ومع هذه المعركة أدرك العالم مدى تخلف العرب الحضاري والثقافي، بل ومدى كذبهم على أنفسهم وعلى الجماهير وعلى العالمين، عندما كانت وسائل إعلامنا تصدر البيانات العسكرية المظفرة تتوالى، بانتصاراتنا الساحقة، وساعتها أعلن أحمد سعيد مذيع صوت العرب الأشهر أننا سنصلي الجمعة غدا في تل أبيب. وكان بعضنا يتعجل السفر ليشرب القهوة هناك قبل أن تبرد، وقبل أن يبرد نهر الدم المنتظر، مع نصيب كل منا في بنات صهيون في أحاديث المصاطب المشيخية. بخطاب كان طوال الوقت غرائزيا يستحث الرغبات في الدم والمكاسب الدونية. بخطاب فقط وليس أفعال. في الوقت الذي كان فيه العالم يشاهد في تلفزته عمليات التطهير التي تقوم بها إسرائيل للأراضي الهائلة التي استولت عليها، وجنود إسرائيل يشربون قهوتهم الساخنة على الضفة الشرقية للقناة.
لم يأسف المحللون علينا حتى من الدول التي كنا نعتبرها صديقة، وقالوا لا يأسف أحد على هتلر إلا أمثاله، وقال بعضهم إن العرب ليسوا فقط متخلفين بل مرضى عصابيين أيضا. وقال آخرون إن العرب في مرتبة تطورية أدنى من البشرية، في مرحلة تجاوزتها الإنسانية على سلم التطور. مجرد كائنات عدوانية لا تعقل وتحتاج إلى قوة تلجمهم.
ولم يستطع العرب تدارك هزائمهم الكونية الكامنة أصلا في المنهج وليس في العمل العسكري، حتى جاءت حرب 1973م ببعض الأمل على المستوى القتالي، لكن ليأتي الإرهاب المسلح الدموي في الجزائر ومصر، ثم يخرج صدام من مغامراته مع إيران إلى أم المعارك، ثم تظهر طالبان محسوبة على العرب فقط ؛ لأنها مسلمة لتعطي العلم بقية مساحيق التشويه ولتثبت للعالم أن الصورة التي قدمتها الصهيونية للدنيا عن العرب، لها أصولها في سجل العرب.
بعض مفكرينا القوميين أكدوا لنا قديما ولا زالوا يؤكدون أن إسرائيل ستسقط بفعل عوامل ذاتية داخلية، بعد فشلنا القومي الذريع في إسقاطها، وألبسوا الأوهام ثياب التنبؤ العلمي؛ فهي مزيج متباين المشارب لبشر مختلفين في نسق اجتماعي شديد التعدد؛ نظرا لاعتقادنا (منذ الخلافة الأموية والعباسية والشركسية والديلمية والسلجوقية والعثمانية والهاب والداب يحمل راية الإسلام)، أن الوحدة الاندماجية الكاملة في أمة واحدة متجانسة بالكامل هو القوة والنصر: الفرض الجبري للتوحد على التباينات العرقية والمذهبية والدينية والقطرية، بتفكير لا يعير التفاتا لحقوق البشر ولا الأقليات بحسبانهم مواطنين، ولا لمعنى الحريات. فقط الأمة الواحدة القوية هي الهدف ولو على حساب الإنسان. لكنها أيضا القوة المجردة بالمعنى العسكري بأرض السودان وأموال البترول وثقل مصر السكاني، هي القوة بمقاييس تجاوزها للزمن، وبفهم عشرة قرون مضت؛ فقاموس التقدم اليوم ليس فيه معنى لتعبير الثقل السكاني مثلا ولا لكل شعاراتنا.
هذا بينما أدرك المشروع الصهيوني مبكرا أن التنوع في ظل مناخ حريات تعددي هو الغنى والثروة والقوة، وكان نموذجه الواضح هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي يجتمع فيها أكثر من ألف ديانة وعنصر. أما عندنا فإن التنوع والتمايز وحق الاختلاف في المذهب والدين والرأي في حرية متناغمة مرفوض ومجرم، إما لأنه يهدف لشق الصف الوطني، أو أنه شعوبية يدعو لها عملاء الاستعمار، وربما خيانة وطنية وتخابر مع الأعداء ... يجوز!
العالم وقف أيضا يشاهد إسرائيل تحت الحصار العربي سياسيا واقتصاديا، وهي تزيد معدلاتها التنموية سنويا بشكل مذهل، حتى بلغ دخل الفرد السنوي 15000 دولار سنويا، وهو ما يعني أن ستين مليون مصري ينتجون 45 مليار دولار في السنة وأن خمسة ملايين إسرائيلي ينتجون 75 مليار دولار في السنة.
إن هذا النموذج يفسر لنا وحدتنا وغربتنا ونحن أصحاب الحق بين العوالم نبحث عن مساند ومؤيد؛ فهو نموذج أصاب العالم بلوثة الإعجاب حتى تحول أصدقاؤنا التاريخيون إلى أصدقاء لإسرائيل، من دول أفريقيا وآسيا التي حضرت مؤتمر باندونج الأشهر، إلى الهند والصين وتركيا وإندونيسيا وماليزيا ...
النموذج الإسرائيلي أبهر العالم، لكنه أثار عند الأمريكان الوله والصبابة، بل والشعور بالمسئولية تجاهه. ليس فقط لأنه كما يعلنون واحة الديمقراطية وسط محيط من الفاشية، ولكن لأنه أيضا يعطي الأمريكي العلاج النفسي الناجع لأوجاع ضميره المثقل بدماء الهنود الحمر. وفي هذه المرحلة الرجراجة لحقوق الإنسان وهي في أزمة النضوج الختامي، أوجعت الأمريكان أثام الماضي، فجاءت إسرائيل لهم بالبلسم الشافي. فحضرت أمريكا كلها مؤتمرات ومحاضرات وتحقيقات وأفلاما وثائقية، كان نجمها اليمين الإسرائيلي واللوبي الصهيوني في أمريكا، لتأكيد أنه لا خطيئة ولا هم يحزنون؛ فالعرب والهنود مجرد كائنات، كائنات غير مسالمة بل ضارة كالعقارب والثعابين التي كان المستوطنون الأوائل يجدونها في أمريكا وإسرائيل قبل أن يعملوا فيها أدوات الحضارة؛ هم كائنات متخلفة وغبية كالهنود الحمر تماما، وكلاهما لا يستحق شفقة أو رثاء. وهو كله ما يفسر لنا الوقفة الأمريكية الكاملة ضد الحقوق العربية؛ فالأمور عندهم ليست حقوقا، بل هي استحقاقات الإنسان الحر المنتج؛ وعليه يجب أن نفهم خطاب السياسة الأمريكية ولوم مادلين أولبرايت للطفل الفلسطيني الضحية؛ لأنه يرمي الدبابة الإسرائيلية ... بحجر!
وختمها صدام بأم المعارك الكارثة، وكان مذاقها حنظلا ونتائجها رصيدا مرا يضاف إلى هزائمنا وتخلفنا وفاشيتنا. ومع ذلك لم يستخدم العرب عقلهم في هذا الدرس الذي مر عليه عشر سنين كان يمكن فيها أن نعمل الكثير ... لكننا لم نفعل. وتعالوا نحاول أن نفهم بمثال بسيط ماذا كان يمكن أن نستفيد.
نحن نعلم حسب القواعد الإيمانية أن الله قد أكرم بني آدم فكان أرقى المخلوقات جميعا. وجعل له عينين ولسانا وشفتين، وعقلا يميز به ليرتقي أكثر. لكن في الحقبة الزمنية حدثت تطورات عظيمة ارتقت بالإنسان إلى منطقة احترام قيمة الإنسان لذاته وليس لأن تلك القيمة ممنوحة له من قوة خارجية، فأصبح مقدسا بحكم القانون والدستور المدني في بلادهم. ورغم أن القدسية عندنا قد منحت للإنسان من الله فلم يحترم الإنسان في بلادنا أحد، ولم يجعل هذا الإيمان من مواطنينا مواطنين كرماء في أوطانهم؛ فالكرامة هي فعل المواطنة المدني الناضج، الكرامة ليست نصا ...! المهم أن ظهور قيمة الإنسان لذاته تبعها ضرورة الحفاظ على حياته التي هي أثمن من كل شيء بحق المواطنة في وطن منتج لكن التاريخ مر خارج حدودنا؛ هكذا كان الأمريكي يفكر وهو مقبل على أم المعارك: حياة المواطن أثمن من كل شيء، بينما كان صدام يحشد لأول مرة في تاريخ العرب أعظم آلة عسكرية (حصلوا عليها ... لم ينتجوها)، ويحشد من بني الإنسان ذي العينين واللسان والشفتين أكثر من مليون إنسان ومع أول طلعة للطائرات الغربية انتهت أم المعارك على نسق الخامس من يونيو، بعدما ضربت الطائرات مراكز الاتصالات العراقية وتركت حشود بني الإنسان ذي العينين على جبهات القتال عمياء ... صماء ... بعد أن فقدت اتصالها بقيادتها. لا تعرف ما المفروض أن تفعل، إزاء رعب آخر غير رعب المعركة نابع من تخوف ضباط الجبهة من اتخاذ قرارات قد لا تعجب الرفيق القائد المهيب الركن ... إلخ.
Bilinmeyen sayfa