أما أغنى هذه الأحياء كلها وأكثرها سكانا وروادا، فكانت هي الأحياء الواقعة في منطقة الجمالية وما جاورها من الغورية وخان الخليلي؛ حيث تقوم مختلف المتاجر وقصور الأغنياء.
وهناك في الجمالية كانت توجد وكالة الصابون، وهي يومئذ مجتمع كبار التجار وأصحاب الثروة، فلا تخلو ساحتها الرحيبة من مئات منهم طول النهار، بين بائعين ومشترين ومتفرجين.
وكان من بين تجار تلك الوكالة، في العهد الذي جرت فيه وقائع روايتنا هذه، تاجر يقال له «السيد عبد الرحمن». اشتهر رغم ضخامة ثروته واتساع تجارته بالتواضع الجم والاستقامة والبر بالفقراء، مع رجاحة العقل والاتزان. وقد تعود أن يقضي نهاره في الوكالة يشرف على حركة البيع والشراء في متجره الكبير، فإذا جاء المساء عاد إلى منزله في شارع الكعكيين في الغورية، حيث زوجته وولده الوحيد منها، وبعض السراري الشركسيات والحبشيات.
ولولا ما كان يقاسيه هو وغيره من استبداد المماليك وجورهم، وكثرة الضرائب التي يطلبونها من وقت لآخر لكان له من ثروته الضخمة وتجارته الرابحة وحياته المنزلية الهادئة ما يجعله أسعد السعداء، ولاسيما أن ولده الوحيد السالف الذكر، واسمه حسن، كان قد أتم تعليمه في الجامع الأزهر، ثم التحق بالبيمارستان المنصوري القائم في شارع النحاسين أمام الطريق المؤدي إلى بيت القاضي؛ حيث أبدى تفوقا في دراسة الطب على يد أستاذ مغربي فيه، واشتهر بين زملائه وعارفيه بالاستقامة والذكاء والاتزان كأبيه. فلم يكن يغشى مكانا غير البيت والمدرسة، ولا يمل المطالعة للاستزادة من المعارف والعلوم. •••
أمضى السيد عبد الرحمن نهاره حتى العصر مشرفا على العمل في متجره بوكالة الصابون كعادته. وكان ذلك في يوم من أيام سنة 1770. فلما سمع أذان العصر، أشار إلى خادمه فجاء بسجادة فرشها على دكة في ركن من المتجر ليصلي عليها العصر بعد أن توضأ لهذا الغرض.
ولم يكد السيد عبد الرحمن يبلغ الدكة وهو يتمتم ببعض الأدعية ويحمد الله على ما أولاه إياه من النعم والخيرات، حتى لحق به أحد الكتبة في المتجر، وأنبأه بأن بعض موظفي الحكومة جاءوا يطلبون مقابلته. فاستعاذ بالله من ذلك، لعلمه بأن هؤلاء الموظفين لا يأتون إلا لطلب ضريبة أو إعانة أو توقيع عقوبة مالية بغير ذنب ولا جريرة.
وحدثته نفسه بأن يرجئ مقابلتهم حتى يصلي، لكنه خشي أن يهيج ذلك غضبهم وانتقامهم، فرفع طرفه إلى السماء وتنهد، ثم عاد أدراجه إلى مجلسه المعتاد في المتجر ليستقبلهم هناك ويرى ما وراء هذه الزيارة.
وكان هؤلاء الموظفون ثلاثة: أحدهم الجابي، وهو في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين، والعمامة فوق القاووق، وحول وسطه منطقة عريضة علق بها خنجر من الأمام، وعلى منكبيه جبة تدلى على جانبها الأيمن سيف معقوف، وقد تغضن وجهه وشاب شعر رأسه. والثاني جندي يحمل في يده دفترا كبير الحجم كتبت فيه أسماء التجار وغيرهم من الملاك والعمال، وبيانات عن الضرائب المطلوبة من كل منهم. أما الثالث فهو الكاتب، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي منطقته دواة مستطيلة من النحاس.
فلما دخل عليهم السيد عبد الرحمن، بالغ في تحيتهم والترحيب بهم. وأسرع في مشيته للقائهم متكلفا البشاشة والابتسام، ثم أمر لهم بالقهوة والغليون - أداة تدخين التبغ في ذلك العهد - ثم جلس بين أيديهم يكرر التحية والملاطفة اجتذابا لرضاهم عنه. وقلبه يخفق بين جوانحه مخافة أن يكون مجيئهم لأمر من ورائه خسارة له.
وضاعف من خشيته وريبته أن الجابي، لم يزده ذلك كله إلا غلظة وغطرسة، وبقي صامتا يرمقه شزرا في ازدراء ملحوظ، وقد جلس جلسة الكبرياء واضعا إحدى ساقيه فوق الأخرى. فلما جاء الخادم بالقهوة وبدأ بتقديمها له متأدبا. أشاح عنه بوجهه، والتفت إلى السيد عبد الرحمن. وقال له غاضبا: «إننا لم نأت لنشرب قهوتك، ولا حاجة لنا بها. وإنما جئنا نطلب حقوق الدولة!»
Bilinmeyen sayfa