ولعل القارئ لاحظ - كما لا شك يعلم السيد نتانياهو يقينا - أن التأكيد على غربة تلك القبيلة عن أرض كنعان تكاد تتكرر في كل إصحاح، نكتفي منها بتلك الأمثلة لأن إحصاءها يحتاج صفحات طويلة من الملل.
هكذا جاء السيد نتانياهو بافتراء واضح على التاريخ بل على توراته ذاتها التي يعض عليها بالنواجذ. لقد وصل أسلافه قادمين من بلاد بعيدة غرباء على أرض كنعان. الرجل ذكي ومذاكر توراة بشكل جيد، سيرد علينا نعم كان أهل الأرض كنعانيين وهم شعب سامي لا يمكن لأحدنا أن يدعيه لنفسه دون الآخر؛ لأن كلينا سامي. لكن لديك أيها السيد في توراتك ذاتها ما يشير بوضوح إلى أن الفلسطينيين قد سكنوا تلك الأرض قبل مجيء أجدادك إليها من أرمينيا أو من حيث ألقت، ولم يكن فقط سكانها الكنعانيون. لقد وصل إبراهيم وكانت تلك البلاد لا تسمى بلاد الكنعانيين رغم سكن الكنعانيين فيها، لكنها كانت تسمى أرض الفلسطينيين ... هكذا بوضوح فصيح تسميها التوراة أيها السيد المؤمن، وقد ورد ذلك في قصة طريفة لا تستحي التوراة من ذكرها فلا حياء في الدين، والتوراة كما تعلمون أيها السيد لا تعرف الحياء.
كان إبراهيم جدك البعيد حسبما تزعم، وإن كنا في شك عظيم في ذلك لو ناقشناك، لكنا على يقين في عدم نسبتك إليه دون أن نناقشك؛ كان جدك هذا قد نزل مصر يستجدي القوت، بعد مجاعة حلت ببلاد فلسطين، ونستمع معا إلى تراتيل التوراة إذ تقول: «وحدث جوع في الأرض فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدا. وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا راك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك، قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك» (تكوين، 12: 10-13).
ثم نفهم من بقية الراوية أن ادعاء سارة الأخوة لإبراهيم لم يكن اتقاء إبراهيم للقتل، إنما لسبب آخر ترويه التوراة تذكرة للعالمين إذ تقول: «فحدث لما دخل إبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون. «فأخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيرا بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال». فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة إبرام، فدعا فرعون إبرام وقال: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي «حتى أخذتها لي لتكون زوجتي». والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب، فأوصى عليه فرعون رجالا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له » (تكوين، 12: 10-20).
سنفهم الآن المراد والمقصود عندما نعلم أن ذات الأمر قد تم تدبيره للملك الفلسطيني أبيمالك، فنقرأ: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة» (تكوين، 20: 1-2)، وكانت النتيجة فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم ورد إليه سارة امرأته وقال أبيمالك هو ذا أرضي قدامك اسكن فيما حسن في عينيك وقال لسارة: «إني قد أعطيت أخيك ألفا من الفضة»» (تكوين، 20: 14-16). وتكررت القصة ذاتها مع ولده إسحاق بحذافيرها لكن لنسمع هنا القول: «فذهب إسحاق إلى «أبيمالك ملك الفلسطينيين» إلى جرار» (تكوين، 26: 2). التوراة هنا تنتهي إلى تعريف أبيمالك بأنه ملك الفلسطينيين. لقد كان الفلسطينيون قد استقروا في الأرض وأقاموا فيها ممالك أدت بالنبي صفنيا إلى مناداتها في سفره «يا كنعان يا أرض الفلسطينيين» (صفنيا، 2). حيث هناك زعم تروجه جامعات العالم يقول: إن الفلسطينيين - أو كما ذكرهم التاريخ (البلست) - قد قدموا من كريت إلى فلسطين؛ فحتى لو كان ذلك هو الحادث تاريخيا فإن التوراة تقول بمجيء أرومة العبريين إلى بلاد كنعان وقد عرفت باسم أرض الفلسطينيين. «لقد كان البلست قد أقاموا في فلسطين زمنا كافيا قبل ذلك ليمنحها اسم الفلسطينيين».
ومع منظومة أخلاقية كتلك المنظومة التي حدثتنا عنها التوراة لا يكون هناك مجال للقول بنقاء الجنس الإسرائيلي مع هذه البداية التي لا تبشر بخير، ناهيك عن كون هذه النقاء الجنسي ظلما لطبيعة الإنسان؛ فمن المستحيل أن تقنعنا بنقاء هذا السلسال خلال ألوف السنين، وأن البذرة الإسرائيلية ظلت تتناقل في أرحام الطاهرات حتى وصلت يهود اليوم؛ لأنه من جانب آخر هناك مغالطة تتم بموجبها المطابقة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، بحيث يبدو وفق تلك المغالطة أن يهودي الفلاشا الزنجي ويهودي روسيا الأحمر ويهودي المنطقة السامي ويهودي أمريكا المهجن، هم جميعا يعودون بالنسب إلى جدهم يعقوب إسرائيل.
فنحن كبشر لا نستطيع التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير عند بنات يهود، حتى تحمل البذرة الإسرائيلية خالصة، ولن نضرب هنا أمثلة ضربناها كثيرا في أعمالنا المنشورة عما يموج به الكتاب المقدس من صخب جنسي وصهيل شبقي لبنات صهيون على الشباب الفتي لأم غير إسرائيلية (انظر مثلا سفر إرميا، 30: 50، 13؛ وحزقيال، 16 ... إلخ)؛ ولهذا السبب تحديدا وضعت دولة إسرائيل قانونا لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا إلا إذا كانت أمة يهودية.
لكن المشكلة أننا إذا طبقنا هذا المبدأ على مؤسس دولة إسرائيل الملك داود، ثم على أشهر ملوكهم الملك سليمان، فسنجد الأول حفيد راعوث، ولم تكن لا إسرائيلية جنسا ولا يهودية دينا إنما كانت موآبية أما سليمان فقد رزق به أبوه من امرأة حيثية لا يهودية ولا إسرائيلية. وطبقا للقانون وإعمالا لبنوده فإن كليهما لم يكن يهوديا ولا إسرائيليا، وتكون المؤسسة الكبرى من البدء دولة فلسطينية تم سلبها لصالح يهوذا.
يبدو هكذا أنه لم تصبح لدى السيد نتانياهو أية وثيقة تعطيه حقوقا في الأرض، حتى أساطيره لا تسعفه، وبالطبع لن نقبل منه الوثيقة التأسيسية فلدينا منها الأقوى والأكبر والأكثر عددا ونفيرا. (5) الإسلام والقضية الإسرائيلية «اتبعوني أجعلكم أنسابا، والذي نفس محمد بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.»
كان ذلك نداء النبي
Bilinmeyen sayfa