أما الاستفسار الأهم، فهو إذا كان الإسرائيليون مع أول ملوكهم «شاول» قد امتلكوا تلك القوة الحربية العظمى بألوف العربات ومئات الألوف من الجنود المدربين، بحيث تمكنوا بها من استئصال شأفة الهكسوس العرب وتحرير مصر والقضاء على الإمبراطورية العظمى، فإن ذلك يعني وجود نظام إسرائيلي مركزي متماسك وقوي، بينما المطالع للكتاب المقدس لن يجد لأي من الفرضين أي تحقيق بالمرة، انظر معي قارئي الكتاب المقدس حيث يوزع أسباط إسرائيل وقبائلها بأسمائهم على خريطة المدن الفلسطينية حيث كان لها سكانها الأصليون. «وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم «فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم»، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى اليوم» (يشوع، 15: 63).
و«كذلك سبط إفرايم لم يستطيعوا أن يطردوا الكنعانيين» الساكنين في جازر، «فسكن الكنعانيون وسط إفرايم إلى اليوم» (يشوع، 16: 10).
وكذلك أبناء منسي أخي إفرايم ««ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن» فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض» (يشوع، 17: 12).
كذلك سبط أشير لم يستطع الاستيلاء لا على «صيدون العظيمة»، ولا على «المدينة المحصنة صورة» (يشوع، 19: 28-29). «وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل «ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات من حديد»» (قضاة، 1: 19).
كذلك «زبولون لم يطرد سكان قطرون ولا سكان نهلون فسكن الكنعانيون في وسطه» (قضاة، 1: 33). ««وحصر الأموريون بني دآن في الجبل» ... فعزم الأموريون على السكن في جبل حارس في إيلون وفي شعلبيم» (قضاة، 1: 35).
والأمثلة غير ذلك كثيرة يمكن للقارئ الرجوع إليها بالكتاب المقدس. وتشير بوضوح إلى أمرين هامين: الأول أن الإسرائيليين الخارجين من مصر ظلوا على انقسامهم قبائل وبطونا وأفخاذا، والثاني هو أنهم رغم البشاعة التي استخدموها في حروبهم ضد سكان الأرض، فإن هؤلاء ظلوا في أماكنهم ولم يتمكن بنو إسرائيل رغم المجازر الهائلة التي ارتكبوها - وسنأتي على ذكرها - أن يزحزحوا هؤلاء من بلادهم، فسكن الإسرائيليون بينهم.
أما الفرض الثاني، وهو قيام كيان متماسك، فمن الواضح أنه لم يتحقق طوال الزمن الممتد من الخروج إلى زمن «شاول»، وفي رواية المقدس التوراتي تفاصيل تؤكد أن بني إسرائيل لم ينعموا بالاستقرار طول ذلك الزمن الذي امتد حوالي أربعة قرون كاملة، وإليك نماذج من تلك الروايات التي وردت في سفر القضاة: «فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا إلههم وعبدوا البعليم والسواري، فحمي غضب الرب على إسرائيل فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين، فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين» (3: 7-8)، وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب ... فشدد الرب عجلون ملك موآب ... وضرب إسرائيل، فعبد بنو إسرائيل عجلون ملك موآب ثماني عشرة سنة (3: 12-14)، وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب ... فباعهم بيد يابين ملك كنعان ... فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب لأنه كان له تسعمائة مركبة من حديد، وهو ضايق بني إسرائيل بشدة عشرين سنة (4: 1-3)، وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين ... بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال ... وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون العمالقة وبنو المشرق ... ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخربوها، فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين، وصرخ بنو إسرائيل للرب (6: 1-6)، وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين، وتركوا الرب ولم يعبدوه، فحمي غضب الرب جدا على إسرائيل وباعهم بيد بني الفلسطينيين ويد بني عمون فحطموا ورضضوا إسرائيل ... ثماني عشرة سنة ... فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب قائلين أخطأنا إليك (10: 6-10)، ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم إلى يد الفلسطينيين وانكسر إسرائيل وهربوا كل واحد إلى خيمته، وكانت الضربة عظيمة جدا، وسقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل، وأخذ تابوت الله» (صموئيل أول، 4: 10-11) وبعدها اجتمع الأسباط وطلبوا من الكاهن القاضي «صموئيل» أن يجعل لهم ملكا فاختار «شاول»، الذي نجح في استرداد التابوت من الفلسطينيين، في غزو ما أسماه الكتاب المقدس مدينة عماليق، والتي افترض «فليكوفسكي» أنها كانت حواريس عاصمة إمبراطورية الهكسوس العربية، تلك الإمبراطورية التي كانت تحكم على منطقة حوض المتوسط الشرقي، بينما كان داخلها كل تلك الممالك وتلك الحروب، والتي لم يأت لها «فليكوفسكي» على ذكر. إن معنى وجود ممالك متعددة في المنطقة، وحروب إقليمية متتالية، بينها حروب شعب مثل بقية تلك الشعوب بالمنطقة والمعروف باسم العمالقة، يهدم الفرض الأساسي في كتابه حول تلك المملكة العظمى المسيطرة خلال عصر القضاة المليء بالأحداث.
ومسألة أخرى ما زالت تطلب المناقشة، وتتأسس على مدى مصداقية الصفات البربرية التي نسبها «فليكوفسكي» للهكسوس العرب حسب فروضه، وفي هذه الحال لن يكون أمامنا مقياس للفضائل ومعيار للنبل سوى الشعب المقابل؛ الشعب التقي الورع الذي فدى الإنسانية جمعا، وقضى على شر الهكسوس، وظلمته الإنسانية جمعاء؛ شعب إسرائيل، ولا شك أنه لا توجد شهادة للإسرائيليين أفضل من كتابهم المقدس.
تقول شريعة الكتاب المقدس العطرة والسمحاء لشعبها أثناء رحلة التيه، قبل دخول فلسطين: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار (عدد، 31: 10)، اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة (عدد، 31: 17)، أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار (تثنية، 12: 31)، فضربا تضرب سكان المدينة بحد السيف وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها ... وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك (تثنية، 13: 15-16) وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما» (تثنية، 10: 10-16).
ولن تجد سفرا واحدا يخلو من صورة «يهوه» وهو ينفث أوامره المتكررة بالحرق والذبح وتقطيع الأوصال، رجال أو نساء أو حتى الأطفال بل والبهائم أيضا، وعندما كانت تحدث أي مخالفة لتلك الأوامر، حين يطمع الإسرائيليون في الإبقاء على بعض النساء كسبايا، أو على المتاع والبهائم كغنائم، فإن الرب كان يصب نقمته على الإسرائيليين أنفسهم. والأمثلة كثيرة بالكتاب نستشهد منها بمثال واحد فقط اختصارا للأمر، «وكلم الرب موسى قائلا: أنتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ... فكلم موسى الشعب قائلا: جردوا منكم رجالا للجند فيكونون على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان، ألفا واحدا من كل سبط من جميع أسباط إسرائيل ترسلون الحرب ... فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر ... وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار ... فخرج موسى ... لاستقبالهم ... فسخط موسى ... وقال لهم موسى: «هل أبقيتم كل أنثى حية ... فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (عدد، 31: 1-17). فلماذا تجاوز «فليكوفسكي» عن هذه المدونات التي لا شك كانت مصداق كل كلمة استشهد بها من قبل «واعتبرها تقول ما تعنيه فعلا؟» بينما حمل على الهكسوس تلك الحملة القاسية بعد أن احتسبهم عربا من العمالقة، بينما في مصر ذاتها لا توجد شهادة قديمة واحدة على قسوة الهكسوس بشكل يقترب من تلك البشاعة في شرائع الحرب التوراتية؟ اللهم إلا في نص «حتشبسوت»، وما جاء في حديث «مانيتون» في القرن الثالث قبل الميلاد.
Bilinmeyen sayfa