بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله رب الْعَالمين أكمل الْحَمد على جَمِيع هداياته ومعارفه وعطاياه وعوارفه وَأفضل ﷺ وتحياته الطَّيِّبَات المباركات وإكرامه على رَسُوله وحبيبه وصفوته مُحَمَّد الْأمين خَاتم النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ الَّذِي جعل الله الذلة وَالصغَار على من خَالف أمره كَمَا ورد بِهِ الحَدِيث المتين وَالْقُرْآن الْمُبين حَيْثُ قَالَ رب الْعَالمين فِي بعض الْمُخَالفين لَهُ فِي الدّين ﴿سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نجزي المفترين﴾ وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أهل بَيته الطيبين الطاهرين وَرَضي الله عَن الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ الصَّادِقين السَّابِقين وَالَّذين جاؤا من بعدهمْ من التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين
أما بعد فَإِنِّي نظرت إِلَى شدَّة الْخلاف وَاخْتِلَاف الْعُقَلَاء والأذكياء وَأهل الرياضات الْعَظِيمَة من الرهبان وَسَائِر أَجنَاس أهل الْأَدْيَان ثمَّ إِلَى مَا وَقع من ذَلِك بَين أهل الْإِسْلَام من أهل القوانين العلمية البرهانية وَأهل القوانين الرياضية الرهبانية وَأهل التفاسير والتآويل للآيات القرآنية وَأهل الْآثَار والأنظار فِي الْفُرُوع الظنية فَرَأَيْت اخْتِلَافا كَبِيرا وتعاديا نكيرا وتباعدا كثيرا سبق إِلَى ظن النَّاظر فِيهِ أَنه لَا طَرِيق لَهُ مَعَ سَعَة ذَلِك إِلَى تَمْيِيز المحق من الْمُبْطل والمصيب من الْمُخطئ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح لِأَن التَّمْيِيز الصَّحِيح لذَلِك لَا يحصل إِلَّا بعد بُلُوغ الْغَايَة القصوى فِي طرق جَمِيع هَذِه الطوائف حَتَّى يعْتَرف لَهُ بِالْإِمَامَةِ فِي كل فن من تِلْكَ الْفُنُون كل أَمَام بهَا وعارف
ويتقن علم كل فرقة مثل اتقان كل من أئمتهم لدعواهم وحقائقهم مُمَيّزا لمعارفهم ومزالقهم والعمر أقصر من أَن يَتَّسِع لذَلِك مَعَ تفريغه عَن
1 / 9
الشواغل الْمُزَاحمَة لذَلِك تمّ الطّلب الشَّديد لَهُ فَكيف يَتَيَسَّر علم جَمِيع ذَلِك فِي أول أَوْقَات التَّكْلِيف مَعَ الشواغل الجمة وَالتَّقْصِير الْكثير من الأكابر المتصدرين للتعليم كَيفَ للمتعلمين الْمُقَصِّرِينَ على تلقن مَذَاهِب أسلافهم من غير الثِّقَات إِلَى الإهتمام بتحقيق أدلتهم الَّتِي تخصهم دع عَنْك الإهتمام بأدلة خصومهم وتحقيقها مَعَ شدَّة الإشكالات ودقتها ومعارضة الأذكياء والرهبان بَعضهم لبَعض فِي كل مِلَّة وكل فرقة وَمَعَ اسْتِمْرَار من ظَاهره الْفَهم والإنصاف من أهل الْإِسْلَام على ذَلِك الإختلاف فعظمت هَذِه الفكرة عِنْدِي واهتم لَهَا قلبِي لَوْلَا مَا عارضها من الْعلم الْيَقِين بل الضَّرُورِيّ بِمَا للأكثرين من العقائد الْبَاطِلَة ومعارضة الْحق الْوَاضِح بالشبه الساقطة وتعرف ذَلِك بمطالعة كتب الْملَل والنحل والأهواء والتجاهل فَنَظَرت فِي كَيْفيَّة النجَاة مَعَ ذَلِك مستمدا من الله تَعَالَى دَاعيا طَالبا رَاغِبًا رَاهِبًا وان الله تَعَالَى وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء وفقني حِينَئِذٍ إِلَى أوضح الطّرق فِي علمي وأبعدها من الشّبَه والشكوك إِلَى معرفَة مَا تمس الضَّرُورَة إِلَى مَعْرفَته من الْحق الَّذِي تخَاف الْمضرَّة بجهله وَهُوَ الَّذِي جَاءَ الْإِسْلَام بِوُجُوب مَعْرفَته أَو أَمر بهَا أَو ندب إِلَيْهَا من الْكتاب وَالسّنة دون معرفَة مَا لم يدل عقل وَلَا سمع على وجوب مَعْرفَته وَلَا ثَبت فِي الشَّرِيعَة استحبابها وبترك هَذَا الْقسم يسهل الْأَمر ويهون الْخطب فَإِن الَّذِي وسع دَائِرَة المراء والضلال هُوَ الْبَحْث عَمَّا لَا يعلم وَالسَّعْي فِيمَا لَا يدْرك وَطول السّير وَالسَّعْي فِي الطَّرِيق الَّتِي لَا توصل إِلَى الْمَطْلُوب والإقتداء بِمن يظنّ فِيهِ الْإِصَابَة وَهُوَ مُخطئ والإشتغال بالبحث عَن الدقائق الَّتِي لَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا وَلَا يُوصل الْبَحْث عَنْهَا إِلَى الْيَقِين وَلَا إِلَى الْوِفَاق وَلَا ظَهرت للخوض فِيهَا مَعَ طوله ثَمَرَة نافعة لَا بِالْيَقِينِ صادعة وَلَا للإفتراق جَامِعَة وَلَا رُوِيَ عَن أحد من الْأَنْبِيَاء ﵈ وَلَا صَحَّ عَن أحد من السّلف الْكِرَام
وَرُبمَا انْقَطع هَذَا الْعُمر الْقصير فِي تِلْكَ الطّرق الْبَعِيدَة قبل الْبلُوغ إِلَى الْمَقْصُود بهَا وَهُوَ معرفَة الْحق الْوَاجِب من الْبَاطِل المهلك وَمَعْرِفَة المحق من الْمُبْطل وَلَيْسَ الطّلب لكل علم بمحمود وَلَا كل مَطْلُوب بموجود أما الثَّانِيَة فوفاقية وَأما الأولى فعقلا وسمعا أما الْعقل فَإِنَّهُ لَا يحسن قطع
1 / 10
الْأَوْقَات فِي وزن الْحِجَارَة وَكيل التُّرَاب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يُفِيد وَالْعلَّة أَنه عَبث وَلعب لَا يضر وَلَا ينفع فَكيف بِمَا يضر أَو لَا يُؤمن أَنه يضر وَقد ذكر نَحْو ذَلِك القَاضِي جَعْفَر رَحمَه الله تَعَالَى وَأما السّمع فقد قَالَ تَعَالَى فِي متعلمي السحر أَنهم يتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم﴾ ﷺ وَالْآيَة تَقْتَضِي ذمّ علمهمْ وذمهم بِهِ
وَفِي الحَدِيث أَن من الْعلم جهلا قَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة قيل فِي تَفْسِيره وَهُوَ أَن يتَعَلَّم مَا لايحتاج إِلَيْهِ كَالنُّجُومِ وعلوم الْأَوَائِل ويدع مَا هُوَ مُحْتَاج اليه فِي دينه من علم الْقُرْآن وَالسّنة وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ﴾ وَعلم آدم الاسماء دون الْمَلَائِكَة وآتانا من الْعلم قَلِيلا مَعَ قدرته على أَن يؤتينا كثيرا فَقَالَ فِي ذَلِك ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا﴾ يُوضحهُ قَول الْخضر لمُوسَى ﵉ مَا علمي وعلمك وَعلم جَمِيع الْخَلَائق فِي علم الله إِلَّا كَمَا أَخذ هَذَا الطَّائِر بمنقاره من هَذَا الْبَحْر وَقَالَ لمُوسَى أَنا على علم من علم الله لَا يَنْبَغِي لَك أَن تعلمه وَأَنت على علم من علم الله لَا يَنْبَغِي لي أَن أعمله فَدلَّ ذَلِك كُله على أَنه لَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يتَعَرَّض لعلم مَا لم يعلمنَا الله وَرَسُوله ويتضح معقوله ومنقوله لقَوْل الْمَلَائِكَة ﵈ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى ﴿قل هاتوا برهانكم هَذَا ذكر من معي وَذكر من قبلي﴾ وَهَذِه الْآيَة دَالَّة على أَن كتب الله لَا تَخْلُو من الْبَرَاهِين الْمُحْتَاج اليها فِي أَمر الدّين كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْمُخْتَصر مستوعبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَفِي قَول الْمَلَائِكَة لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِشَارَة إِلَى ذَلِك بل دلَالَة وَاضِحَة لأَنهم حِين قطعُوا على فَسَاد آدم مَعَ اخبار الله تَعَالَى لَهُم أَنه مستخلفه فِي الأَرْض إِنَّمَا أَتَوا من خوضهم فِيمَا لم يعلمهُمْ الله تَعَالَى إِذْ لَو كَانَ من تَعْلِيم الله مَا أخطأوا فِيهِ فَلَمَّا تبين لَهُم خطأهم نظرُوا من أَيْن جَاءَهُم الْخَطَأ على علو مَنْزِلَتهمْ فعرفوا أَنهم أخطأوا لما تعرضوا لعلم مَا لم يعلمهُمْ الله
1 / 11
سُبْحَانَهُ فَقَالُوا حِينَئِذٍ ﴿سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا﴾ فَهَذَا وهم أَحَق الْخلق بِالْعلمِ والكشف للغائبات فَإِنَّهُم أنوار وعقول بِلَا شهوات حاجبة وَلَا أهواء غالبة وَلذَلِك ذمّ الله الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ بابتغاء تَأْوِيل الْمُتَشَابه ومدح الراسخين بالإعتراف بِالْعَجزِ كَمَا هُوَ مَعْرُوف عَن عَليّ ﵇ فِي أمالي السَّيِّد الامام أبي طَالب ﵇ وَفِي نهج البلاغة على مَا سَيَأْتِي تَقْرِيره وَالْحجّة عَلَيْهِ وذم الْيَهُود على تعَاطِي مَا لم يعلمُوا فَقَالَ تَعَالَى ﴿هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ حاججتم فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم﴾
وَمن ذَلِك أَن الله تَعَالَى أرى رَسُوله ﷺ وَالْمُسْلِمين يَوْم بدر الْكثير من الْمُشْركين قَلِيلا فِي الْمَنَام ثمَّ فِي الْيَقَظَة للْمصْلحَة وَاخْتلف لمن الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى ﴿يرونهم مثليهم رَأْي الْعين﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي السَّاعَة ﴿أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى﴾ أَي أُخْفِي علمهَا الْجملِي وَأما تعْيين وَقتهَا فقد أخفاه من الْخلق كَمَا قَالَ ﴿ثقلت فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة﴾ وَكفى بذلك حجَّة صادعة على أَن الْمصلحَة لِلْخلقِ قد تعلق بِجَهْل بعض الْعُلُوم وَمِمَّا يُوضح ذَلِك قَول عِيسَى ﵇ ﴿ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ﴾ كَمَا ذكر فِي الْكَشَّاف وَلِأَن حِكْمَة الله وَحكمه الَّذِي لَا يغالب قد يَقْتَضِي ذَلِك عُمُوما كَمَا اقْتَضَت كتم الْآجَال على الاكثرين
وَجَاء فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أول رُؤْيا عِنْد رَسُول الله ﷺ فَقَالَ لَهُ أصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا فَسَأَلَهُ بَيَان مَا أصَاب فِيهِ وَمَا أَخطَأ فَأبى عَلَيْهِ فَقَالَ أَقْسَمت عَلَيْك الا مَا أَخْبَرتنِي فَقَالَ لَا تقسم فَهَذَا مَعَ اكرامه لَهُ وانه على خلق عَظِيم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فلولا أَن الْجَهْل بِبَعْض الْأُمُور قد يكون راجحا أَو وَاجِبا لما تخلف
1 / 12
عَن اخباره بعد هَذَا الالحاح الْكثير من هَذَا الصاحب الْكَبِير فَدلَّ على أَنه لَيْسَ فِي كل علم صَلَاح الْعباد وَأَن قَدرنَا أَنه يحصل من غير خطأ وَلَا تَعب وَلَا خطر فَكيف مَعَ خوف الْفَوْت والخطر الْعَظِيم والتعب الشَّديد بل هُوَ مَعَ تحقق ذَلِك فِي حق الْأَكْثَرين بالتجارب الضرورية
وَمن ذَلِك قَول رَسُول الله ﷺ حِين رفع علم لَيْلَة الْقدر وَسُئِلَ عَنْهَا وَعَسَى أَن يكون خيرا لكم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَقَوله فِي حَدِيث معَاذ دعهم يعملوا مُتَّفق على صِحَّته وشواهده جمة كَثِيرَة صَحِيحَة وَمن ذَلِك وَهُوَ أعظمه وأشهره قصَّة الْخضر ومُوسَى ﵉ وَهِي شافية كَافِيَة وَهِي صَرِيحَة فِي اخْتِلَاف الْمصَالح فِي الْعُلُوم وَمِنْه قَوْله تَعَالَى بعد حِكَايَة الإختلاف بَين دَاوُد وَسليمَان ﵉ ﴿وكلا آتَيْنَا حكما وعلما﴾
وَذكر الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي فِي مقالاته الْمَشْهُورَة الْعَامَّة فَقَالَ هَنِيئًا لَهُم السَّلامَة مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَفِي شعر الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد المعتزلي وَقد حكى كَثْرَة بَحثه فِي علم الْكَلَام حَتَّى قَالَ
(وأسائل الْملَل الَّتِي اخْتلفت ... فِي الدّين حَتَّى عَابِد الوثن)
(وحسبت أَنِّي بَالغ أملي ... فِيمَا طلبت ومبريء شجني)
(فاذا الَّذِي استكثرت مِنْهُ هُوَ ... الْجَانِي على عظائم المحن)
(فضللت فِي تيه بِلَا علم ... وغرقت فِي يم بِلَا سفن)
وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي ذَلِك
(الْعلم للرحمن ﷻ ... وسواه فِي جهلاته يتغمغم)
(مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا ... يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم)
وَقَالَ صَاحب نِهَايَة الاقدام
(قد طفت فِي تِلْكَ الْمعَاهد كلهَا ... وسيرت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم)
(فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر ... على ذقن أَو قارعا سنّ نادم)
1 / 13
فَهَذَا كَلَام سلاطين أَئِمَّة المعارف الْعَقْلِيَّة من فريقي الْملَّة الإسلامية وَسَيَأْتِي هَذَا مَبْسُوطا فِي مَوْضِعه
فَأَما بعض الطّلبَة من أَتبَاع أهل الْكَلَام الَّذين قلدوا فِي تِلْكَ الْقَوَاعِد وهم يحسبون أَنهم من الْمُحَقِّقين فهم أبلد وَأبْعد من أَن يعرفوا مَا أوجب اعْتِرَاف هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة بِالْجَهْلِ وَالْعجز وَإِنَّمَا هم بِمَنْزِلَة من سمع أَخْبَار الحروب والشجعان وَهَؤُلَاء الْأَئِمَّة بِمَنْزِلَة من مارس مقارعة الْأَبْطَال ومنازلة الأقران وَلَا يلْزم من التزهيد فِي طلب مَا لَا يحصل والاشتغال بِمَا يضر من عُلُوم الفلاسفة والمبتدعة التزهيد فِي الْعلم النافع وَسَيَأْتِي اشباع القَوْل فِي عظم فَضله والحث عَلَيْهِ بعد تَقْرِير صِحَّته وَالرَّدّ الشافي على من نَفَاهُ
وَمن هَا هُنَا أَمر رَسُول الله ﷺ وَآله وَسلم بالإقتصاد فِي الْأُمُور وَقَالَ إِن المنبت لَا أَرضًا قطع وَلَا ظهرا أبقى وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله تَعَالَى معلما للأميين وَرَحْمَة للْعَالمين وَعلم بِالضَّرُورَةِ لَا بأخبار الْآحَاد إِن ذَلِك كَانَ خلقه وَدينه عِنْد الْعلمَاء النقاد فَتعين حِينَئِذٍ طلب الطَّرِيق الْقَرِيبَة الممكنة الَّتِي هِيَ فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا كَمَا نَص على ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَسنة رَسُوله عَلَيْهِ أفضل ﷺ وَلَوْلَا مَا وَقع فِيهَا من التَّغْيِير لما احْتَاجَت إِلَى طلب وَلكنه قد وَقع فِيهَا التَّغْيِير كَمَا أخبر بذلك رَسُول الله ﷺ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته عِنْد أهل النَّقْل وَفِيه تَفْسِير الْفطْرَة وتقريرها من الْمبلغ الْمُبين لما أنزل عَلَيْهِ من الْهدى والنور حَيْثُ قَالَ (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه) وَفِي ذَلِك يَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب ﵇ فِي ممادح ربه ﷾ الَّتِي أودعها خطبه فِي محافل الْمُسلمين وَأما العارفين وَعلمهَا من حَضَره من خِيَار الْمُؤمنِينَ حَيْثُ قَالَ فِي محامد رب الْعَالمين لم يطلع الْعُقُول على تَحْدِيد صفته وَلم يحجبها عَن وَاجِب مَعْرفَته فَهُوَ الَّذِي يشْهد لَهُ أَعْلَام الْوُجُود على إِقْرَار قلب ذِي الْجُحُود وَقد جود فِي شَرحه ونصرته الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد وَعَزاهُ إِلَى قَاضِي الْقُضَاة وَفرق بَينه وَبَين قَول الجاحظ فَقَالَ أَنا مَا ادعينا فِي هَذَا الْمقَام إِلَّا أَن الْعلم بِإِثْبَات الصَّانِع هُوَ الضَّرُورِيّ والجاحظ
1 / 14
ادّعى فِي جَمِيع المعارف أَنَّهَا ضَرُورِيَّة وَأَيْنَ أحد الْقَوْلَيْنِ من الآخر انْتهى كَلَام الشَّيْخ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ﴾ وَقَوله ﴿الم تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ﴾ وَقَوله تَعَالَى ﴿قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ وَلذَلِك كَانَ الْمُخْتَار فِي حَقِيقَة النّظر إِنَّه تَجْرِيد الْقلب عَن الغفلات لَا تَرْتِيب الْمُقدمَات كَمَا ذكره الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فَتَأمل ذَلِك
قلت وَبَيَان هَذِه الْجُمْلَة فِي أَمريْن أَحدهمَا بَيَان الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من المعارف الإسلامية فِي الْأُصُول وَهِي سَبْعَة أُمُور كلهَا فطرية جلية كَمَا يَأْتِي وَعَلَيْهَا مدَار خلاف الْعَالمين أَجْمَعِينَ وَإِنَّمَا تدْرك بالفطرة قبل التَّغْيِير أَو مَعَ الشُّعُور بذلك التَّغْيِير فَإِن مداواته بعد الشُّعُور بِهِ سهلة وَذَلِكَ لِأَن البصيرة فِي المعلومات كالبصر فِي المحسوسات كِلَاهُمَا مخلوقان فِي الأَصْل على الْكَمَال مَا لم يغيرا فَمَتَى وَقع فيهمَا التَّغْيِير وَلم يشْعر بِهِ صَاحبه فحش جَهله وَخَطأَهُ وَمَتى شعر بذلك سهل علاجه واستداركه وَالْحكم عَلَيْهِ بِحكم العميان وَالله الْمُسْتَعَان الْأَمر الثَّانِي بَيَان أَن خوض جَمِيع الْمُتَكَلِّمين فِي عقائدهم الخلافية بَين الْفرق الإسلامية يتَوَقَّف دَائِما أَو غَالِبا على الْخَوْض فِي مُقَدمَات لتِلْك العقائد وَجَمِيع تِلْكَ الْمُقدمَات مُخْتَلف فِيهَا أَشد الِاخْتِلَاف بَين أذكياء الْعَالم وفحول علم المعقولات من عُلَمَاء الْإِسْلَام دع عَنْك غَيرهم وَمن شَرط الْمُقدمَات أَن تكون أجلى وَأَن لَا تكون بِالشَّكِّ والإختلاف أولى فَلْينْظر بإنصاف من كَانَ من أهل النّظر من عُلَمَاء الْكَلَام فِي تِلْكَ الْقَوَاعِد الدقيقة والمباحث العميقة والمعارضات الشَّدِيدَة والمناقشات اللطيفة فِي أَحْكَام الْقدَم وَمَتى يَصح من الله تَعَالَى إِيجَاد الْحَوَادِث وَمَا لزم كل خائض فِي ذَلِك حَتَّى الْتزم بعض شُيُوخ الْكَلَام نفي الْقُدْرَة على تَقْدِيم الْخلق عَن وقته وَبَعْضهمْ أَن الْحَوَادِث لَا نِهَايَة لَهَا فِي الِابْتِدَاء كَمَا لَا نِهَايَة لَهَا فِي الإنتهاء وَقَالَ جمهورهم أَنه قَادر فِي الْقدَم وَلَا يَصح مِنْهُ الْفِعْل فِيهِ مَعَ قدرته وَكَذَلِكَ اخْتلَافهمْ فِيمَا تعلق بِهِ الْعلم فِي الْقدَم وَفِي أَحْكَام الْوُجُود وَالْمَوْجُود وَهل هما شَيْء وَاحِد على
1 / 15
التَّحْقِيق أَو بَينهمَا فرق دَقِيق وَفِي دَعْوَى أبي هَاشم وَأَصْحَابه أَن الثُّبُوت غير الْوُجُود حَتَّى جمعُوا بَين الثُّبُوت والعدم دون الْوُجُود والعدم وقضوا بِأَن الله تَعَالَى لَا يدْخل فِي قدرته سُبْحَانَهُ أَن يكون هُوَ الْمُثبت للأشياء الثَّابِتَة فِي الْعَدَم مَعَ قضائهم بِثُبُوت جَمِيع الْأَشْيَاء فِي الْعَدَم بِغَيْر مُؤثر وَإِنَّمَا تَفْسِير خلق الله للأشياء عِنْدهم أَن يكسبها بعد ثُبُوتهَا صفة الْوُجُود مَعَ مُخَالفَة جُمْهُور الْعُقَلَاء لَهُم فِي ذَلِك
وَفِي أدلتهم عَلَيْهِ كَمَا أوضحه صَاحبهمْ أَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وأوضحوا أَيْضا مخالفتهم فِي اثبات الأكوان والإستدلال بهَا إِلَى أَمْثَال لذَلِك كَثِيرَة مِمَّا اشْتَمَلت عَلَيْهِ التَّذْكِرَة لِابْنِ متويه والملخص للرازي وَشَرحه والصحائف الإلهية لبَعض الْحَنَفِيَّة وَنَحْوهَا من جَوَامِع هَذَا الْفَنّ فعلى قدر مَا فِي تِلْكَ الْقَوَاعِد من الشكوك والإحتمالات تعرف ضعف مَا تفرع عَنْهَا
وَلَعَلَّ كثيرا من النظار الْمُتَأَخِّرين يعْتَرف بِأَنَّهَا محارات ومجاهل لَا هِدَايَة للعقول فِيهَا إِلَى الْيَقِين ثمَّ يعْتَقد أَن عقائده المبنية عَلَيْهَا صَحِيحَة قَطْعِيَّة وَهَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِن الْفَرْع لَا يكون أقوى من الأَصْل لَا فِي عُلُوم السّمع وَلَا فِي عُلُوم الْعقل ثمَّ أَن الْمُتَكَلِّمين كثيرا مَا يقفون المعارف الجليلة الْوَاضِحَة على أَدِلَّة دقيقة خُفْيَة فيتولد من ذَلِك مفاسد مِنْهَا إِيجَاب مَا لَا يجب من الإستدلال وتكلفه وتكليفه الْمُسلمين وَمِنْهَا تَكْفِير من لَا يعرف ذَلِك أَو تأثيمه ومعاداته وَمَعَ ذَلِك تَحْرِيمه يُؤَدِّي إِلَى حرَام آخر وَهُوَ التَّفَرُّق الَّذِي نَص الْقُرْآن الْكَرِيم على النَّهْي عَنهُ وَمِنْهَا تَمْكِين أَعدَاء الْإِسْلَام من التشكيك على الْمُسلمين فِيهِ وَفِي أَمْثَاله وَمِنْهَا الإبتداع وتوسيع دائرته وَمَا أحسن قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ ﵇ فِي مثل ذَلِك الْعلم نُكْتَة يسيرَة كثرها أهل الْجَهْل
ولنذكر شَيْئا من ذَلِك نخرج بِهِ عَن التُّهْمَة بِدَعْوَى مَا لم يكن مِنْهُم فَنَقُول انا لَا نحتاج إِلَى دَلِيل على وجوب الله تَعَالَى بعد علمنَا بِالضَّرُورَةِ الفطرية أَنه الَّذِي أوجد الموجودات وَخلق العوالم ودبرها وَاسْتحق المحامد جَمِيعهَا والأسماء الْحسنى كلهَا وَأَنه على كل شَيْء قدير وَبِكُل شَيْء عليم خَبِير وَهَذَا هُوَ قَول الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَأكْثر الْعُقَلَاء وجماهير الْأمة وَذهب الشَّيْخ أَبُو هَاشم الجبائي وَأَتْبَاعه إِلَى أَنا بعد علمنَا بذلك كُله نشك هَل هُوَ سُبْحَانَهُ مَوْجُود أَو مَعْدُوم بعد علمنَا بِأَنَّهُ موجد
1 / 16
الموجودات ومدبرها القيوم بهَا وَأَنا بعد الْعلم بذلك وَمَعَهُ نحتاج إِلَى النّظر الدَّقِيق فِي دَلِيل يدل على أَن خالقنا الْكَامِل الْأَسْمَاء والنعوت غير مَعْدُوم وَلَا يكفينا الْعلم بِأَنَّهُ خالقنا ومدبرنا دَلِيلا على وجوده قطّ وغفلوا عَن كَون وجود الْخَالِق القيوم بخلقه أقوى فِي التَّعْرِيف بِوُجُودِهِ من الدَّلِيل الَّذِي يتكلفونه على ذَلِك فِي فطر الْعُقَلَاء وَأَنه إِن أمكن الشَّك فِي هَذِه الْفطْرَة أمكن الشَّك فِي دليلهم عَلَيْهَا إِذْ لَا يُمكن أَن يكون أقوى مِنْهَا بل هُوَ أخْفى بِغَيْر شكّ كَمَا يعلم ذَلِك من وقف على أدلتهم فِي ذَلِك وَقد كنت أوردتها هُنَا وَبَيَان مَا فِيهَا من الشكوك ثمَّ صنت ديباجة هَذَا الْمُخْتَصر من ذَلِك وَنَحْوه من علم الجدل وَرَأَيْت أَن أورد ذَلِك فِي فصل مُفْرد فِي آخر هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِلَّا فَهِيَ فِي العواصم مَجْمُوعَة وَفِي كتب الْكَلَام مفرقة وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك مَعًا ليسلم أَولا من كدورته أهل الاثر ثمَّ ينْتَفع ثَانِيًا بِالنّظرِ فِي الشكوك الْوَارِدَة عَلَيْهِ أهل الْكَلَام وَالنَّظَر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا اضْطر أَبُو هَاشم وَأَتْبَاعه إِلَى ذَلِك لأَنهم جوزوا للمعدوم تحققا فِي الْخَارِج لَا فِي الذِّهْن على مَا حَقَّقَهُ الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي الْفَصْل الرَّابِع فِي صِفَات الله تَعَالَى
وَاعْلَم أَن كَثْرَة التعنت فِي النّظر تُؤدِّي إِلَى طلب تَحْصِيل الْحَاصِل والتشكيك فِيهِ وَقد جربنَا ذَلِك وتأثيره فِي الموسوسين فِي الطَّهَارَة وَفِي النِّيَّة وأمثالهما من الْأُمُور الضرورية فَإِذا صَحَّ مرض الْعُقُول فِي الضروريات بِسَبَب التعنت والغلو فِي تَحْصِيل الْحَاصِل فَكيف إِذا وَقع هَذَا السَّبَب فِي محارات الْعُقُول ودقائق الْكَلَام وتوهم المبتلي بالوسوسة أَنه لَا طَرِيق لَهُ إِلَى معرفَة الله تَعَالَى إِلَّا تِلْكَ الدقائق الْخفية وَالْقَوَاعِد الْمُخْتَلف فِيهَا بَين أذكياء الْبَريَّة وَمن أَمارَة عدم الْيَقِين فِيهَا اسْتِمْرَار الْخلاف بعد طول الْبَحْث من الأذكياء من أهل الْإِنْصَاف وَمن عُلَمَاء أهل الْإِسْلَام وَلَا تحسبن أَن الْعلَّة فِي ذَلِك وَقتهَا بل الْعلَّة عدم الطَّرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا يُوضح هَذَانِ علم الْحساب والفلك وتسيير الشَّمْس وَالْقَمَر وَمَعْرِفَة أَوْقَات الكسوفيين من أدق الْعُلُوم وَمَعَ دقته فَإِن غالبه صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ بَين العارفين لَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ خفِيا ظنيا فَهُوَ مَعْرُوف بذلك بَين أَهله وَعكس ذَلِك علم أَحْكَام النُّجُوم
1 / 17
فِي حُدُوث الْحَوَادِث فَإِن غالبه بَاطِل لِأَنَّهَا لم تصح مِنْهُ الْمُقدمَات فَدلَّ الضعْف والإختلاف على ضعف الْقَوَاعِد لَا على دقتها وَلذَلِك لَا يخْتَلف أهل الْحساب الدَّقِيق فِي الْفَرَائِض وَقِسْمَة الْمَوَارِيث فِي المناسخات وَنَحْوهَا مَعَ دقته وَلذَلِك لَا تخْتَلف عُلَمَاء الْعَرَبيَّة والمعاني وَالْبَيَان فِي كل دَقِيق بل يتفقون حَيْثُ تكون الْمُقدمَات صَحِيحَة وَإِن دقَّتْ وَلَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا حَيْثُ تكون الْمُقدمَات ظنية بل المتكلمون فِي الْحَقِيقَة كَذَلِك لكِنهمْ إِنَّمَا يتفقون فِي أُمُور يسْتَغْنى فِي مَعْرفَتهَا عَن علم الْكَلَام وَعَن مَعْرفَتهَا فِي علم الْكَلَام ثمَّ يختصون من بَين أهل الْعُلُوم بِدَعْوَى الْقطع فِي مَوَاضِع الظنون وتركيب التعادي والتأثيم والتكفير على تِلْكَ الدَّعَاوَى إِلَّا أفرادا من أئمتهم وأذكيائهم توغلوا حَتَّى فَهموا أَنهم انْتَهوا إِلَى محارات مُنْتَهى الْعُقُول فِيهَا الْميل إِلَى إمارات ظنية فَرَجَعُوا إِلَى التَّسْلِيم وَترك التَّكْفِير كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك عَنْهُم ونصوصهم فِيهِ
وَمن العبر الجلية فِي هَذَا للمتأملين أَن أهل الدُّنْيَا الموصوفة بِأَنَّهَا لعب وَلَهو ومتاع قد اتقنوا مَوَازِين معرفَة الْحق من الْبَاطِل فِيمَا بَينهم وتمييز يسير الحيف فِي ذَلِك حَتَّى لَا يَسْتَطِيع أحد تَدْلِيس الْبَاطِل مَعَ وزنهم وتمييزهم لذَلِك بِتِلْكَ الموازين الموصلة إِلَى الْعلم الْيَقِين الْقَاطِع لَا مَكَان اللجاج وَالْخلاف من الْمُخَالفين فَلَو اسْتَطَاعَ أهل الْكَلَام أَن يضعوا فِي أُمُور الدّين المهمة مَوَازِين حق تميز الْحق من الْبَاطِل على وَجه وَاضح يقطع الْخلاف ويشفي الصُّدُور مثل مَوَازِين أهل الدُّنْيَا مَا كَرهُوا ذَلِك وهم لَا يتهمون بالتقصير فِي ذَلِك وَإِنَّمَا أَتَوا من أَنهم تركُوا الإعتماد على تعلم الْحق من الْكتاب الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه الَّذِي أنزلهُ من أنزل الْمِيزَان ليتعرف بِهِ الْحق بعد دلَالَة الإعجاز على صدقه كَمَا يعرف الْحق فِي الْأَمْوَال بالميزان بعد دلَالَة الْعقل على صِحَّته وَلذَلِك جَمعهمَا الله تَعَالَى فِي قَوْله ﴿الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان﴾ أنزل الْكتاب لتعريف الْحق الديني وَالْمِيزَان لتعريف الْحق الدنيوي فَترك الْأَكْثَرُونَ الإعتماد عَلَيْهِ لما سَنذكرُهُ من الْأَسْبَاب الَّتِي ظَهرت فِي أعذار
1 / 18
الْمُخَالفين وان كَانَ السَّبَب الْأَكْبَر الَّذِي أخبر عَنهُ علام الغيوب حَيْثُ يَقُول ﴿لقد جئناكم بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون﴾ وتعرضوا لما لَا يُمكن من ايضاح المحارات الَّتِي لَا تتضح وَالسير فِي الطّرق الَّتِي لَا توصل وَالْوَزْن بِالْمَوَازِينِ الَّتِي لم ينزلها الله تَعَالَى وَلَا علمتها رسله وَلَا اجْتمعت عَلَيْهَا عقول الْعُقَلَاء وفطن الأذكياء وَمَا خرج عَن ذَلِك كُله فَمن أَيْن لَهُ الوضوح حَتَّى يكون لَهُ ميزَان يُمَيّز بِهِ الْحق من الْبَاطِل عِنْد الدقة والخفاء والإختلاف الشَّديد فَتَأمل ذَلِك بإنصاف
وأعجب من كل عَجِيب تَكْفِير بَعضهم لبَعض بِسَبَب الإختلاف فِي هَذِه المحارات الخالية من ذَلِك كُله وَقد قَالَ الله تَعَالَى بعد الْأَمر بوفاء الْكَيْل وَالْوَزْن ﴿لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا﴾ مَعَ وضوح الْوَفَاء فيهمَا وامكان الإحتياط فَكيف حَيْثُ يدق ويتعذر فِيهِ الإحتياط لَكِن قد يُمكن أَن لَا يسامحوا فِي ذَلِك من جِهَة أَن الضَّرُورَة بل الْحَاجة لم تدع إِلَيْهِ كالوزن هَذَا مَعَ مَا فِي التَّكْفِير للمخطئ فِي هَذِه الدقائق من الْمفْسدَة وَذَلِكَ عدم جسرة النَّاظر على الْمُخَالفَة لِأَنَّهَا صَارَت مثل الرِّدَّة من الدّين وَلَوْلَا ذَلِك لاتضح كثير من الدقائق فَإِن أَوَائِل أهل علم الْكَلَام لابد أَن يقصروا كَمَا هُوَ الْعَادة الدائمة فِي كل من ابْتَدَأَ مَا لم يسْبق إِلَيْهِ فَلَمَّا كفرُوا الْمُخَالف كتم بَعضهم الْمُخَالفَة وتكلف بَعضهم الْمُوَافقَة بالتأويل الْبعيد وَفَسَد الاكثرون وَقد ذكر نَحْو هَذَا فِي دَلَائِل اعجاز الْقُرْآن أَنه أسلوب مُبْتَدأ جَاءَ على الْكَمَال فَحرق الْعَادَات بذلك على أَن فِي علم الْكَلَام من الْخطر مَا لَا يتَعَرَّض لَهُ حَازِم بعد مَعْرفَته وَذَلِكَ مَا ذكره السَّيِّد الْمُؤَيد بِاللَّه ﷺ فانه ذكر فِي أَوَاخِر كِتَابه مَا ذكره فِي الزِّيَادَات مَا لَفظه
فصل فِيمَا يجب على الْعَاميّ والمستفتي
قَالَ ﷺ وَالْأولَى عِنْدِي ترك الْخَوْض فِيمَا لَا تمس الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته من علم الْكَلَام لِأَن الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الْجَهْل قَبِيح وَيجوز أَن يصيره إِلَى حَالَة يسْتَحق صَاحبهَا الخلود فِي النَّار وَهَذَا غير مَأْمُون لَو نظر فِي مَسْأَلَة من الْكَلَام
1 / 19
وَأَخْطَأ وَلَو لم يشْتَغل بهَا وَترك النّظر فِيهَا أَمن ذَلِك وَلَو أصَاب كَانَ مَا يسْتَحق من الثَّوَاب على الْإِصَابَة يَسِيرا والعاقل إِذا اخْتَار الحزم اخْتَار الاعراض عَنْهَا دون النّظر فِيهَا إِلَى آخر كَلَامه فِي ذَلِك وَأَرَادَ ﷺ بِالْجَهْلِ الْقَبِيح الْجَهْل الاصطلاحي عِنْد أهل الْكَلَام وَهُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا الْجَهْل اللّغَوِيّ الَّذِي هُوَ التَّوَقُّف فِي مَوْضِعه فَهُوَ الَّذِي أَمر بِهِ وَحكم بنجاة صَاحبه وَمن عُيُوب علم الْكَلَام تعرضهم لما لَا نفع فِي الْخَوْض فِيهِ مَعَ عدم الامان من الْمضرَّة فِيهِ كالخوض فِي الرّوح وَالنَّفس وانهما شَيْء وَاحِد أَو شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ فان أدلتهم فِي ذَلِك كُله ضَعِيفَة ظنية وَأحسن مَا يستدلون بِهِ فِي ذَلِك هُوَ التلازم وَلَيْسَ من الْأَدِلَّة القاطعة وَقد اخْتَار ابْن متويه وَالْحَاكِم مِنْهُم وَغَيرهمَا أَن الرّوح هُوَ النَّفس الْجَارِي بِفَتْح الْفَاء لأجل التلازم فوهموا وهما فَاحِشا فان الْجَنِين فِي بطن أمه لَا يتنفس بعد حَيَاته وَنفخ الرّوح فِيهِ بِالنَّصِّ والحس بل حَيَوَان المَاء لَا يتنفس فِيهِ وَلَو سلم لَهُم جَوَاز دوَام التلازم لم يكن حجَّة قَاطِعَة على اتِّحَاد النَّفس وَالروح فليحذر الْخَوْض فِي أَمْثَال ذَلِك لقَوْله تَعَالَى ﴿وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم﴾ وَلما تقدم من كَلَام الْمُؤَيد بِاللَّه فِي ذَلِك وَقد وَافق الْمُؤَيد بِاللَّه على ذَلِك خلائق من أَئِمَّة العترة والامة كَمَا ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي كتاب الْجُمْلَة والالفة وَحكى الْحَاكِم المعتزلي فِي مُخْتَصر لَهُ جلي فِي معرفَة الله أَن جَعْفَر بن مُبشر وجعفر بن حَرْب من أَئِمَّة الْكَلَام رجعا عَن الْخَوْض فِي دقيقه وَقد بَالغ الْغَزالِيّ فِي احياء عُلُوم الدّين وَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بِذكر ذَلِك وَهُوَ مَعْرُوف فِي موَاضعه
وَإِنِّي لما رَأَيْت طَرِيق النجَاة من علم الْكَلَام مِمَّا لَا يجْتَمع عَلَيْهَا أهل الْكَلَام دع غَيرهم ورأيتها ان كَانَت طَرِيقا صَحِيحَة فانها متوقفة وَلَا بُد على التَّحْقِيق فِيهِ والبحث العميق عَن الطَّائِفَة وخوافيه المودعة فِي علم اللَّطِيف الَّذِي تذكره ابْن متويه من مختصراته وجلياته وَمُلَخَّص الرَّازِيّ من موجزاته ومتوسطاته وأئمة أَهله أعي علم الْكَلَام فِي غَايَة المباعدة
1 / 20
والمنافاة حَتَّى أَن الشَّيْخ أَبَا الْحُسَيْن ذكر أَنه يَكْفِي فِي معرفَة بطلَان مَذَاهِب أَصْحَابه البهاشمة من الْمُعْتَزلَة مُجَرّد معرفَة مقاصدهم مَعَ أَنهم الْجَمِيع من أَئِمَّة الاعتزال هَذَا مَعَ وُقُوع كثير من أَئِمَّة الْكَلَام فِي الشَّك والحيرة
فَلَمَّا عرفت ذَلِك كُله علمت من غير شكّ صعوبة معرفَة طَرِيق النجَاة من هَذَا الْفَنّ على الاكثرين
وَقد ألهم الله تَعَالَى وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء إِلَى أسهل طَرِيق وأخصره فِي علمي إِلَى الْيَقِين والنجاة ونصرة طَرِيق الصَّحَابَة وَالسَّلَف الَّتِي علم تقريرهم عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَهِي فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا وَإِنَّمَا عنيت فِي توضيحها وتجديدها بعد درسها ومداواة مَا قد وَقع من تَغْيِير المغيرين لَهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الحَدِيث فِي قَوْله ﷺ (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ) كَمَا تقدم
وَبَيَان ذَلِك أَنِّي تَأَمَّلت جَمِيع الِاخْتِلَاف الْوَاقِع بَين النَّاس من الْملَل الكفرية وَالْفرق الاسلامية فَإِذا هُوَ على كثرته وتشعبه يرجع فِي الْجُمْلَة إِلَى سَبْعَة أَشْيَاء مدركها بالفطرة قريب بعون الله تَعَالَى بل هِيَ فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا
أَولهَا اثبات الْعُلُوم الضرورية الَّتِي يبتني الاسلام على ثُبُوتهَا وَثَانِيها ثُبُوت الرب ﷿ وَثَالِثهَا توحيده ﷾ وَرَابِعهَا كَمَاله بأسمائه الْحسنى وخامسها ثُبُوت النبوات وصحتها فِي الْجُمْلَة وسادسها الايمان بجميعهم وَعدم التَّفْرِيق بَينهم وسابعها ترك الابتداع فِي دينهم بِالزِّيَادَةِ على مَا جاؤا بِهِ وَالنَّقْص مِنْهُ فاذا تَأَمَّلت هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة بالفطرة الأولى السليمة من التَّغْيِير بالعادات والطوارئ الْمُغيرَات لم تشك أَن الْخطر الْمخوف من عِقَاب الْآخِرَة مَأْمُون فِي جَمِيعهَا وَأما السِّتَّة الأولى فمجموعها هُوَ دين الاسلام الَّذِي فطر الله عباده على مَعْرفَته وَالْخلاف فِي كل وَاحِد مِنْهَا كفر يجمع عَلَيْهِ والأدلة عَلَيْهَا جلية وفاقية بَين الْمُسلمين وَلَا يُمكن وجود أحوط مِنْهَا وَلَا أولى وَأَحْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا﴾ وَأما السَّابِع وَهُوَ عدم الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الدّين فَهُوَ
1 / 21
الْعِصْمَة من الْبدع المفرقة بَين الْمُسلمين وَهُوَ لَاحق بِمَا قبله فِي ثُبُوته فِي الْفطْرَة مَعَ اضطرار كَارِه الْبِدْعَة اليه لَكِن لَا يثبت فِيهِ التَّكْفِير غَالِبا كَمَا ياتي شَرحه فِي مَوْضِعه
وسر هَذَا الْكَلَام أَن الْعَذَاب الْأَكْبَر مخوف فِي الْمُخَالفَة لأحد هَذِه الْقَوَاعِد السَّبْعَة الجليلة وَالْعقل والسمع مجتمعان على حسن السَّعْي فِي دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز لمستوى الطَّرفَيْنِ وَوُجُوب السَّعْي فِي دفع المضار الْمَطْلُوبَة وَوُجُوب السَّعْي فِي الِاحْتِيَاط فِي ذَلِك وَهَذَا مَعْلُوم فِي فطر الْعُقَلَاء وَمَعَ كَونه معقولا فقد ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمُبين وَذكر الْعُقَلَاء بِهِ إِن كَانُوا عَنهُ غافلين فَقَالَ فِي ذَلِك رب الْعَالمين ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي شقَاق بعيد﴾ وَقَالَ ﷿ فِي آيَة أُخْرَى ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله فَآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ حِكَايَة عَن خَلِيله إِبْرَاهِيم ﵇ ﴿وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾ ﴿وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم﴾ وَمِنْه مَا حَكَاهُ الله تَعَالَى عَن مُؤمن آل فِرْعَوْن من قَوْله ﴿أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْله تَعَالَى أَيْضا ﴿وَيَا قوم مَا لي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار﴾ الْآيَات وَهُوَ بَين فِي هَذَا الْمَعْنى لِأَن السَّلامَة متحققة فِي الايمان والخطر مَأْمُون فِيهِ والمهالك مخوفة فِي مُخَالفَته وَقد أحسن كل الاحسان فِي دُعَاء قومه وَلذَلِك حكى الله تَعَالَى حسن احتجاجه عَلَيْهِم فَيَنْبَغِي تَأمله وَالِانْتِفَاع بِهِ وَلذَلِك أتبع الله الْبُرْهَان بالتخويف بِالْمَوْتِ الضَّرُورِيّ
1 / 22
والمعاد إِلَيْهِ النظري فِي قَوْله تَعَالَى ﴿كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون﴾ فان الْكفْر مَعَ مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور أنكر الْكفْر وأفحشه فان الْبَرَاهِين تَكْفِي العارفين والمخاوف توقظ نيام الغافلين وتلين قساوة العاتين الماردين وَمَعَ ذَلِك تقوى دواعي العارفين وتقاوم وساوس الشَّيَاطِين وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى ﴿وماذا عَلَيْهِم لَو آمنُوا بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ وَهَذَا الْقدر أَعنِي الدُّخُول فِي الاسلام على جِهَة الِاحْتِيَاط من غير علم بِصِحَّتِهِ بالأدلة يحصل أدنى مَرَاتِب الاسلام عِنْد كثير من عُلَمَاء الاسلام كمن لَا يكفر المقلدين لأهل الْحق وَمن يَقُول المعارف ضَرُورِيَّة وَغَيرهم وحجتهم على ذَلِك أُمُور مِنْهَا تَقْرِير النَّبِي ﷺ للعامة وَقبُول الشَّهَادَة مِنْهُم وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى ﴿قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم﴾ وَآخر الْآيَة حجَّة حَسَنَة على ذَلِك وَمِنْهَا مَا صَحَّ واشتهر وتواتر فِي أَحَادِيث الشَّفَاعَة من تَقْرِير إِيمَان الْمَشْفُوع لَهُم بمثاقيل الذَّر وَأدنى أدنى أدنى من ذَلِك أَلا ترى أَنَّك تخَاف الْعَذَاب على الْمُخَالفَة فِي كل وَاحِد من هَذِه السَّبْعَة الْأُمُور وَلَا تخَاف الْعَذَاب بالْقَوْل بِوَاحِد مِنْهَا وَلَا تَجِد أحوط مِنْهَا وَلَا أنجى فَحِينَئِذٍ علمت بالفطرة علما قَرِيبا جليا تطمئِن بِهِ الْقُلُوب وتؤمن مَعَه من الْمخوف الْأَعْظَم إِنَّه لَا يُمكن أَن يُوجد أصح وَلَا أنجى من المخاوف من دين الاسلام ومتابعة مُحَمَّد أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام ﷺ
فلاحظت فِي هَذَا الْمُخْتَصر هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة وأشبعت الْكَلَام فِيهَا ونصرتها بجهدي وَغَايَة مَا فِي قدرتي من الْعبارَات الْوَاضِحَة وَضرب الْأَمْثَال الْبَيِّنَة ثمَّ الْآيَات والْآثَار وَإِن تَكَلَّمت فِي نصرتها من عِنْدِي متميزة بأنفسها غير ملتبسة بكلامي فَمَا أَخْطَأت فِيهِ من كَلَامي وخالفها فعلى كل مُسلم رده واجتنابه ومتابعتها دونه فانما قصدي نصرتها لَا مخالفتها
1 / 23
فَمَا أصبت فِيهِ فَمن الله سُبْحَانَهُ وَله فِيهِ الْمِنَّة وَالْحَمْد وَالشُّكْر وَالثنَاء وَمَا أَخْطَأت فِيهِ فالذنب مني وَعلي فِيهِ الْبَرَاءَة مِنْهُ وَالتَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار والتحذير وَأَشد الْكَرَاهَة لَا فرق بَين كَرَاهَة مَا صدر مني من الْبدع وَمَا صدر من غَيْرِي بل يجب أَن أكون أَشد كَرَاهِيَة لما صدر مني لِأَن الصَّادِر مني ذَنبي يضرني وأآخذ بِسَبَبِهِ وَالله تَعَالَى يسلمني من الْبدع والذنُوب وَيغْفر لي مَا أَخْطَأت فِيهِ إِنَّه وَاسع الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل لَكِن المحامي عَن السّنة الذاب عَن حماها كالمجاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى يعد للْجِهَاد مَا اسْتَطَاعَ من الْآلَات وَالْعدة وَالْقُوَّة كَمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ ﴿وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة﴾
وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن جِبْرِيل ﵇ كَانَ مَعَ حسان بن ثَابت يُؤَيّدهُ مَا نافح عَن رَسُول الله ﷺ فِي أشعاره فَكَذَلِك من ذب عَن دينه وسنته من بعده إِيمَانًا بِهِ وحبا وَنصحا لَهُ ورجاء أَن يكون من الْخلف الصَّالح الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله ﷺ يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عَدو لَهُ ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وَالْجهَاد بِاللِّسَانِ أحد أَنْوَاع الْجِهَاد وسبله فِي الحَدِيث (أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر) وَقد أحسن من قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى شعرًا
(جاهدت فِيك بِقَوْلِي يَوْم يخْتَصم الْأَبْطَال ... أذفات سَيفي يَوْم يمتصع)
(إِن اللِّسَان لوصال إِلَى طرق ... فِي الْحق لَا تهتديها الذبل السرع)
وَقد ذكر الْغَزالِيّ فِي المنقذ من الضلال أَن الطالبين لليقين ثَلَاث طوائف مِنْهُم أهل الرياضة للقلوب بتصفيتها بالاقبال على الله تَعَالَى وَترك مَا عداهُ والتخلق بالأخلاق الْمجمع على حسنها من الزّهْد وَالصَّبْر والتوكل وَالرِّضَا وَالْعَفو وَوضع النَّفس قلت إِلَى سَائِر مَا ذَكرُوهُ من أَخْلَاقهم وأحوالهم ومقاماتهم فِي عوارف المعارف وَغَيره وَهَذَا لَا يُمكن اكتسابه بالتصنيف إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ فَمن عمل على مُوَافقَة السّنة وَاجْتنَاب الْبِدْعَة
1 / 24
كَانَ هَذَا الْمُخْتَصر وَأَمْثَاله من بداياته الَّتِي تعينه على مقْصده وتوصله إِلَى مُرَاده لأَنهم أَجمعُوا على أَن الشَّرِيعَة لمعارفهم كاللبن للزبد وَمن لَا لبن لَهُ لَا زبد لَهُ وَهَذِه الْمُقدمَة للشريعة وتصفية الْقُلُوب المشبهين بِاللَّبنِ والزبد بِمَنْزِلَة الرّوح الَّذِي لولاها لما كَانَ الْحَيَوَان وَلَا الزّبد وَلَا اللَّبن وَلكنهَا حَاصِلَة فِي الِابْتِدَاء بالفطرة من الله سُبْحَانَهُ وَله الْحَمد فَمن كملت فِيهِ وسلمت من التَّغْيِير لم يحْتَج إِلَى شَيْء من هَذَا وان نظر فِيهِ قوي مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْفطْرَة بِمَنْزِلَة السَّقْي لما يشرب بعروقه من الْبَحْر فانه لَا يحْتَاج السَّقْي فان سقِي زَاده قُوَّة وريا والطائفة الثَّانِيَة مِمَّن ذكر الْغَزالِيّ أهل التَّعْلِيم من الامامية وَغَيرهم فانهم زَعَمُوا أَن الْعُقُول لَا تفي بالمعرفة من غير تَعْلِيم الامام الْمَعْصُوم وَلذَلِك تَجِد طالبي المعارف النظرية الْعَقْلِيَّة يتعلمون ذَلِك من شيوخهم وَلَا يُمكن بالتجارب أَن يسْتَقلّ أحدهم بنظره وعقله من غير شيخ ثمَّ يَأْتِي بِتِلْكَ القوانين المتقنة مجودة سَالِمَة من المطاعن وَعِنْدهم أَن هَذَا من التجريبات الضروريات وَقد جود الْغَزالِيّ الرَّد عَلَيْهِم فِي المنقذ من الضلال وَكفى وشفى ثمَّ قَالَ وعَلى تَسْلِيم مَا ذَكرُوهُ فَنحْن نلتزمه وَلَا يضرنا لَكِن امامنا الْمَعْصُوم هُوَ رَسُول الله ﷺ وَمَوته لَا يضرنا كَمَا أَن غيبَة امامهم لَا تضر عِنْدهم بل حَالنَا أولى فان امامنا الْمَعْصُوم مَاتَ ﷺ بعد كَمَال التَّعْلِيم وامامهم غَابَ عَنْهُم قبل ذَلِك وَفِي هَذَا الْمُخْتَصر من التَّعْلِيم النَّبَوِيّ الصَّحِيح الْمُتَوَاتر وَالصَّحِيح الْمَشْهُور مَا لَا يُوجد فِي أَمْثَاله والطائفة الثَّالِثَة أهل النّظر وَقد جمعت فِي هَذَا الْمُخْتَصر صفوة أنظارهم وخلاصة أدلتهم ونقاوتها وقصدت تقويتها ورسوخ الْيَقِين فِيهَا بِجمع شواهدها وبراهينها الجلية الْقَرِيبَة الغاسلة لأدران الشكوك والريبة النَّازِلَة من أهل الايمان بِمَنْزِلَة المَاء القراح من العطشان الْمَشْهُورَة بَين أهل الْبَيْت الطيبين وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر السّلف الصَّالِحين الَّتِي لَا يجر الْخَوْض فِيهَا إِلَى شَيْء من الْبِدْعَة وَلَا المخاطرة فِي الدّين وَلَا يُمكن أَن يكون فِيهَا شَيْء غَيره أحوط مِنْهُ فِي علمي وَالله الْمُسْتَعَان والمستغاث وَالْهَادِي سُبْحَانَهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
وَاعْلَم أَنِّي بنيت هَذَا الْمُخْتَصر على بَيَان الْحق وَتَقْرِيره فِي هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة لَا سواهَا وَمَا زَاد على ذَلِك من مواهب الله وعوارفه ومعارفه
1 / 25
وبدائع لطائفه فَلَيْسَ بمقصود لي الْكَلَام عَلَيْهِ وَلَا أَعتب على من خالفني فِي شَيْء مِنْهُ وَلَا يعاب التَّقْصِير فِيهِ فان التَّطْوِيل فِي الْأُمُور الْعَارِضَة يخرج عَن الْمَقْصُود كَمَا ذَلِك مَعْرُوف
وَإِنَّمَا قصرت الاهتمام على هَذِه الامور السَّبْعَة لِأَنَّهَا الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا كَمَا تطابق عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالسّنة وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَنَّهَا تَكْفِي الْعَاميّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل المعارف مَا لم تعرض لَهُ شُبْهَة قادحة فيتمكن من حلهَا على طَرِيق السّلف الْقَرِيبَة الجلية كَمَا نذكرهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَعَ الدُّعَاء واللجأ إِلَى الله تَعَالَى وَمَا أقرب نفع هَذَا مَعَ خلق الله الْقُلُوب على الْفطْرَة وَكَثْرَة مواد هدايته كَمَا ذكره فِي آيَة النُّور وَقَالَ الله تَعَالَى ﴿إِن علينا للهدى﴾ فأكد ذَلِك بمؤكدين اثْنَيْنِ كَمَا تَقول أَن زيدا لقائم وَقَالَ ﴿وعَلى الله قصد السَّبِيل﴾ هَذَا لِلْخلقِ عُمُوما وَلِلْمُؤْمنِينَ خُصُوصا ﴿وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه﴾ إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا يُؤْتى أَكثر الْخلق من كفرهم بآيَات الله الْبَيِّنَة وبطلبهم غَيرهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب﴾ فليحذر ذَلِك كل الحذر من عدم القنوع بِمَا قنع بِهِ السّلف من حجج الله تَعَالَى وياله من تخويف شَدِيد ووعيد عَظِيم
ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا الْمُخْتَصر لَا يصلح إِلَّا لمن وضع لَهُ كَمَا أَن الدَّوَاء الْخَاص بألم خَاص لَا يصلح لكل ألم وَلَا لكل أَلِيم فَمن كَانَ يحْتَاج الْبسط إِلَّا الحوافل الْكِبَار من مصنفات المصنفين من أذكياء النظار وَقد يكون فِي هَذَا الْمُخْتَصر الاشارة إِلَى تِلْكَ الْكتب الحافلة والتنبيه عَلَيْهَا لمن يحْتَاج إِلَى ذَلِك وَالدَّال على الْخَيْر كفاعله وَلَكِن لكل مقَام مقَال وَلكُل مجَال رجال والكتب البسيطة فِي علم اللَّطِيف لَا تصلح لمن يخَاف عَلَيْهِ من السبه كَمَا أَن السباحة فِي لجج الْبحار لَا تصلح إِلَّا لأهل الرياضة التَّامَّة فِي ذَلِك بعد طول
1 / 26
التجارب وَأَرْجُو إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن لَا يَخْلُو هَذَا الْمُخْتَصر من أحد الْمعَانِي الثَّمَانِية الَّتِي تصنف لَهَا الْعلمَاء بل من كل وَاحِد مِنْهَا وَهِي اختراع مَعْدُوم أَو جمع مفترق أَو تَكْمِيل نَاقص أَو تَفْصِيل مُجمل أَو تَهْذِيب مطول أَو تَرْتِيب مخلط أَو تعْيين مُبْهَم أَو تَبْيِين خطأ كَذَا عدهَا أَبُو حَيَّان وَتمكن الزِّيَادَة فِيهَا
وَإِنَّمَا جمعت هَذَا الْمُخْتَصر الْمُبَارك إِن شَاءَ الله تَعَالَى لمن صنفت لَهُم التصانيف وعنيت بهدايتهم الْعلمَاء وهم من جمع خَمْسَة أَوْصَاف معظمها الاخلاص والفهم والانصاف وَرَابِعهَا وَهُوَ أقلهَا وجودا فِي هَذِه الاعصار الْحِرْص على معرفَة الْحق من أَقْوَال الْمُخْتَلِفين وَشدَّة الدَّاعِي إِلَى ذَلِك الْحَامِل على الصَّبْر والطلب كثيرا وبذل الْجهد فِي النّظر على الانصاف ومفارقة العوائد وَطلب الاوابد فان الْحق فِي مثل هَذِه الاعصار قَلما يعرفهُ إِلَّا وَاحِدًا بعد وَاحِد وَإِذا عظم الْمَطْلُوب قل المساعد فان الْبدع قد كثرت وَكَثُرت الدعاة اليها والتعويل عَلَيْهَا وطالب الْحق الْيَوْم شَبيه بطلابه فِي أَيَّام الفترة وهم سلمَان الْفَارِسِي وَزيد بن عَمْرو بن نفَيْل وأضرابهما رحمهمَا الله تَعَالَى فانهم قدوة الطَّالِب للحق وَفِيهِمْ لَهُ أعظم أُسْوَة فانهم لما حرصوا على الْحق وبذلوا الْجهد فِي طلبه بَلغهُمْ الله إِلَيْهِ وأوقفهم عَلَيْهِ وفازوا من بَين العوالم الجمة فكم أدْرك الْحق طَالبه فِي زمن الفترة وَكم عمي عَنهُ الْمَطْلُوب لَهُ فِي زمن النُّبُوَّة فَاعْتبر بذلك واقتد بأولئك فان الْحق مَا زَالَ مصونا عَزِيزًا نفيسا كَرِيمًا لَا ينَال مَعَ الاضراب عَن طلبه وَعدم التشوف والتشوق إِلَى سَببه وَلَا يهجم على المبطلين المعرضين وَلَا يفاجئ أشباه الانعام الغافلين وَلَو كَانَ كَذَلِك مَا كَانَ على وَجه الأَرْض مُبْطل وَلَا جَاهِل وَلَا بطال وَلَا غافل وَقد أخبر الله تَعَالَى أَن ذَرْء جَهَنَّم هم الغافلون فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مَا أعظم الْمُصَاب بالغفلة والمغتر بطول المهلة
وَمن أعجب الْعَجَائِب دَعْوَى المقلدين للمعارف وَدَعوى المتعصبين للانصاف وأمارة ذَلِك أَنَّك تَجِد العوالم الْكَثِيرَة فِي لطائف المعارف الْمُخْتَلف فِيهَا على رَأْي رجل وَاحِد من القدماء فِي الامصار العديدة والاعصار المديدة
1 / 27
فَلَو كَانُوا فِي ترك التَّقْلِيد كالأوائل لاشتد اخْتلَافهمْ فِي الدقائق وَلم يتفقوا على كثرتهم وَطول أزمانهم وتباعد بلدانهم وَاخْتِلَاف فطنهم كَمَا قَضَت بذلك العوائد الْعَقْلِيَّة الدائمة وَلَو كَانَ الْجَامِع لفرقتهم مَعَ كثرتهم هُوَ الْوُقُوف على الْحَقَائِق فِي تِلْكَ الدقائق لكانوا أَكثر من مشايخهم الاقدمين علما وتحقيقا وانصافا وتجويدا لَكِن الْمَعْلُوم خلاف ذَلِك فاياك أَن تسلك هَذِه المسالك فان نشأة الانسان على مَا عَلَيْهِ أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صَنِيع أسقط النَّاس همة وأدناهم مرتبَة فَلم يعجز عَن ذَلِك صبيان النَّصَارَى وَالْيَهُود وَلَا ربات القدود والنهود المستغرقات فِي تمهيد المهود وَهَذِه هَذِه فأعطها حَقّهَا وَانْظُر لنَفسك وانج بهَا وطالع قصَّة سلمَان الْفَارِسِي وَأَضْرَابه وَانْظُر كَيفَ كَانَ صبرهم واعرف قدر مَا أَنْت طَالب فانك طَالب لأعلى الْمَرَاتِب قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَمَا قدرُوا الله حق قدره﴾ وَقَالَ فِي الْأُخْرَى ﴿وسعى لَهَا سعيها﴾ وَقَالَ ﴿خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ وَلَيْسَ فِي الْوُجُود بأسره أعز وَلَا أفضل من الْإِيمَان بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله ومتابعتهم وَمَعْرِفَة مَا جاؤا بِهِ فَلَا تطلب ذَلِك أَهْون الطّلب فَإِنِّي أرى الْأَكْثَرين لَا يرضون بِالْغبنِ وَالنَّقْص فِي بيع بعض السّلع وَأرى طَالب الأرباح الدُّنْيَوِيَّة يطْلبهَا أَشد الطّلب من أبعد الأقطار بأشق الْأَسْفَار وَأما طَالب الكيمياء والسيمياء فَإِنَّهُ يبْذل فِي طلبهما مَا دون الرّوح بل يرتكب بعض الأخطار والمتالف الْكِبَار مَعَ أدنى تَجْوِيز للسلامة بل عدم التجويز أَيْضا عِنْد ملكة هَوَاهُ لَهُ وَغَلَبَة ظَنّه بِأَنَّهُ يدْرك مَا أَرَادَ ويبلغ مَا قَصده ويصل إِلَى مَا إِلَيْهِ سعى وَلكم من منفق غضارة عمره ونضارة شبابه وَأَبَان أَيَّامه فِي ذَلِك
وَإِنَّمَا طولت القَوْل فِي هَذَا لِأَنِّي علمت بالتجربة الضرورية فِي نَفسِي وغيري أَن أَكثر جهل الْحَقَائِق إِنَّمَا سَببه عدم الاهتمام بتعرفها على الْإِنْصَاف لَا عدم الْفَهم فَإِن الله وَله الْحَمد قد أكمل الْحجَّة بالتمكين من الْفَهم وَإِنَّمَا أَتَى الْأَكْثَر من التَّقْصِير فِي الإهتمام أَلا ترى أَن المهتمين بمقاصد المنطقيين
1 / 28