره ابن العلقمي كان رافضيا عدو أهل السنة يريد زوال الخلافة من بني العباس، فصار يكاتب إمبراطور المغول «بني الأصفر» ويخبره بضعف الخليفة ويعلمه صورة أخذ بغداد ويحسن للمستعصم توفير الخزينة وعدم الصرف على العساكر، فوفر في مرة عشرين ألف مقاتل وأظهر للخليفة أنه وفر من مصاريفهم أموالا جسيمة في بيت المال فأعجبه رأيه لكونه يحب المال وجمعه، فأرسل إمبراطور المغول أخاه «هولاكو» إلى العراق ومعه جيش جرار، فلما علم الخليفة بذلك استيقظ من غفلته وجمع من قدر عليه من الجيوش فلم يقدر عليهم، وغرق من عسكره كثير في نهر الدجلة، وقتل أكثرهم، وأسروا الخليفة وأولاده، ووقع وزيره لعنة الله عليه في الذل والهوان إلى أن مات، وعملت جملة قصائد ببغداد منها:
يا عصبة الإسلام نوحي واندبي
حزنا على ما تم للمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه
لابن الفرات فصار لابن العلقم
وكان ذلك سنة 1258م الموافقة سنة 656ه وانتقل بيت الخلافة من بغداد إلى مصر في زمن السلطان بيبرس البندقداري، وكان أولهم المستنصر، وصل إلى مصر واجتمع بالظاهر بيبرس وأثبت نسبه عند قضاة الشرع، وبايعه بالخلافة وأجرى عليه نفقة، وليس له من الأمر إلا اسم الخليفة وأولاده بعده على هذا المنوال.
الفصل الثاني عشر
في المماليك البحرية
كان ابتداء هذه الدولة في سنة 648ه الموافقة سنة 1251م، وعدد ملوكها 24 ومدة حكمهم 136، وأول ملوكها عز الدين أيبك زوج شجرة الدر، وسبب استيلائه أن «الأشرف موسى» كان صغيرا وبلغ أهل مصر قدوم التتار للبلاد، فاجتمعت الآراء على إقامة عز الدين بمفرده، ولما تسلطن شرع في تحصيل الأموال واستخدام الرجال، واستوزر «أبا سعيد هبة الله» وكان أول قبطي تولى الوزارة، وأوجد مكوسا سماها حقوقا، ثم إن «عز الدين» لما صفا له الوقت وتمكن وكثرت عساكره هربت جماعة البحرية إلى الشام مع رؤسائهم بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي وغيرهما، واستولى على أموالهم، وأبطل ما كان قدره وزيره المذكور من المكوس وغيرها، وخطب بنت صاحب الموصل، فلما سمعت بذلك زوجته شجرة الدر تغيرت عليه فعزم على قتلها، ولما بلغها ذلك خافت على نفسها واتفقت مع محسن أغا الجوهري على قتله، فقتلاه في الحمام، فلما بلغ مماليكه قتله، دخلوا على شجرة الدر ليقتلوها فسبقتهم زوجته أم ولده وجواريها فضربوها إلى أن ماتت. وكان المعز أيبك ملكا شجاعا حسن التدبير والسياسة، غير أنه كان سفاكا للدماء، وكانت مدة سلطنته سبع سنوات تقريبا، وفي مدته ظهرت النار بالمدينة فأحرقت المسجد النبوي.
سيف الدين قطز
ولما قتل عز الدين قام بالأمر بعده ابنه نور الدين علي، وكان سنه عشر سنين، وجعل الأمير قطز نائبه، وفي أيامه أخذ التتار بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم كما تقدم، وزحفوا على الشام فاستشار الأمير «قطز» الأمراء وقبض على الملك ووالدته وإخوته، واعتقلهم بدمياط ببرج السلسلة، بعد أن حكم سنتين فلم يلبث أن جاء الخبر بأن «هولاكو» حفيد «جنجيس خان» والتتار وصلوا بلاد الشام، واستنجد أهلها بملك مصر فسار بجيوشه والتقى مع التتار بعين جالوت، فهزمهم وغنم منهم كثيرا، وكان بيبرس البندقداري من أعيان مملكته فساق وراء التتار وطردهم عن بلاده، وكان السلطان وعده بحلب ولم يف له، فوقعت الوحشة بينهما انتهت بقتل السلطان وتولى بيبرس السلطنة.
السلطان بيبرس البندقداري
وهو من مشاهير ملوك هذه الدولة، وهو صاحب الفتوحات العظيمة، تولى سنة 658ه الموافقة سنة 1260م، أصله تركي، اشتراه الملك الصالح «نجم الدين أيوب»، وأعتقه. ولا زالت الأقدار تساعده حتى وصل ما وصل. وكان شجاعا يباشر الحروب بنفسه، له الوقائع الهائلة مع التتار ثم مع الفرنج، وفتح بلاد النوبة ودنقلة ولم تفتح قبله مع كثرة الغزوات، وجدد عمارة الجامع الأزهر بعد أن خرب، وانقطعت الخطبة منه مدة طويلة، فأعادها كما كانت، وله صدقات وأوقاف كثيرة، وبنى الجامع الكبير بالحسينية، وأكمل عمارة المسجد النبوي من الحريق، وغسل الكعبة بماء الورد بيده، وبنى المدرسة تجاه البيمارستان «النحاسين» بالقاهرة، وقناطر أبي المنجا جهة قليوب، وقنطرة السباع أمام السيدة زينب، ولما خرج لقتال التتار استفتى العلماء في أخذ أموال من الرعية للإعانة بها فأفتوه، إلا النووي فانه امتنع وكلمه كلاما شديدا، فغضب عليه وأمره بالخروج من الشام، فخرج إلى بلدة نوى، ثم أمر برجوعه فامتنع وقال: لا أدخلها والظاهر فيها، والظاهر هو أول من رسم موكبي المحمل وكسوة الكعبة بمصر، وذلك سنة 675ه الموافقة لسنة 1276م، ومات الظاهر بعد أن حكم 17 سنة وكسورا، وخلف الظاهر بيبرس ابنه الملك السعيد «ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة» سنة 676ه الموافقة لسنة 1676م، فلم يمكث إلا قليلا وخلع سنة 687ه، وخلفه أخوه الملك العادل بدر الدين سلامش، فخلع بعد أشهر وبعث به إلى الكرد فسجن مع أخيه.
الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي
وهو رأس الدولة القلاوونية باعتبار مؤرخي الإسلام؛ ولذلك يسمى بأبي الملوك، وسمي بالألفي؛ لأنه اشتري بألف دينار، وأصله من مماليك الصالح «نجم الدين أيوب»، وكان شهما بطلا منصورا في حروبه، وله محاربات ووقائع كثيرة مع التتار، وغزى بلاد النوبة سنة 687ه الموافقة سنة 1288م، وكان له فيها فتوحات عظيمة، وعاد منها بغنائم جسيمة، وله عمارات كثيرة منها: المدرسة المنصورية، ونقل إلى هذه العمارات أعمدة قلعة الروضة ورخامها، وقد أكثر من شراء المماليك الجراكسة وأسكنهم بالقلعة حتى بلغ عددهم ستة آلاف، وهو الذي بنى بقلعة الجبل دار النيابة في سنة 687ه، وكانت تجلس بها النواب إلى أن هدمها ابنه الناصر محمد وأبطل النيابة والوزارة، فبناها بعده الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، وفي سنة 679 مات المنصور قلاوون، وأحدث في أيامه وظيفة كتابة السر واللعب بالرمح في موكبي المحمل والكسوة، وأبطل عدة مكوس.
الملك الأشرف صلاح الدين خليل
تولى بعد موت أبيه سنة 690ه الموافقة سنة 1291م. وفي أيامه كانت الحروب قائمة بينه وبين الفرنج في السواحل الشامية فأجلاهم عنها، وفتح عكا وهدمها وجملة حصون، وبعد عودته توجه إلى قوص، ومن هناك سافر إلى اليمن وإلى الكرك ثم عاد إلى مصر. وفي أيامه بلغ عدد المماليك عشرة آلاف، وسمح لهم بالخروج إلى داخل البلد نهارا ويبيتون بالقلعة ليلا. وفي سنة 692ه الموافقة لسنة 1293م بنى بالقلعة قصر الأشرفية، وعمر أيضا الرفرف وجعله عاليا، وصور فيه أمراء الدولة، وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها، وكان مجلسا يجلس فيه السلطان إلى أن هدمه الناصر محمد بن قلاوون. والغالب أن محله القصر الأبلق «الطوبخانة الآن». وفي سنة 693ه قتل؛ وسبب ذلك أنه كان خرج إلى الصيد وساق إلى الطرانة فتبعه الأمير بيدره ومعه جماعة فقتلوه هناك، وحكم بعده، وسمى نفسه الملك القاهر فحكم يوما واحدا وقتل، ودفن الأشرف بجوار مشهد السيدة نفيسة.
الملك الناصر محمد بن قلاوون
تولى سنة 693ه وعمره تسع سنين، فأقيم كفيلا له الأمير «كتبغا المنصور» فقتل؛ قتله الملك الأشرف ، وقبض على بعضهم وولى عقوبتهم بيبرس الجاشنكر، وآل أمرهم إلى أن قطعت أيديهم وأرجلهم وعلقت في أعناقهم، وشهروا في مصر والقاهرة. ثم إن مماليك الأشرف أحدثوا فتنة، قبض على ثلثمائة نفس منهم، وقطعت أيديهم وأرجلهم وصلبوا بباب زويلة وذلك سنة 694ه، ورجع إلى السلطنة وعزل؛ ورجع ثالثا ومكث حاكما حتى مات سنة 740ه، وكانت مدة خلافته 43 سنة دون اعتزاله السلطنة.
الملك العادل كتبغا
هو الملك العادل «زين الدين المنصوري»، أصله من مماليك قلاوون، وحصل في أيامه غلاء مفرط؛ لأن مد النيل قصر حتى أكل الناس الجيف. وفي زمنه وفد على مصر طائفة من المغول فرارا من ملكهم غازان يدعون باسم «الأويراتية». فإنه لما تغلب التتار على ممالك الشرق والعراق وجفل الناس إلى مصر نزلوا بالحسينية، وعمروا بها المساكن وأيضا أمراء الدولة، وصارت من أعظم عمائر القاهرة، وكان السلطان كلما نزل من القلعة إلى الميدان لم يجد أحدا؛ لقلة الناس وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء، واشتد خوفه من الفتنة فأظهر العناية بأمر الأويراتية ؛ لأنهم كانوا من جنسه، وكان مراده أن يكونوا أعوانا له عند الشدائد، فخشوا إيقاعه بهم، فآل الأمر أخيرا بسببهم وبسبب عدم مسيره إلى بلاد الشام لمحاربة التتار إلى قيام بعض الأمراء عليه، فترك الملك وفر هاربا إلى دمشق.
السلطان حسن بن قلاوون
تولى السلطنة وعمره 13 سنة، فعهد إلى الأمير منجك اليوسفي بالوزارة، فنقص كثيرا من مصروف الدولة والرواتب، ومد يده لأخذ الرشوة، وصار يولي الوظائف بمال يأخذه ممن يتولاه، واشتد تحريق النيل، واتفق الرأي على سده من جهة الجيزة لتحويل الماء إلى مصر، ووكل لهذا الأمر وزيره منجك، فجمع أموالا عظيمة من الرعية، وصنع مراكب وشحنها أحجارا ورماها في مجرى النيل مما يلي بر الجيزة فلم تحصل ثمرة، وعزل منجك من الوزارة ثم أعيد إليها ثانيا، واشتد ظلمه وجمع أموالا عظيمة، وكثرت حوادثه إلى أن عزل بالثاني، وحمل إلى الإسكندرية وسلب ماله، ثم أعيد إليه جزء من ماله. وفي سنة 749ه حصل طاعون عم الديار المصرية فخرب البلاد وقتل العباد. وفي سنة 751 جمع السلطان حسن القضاة والأمراء ورشد نفسه، وبعد أيام قبض على جماعة من الأمراء كان منهم منجك المذكور وحملهم إلى الشام، فتعصبوا وقاموا عليه سنة 752ه، وكان رأس الفتنة الأمير «طاز» فقبضوا عليه وسجنوه بالقلعة، فأقام إلى أن أعيد إلى السلطنة ثانيا سنة 755ه، فأقام ست سنين وكسور وقتل سنة 762ه. وفي أيامه بني الجامع المسمى باسمه وجامع شيخون ومدرسته بالرميلة.
أبو المعالي زين الدين شعبان
تولى سنة 764ه، ولقب بالملك الأشرف، وعمره عشر سنين. وكان المتكفل به الأمير «يلبغا العمري». وفي سنة 767ه أراد أن يجعل الأمير «طنبغا الطويل» عامله على الشام، وكان هذا الأمير إذ ذاك برأس الوادي، فأرسل إليه كتابا مع جملة أمراء فلم يمتثل لهذا الأمر واتحد مع الأمراء المرسلين إليه، ورفعوا لواء العصيان، فقام يلبغا وحاربهم وانتصر عليهم بالقرب من الجبل الأحمر بجهة تعرف بقبة النصر وقتل منهم خلقا كثيرا. وفي هذه السنة وردت مراكب صاحب قبرص إلى «الإسكندرية»، فقام عليهم نائب الإسكندرية وحاربهم بما عنده من العرب والعساكر ، فهزموه ودخلوا المدينة ونهبوها وقتلوا كثيرا من أهلها، ورحلوا عنها قبل وصول عساكر الملك إليهم الواردة من القاهرة، وبهذا السبب وكثرة فساد مراكب الفرنج في البحر وقطعهم طرق التجارة شرع في إنشاء مراكب حربية، فلما كملت رحل ليتفرج عليها، وعاد إلى «الطرانة» بقصد النزهة، ونصب بها خيامه، وكان مماليك «يلبغا» قد اتفقوا على قتله فهرب ليلا إلى القلعة، فتوجه المماليك إلى السلطان وأرادوا أن يعينهم، فلم يمكنه غير الموافقة. ولما بلغ «يلبغا» ذلك جمع جموعه واستدعى الأمير «أتوك» أخا السلطان ولقبه بالملك المنصور، وسار به إلى الجزيرة الوسطى والسلطان الأشرف في بر إمبابة، وصاروا يترامون بالنشاب، فسار السلطان وطلع القلعة على حين غفلة، فلما سمع بذلك أصحاب «يلبغا» فارقوه أغلبهم وآل الأمر بالقبض على يلبغا وقتلوه. وكانت داره هي المعروفة الآن «بالحوض المرصود»، وكانت مدة السلطان «زين الدين شعبان» كلها ثورات وتعاظم عليه، وكانت الحروب بالرميلة وبولاق والجزيرة، وجعل للأشراف العمائم الخضر ليمتازوا عن غيرهم. وفي سنة 778ه خرج للحج فلما وصل العقبة قام عليه المماليك، فكر راجعا واختفى بالقاهرة إلى أن قبض عليه وخنق ووضع بزنبيل وألقي في بئر. وفي أيامه ولى الكثير من أولاد الناس المناصب السامية والوظائف العالية، وهو الذي بنى المدرسة الأشرفية تجاه القلعة وهدمت في زمن السلطان «برقوق».
زين الدين الملك حاجي
كان عمره وقت تقليده السلطنة عشر سنين، فلم يكن له من السلطنة سوى الاسم فقط، وكان الأمر بيد برقوق الوزير، وكانت المملكة في حالة الاضطراب؛ لأن كل أمير كان يريد الرياسة، وكثرت العربدة في البلاد، واشتدت نيران الفتن، فاتفق برقوق مع خشداشيته، وهجم على باب السلسلة الذي هو باب العزب، أحد أبواب القلعة، واستحضر الخليفة الموجود وهو المتوكل على الله العباسي والقضاة والأمراء، واتفقوا على خلع الملك الصالح حاجي وتولية برقوق، وتقررت بينهم سلطنة برقوق، فكانت مدة سلطنته سنة وكسورا، فكان من تولى من ذرية الناصر اثني عشر، أقاموا ثلاثا وأربعين سنة، مع أن الناصر محمد بن قلاوون أقام بها أربعا وأربعين سنة، ومدتهم جميعا كانت شدائد حتى اشتد الضرر بالناس، مع أن في مدتهم جددت العمارات الكثيرة بمصر والقاهرة.
الفصل الثالث عشر
دولة الجراكسة
حكمت هذه الدولة سنة 784ه، وانقضت سنة 923ه، وعدد سلاطينهم 22 سلطانا، وأولهم برقوق، ولنذكر من اشتهر منهم فنقول:
الظاهر برقوق
أصله من مماليك يلبغا المتقدم الذكر، ولما استقر برقوق في السلطنة أكثر في شراء المماليك وأمر لهم بالسكنة في القاهرة، وتزوجوا بنساء أهل المدينة، وتغيرت أحوال البلاد وعوائدها، ثم رفع نواب الشام لواء العصيان عليه، وجرت بينه وبينهم حروب شديدة، ودام الاضطراب حتى حضر «يلبغا الناصري» بعساكر من الشام، واقتتل مع عساكر برقوق خارج باب النصر، فانهزمت عسكر السلطان، واختفى برقوق، واستولى «يلبغا» على القلعة، وأخرج السلطان الصالح حاجي من السجن وولاه السلطنة ثانيا، وأكثر القتل في مماليك السلطان برقوق، وما زال مجدا في طلبه حتى عثر عليه، فبعث به أسيرا إلى الكرك، وحبس هناك وصار الحل والعقد بيد «يلبغا»، ثم حصلت فتنة من يلبغا والأمير منطاش، فتحاربا في الرميلة وآل أمرها بهروب يلبغا وأصحابه، وصار الحل والعقد بيد «منطاش»، فتمكن برقوق من الخروج من الكرك فخرج وانضم إلى بعض مماليكه وكثير من العرب، وحصلت وقعات بينه وبين نواب الشام والسلطان «حاجي»، انتهت باسترجاعه إلى السلطنة، وهرب «يلبغا» فصار يهجم على بلاد الشام إلى أن قتل يلبغا وأتي برأسه وعلقت على باب زويلة، وفرح السلطان برقوق لقتله. وفي ذلك الوقت كان ظهور «تيمورلنك» يعثو في البلاد بعساكره، وحصلت بينه وبين عساكر مصر وقعات عظيمة، واستولى على بغداد، فهرب صاحبها القان أحمد إلى مصر فقابله ملكها بالترحاب وأنزله بقصر الأمير «طقوزدمور» - وهو محل المدارس الميرية الآن بدرب الجماميز - وجهز جيشا وسار معه إلى بلاد الشام، وكان تيمورلنك قد رحل عنها، فرجع السلطان برقوق إلى مصر وتوجه القان أحمد إلى مملكته، فكانت مدته كلها حروب وشدائد، فكانت سلطنته بالديار المصرية والشامية ست عشرة سنة وكسورا، وكان كثير البر والصدقات، ومات سنة 801ه.
الملك الناصر أبو السعادات فرج بن برقوق
تولى السلطنة وعمره عشر سنين ، وفي مدته قام عليه الأمير «أيتمش» بمماليكه يريد خلعه من السلطنة، فتحزب عليه مماليك الظاهر مع كثير من الأمراء، واقتتلوا بالرميلة وحول القلعة، فانهزم «أيتمش» وفر إلى الشام، وقتل في هذه الواقعة أناس كثيرون، ونهب العوام بيوت الأمراء الذين كانوا مع «أيتمش»، وأحرقوا باب مدرسة السلطان «حسن»؛ حيث كان أيتمش حاصر القلعة منها، وقام بدل «أيتمش» «بيبرس السيفي»، فهدد الناس وأصلح حال الرعية، وكان أيتمش هرب إلى الشام وعثا هناك بالقتل والسلب، فجهز إليه جيشا جرارا وسار إليه وقتله وجملة من أصحابه، وأتى إلى مصر بموكب هائل، وعلق رأسه ورءوس أصحابه على باب زويلة، وفي ذلك الوقت كان تيمورلنك قد قتل العباد وأحرق البلاد ونهبها، حتى قيل إنه بنى من الرءوس عشر منارات دور كل منارة عشرون ذراعا، وكل ذلك وفرج المذكور في لهو وشرب، فسخط عليه الأهالي، فقام بيبرس السيفي وصمم على قتله فهرب.
الملك أبو النصر شيخ
ولما تولى السلطنة أمير المؤمنين الخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباس وتولى النيابة المؤيد شيخ، فشاركه المؤيد في الخطبة، وصار الأمر للمؤيد فتغلب على السلطنة، وصار الخليفة له الاسم فقط ثم جمع القضاة والأمراء وخلع الخليفة من السلطنة ولم يخلعه من الخلافة، فأقام بالقلعة ثم خلعه من الخلافة أيضا وبعث به إلى الإسكندرية، وسجن هناك إلى زمن الملك الأشرف «برسباي» فأخرجه من السجن، وسكن هناك إلى أن مات سنة 833ه، ودفن هناك، ولما خلع الخليفة سنة 815ه جلس هو بمفرده، وكان هذا الملك من مماليك الظاهر برقوق واسمه أبو النصر شيخ وتلقب بالمؤيد، ولما بلغ نوروز عامل الشام خلع المستعين، فلم يقطع خطبة المستعين، واستمر يخطب باسم الخليفة، فسار إليه المؤيد وحاربه وقتله ورجع إلى القاهرة، وولى منكلي بغا الشمسي محتسبا، وكان هذا أول تركي تولى الحسبة، وعصى عليه نواب الشام، فسار إليهم ففروا هاربين وولى بدلهم وعاد إلى القاهرة، وصفا له الوقت، وأكثر من شراء المماليك، وقتل ابنه إبراهيم لما بلغه أنه مصمم على نزعه من السلطنة، ودفنه بالجامع الموجود بجوار باب زويلة، ثم مات ودفن معه، وكان أكثر إقامته ببولاق، ووقع في زمنه وباء عظيم حتى حصل للناس من ذلك ضرر، وكان كريما يحب العلم والعلماء، إلا أنه كان كثير السفك للدماء، قتل كثيرا من النواب.
السلطان أبو النصر قايتباي
لما تولى أبو النصر قايتباي تلقب بالملك الأشرف، وهو أعظم سلاطين هذه الدولة، له عمارات عظيمة بمصر والمدينة ومكة وغيرها، منها جامع بجزيرة الروضة، وجامع بقلعة الكبش، والإيوان الكبير بالقلعة وغير ذلك، وهو من مماليك الظاهر «جقمق»، وأنشأ عدة قناطر وجسور في الأقاليم، ووقف أوقافا كثيرة لعمارته. وفي سنة 884 هجرية حج السلطان قايتباي، ولم يحج من سلاطين الجراكسة غيره، ورتب لأهل الحرمين ثمانية آلاف إردب قمح. وفي سنة 887 هجرية توجهت عساكر مصر تحت قيادة يشبك إلى «حسن الطويل» ملك العراق، وجرى بينهما حروب كثيرة انهزم فيها العساكر المصرية ومات «يشبك»، ووقعت الحرب بينه وبين السلطان «محمد» ملك الروم من سلاطين آل عثمان، وسبب ذلك أن بعض تجار الهند أهدى هدية إلى السلطان محمد المذكور، فسمع بها قايتباي فأخذها. فلما بلغ ذلك السلطان محمدا حاربه، فتظاهر عليه المصريون، ثم إن السلطان المذكور بلغه تظاهر بعض الأمراء المصرية عليه فأراد أن يتنازل عن السلطنة، فامتنع أمراء الأهالي من ذلك فرجع إلى السلطنة ثانيا، ثم جاءت الأخبار بإغارة العساكر العثمانية على بلاد الشام تحت رياسة السلطان بايزيد خان من آل عثمان قاصدا حرب قايتباي، وسبب ذلك أنه رحب بأخيه «جم» الذي كان منازعا له في الملك، فجهز إليه سلطان مصر قايتباي العساكر مع الأمير أزبك الذي نسبت إليه الأزبكية، فانتصر المصريون عليه مرارا، ثم حصل الصلح بينهما وترك قايتباي عدنة وطرطوس إليه، وكان سفير قايتباي جانبلاط بن يشبك السالف الذكر والبيان، ومات قايتباي سنة 901ه، وكان محبا لجمع الأموال وغير عجول في الأمور.
السلطان قانصوه الغوري
هو أبو النصر قانصوه، تولى السلطنة سنة 906ه، ولقب بالملك الأشرف فأقام 15 سنة، ولما اتفق العساكر على توليته اشترط معهم أن لا يقتلوه وإن رغبوا عزله انعزل. وكان جبارا كثير القتل والسفك، وله عدة مباني منها المنارة المعتبرة بالأزهر، والبستان تحت القلعة، والسبع سواقي لمجرى الماء من مصر العتيقة إلى القلعة، وعمر بعض أبراج الإسكندرية، وعمل بطريق الحج عدة خانات وآبار، وهو صاحب القبة الموجودة الآن بالبلدة التي سميت بها قرب المطرية، ومع ذلك فإنه كان كثير الطمع والظلم يأخذ أموال من يموت، ومماليكه يظلمون الناس، ووقعت بينه وبين السلطان «سليم الأول» من آل عثمان حروب بمرج دابق انهزم فيها الغوري ولم يعلم له حال، وسبب هذه الفتنة أنه رحب بأخيه كركود الذي كان ينازعه في الملك، ودخلت الشام من وقتئذ تحت حكم الدولة العلية، وقام السلطان سليم بالشام شهرا ثم رحل إلى مصر، فوجد عسكر مصر قد ولوا عليهم «طومان باي» ابن أخ «الغوري»، ووقع بينهم حروب كثيرة، ثم ذهب طومان باي إلى السلطان سليم طائعا، فقتله وأبقاه في باب زويلة مشنوقا ثلاثة أيام، ودفن بمدفن الغوري المشهور، وبموت طومان باي انتهت دولة الجراكسة.
الفصل الرابع عشر
مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الأولى
أول من ملك مصر من بني عثمان هو السلطان سليم الأول، وذلك سنة 923ه/1530م. وكان ملكا شديد البأس مولعا بمطالعة التواريخ بليغا في اللغة الفارسية والرومية والعربية والتركية. وكان كثير السفك للدماء عظيم الكشف عن أحوال الملوك، وكان يتجسس بالليل والنهار متخفيا، ويطلع على الأخبار، وكان قد توجه لقتال العجم فلم يتمكن من بلادهم شدة التمكن بسبب انقطاع القوافل التي أعدها لتتبعه بمؤنة العساكر، فبلغه أن سببه سلطان مصر «قانصوه الغوري»؛ لأن بينه وبين إسماعيل شاه العجم مودة ومراسلات، فكان ذلك سببا في غزو بلاد مصر كما تقدم، وكان مقره بمصر في قلعة الروضة، وبني له كشك عند قاعة المقياس، وهو مشرف على النيل.
ولما أراد التوجه إلى الروم تقدم إليه خاير بك بمفاتيح البلد، فردها عليه وولاه عليها إلى أن يموت، فشاوره على أن أبناء الجراكسة يريدون الدخول في خدمة الدولة، فأجابه لطلبه وشاوره على إبقاء أوقاف الجراكسة، وهي نحو عشرة قراريط من أرض مصر ، فأبقاها على ما كانت عليه، فغضب وزيره، وقال: «أفنوا مالنا وعساكرنا وتبقى لهم أوقافهم يستعينون علينا بها؟!» فأمر السلطان سليم بضرب عنق الوزير، وقال: «عاهدناهم على أنهم إن مكنونا من بلادهم أبقيناهم عليها، وجعلناهم أمراءها. فهل يجوز لنا أن نخون العهد ونغدر؟ وإذا أدخلنا أبناءهم في حيزنا فهم أولاد مسلمين، وتأخذهم الغيرة على ديارهم، وأما أراضيهم فأصلها ملك الغانمين، ومنهم من وقف ومنهم من قامت ذريته من بعده. فهل يجوز أن ننازعهم في أملاكهم؟ وأنا أزلت الوزير كراهة أن يغير علي اعتقادي بتكرار كلامه.» وكانت مدة ولاية «خاير بك» سنتين ونصف تقريبا، ومن بعده أرسلت الدولة العلية نائبا من طرفها إلى سنة 1765م أي في زمن السلطان مصطفى الثالث، فإنه قطع إرسال النواب إلى مصر وولاها للمماليك البادي ذكرهم آنفا، بشرط أن يدفعوا نصف الأموال السلطانية إلى الأستانة العلية والنصف الثاني يصرف برسم المرتبات، وأقام بينهم أميرا لصدور الأوامر، فكانت المماليك تصرف الأموال على شهواتهم ويدعون أنهم يصرفونها على المصالح الميرية، وفي آخر العام يرسلون الدفتر مسددا عن يد الوزير المذكور الذي لم يكن في مصر إلا على سبيل الصورة فقط، وكانوا يظلمون الناس ولا يبالون في نجاح البلاد، وكان كبيرهم يسكن القاهرة ويلقبونه بشيخ البلد، ومع تمادي الأيام خرجوا عن طاعة الدولة العلية لما حكم كبيرهم «علي بك الكبير» الذي خطب على المنابر باسمه، واستمر العصيان إلى سنة 1798م الموافقة سنة 1213ه حين حضر الجنرال «بونابارت» وحاربهم وشتت شملهم.
الفصل الخامس عشر
الجيش الفرنساوي في مصر
وفي سنة 1798م هجمت الأمة الفرنساوية على مصر تحت قيادة الجنرال «بونابارت» بأربعين ألفا من العساكر الفرنساوية، فأولا ملكوا الإسكندرية، ثم نزلوا على مصر ووقع بينهم وبين المصريين وقائع شتى، فأول واقعة كانت عند الرحمانية، فهزمت الجيوش المصرية، والتجئوا إلى الجيزة، فاقتفى الفرنساويون أثرهم، والتقوا عند قرية وسيم فهزمهم الفرنساويون ثاني مرة، ففر «مراد بك» ومن معه من المماليك إلى الصعيد، وفر «إبراهيم بك» شيخ البلد ومن معه من المماليك إلى الشام، وبعد تمام نصرتهم دخلوا مصر ورتبوا الدواوين لتنصلح الأحوال، وأظهروا أنهم لا يظلمون أحدا ولا يتعرضون للرعية إلا بكل خير وأنهم مرسلون من طرف الدولة العلية، ولكن بعد يسير أظهروا ضد ما قالوه ونهبوا أمتعة المماليك ثم الأهالي وقتلوهم، وكذا قتلوا بكل قرية من قرى مصر من امتنع عن أداء ما فرض عليه من الأموال، وقد قتلوا كثيرا من العلماء عند دخولهم الجامع الأزهر، ونشروا الخزائن التي ظنوا أن بها أموالا، وأخذوا الكتب النفيسة التي بها، ونقلوها إلى باريس، وهي موجودة لغاية الآن بكتبخاناتهم، وربطوا خيولهم بالجامع الأزهر يوما وليلة، ثم توجه بونابرت إلى الشام، وقاتل بها «أحمد باشا الجزار»، ثم عاد إلى مصر وترك جزءا من جيشه لمحافظة العريش، ثم نهض لمقاومة «مصطفى باشا» بأبي قير حين حضوره من بلاد الترك، فهزمه وأخذه أسيرا وقتله، وبعد أن جمع الأموال وولى مكانه كليبر سرى عسكر جيشه وسافر إلى فرنسا.
وفي سنة 1214ه تحركت همة مولانا السلطان سليم الثالث، وجهز جيشا تحت قيادة يوسف باشا المعدني؛ لمقاتلة الفرنساوية بمصر وبصحبته العساكر الإنكليزية المتحدة مع هذه الدولة في هذه الحرب، ففتح منهم مدينة غزة، فطلبوا الصلح وأمهلهم أربعين يوما يجمعون فيها عساكرهم، فأجابهم لهذا الطلب، فجمعوا عساكرهم وخدعوه وغدروا به عند مدينة الخانكة فخاب أمله، ولما رجع الفرنساويون منعهم عن الدخول في القاهرة حسن بك الجداوي ومحمد بك الألفي وإبراهيم بك شيخ البلد والسيد أحمد المحروقي والسيد بيومي مكرم والشيخ الصاوي، فحاربهم الفرنساويون وهزموهم، وفي هذه الواقعة حرقوا بعض محلات باب الشعرية وبولاق. وصار كليبر ينهب أموال الأهالي، ويطلب منهم الطلبات الباهظة، فمن جملة طلبه من شيخ السادات سيدي محمد أبي الأنوار خزينة مال، فباع أمتعته هو ونساؤه فلم يف بنصف مطلوبه. وفي سنة 1215ه خرج رجل من مجاوري الشوام بالأزهر على كليبر وقتله في بستان البيت الذي بالأزبكية، فقبض على المجاور المذكور وصلبوه، وبعد زمن شرع الفرنساويون في تشييد السور من باب النصر إلى باب الحديد، وجعلوا جامع الحاكم وجامع الظاهر بيبرس قلعتين.
وفي سنة 1216ه وافتهم العساكر السلطانية والإنكليزية معا تحت قيادة بوهان باشا، ووقعت بينهم وقائع شتى، وأخيرا انتهت بالنصرة لبوهان باشا، وهزم الفرنساويين. فطلبوا الصلح فأمهلهم جملة أيام ونزلوا في مراكب، ودخلت العساكر الشاهانية والإنكليزية مصر منصورين، وكانت مدة تصرف الفرنساوية ثلاث سنين، ورجعت مصر لحوزة الدولة العلية ثانيا.
الفصل السادس عشر
مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الثانية
وبعد أن تمت النصرة للدولة العلية على الأمة الفرنساوية أقرت الدولة «محمد خسرو باشا» واليا عليها، وأصدرت إليه أوامر لقتال المماليك، فلما سمع هذا الخبر أكابر المماليك، وهما عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي، نهضا لمقاومة الوالي المذكور، واستظهروا عليه وهزموا جيشه، فنسبت هذه الهزيمة إلى محمد علي باشا الكبير، وأضمر الوالي المذكور قتله فحاوله، وانضم بمن معه من الشجعان إلى طائفة المماليك وهزموه. ولما سمع ذلك السلطان «سليم الثالث » شق عليه وأرسل «علي باشا الجزايرلي» وأمره بالقبض على المماليك والأرنؤد، فبحضوره إلى مصر خلعوا طاعته وكسروا جيشه وقتلوه، وبعد أيام قلائل وقعت فتنة بين محمد بك الألفي وعثمان بك البرديسي، انتهت بالمعاداة بينهما.
ولم يمض زمن يسير حتى توفاهما الله فاتفق سادات مصر على أن يكون «محمد علي» باشا قائمقام البلد، فصادقوه على ذلك لما رأوا فيه من كمال الاستعداد، ولما كان المتولي على مصر أحمد باشا، طلع محمد علي باشا والأرنؤد في مقابلة أحمد باشا وجماعته، فجعل محمد باشا يضرب عليهم بالمدافع حتى أخرب جهة الداودية وأضعفهم، ففر أحمد باشا وانضم أتباعه إلى محمد علي باشا، فقابلهم بكل ممنونية، وصار محمد على باشا من ذلك الوقت يستميل قلوب الأهالي والعساكر إليه حتى أحبه العموم، وبغضوا الأمراء إلى أن دخلت سنة 1220م اتفق الجنود والعلماء والعامة على عزل أحمد باشا وتولية محمد علي باشا، فامتنع أحمد باشا، فحاربه محمد علي باشا، وحصره بالقلعة فهرب من باب الجبل، فطلع محمد علي باشا القلعة وورد إليه فرمان في سنة 1221م بولايته على مصر، ثم أمر بعد ذلك بالتوجه إلى سالونيك وأن يسلم البلد إلى أكابر المماليك، بشرط أن يدفعوا للدولة خمسة آلاف كيس كل عام، فتلى الفرمان على مشايخ البلاد فأجابوه جميعا: نحن عبيد السلطان، ولكن لا نقبل إعادة حكم المماليك ثانيا، وأوردوا أن لا يقبلوا واليا سوى محمد علي باشا الكبير لعلو همته ومكارم أخلاقه، فأجابهم السلطان إلى هذا الطلب؛ لإطفاء الفتنة، وصدرت الأوامر السلطانية بتقرير عزيز مصر محمد علي باشا الكبير واليا عليها، وذلك سنة 1219ه الموافقة سنة 1804م، ودخلت مصر تحت حكم الدولة المحمدية العلوية، وها نحن تحت ظل رعيتها على أحسن حال وأتم منوال. خلد الله ملكها إلى آخر الزمان بجاه سيد ولد عدنان.
Bilinmeyen sayfa