فرد البادري تحيته بمثلها، بلغة عربية سقيمة، وأشار إليهما بالجلوس على وسادتين في الحجرة فجلسا وهو يفحصهما بنظراته؛ مخافة أن يكونا قد جاءا بدسيسة من الجزار.
وقبل أن يسألهما عما دعاهما إلى الالتجاء إلى الدير، قال عماد الدين: «جئنا لنتضرع إليك؛ كي تنقذنا من هلاك محقق، فنحن غريبان جئنا من عكا، وأردنا الرجوع إليها فوجدنا أبواب المدينة مغلقة بأمر واليها، وفي تأخرنا عن العودة إلى بلدتنا خطر كبير علينا وعلى أهلنا فيها، فضلا عن خطر بقائنا في هذه المدينة.»
فقال البادري: «وماذا نستطيع أن نصنع، والوالي لا يمكن أن يقبل فتح الأبواب ما دام قد أمر بإغلاقها؟»
فأخذ عماد الدين يشرح له المساعدة التي يطلبانها محاولا اجتذاب قلبه بما عهد فيه من اللباقة والإجلال والتعظيم، فتأثر البادري بتوسلاته وقال له: «لا بأس، سأدخلكما إحدى الغرف المطلة على خارج السور، لتنجوا من نافذتها حينما ينتصف الليل ويسود الظلام.»
فقبلا يده شاكرين، وظلا يسامرانه بالأحاديث بعض الوقت، ثم مضيا إلى الغرفة التي اختارها لهما فدخلا وأغلقا عليهما الباب بعد أن زودهما البادري ببعض الطعام والشراب، ولبثا ينتظران حتى ينقضي النهار ويسود الظلام؛ ليفرا إلى خارج السور.
الفصل الحادي عشر
حصار بيروت
انتظر عماد الدين وحسن في غرفة الدير حتى انتصف الليل، ثم نهضا فقفزا من نافذتها إلى سطح سور المدينة، ولم يكن بينه وبينها أكثر من متر، فلما استقرا فوقه بقيا حينا لا يتحركان، وقد أرهفا السمع وراحا يتأملان السهل الممتد خارج السور في ضوء النجوم، فلما أطمأنا إلى أن ليس هناك من يشعر بهما، همس عماد الدين في أذن حسن قائلا: «إن السور مرتفع عن الأرض كثيرا، وفي الوثوب من هنا خطر كبير.»
فخفق قلب حسن جزعا وسكت حائرا، على أن عماد الدين سرعان ما عمد إلى كوفيته فنزعها عن رأسه وكتفيه، كما نزع منطقته وطلب إلى حسن أن ينزع عمامته ففعل وناوله إياها، فوصل بعضها ببعض بحيث صارت حبلا طويلا، ربط أحد طرفيه بمنطقة حسن، ثم طلب إليه أن يدلي نفسه من فوق السور إلى الأرض خارجه، بينما أمسك هو ببقية الحبل وأخذ يرخيه قليلا قليلا حتى وصلت قدما حسن إلى الأرض في الوقت الذي أفلتت يد عماد الدين الطرف الآخر من الحبل، فبغت وجزع؛ لأنه كان يعتزم بعد ذلك أن يثبت ذلك الطرف بأعلى السور ثم يتدلى ممسكا بالحبل حتى يصل هو الآخر إلى الأرض.
على أنه حمد الله على وصول صديقه إلى الأرض بسلام، ولم يشأ أن يضيع الوقت في التردد والتفكير، فأخذ يزحف فوق السور وهو يتطلع إلى الأرض حتى وصل إلى موضع رأى الأرض أقرب إليه لارتفاعها نسبيا، فأمسك بصخرة ناتئة في السور، مدليا جسمه نحو تلك الأكمة المرتفعة، ثم أفلت الصخرة تاركا جسمه يسقط عموديا فوق الأكمة، فأحدث ارتطامه بها صوتا مدويا أيقظ الحراس النائمين بباب يعقوب، فخفوا إلى مصدر الصوت ليروا ما هناك، وسرعان ما انقضوا عليه كالذئاب، وحملوه إلى داخل السور وهو يئن من الألم؛ إذ كانت السقطة قوية لم تتحملها ساقه التي كسرت من قبل في المعركة التي دارت بينه وبين قاطعي الطريق، وما وصلوا به إلى مقرهم خلف الباب حتى كان قد وقع في إغماء عميق، فأخذوا يرشون وجهه بالماء حتى أفاق، وراح يصرخ من فرط الألم لكسر ساقه، لكنه أدرك وهو يجيل نظره بينهم أنهم لم يشعروا بهرب حسن، فكان هذا أكبر عزاء له، وما زال يستنجدهم ويستثير شفقتهم حتى رثوا لحاله ورضوا أن يبعثوا بأحدهم في طلب طبيب لتضميد جروحه وتجبير ساقه المكسورة.
Bilinmeyen sayfa