İslam ve Arap Medeniyeti

Muhammed Kurd Ali d. 1372 AH
172

İslam ve Arap Medeniyeti

الإسلام والحضارة العربية

Türler

وأبقى الصليبيون في الشام، أي في الساحل والأرض المقدسة منه، بعض الحصون والكنائس من الآثار، ولما ضربوا الضربة الأخيرة بيد الملك خليل (690ه) سكن بعض الإفرنج في جبل لبنان، وآب قسم آخر إلى بلاده على مراكبهم، وعادت الحروب الصليبية على الغرب بخيرات لا تستقصى، ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصب الكنسي لكفى؛ وذلك لما رأى الصليبيون من تسامح المسلمين، وتساهل مشاهير أمرائهم كنور الدين وصلاح الدين، فانتشرت التجارة بعد الحروب الصليبية، أكثر من انتشارها أيام المملكة الرومانية، وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة والمدنية، وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس. قال سنيويوس بعد إيراد هذا: بدأت الصلات بين الغربيين والشرق بحرب بين المؤمنين، وانتهت بمسائل قامت بين المتجرين، وتحضر الغربيون باحتكاكهم بالشرقيين، وأثر هذا الاختلاط في أفكار النصارى الدينية، فتحمسوا أولا للنزال والطعان، ولما شاهدوا المسلمين عن أمم، ورأوا فيهم رجالا أشداء منورين كرماء أمثال صلاح الدين - الذي أخلى سبيل أسرى النصارى بدون فدية، وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه من مرضه - بدءوا باحترام المسلمين.

رأي لبون في مضار الحروب الصليبية ومنافعها

وأفاض لبون في نتائج العراك الذي حدث بين الغرب والشرق في الحروب الصليبية، فقال: إنها كانت عقيمة من حيث غايتها الأولى، وهي الاستيلاء على فلسطين، فإن الصليبيين على ما أهرقوا من الدماء، وبذلوا من الأموال، رجعوا بعد قرنين، بخفي حنين. أما من حيث النتائج غير المباشرة في هذه الحروب، فيمكن أن يقال: إن منافعها عظيمة؛ وذلك أنه كان الاختلاط بالشرق مائتي سنة من العوامل القوية في انتشار المدنية في أوروبا، وحدث أن الغاية من الحروب الصليبية جاءت على غير ما أريد منها، ولهذا التناقض بين الغاية المتوخاة، والغاية التي وصلوا إليها ما يماثله في التاريخ؛ وليتمثل لذهنه من شاء أن يقدر التأثير المشترك من احتكاك الشرق بالغرب حالة تمدن كل الشعوب التي اختلطت بالأمم الأخرى، ونحن نعرف أن الشرق بفضل العرب كان ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة، على حين كان الغرب غارقا في التوحش، وقد استدللنا من مجموع أعمال الصليبيين أنهم كانوا في كل مكان متوحشين حقيقة ينهبون ويذبحون، لا فرق عندهم بين عدوهم وصديقهم؛ خربوا القسطنطينية أثمن كنوز العاديات اليونانية واللاتينية، ولم يربح الشرق باحتكاكه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين، بل خسر ونتجت له كراهة الغربيين كراهية دامت قرونا، وهذا من النتائج المضرة.

أساء الشرقيون الظن بالشعوب النصرانية في أوروبا، وتظننوا الظنون بدينهم، لما رأوا من جهل الصليبيين وخشونتهم وقسوتهم الحمقاء، وقلة دينهم، فانفرجت مسافة الخلف بين الشرق والغرب، بحيث يتعذر تلافي ما فرط، وكان من ذلك زيادة نفوذ الباباوات وفساد رجال الكهنوت، فأنتج ذلك الدعوة إلى الإصلاح الديني، وما أعقب ذلك من المجالدات الدامية، ومن أشأم نتائج تلك الحروب، أن تأصل التعصب وعدم التسامح في العالم عدة قرون، وبدأ الدين في مظهر من القسوة والوحشية، لم يكن لنحلة عهد بها ما خلا اليهودية، وبلغ التعصب بعد تلك الحروب درجة الجنون، وما زالت آثاره متجلية إلى اليوم؛ فقد اعتاد رجال الدين أن يهرقوا الدماء، فأنشأوا يطبقون على قومهم طرق الإبادة التي طبقوها على أعدائهم من قبل، بدعوى نشر الإيمان وإبادة الإلحاد، وكل من بدرت منه بادرة خفيفة من الخلاف، كان حريا أن يلقى أشد العذاب، وما مذابح اليهود والإلبيجاويين وطبقات كثيرة من الملحدين، وما ديوان التحقيق الديني والحروب الدينية، وجميع المعارك الوحشية التي سالت فيها الدماء في أوروبا زمنا طويلا، إلا نتائج مشئومة نشأت عن التعصب الذي أوقد الصليبيون ناره. ا.ه.

وفي الحقيقة إن الصليبيين كان يشعر ظاهرهم بأنهم يقصدون خدمة دينهم بالاستيلاء على القبر المقدس، مهوى أفئدة الأمم النصرانية، ولكن الواقع أنهم كانوا منحلين من جوهر الدين، وأقرب إلى نزع شعاره متى رأوا مغنما لهم، أو فاحشة يأتونها، أو حيلة يحتالونها، أو جناية يجنونها، ولا يدركون عواقبها عليهم وعلى قومهم وأممهم؛ فقد ذكر العماد الكاتب

14

كيف أرسل الصليبيون في الغرب إلى إخوانهم الصليبيين في فلسطين بضع مئات من النساء يبذلن أنفسهن للمتحاربين من إخوانهم، مما تأباه الشرائع السماوية كل الإباء، وهذا معنى قول لبون: إن الصليبيين كانوا متوحشين جهلة قليلا دينهم ويقينهم، خلافا لمن يحاول أن يلبسهم ثوبا براقا شفافا من المدنية، وما دثارهم إلا الجهل والحماقة، وما شعارهم إلا التعصب والاستهتار.

سياسة صلاح الدين واستفادة الصليبيين

قبل الحروب الصليبية كان لا يعرف الشرق من الغربيين غير أفراد أذكياء رحلوا في التجارة، أو جاءوا فلسطين للزيارة، أو نزلوا الأندلس وصقلية في طلب علم لا يعرفونه، أما في هذه الحروب فقد عرفوا الشرق الإسلامي ، وكان الواغلون عليه من مختلف الطبقات، فرأوا المسلمين في عقر دارهم، وحققوا أنهم ممتازون بصفات حربية وأدبية وعلمية واجتماعية، رأوا أمة تحررت من قيود الدينيين بعض التحرر، وأنها أمة من طراز غير ما يعرفونه من أجيال الناس، نقول: تحررت من قيود الدينيين؛ لأنا رأينا صلاح الدين لم يرض أن يشرك رأيه مع رأي الفقهاء في هذه النازلة، فكان اعتماده على رأيه ورأي قواده وأهل الحنكة من رجاله، لعلمه بأن نظر رجال الدين يختلف في مثل هذه الأحوال عن نظر رجال السياسة، ولو عمل يوم فتح القدس برأي الفقهاء وعامل الصليبيين بالقسوة التي عاملوا بها المسلمين غداة فتحهم تلك المدينة؛ لأقام في كل دار في الغرب مأتما، ولما انحلت العقدة المهمة من الحروب الصليبية، فكان نظره أرقى من نظر من أشاروا عليه بقتلهم عن بكرة أبيهم، ومعاملتهم بمثل ما عملوه.

أما الصليبيون فكانوا تحت سلطان رجال الدين مباشرة؛ إذا أحب رجال السياسة المسامحة مع المسلمين دعوهم إلى المشاكسة، وإذا رأوا من الحكمة الوفاء بالعقود والعهود، أباحوا لهم التفلت من كل الأيمانات والقيود، أراد ملك إنجلترا أن يزوج أخته من الملك العادل أخي صلاح الدين، وأن تكون لهما البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية؛ فللإفرنجية من جانب أخيها، وللمسلم من جانب السلطان، فأنكر رجال الدين على ملك الإنجليز وضع أخته تحت مسلم بدون مشاورة البابا، وبالطبع لم يشر هذا إلا بأن يدين الملك العادل بالنصرانية، فلم يتم شيء من هذا التدبير. ورأى بعضهم

Bilinmeyen sayfa