لكن داخل هذا الكتاب، وبين سطوره التي ينز منها التشكيك والإلحاد الحزين الناقم، تتدخل يد أخرى مجهولة بدورها لتضع تأكيدات مخالفة تماما لسياق النصوص وهدفها، فنجدها تقول: «سيكون خير للأتقياء ولا يكون خير للشرير» (جامعة، 8: 12-13). ويظهر تأخر هذا التدخل إلى ما بعد ظهور فكرة الدينونة والحساب مأخوذة عن مصر؛ فالجامعة الذي يؤكد طول الوقت على عدم العدل بالموت للجميع يقول فجأة بقلم المحرر التالي إنه «سيجلب الإله جميع الناس إلى «الدينونة»» (جامعة، 11: 2).
ومن ثم كشف كتاب أيوب وكتاب الجامعة مأزق الديانة اليهودية بعد الأسر الذي ظل يصر على مجازاة الإنسان في حياته حسب أفعاله، «وباتت الضرورة ماسة للاستسلام للعقيدة المصرية في البعث والحساب ثم الجزاء بثواب أو عقاب»، وقد برز ذلك متجليا عند نبي آخر مشهور هو النبي دانيال، الذي له علاقة مجهولة بمدينة الإسكندرية التي كانت تموج بالفلسفة المصرية واليونانية، حتى نرى اليوم بالإسكندرية شارعا هاما يحمل حتى اليوم اسم شارع النبي دانيال، «فهل كان صاحب كتاب دانيال مصريا من الأصل؟» المهم أن الكتاب قد اضطلع بمهمة كبرى بمحاولته الإجابة على سؤال الأتقياء التعساء: هل من العدل أن تظل تضحياتهم بلا ثواب؟ لقد رأى دانيال أو المؤلف أيا كان اسمه الحقيقي أنه بالإمكان الحصول على المكافاة من بعد الموت، وبدأ يشرق في سماء اليهودية تعليم جديد حول قيامة الموتى والثواب الأبدي.
وعند دراستنا لكتاب دانيال سنكتشف أن دانيال «شغل مناصب هامة في بلاط ملوك وثنيين (؟! من؟)» لكنه حافظ على عبادة يهوه وتقواه، كما ارتكب دانيال أخطاء فادحة تدلل على جهله بتاريخ قومه إن كان منهم، ورغم ذلك اجترأ الكهنة على نسبة دانيال إلى الشعب اليهوذي، ثم نسبته هو وكتابه إلى القرن السادس قبل الميلاد، وأنه كان يعيش في الأسر البابلي، رغم ما يفصح به الكتاب عن كونه قد كتب في القرن الثاني قبل الميلاد، وليس قبل ذلك.
يحكي دانيال المزعوم عن أحداث جرت في الماضي وأحداث ستجري في المستقبل لإثبات نبوته، لكنه «يكشف عن جهل وخلط فيما وصله من معلومات»؛ فأي شخص عاش في القرن السادس كان يعلم أن نبوخذ نصر الكلداني البابلي قد احتل يهوذا بعد موت ملكها يهوياقيم سنة 597ق.م وسبى يهوياكين بن يهوياقيم (ملوك ثاني، 24: 6، 12) لكن مؤلفنا هنا يرتكب خطأ فاضحا فيؤكد أن نبوخذ نصر قد احتل أورشليم وسبى الملك يهوياقيم وليس ولده يهوياكين (دانيال، 1: 1)، ثم يذكر اثنين من ملوك بابل هما نبوخذ نصر وولده بيلشاصر آخر ملوك بابل (دانيال، 5: 2، 11)، الذي حكم بعده داريوش المادي (دانيال، 5: 31)، لكن بيلشاصر أبدا لم يكن ولدا لنبوخذ نصر، كما أن الذي حكم تاريخيا بعد نبوخذ نصر أويل مردوك ويشهد بذلك سفر (ملوك ثاني، 25: 27-23؛ وإرميا، 52: 3)، ثم حكم بعده ملكان وكان الثاني هو نابونيد ولم يكن من يكن من الأسرة المالكة بل مغتصب للعرش، ونابونيد أنجب في النهاية بيلشاصر لكنه لم يعل كرسي العرش قط؛ لأن مملكته سقطت على يد كورش الفارسي.
ويقول دانيال إنه بعد موت بيلشاصر احتل مملكته دار يوش (دانيال، 5: 30) وهو عنده «ابن احشويروش من نسل الماديين» (دانيال، 9: 1)، لكن الألواح المسمارية تشهد أن قورش الفارسي وليس داريوش الميدي هو من احتل بابل سنة 539ق.م. ولو كان يقصد داريوشا فارسيا فقد وجد بالفعل، لكنه كان داريوش الأول ابن ويشتا سب، لكنه لم يحكم إلا بعد قمبيز بن قورش.
لذلك نجد من الصعوبة بمكان تصور أن دانيال عاش في القرن السادس. خاصة أن رواية دانيال للأحداث تصبح أكثر انضباطا مع حوادث التاريخ بشكل تدريجي، «كلما اقتربت روايته من القرن الثاني قبل الميلاد» في عصر أنطيوخس، ذلك العصر الذي يحتاج إطلالة سريعة عليه حتى نفهم كتاب دانيال. وقبل ذلك نعود إلى زمن داريوش الأول، عندما دفع جيوشه نحو المدن اليونانية الغنية بتركيا حيث هزم هناك في معركة مارثون عام 490ق.م؛ مما دفعه إلى تعويض ذلك بفتح زينة زمانها مصر، وكان سقوط مصر العظيمة إشارة خطر كبرى لليونان وبدأت حقبة من الحروب بين فارس واليونان امتدت حوالي خمسين عاما، وفي النصف الثاني من القرن الرابع ق.م انتقل المقدونيون بعد توحيد بلاد اليونان من الدفاع إلى الهجوم.
وفي 330 قتل داريوش الثالث إبان هربه من الجيوش اليونانية التي احتلت بلاده نفسها بقيادة الإسكندر الأكبر المقدوني، الذي أقام أكبر إمبراطورية في العالم حتى زمنه؛ فملك من البحر الأيوني حتى حوض نهر السند، ومن ليبيا حتى بحر قزوين. وما كان بالإمكان السيطرة على هذه الأصقاع الشاسعة؛ لذلك وبموت الإسكندر عام 323 تفجرت الإمبراطورية شظايا مثلت كل شظية دولة مستقلة، ووضع قادة الإسكندر كل منهم يده على واحدة منها وأعلن نفسه ملكا عليها؛ بطلميوس على مصر، وسلوقس على بلاد الشام وأنتيجونس على اليونان، وكانت ضمن أملاكه في البداية من سوريا حتى الهند. «ومرة أخرى وجدت يهوذا نفسها بين جارين جبارين: مصر البطلمية وسوريا السلوقية، اللذان كانا دائمي الشقاق على الثمرة الفلسطينية».
في البداية وقعت فلسطين وفينيقيا وسوريا الجنوبية تحت السيطرة البطلمية المصرية، لكن الملك السلوقي أنطيوخس الثالث تمكن في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد من انتزاع تلك المناطق لسوريا، وبعد موته ورث سلطاتها ابنه أنطيوخس الرابع أبيفان (175-164ق.م).
وفي عهد أنطيوخس أبيفان قامت يهوذا بثورة ضد الاحتلال اليوناني وضد السلطات اليهوذية المدنية والكهنوتية من ذوي العلية الذين حالفوا اليونان المحتلين، وذلك في عام 167ق.م تحت قيادة الإخوة «حشمون» الذين برز منهم القائد يهوذا مكابي أي المطرقة، وتمكن يهوذا المكابي من طرد المحتلين وحصلت على الاستقلال ورضيت بحكم الكهنة الحشمونيين.
وكانت حملة الإسكندر فاتحة حقبة تاريخية تسمى بالهلينستية في العالم القديم، وانتشر تأثيرها اليوناني في أشكال المجتمع والاقتصاد والعبادات والعادات والتقاليد يجترف البلاد المستعمرة من اليونان بما فيها يهوذا، وكان تأثير الثقافة اليونانية أعلى على الطبقة الأعلى.
Bilinmeyen sayfa