هذا ناهيك عن تطابق المنمنمات الدقيقة حول الإله وقدراته، وقصص الأولين الأولى بدءا من قصة الخليقة وآدم مرورا بنوح والطوفان، حتى قيام مملكة شعب الرب (مملكة إسرائيل القديمة) في فلسطين، وما لحق ذلك من قصص الأنبياء والمرسلين، وكلهم من ذات النسل المبارك. ثم ما أضيف في عصر التدوين الإسلامي للسير والتاريخ؛ تلك المدونات التي عملت مستضيئة بحديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» والتزاما بقانون الإيمان، وما فرضه كل ذلك من سيادة المأثور الإسرائيلي على العقل العربي وروحه، بعد أن غص مأثوره بالإسرائيليات.
أما الشق الثاني من عناصر الأمة، والذي يمثله المسيحيون العرب، فمعلوم منذ البدء أنهم قد سلموا لإسرائيل وتوراتها، عبر إسرائيلية المسيح وتلامذته جميعا، نسبا، بل وبالشق الأعظم من العقيدة المسيحية، وذلك اتباعا لأمر إيماني، يطلب الإيمان بالمقدس الإسرائيلي القديم، والتاريخ الإسرائيلي؛ إعمالا لتوجيهات يسوعية بدأت بالإعلان: «ما جئت لأنقض الناموس، بل جئت لأكمل.» ولهذا ركز المسيح تعاليمه على الجانب الأخلاقي التشريعي، وترك ما دون ذلك للمؤمن يبحث عنه في المقدس الإسرائيلي؛ لذلك تم ضم الكتاب اليهودي المقدس (التوراة ومجموعة الأسفار القديمة) إلى الكتاب المسيحي المقدس (الأناجيل ومجموعة رسائل التلاميذ) في كتاب واحد مقرر على المسيحي المؤمن، يحمل عنوان «الكتاب المقدس» بشقيه «العهد القديم» و«العهد الجديد».
وإعمالا لذلك سلم المسيحيون بتاريخ إسرائيل وقدسيته وحتميته القدرية، ونهايته المرسومة في التقدير الإلهي لقيام مجد إسرائيل في فلسطين مرة أخرى، بل أصبح المسيحيون هم مادة التطور الكبرى، لقيام مملكة داود وسليمان في فلسطين بزعامة الرب يسوع صاحب الملكوت؛ لأنه امتداد لملوك إسرائيل القديمة، باعتباره من نسل سليمان وأبيه داود؛ فإن هو إلا حفيد ملوك، تجري في عروقه دماء إسرائيلية ملكية، ارتفع في المسيحية من كرسي النجارة الأرضية في مدينة الجليل، حيث كان يمارس حرفته، إلى كرسي الألوهية في السماء. لكن ليظل وفيا لرحمه وعشيرته، يمركز كل الحقوق التاريخية والدينية لإسرائيل في فلسطين؛ لأنه هو ذاته إله اليهود «يهوه» القائد الرباني المظفر الذي قاد شعب إسرائيل من مصر ليقيم مملكة في فلسطين، نعم هو «يهوه» ولكن بعد أن تجلى لخرافه الضالة في صيغة بشرية.
ومن ثم تنافس العربان، عتاة العقيدة العاضون بالنواجذ على الإيمان، مسيحية وإسلاما، في تشريف تاريخ إسرائيل وتكريمه. وبينما باتت عودة المسيح لإقامة مملكة أبيه داود، والجلوس على عرش سلفه سليمان في فلسطين، مشروعا مسيحيا، فلا يزال المسلمون ينتظرون المسيح ليقتل الدجال، ويقيم ذات المملكة، وبعدها يقف إسرافيل ينفخ في البوق من صخرة بيت المقدس، لقيام مملكة الحق الإسلامية الخالدة، مشروعا إسلاميا.
والأمر بهذا الشكل مشكلة إيمانية، وأزمة فكرية طاحنة، يتغافل عنها الجميع وفق صيغهم السياسية، وتكتيكاتهم المرحلية، وأهدافهم الاستراتيجية، لكن المأساة الحقيقية أنها تتجاوز ذلك الإطار إلى مستوى الأزمة الوطنية والقومية والاجتماعية، بحالة تبدو مستعصية على الحل تماما، اللهم إلا في عالم الحلم الثوري الآتي، وهو - بالركون إليه - يعادل تماما انتظار المسيح قاتل الدجال ثم دخول الجنات في المشروع الإسلامي، كما يعادل انتظار عودة المسيح الإله وقيام المملكة المجيدة في المشروع المسيحي واليهودي، على حد سواء. والمدرك لأبعاد تلك الأزمة المروعة في الفكر والسلوك العربي، سيجد كما من الإحباط الفكري والنفسي، والواقعي (في التعايش مع ذلك الفكر السائد)، كفيلا وحده بإلجائه إلى إهمال الأمر برمته، ونفض يديه منه، بيأس كامل ومطبق، لولا بقية من روح قتالية تتشبث بالمحاولة، لوضع لبنة حقيقية في بناء الأمل الآتي، ضمن لبنات أخرى نتمناها ونرجوها ونستحثها، من الباحثين المخلصين.
وضمن تلك المحاولات يأتي هذا القسم من بحثنا، الذي جهدنا عليه بالمعنى السالف، ولا نعلم مدى ما حققناه فيه، الأمر متروك في النهاية للجدل القائم الآن على مستوى التعامل مع التراث لتحديد الهوية؛ وعليه، أضع هذا الجهد، الذي ربما كان متعجلا في بعض مواضعه، كناتج محاولة المسارعة بالخروج إلى الساحة، بعد تأخر طويل، راجيا أن أكون بذلك قد وضعت بين يدي القارئ مساهمة على طريق التعامل العلمي مع طروحات الأيديولوجيا الصهيونية، مع قناعة خاصة، أو اعتقاد، أني أقدم به واحدة من الأدوات اللازمة، في الصراع الثقافي والحضاري، الملتبس دوما بالاجتماعي، والذي تخوضه فصائل أمتنا الواعية اليوم.
سيد القمني
التوراة قراءة نقدية
تأسيس
على الصفحة الأولى للكتاب المقدس (النسخة العربية) نقرأ إعلانا افتتاحيا يقول:
Bilinmeyen sayfa