والمتابع للقصة التوراتية عن الإله «إيل» والجد «إبراهيم»، يجد نفسه إزاء أسرة صغيرة متواضعة، تتكون من أفراد يعدون على أصابع اليد «إبراهيم وسارة وولديه إسماعيل ثم إسحاق»، وأسرة ابن أخيه لوط التي تتكون فقط من زوجة وبنتين. وللتدقيق نجد الوعد قد اقتصر فقط على إبراهيم وولده إسحاق، «رجل وزوجته»، جاءوا أغرابا لينزلوا أرضا غريبة (أرض غربتهم بتعبير التوراة)، فيمنحهم «إيل» كل الأرض، «ليس قطعة فيها، ولا قرية، ولا حتى مدينة، إنما كل البلاد والممالك الواقعة ما بين نهر مصر وبين نهر الفرات». رغم سكانها الذين عمروها من ألوف السنين، وتم تعدادهم في نص الوعد «القينيين، والقنزيين والقدمونيين، والحيثيين ، والفرزيين، والرفائيين، والأموريين، والكنعانيين، والجرجاشيين، واليبوسيين»، والواضح في رواية سفر التكوين، أن تلك الشعوب قد قطعت شوطا عظيما في سلم التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكونت عددا من الممالك المستقرة، وجاء ذكر بعضها في الإصحاح الرابع عشر وغيره؛ مثل مملكة جرار، ومملكة سدوم، ومملكة عمورة، ومملكة أدمة، ومملكة صبويم، ومملكة بالع، ومملكة عمون، ومملكة موآب، ومملكة شاليم. وقد ورد ذكر تلك المملكة الأخيرة مع اسم ملكها «ملكي صادق» أو الملك صادق، كما جاء مع مملكة جرار اسم ملكها الفلسطيني «أبيمالك». كل هذا تعج به الأرض، بينما كان إبراهيم مجرد راع غريب بسيط، صاحب مواشي؛ وعليه فلا مندوحة من افتراض أن كاتب هذا الجزء من التوراة، الذي كتب بعد زمن الجد إبراهيم بقرون طويلة، قد كتبه بعد أن وصل الإسرائيليون لدرجة من الاقتدار تسمح لهم بهذا الطموح، فتمت ترجمة ذلك الطموح إلى اللغة القدسية، بإعادة القرار بالاستيلاء على فلسطين، إلى علاقة قدسية بالرب «إيل». والمسألة بذلك تصبح قدرا مقدسا وإلهيا، لا مجال للاعتراض عليه؛ بحيث تم منح الأرض بأثر رجعي للسلف البعيد إبراهيم، بينما لم يكن قد أنجب أصلا. مع وعد آخر بأن ذلك النسل سيكون أعظم الأمم، ومن هنا تم تزمين الرواية بزمن الجد إبراهيم لتكتسب قدسية التقادم، وإعمالا للمبدأ القانوني القائل بوضع اليد المدة الطويلة المكسبة للملكية، والذي يبدو أنه اليوم ليس سوى توارث عن قواعد تلك الأزمان.
وكان المقابل الذي طلبه «إيل» مقابل هذه العطية العظيمة، التي يتم فيها سلب الأرض من أصحابها لصالح القبيلة المغتربة، هو أن يتم الاعتراف به إلها للقبيلة، دون الآلهة الأخرى، وكان لا بد من توثيق العهد وإشهاره، ليكون التوثيق شاهدا على مر السنين أمام جميع الشعوب منعا للنزاع. وكان التوثيق هو أن يضع إبراهيم ونسله علامة الميثاق الشاهدة لتذكر الأحفاد، في علامة مميزة هي «الختان»، وذلك نصا «هذا هو عهدي الذي تحفظون بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختتن كل ذكر منكم، فتختتنون في لحكم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (تكوين، 17: 9-11).
أما الغريب في كل تلك الحكاية، أن «الإله «إيل»، الذي منح الغرباء أرض فلسطين، كان إلها كنعانيا فلسطينيا أصيلا في المنطقة»، وفي النصوص يمكنك أن ترى ما يشير إلى أن «إيل» كان غير معروف لإبراهيم عند هبوطه البلاد، وذلك من قبيل القول: وظهر الرب لأبرام وقال: «لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحا للإله الذي ظهر له» (تكوين، 12: 7)؛ فالرب هنا غفل من التعريف أو المعرفة؛ فهو رب بين أرباب. لكنه يتميز عنهم بأنه هو «الذي ظهر له» لذلك قام الرب بتعريف نفسه لإبراهيم قائلا: «أنا إله بيت إيل» (تكوين، 31: 13). ومعلوم أن «بيت إيل» مدينة كنعانية مقدسة منذ القدم، وقد دلت الكشوف الأركيولوجية الحديثة على انتشار عبادة «إيل» على نطاق واسع بحسبانه كبير الآلهة، في مناطق الشعوب السامية، في بلاد كنعان والشام جميعا، والرافدين وجزيرة العرب وبخاصة جنوبها، بل إنك تلحظ ملحوظة على جانب عظيم من الأهمية سبقت الإشارة إليها، وهو أنه عند هبوط إبراهيم وعائلته أرض كنعان، يهجر لغته الأصلية الآرامية، إلى لغة الكنعانيين أهل البلاد، أو شفة كنعان بتعبير التوراة.
وقد ظل «إيل» مصاحبا للنسل الإبراهيمي فإليه ينسب «سمع إيل» أو «إسماعيل» ابن إبراهيم الأكبر، والذي تم استبعاده من التركة لأنه ابن جارية مصرية (؟!) وكان «إيل» هو الذي بشر سارة بابنها إسحاق، الذي أنجب ولدين هما «عيسو» و«يعقوب». وتم استبعاد عيسو بدوره من الميراث لتبقي التركة خالصة ليعقوب، الذي كان على علاقة متميزة بالإله إيل؛ فقد ظهر له عدة مرات كان أهمها وأشدها حسما، اللقاء الذي تم فيه اختبار قوة يعقوب بمصارعته جسديا، وتبديل اسمه من «يعقوب إلى إسرائيل»؛ ومن ثم أعاد «إيل» تأكيد الوعد الموثق بقوله ليعقوب: «أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق، «والأرض التي أنت مضجع عليها أعطيها لك ولنسلك ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوبا»» (تكوين، 28: 13-14). وبهذا استمر الوعد لإسرائيل (يعقوب) وبنيه الأسباط الاثني عشر «رءوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، نفتالي، جاد، أشير، يساكر، زبولون، بنيامين، يوسف»، الذين هبطوا مصر، وعاشوا هناك زمنا كان كفيلا بنسيان «إيل»، وربما عبدوا هناك آلهة المصريين. ولما جاءهم موسى عليه السلام بعبادة الإله الجديد «يهوه» من بلاد «مديان»، وأخبرهم أنه إله أجدادهم الذي كان يعبد في كنعان، لم يجدوا غضاضة في قبوله على الفور، دون تمحيص أو تشكك أو حتى محاولة للتأكد.
وبعد ذلك، تنقلنا التوراة نقلة أخرى، إلى أحداث أخرى، تبدأ بقصة تفضيل يعقوب لولده يوسف، مما أثار حقد إخوته وموجدتهم، وبحيث لجئوا إلى مؤامرة للتخلص منه، وهنا محاولة تصفية أخرى تقوم بها التوراة لصالح قبيلة «راحيل» أي قبيلة يوسف، عن قبائل الأسباط الأخرى، لكنها هنا يبدو قد اصطدمت بواقع تحالف مجموعات لا مناص من قبولهم واستبقائهم، خاصة أن النبي الآتي (موسى) لن يكون من سبط يوسف، إنما من سبط لاوي.
وهكذا، بدأ الدخول بيوسف الجميل بن إسرائيل، صاحب الأحلام، تلك الأحلام التي أزعجت إخوته بشدة، ورأى فيها يوسف إخوته «رمزا» مع والديه يسجدون له، حتى قالوا له: «ألعلك تملك علينا ملكا، أم تتسلط علينا تسلطا» (تكوين، 37: 8). لكن سير أحداث القصة بعد ذلك، يشير إلى أن أحلام الصبي قد تحققت بحذافيرها، وأن يوسف سيصير في عليين، وأن أهله سيسجدون له فعلا، لكن في بلاد النيل، حيث تتابع الرواية سردها للأحداث فتقول: «وأما يوسف، فأنزل إلى مصر، واشتراه فوطيفار، خصي فرعون رئيس الشرطة، رجل مصري، من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه هناك، وكان الرب مع يوسف، فكان رجلا ناجحا، وكان في بيت سيده المصري ... فوجد يوسف نعمة، وخدمة فوكله على بيته، ودفع إلى يده كل ما كان له ... والرب بارك بيت المصري بسبب يوسف ...»
ثم فجأة، وبلا مناسبة، تقول الرواية المقدسة: «وكان يوسف حسن الصورة، وحسن المنظر.» توطئة للتعريف بنساء المصريين، فإن «امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف، وقالت اضطجع معي فأبى.» واستمر يوسف يتأبى على سيدة القصر حتى كان يوم «أنه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت، فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي، فترك ثوبه في يدها وهرب.» فما كان من المرأة التي شبقت بالاشتهاء إلا أن نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة: «انظروا، وقد أتى إلينا برجل عبراني ليداعبنا، دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم ، وكان لما سمع أني رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج» (التكوين، 39).
وبغض النظر عن الثغرات في إخراج الدراما والتي ملأتها الرواية القرآنية بأنه بدوره قد «هم بها»، والتناقض ما بين خلو البيت تماما «لم يكن من أهل البيت هناك»، وبين صرخة واحدة فإذا أهل الدار كلهم إلى غرفتها محضرون، فإن مآل يوسف الحتمي كان السجن. وهو حكم لا شك يهون مقارنا بمواقف بني إسرائيل من قضايا مشابهة كان القضاء المبرم فيها هو الإعدام، دون أي تثبت من صحة الواقعة بالبراءة أو ثبوت التهمة، فكان قرار سيد الدار المصري مقابل مثيله لدى بني إسرائيل قرارا يتسم بالحيطة مشفوعة بالرحمة مغلفة برغبة في التغطية على فضيحة، كان يمكن أن تفشو - وقد فشت - لو تحدث عنها «يوسف» مع رفاق سجنه.
واستمر يوسف في علاقته الحميمة بالأحلام وهو رهين حبسه، ولكنه هذه المرة لم يكن حالما، إنما مفسرا للأحلام، وصدق تفسيره لأحلام رفاق السجن، وتنبأ لأحدهم - وهو ساقي الفرعون - أنه سيبرأ، ويتبوأ مكانه مرة أخرى بعد ثلاثة أيام من رؤياه، بينما تنبأ لآخرين بمصير سيئ بالإعدام، «وهو ما يشير إلى لون من» المحاكمات القضائية المقننة، فتبرئ وتجازي وفق قواعد محددة، وكان ما قاله يوسف محققا في الواقع.
ثم تأتي الرواية المشهورة عن حلم فرعون بالبقرات السبع العجاف، تأكل السبع السمان، والسنابل الملفوحة بالريح الشرقية السنابل السمينة الممتلئة، وعندما يطلب الفرعون المفسرين، يتذكر الساقي «يوسف» كأعظم مفسر للأحلام، فيخبر الفرعون، فيحضرون يوسف إلى البلاط، ويتقدم يوسف بتفسيره لسيد مصر: «فقال يوسف لفرعون: حلم فرعون واحد، قد أخبر الله فرعون بما هو صانع، البقرات السبع هي سبع سنين، والسنابل السبع الحسنة هي سبع سنين ... هو ذا سبع سنين قادمة شبعا عظيما في أرض مصر، تم تقوم بعدها سبع سنين جوعا.»
Bilinmeyen sayfa