وأمضت الحملة بقية ليلتها في منطقة المطرية بالقرب من مسلتها الأثرية المشهورة. ثم استأنفت سيرها بعد الفجر بقليل، وما زالت سائرة بمعداتها وأحمالها بين حل وترحال، حتى بلغت مدينة الصالحية، فأمر محمد أبو الذهب بك بالاستراحة هناك يومين.
وكان السيد عبد الرحمن منذ خروج الحملة من حدود القاهرة لا يفتأ يفكر في الوسيلة التي تكفل خلاصه منها، وقد رأى في عدم انتظام الجند الذين يسير معهم فيها ما قوى أمله في ذلك الخلاص. فلما حطت الحملة رحالها في الصالحية وجد الفرصة سانحة لتنفيذ ما اعتزمه، انتظر حتى انتصفت الليلة الثانية للحملة هناك وأوى زملاؤه في الخيمة إلى فراشهم بعد أن أمضوا السهرة في ضجة وصخب، ثم تسلل خارجا من المعسكر وظلام الليل يستره. فلما جاوزه دون أن يشعر أحد به، تنفس الصعداء وشعر بأن حملا ثقيلا قد أزيح عن كاهله. ثم انطلق في الطريق الذي جاء منه مع الحملة حتى بلغ حظيرة مهجورة كان أصحابها قد أخلوها خوفا من أن ينهب الجند دوابهم وماشيتهم، فلجأ إليها بما يحمل من متاع وزاد، وبقي فيها خائفا يترقب حتى سمع أذان الفجر، ثم تلاه صخب الجند وضجتهم استعدادا للرحيل، فاشتد خفقان قلبه مخافة أن ينكشف أمر فراره، ولم يعاوده الاطمئنان إلا بعد أن أخذت ضجة الحملة تخفت وتتضاءل حتى لم يعد يصل إلى سمعه المرهف شيء منها. فغادر مخبأه ومشى على حذر في عكس الاتجاه الذي سارت فيه، حتى وصل إلى أحد مضارب الأعراب في تلك المنطقة، فاشترى منهم هجينا ركبها وجعل في رحله عليها ما يكفيه أياما من الزاد والماء، ثم انطلق بها قاصدا بلدة العريش؛ حيث أقام بها بضعة أيام حتى علم بأن قافلة ستخرج من هناك قاصدة عكا في اليوم التالي، فاندمج فيها راكبا هجينه. •••
وصلت القافلة وفيها السيد عبد الرحمن إلى عكا، فأخذ يبحث عن منزل يقيم به في انتظار وصول أسرته، وفيما هو في ذلك علم أن حاكم المدينة واسمه الشيخ ضاهر العمري متحالف مع علي بك، وقد تعاهدا على الخروج من طاعة الدولة العلية. فخشي إن هو بقي في عكا أن يقبض عليه الشيخ ضاهر ويعيده إلى حليفه علي بك في مصر. ولم تكن عكا إذ ذاك سوى قلعة كبيرة محكمة التحصين، وسكانها قليلون أكثرهم من حاميتها. ولم يكن لديه علم بأن أمر فراره قد انكشف وبلغ إلى علي بك في مصر، فكان من أمره مع ولده وزوجته وسائر أهل منزله ما كان.
واستقر رأيه أخيرا على أن يبقى في عكا متنكرا في زي المغاربة الذين يمارسون الطب الروحاني والتنجيم وكتابة الأحجبة والتعاويذ. وبقي على تلك الحال أشهرا، وهو يتفقد القادمين إلى المدينة برا وبحرا عسى أن تكون أسرته بينهم. ولكنها لم تأت، ولم يقف على أي نبأ عنها.
وفي ذات يوم، خرج إلى الميناء كعادته يترقب القادمين إليه. فإذا بسفن شراعية كبيرة يبدو من هيئتها أنها سفن حربية قد ملأت الميناء، وعلم ممن لقيهم من أهل المدينة هناك أن الملكة كاترينة قيصرة الروس هي التي أرسلت هذه السفن للتجول في البحر الأبيض المتوسط وتقديم المساعدة لعلي بك في مصر والشيخ ضاهر في عكا؛ تشجيعا لهم على نبذ طاعة الدولة العلية والخروج عليها؛ نظرا إلى أنها في حرب مع روسيا. فعاد إلى الخان الذي يقيم به وهو يفكر في وسيلة مأمونة تمكنه من الرجوع إلى مصر والوقوف على ما أخر قدوم أسرته إليه حسب الاتفاق.
وفي صباح اليوم التالي توجه إلى سوق المدينة لشراء ما يحتاج إليه في رحلته إلى مصر، فإذا بجماعة من الجنود الروس الذين رآهم بالأمس في السفن القادمة إلى الميناء قد ملئوا السوق، وهم جميعا يرتدون السراويل الإفرنجية والواسعة، وعلى رءوسهم قبعات عالية من الفرو وما يشبهه، ومعهم أسلحتهم من البنادق والمسدسات والخناجر، فهاب منظرهم لضخامة أجسامهم وارتفاع هاماتهم واكتناز وجوههم، وأراد التحول من طريقهم، لكنهم سرعان ما التفوا حوله مبدين دهشتهم من زيه المغربي المخالف لأزياء أهل المدينة، وكلمه بعضهم بلغته الروسية فلم يفهم كلامه، ثم جاءه رجل كان بينهم يرتدي ملابس الإفرنج المدنية فكلمه بالعربية قائلا: «لا بأس عليك منهم ، فهم قد أعجبهم زيك ويريدون معرفة ما تبيعه مما تحمله في جرابك.»
فقال له: «ليس في الجراب ما يباع، ولكن فيه كتبا سحرية أستعين بها على قراءة الطوالع ومعرفة ما يخبئه المستقبل، وهذه صناعتي التي ورثتها عن آبائي وأجدادي.»
وكان الترجمان من أهل قبرص، وسمع بالمغاربة الذين يزاولون التنجيم والطب الروحاني وضرب الرمل وما إلى ذلك، فأخبر الجنود الروسيين بذلك، وشد ما كانت دهشتهم، ثم أعربوا للترجمان عن رغبتهم في مشاهدة شيء من السحر الذي يقوم به هذا المغربي، فنقل إليه رغبتهم. وسرعان ما جلس السيد عبد الرحمن وأخرج من جرابه أوراقا وجلودا مختلفة الألوان والأحجام نشرها أمامه، وفي بعضها رسوم غريبة، كما أخرج صرة بها بعض الرمل وفتحها، ثم أخذ بأنامله رسوما وأشكالا مختلفة على الرمل، وأعقب ذلك بأن أخرج من منطقته دواة نحاسية مستطيلة، تناول قلما من خزانة متصلة بها، وغمس طرفه في الدواة ثم كتب به كلمات بلغة غير معروفة على ورقة بيضاء في حجم الكف، متظاهرا بأنه يكتب ما علمه من أوراقه ورمله. وأخيرا رفع وجهه والتفت إلى الترجمان وقال: «إذا صح ما علمته بوساطة العلوم التي حذقت أسرارها بالوراثة والرياضة الروحية، فهؤلاء أتباع ملكة عظيمة تحكم بلادا بعيدة واسعة، وسيكتب لها النصر بوساطتهم على عدو خطير لها.»
فأعجب الترجمان القبرصي بهذا الجواب وعده دليلا على حذق المنجم وبراعته، وما كاد ينقله إلى البحارة الروسيين حتى كانوا أشد إعجابا به، ثم أجزلوا مكافأة السيد عبد الرحمن ورغبوا إليه بوساطة الترجمان أن يصحبهم إلى سفنهم الراسية في الميناء ليطلع زملاؤهم من الضباط والجنود على غرائب علمه وفنه. فوعد بأن يوافيهم إلى الميناء في اليوم التالي ومعه بقية الأدوات اللازمة له. ثم غادر السوق عائدا إلى الخان وفي عزمه أن يحتال للبقاء في تلك السفن حتى تقلع وتصل إلى أحد السواحل المصرية التي تعتزم السير إليها، فينزل هناك، ويسهل عليه الذهاب إلى القاهرة لمعرفة ما تم في أمر أسرته.
وفي صباح اليوم التالي غادر الخان ولم يترك فيه من أمتعته إلا ما ليس في حاجة إليه، ثم أخذ طريقه إلى الميناء، فما كاد يبلغه حتى بصر به بعض الجنود الذين لقيهم في السوق فعرفوه بزيه المغربي والجراب الذي يحمله على كتفه، فنادوه وصعدوا به إلى سفينة الأميرال أورلوف قائد أسطولهم، وقدموه له ولمن معه من الضباط، فكان سرورهم عظيما بما تنبأ به لهم من الأمور العامة والخاصة، وما زال هناك موضع إكرام الضباط والجنود حتى اعتزم الأسطول الرحيل، فرغبوا إليه في البقاء معهم لينفعهم بعلمه وفنه، فقبل على أن يتركوه ينزل بأي مدينة يمرون عليها. •••
Bilinmeyen sayfa