قال: «لم تكد تخرج حتى نادوني وأخذوا الكيسين طالبين أن أحضر لهم الأكياس الباقية في الحال؛ لأنهم لا يستطيعون الانتظار أكثر مما انتظروا. فلما كررت لهم الاعتذار بخلو خزانة المتجر، اعتدوا علي بالضرب ونهبوا ما استطاعوا نهبه من السلع المعروضة في المتجر، ثم انصرفوا حانقين متوعدين!»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من ذلك الظلم المبين، وراح يندب سوء حظ مصر ونكبة أهلها بحكم المماليك المستبدين، وجلس في المتجر مطرقا مفكرا، ثم رفع رأسه بعد قليل، ومسح دمعة انحدرت من عينه على خده، وعزى نفسه قائلا: «الحمد لله على أن الخسارة لم تتعد الأموال، ولو أنهم قتلوني ما طالبهم بدمي أحد.»
ثم نهض ومشى إلى الدكة التي فرشت عليها السجادة للصلاة، فصلى في خشوع وإيمان، ودعا الله أن يقيه شر أولئك اللصوص الطغاة غلاظ القلوب والأكباد. •••
جلس السيد عبد الرحمن في متجره بعد أن أدى صلاة العصر، يفكر في الظلم الذي حاق به من الجابي وصاحبيه. وفيما هو في ذلك، دخل عليه رجلان في زي كتبة الديوان وفي يد كل منهما دفتر، فوقع الرعب في قلبه وعاد إليه اضطرابه أشد مما كان. على أنه جاهد نفسه حتى لا يظهر عليه شيء من ذلك، وخف إلى استقبالهما والترحيب بهما ودعاهما إلى الجلوس بجانبه. ثم أمر لهما بالقهوة والغليون، وأخذ يلاطفهما معربا عن اغتباطه بتشريفهما إياه بالزيارة.
ومع أنهما كانا أقل خشونة من الجابي وصاحبيه، وكان هو على يقين من أنه دفع أكثر من قيمة الضرائب التي يحصلانها باسم عوائد الوالي والأغا (رئيس الشرطة)، والمحتسب (ملاحظ المكاييل والموازين والأسعار). بقي خائفا يترقب شرا من وراء زيارتهما؛ لعلمه في الوقت نفسه بأنهما وأمثالهما ليس لهم رواتب من الحكومة، بل هم يفرضون لأنفسهم ضرائب شهرية على التجار وأصحاب الحرف، يقدرونها حسبما يتراءى لهم، وربما أخذوها مرتين أو ثلاثا في الشهر، بغير رحمة ولا شفقة.
ولم يطل به الانتظار حتى وقع ما كان يحذره، فنظر أحد الكاتبين في الدفتر الذي يحمله والتفت إليه قائلا: «مطلوب منذ الآن مائة نصف من عوائد الحسبة، ومثلها من عوائد الوالي والأغا.»
فقال: «إنني أذكر أني دفعت هاتين الضريبتين منذ بضعة أيام فقط.»
وهنا صاح الكاتب الآخر في وجهه قائلا: «كيف تقول مثل هذا الكلام وأنت تاجر كبير تربح الكثير؟ وهل جئنا إذن لنختلس أموالك؟ ... ها هو الدفتر أمامك، وقد سجل فيه ما دفعت وما يجب أن تدفعه. وهو مال الحكومة كما تعلم، ولا سبيل إلى التهرب من دفعه!»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر ذلك اليوم، وقال: «العفو سيدي. إني لم أقصد شيئا من ذلك، وإنما ذكرت ما اعتقدت أنه الحقيقة، ولعلي واهم. وجنابك أصدق على كل حال. فمعذرة.»
ثم نهض وقدم لهما المال المطلوب، وفوقه «حق الطريق» لكل منهما، وقال: «أرجو قبول معذرتي مع خالص احترامي وشكري على أن شرفتموني بهذه الزيارة الكريمة.»
Bilinmeyen sayfa