Müslümanların Putperestliğe Dönüşü: Islah Öncesi Teşhis
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
Türler
توطئة تشخيصية
الجزء الأول: الدولة الإسلامية ومتابعات جديدة
1 - هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين
2 - الإخوان الوهابية
3 - الدولة الوهم
4 - حنانيك قارئي
5 - الإسلام والحضارة
6 - دولة الرب
7 - حوار مفتوح، مع أبي الفتوح
8 - مستقبل الدولة الدينية: هل في الإسلام دولة ونظام حكم؟
Bilinmeyen sayfa
9 - رئاسة النبي والراشدين في ميزان الدولة
الجزء الثاني: نحو تأسيس ثقافي للقيم
قبل أن تقرأ الموضوع
1 - تبسيط مفهوم القيم
2 - قاصمة الظهر
3 - من القيم الذاتية إلى القيم الإنسانية
4 - هل غير المسلم ذو خلق بالضرورة
5 - قمة السقيفة كنموذج ثان
6 - إنهم يغشون القيم
الجزء الثالث: جدل ثقافي
Bilinmeyen sayfa
1 - حوار لم يكتمل مع المرحوم عبد الوهاب المسيري
2 - فلما اشتد ساعده رماني!
3 - درس في البحث العلمي وأخلاقياته
4 - ها هم يقفون عرايا!
5 - حكاية الخمر في عرس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة رضي الله عنها
6 - علي جمعة وفتواه التكفيرية
7 - أوباما
8 - أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب
توطئة تشخيصية
الجزء الأول: الدولة الإسلامية ومتابعات جديدة
Bilinmeyen sayfa
1 - هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين
2 - الإخوان الوهابية
3 - الدولة الوهم
4 - حنانيك قارئي
5 - الإسلام والحضارة
6 - دولة الرب
7 - حوار مفتوح، مع أبي الفتوح
8 - مستقبل الدولة الدينية: هل في الإسلام دولة ونظام حكم؟
9 - رئاسة النبي والراشدين في ميزان الدولة
الجزء الثاني: نحو تأسيس ثقافي للقيم
Bilinmeyen sayfa
قبل أن تقرأ الموضوع
1 - تبسيط مفهوم القيم
2 - قاصمة الظهر
3 - من القيم الذاتية إلى القيم الإنسانية
4 - هل غير المسلم ذو خلق بالضرورة
5 - قمة السقيفة كنموذج ثان
6 - إنهم يغشون القيم
الجزء الثالث: جدل ثقافي
1 - حوار لم يكتمل مع المرحوم عبد الوهاب المسيري
2 - فلما اشتد ساعده رماني!
Bilinmeyen sayfa
3 - درس في البحث العلمي وأخلاقياته
4 - ها هم يقفون عرايا!
5 - حكاية الخمر في عرس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة رضي الله عنها
6 - علي جمعة وفتواه التكفيرية
7 - أوباما
8 - أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية
التشخيص قبل الإصلاح
تأليف
Bilinmeyen sayfa
سيد القمني
توطئة تشخيصية
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية!
معظم دول الإسلام، أو رجل العالم المريض، تأتي في مرتبة أكثر البلدان تخلفا على كل المستويات، وما زاد الأمر نكاية هو الصحوة الإرهابية التي جعلت من المسلمين أصحاب الحظ الأوفر في العمليات الإجرامية الأشد بشاعة في العالم؛ مما استجلب على المسلمين عداء العالم كله، في وقت يشكلون فيه أشد الشعوب تخلفا وضعفا وما أكثر عددهم وما أكثر هزائمهم، وهو ما استتبع ليس العداء فقط، بل الاحتقار والحصار ومعاملة المسلمين معاملة ترويضية، كمن يروض حيوانات مفترسة لم يرتق إدراكها بعد، ولا تملك حسا أو ضميرا إنسانيا، فيطعمه ويسقيه بالمعونات لكن يحدد له دورا لا يتجاوزه، ويقسو عليه أحيانا أخرى فيحاصره ليتم تحجيمه باستمرار، ويحافظ على بعضهم من الانقراض كحفرية حية، ويترك بعضهم في مناطق أخرى يأكلون بعضهم في فوضى خلاقة حتى تصفو النيران عن رماد خامد غير ضار.
وبسبيل العثور على ثقب في هذا الواقع الآسن نحو تغيير وإصلاح يؤدي إلى خلاص وانعتاق منطقتنا مما هي فيه، انقسم المفكرون في بلاد المسلمين على أطيافهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلى فريقين رئيسيين: فريق أرجع الأزمة إلى عدم التزام خير أمة أخرجت للناس بدينها حسب الأصول، وهو ما يجعلها تطلب النصرة السماوية فلا تستجيب السماء لها، بل تنزل بها النوازل والإهانات والكوارث يقفو بعضها بعضا، في عملية تأديب ربانية للأمة كلها؛ وذلك لأنها فرطت في فروض وحدود دينها وتأثرت بما عند الشعوب الأجنبية من أساليب عيش هي على النقيض مما جاء في إسلامنا؛ لذلك حقت علينا النقمة الإلهية، ولا حل إلا بالعودة الكاملة الخالصة إلى هذا الدين والالتزام الدقيق بأوامره ونواهيه وفروضه وحدوده الشرعية وأخلاقه السامية، والتسنن الكامل بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسنن الراشدين الهداة المهديين. وعندما يتيقن ربنا من استئهالنا للرحمة حسب معاييره، وقدر رضاه عما حققنا من حسن عبادة وإخلاص، فإنه سيتدخل بنفسه لإنقاذ أمته التي اصطفاها لقيادة العالمين، وهذا الفريق هو الأكثر انتشارا بين جماهير المسلمين.
ويغلب على هذا الفريق روح التنظيم لتعودهم الطاعة المطلقة، فيشكلون جماعات شديدة التنظيم والانضباط والاستجابة الحركية السريعة، تبدو بينها على السطح خلافات في الدرجة لكنها غير نوعية؛ فهي تتوافق جميعا على الأهداف وإن اختلفت الأساليب، ويزعم هذا الفريق أننا قد جربنا العلمانية (يقصدون الدكتاتوريات العسكرية) والنظام الجمهوري والنظام الملكي والاشتراكية والرأسمالية، وسقطت جميعا وسقطنا معها في المزيد من التخلف والانهيار، ولم تجلب تلك التجارب سوى الهزائم المتتالية دون خلاص واضح في المستقبل المنظور، ولا يبقى سوى استيلاء أنصار هذا التيار على الحكم ليحكموا المجتمع حكما إسلاميا، أو الأحرى أن يفرضوا سلطانهم من خلف ستار لحكام مدنيين أو عسكريين شكليين، بحيث يكونون هم المرجعية في اتخاذ أي قرار أو إصدار أي قانون، وأن يكونوا هم الهيئة المحاسبية الأولى الرقابية، دون أن يحكموا بشكل ثيوقراطي مباشر، وبموجب هذا الشكل من الحكم تتم الأسلمة الكاملة للمجتمع والدولة، وعندئذ سوف يتدخل رب السماء لينصر أمته ويعيد إليها أمجاد الفتوحات، كما نصر السلف وهم أراذل أذلة.
أما الفريق الآخر (العلماني) فقد ذهب مذهبا هو على النقيض بالمرة من الفريق الأول، وهو الأقل انتشارا بين الجماهير لكنه الأكثر قدرة على الوصول إلى حلول علمية، والأكثر منطقا، والأقوى حجة، ويستند إلى الواقع الملموس في نجاح العلمانية أينما طبقت؛ لذلك تتم محاربة هذا التيار وطعنه لدى المسلمين بكونه يناهض الدين ويناوئه، حتى لا يصل إلى الناس أصحاب المصلحة فيه، ويعاني هذا الفريق، إضافة إلى التحريض ضده وتبخيسه وتكفيره وتخوينه، خللا شديدا أصيلا في بنيته؛ لأن العلمانية أو الليبرالية هي حرية فردانية بطبيعتها وبما تتضمنه من مفاهيم، فيكون الفرد عصيا على الانضباط والتنظيم الحركي، ولا يخضع العلماني إلا لقوانين العقل والعلم والأصول الحقوقية والدستورية للمجتمع المدني، التي يطيعها عن اقتناع وإيمان بحفظها لسلامته وسلامة المجتمع؛ لذلك فالليبرالية لا تقوم في مجتمع إلا عندما تنتشر بقوتها الذاتية، وقدرتها على الإقناع وما تملكه من وسائل وأدوات للأمن الاجتماعي، وما تحظى به من أدوات علمية تقدم بها نفسها مدعومة بالبرهان والدليل مع نضج الأوضاع الاجتماعية لقيام طبقة صاحبة مصلحة فيها تؤسس لها وتحميها؛ وهو الدور الذي أنجزته في أوروبا الطبقة البورجوازية بعد الثورة الصناعية.
والفريق العلماني بالطبع لا يرجع الأزمة إلى تأثر المسلمين بثقافات غير إسلامية، بل يرى أنهم أبعد ما يكونون عن هذه الثقافات بعدا سحيقا، ولا يرى أن مصائبنا تبدأ مع الاستعمار الحديث وسقوط الخلافة؛ لأن الخلافة كانت قد مرضت وشاخت وكانت تنتظر من يعلن وفاتها فقط، بل إنها كانت هي مصيبة هذه المنطقة من العالم، وإن الاستعمار لم يكن سبب ضعفنا، باحتلاله بلادنا؛ لأنها كانت ضعيفة أصلا؛ مما سمح للآخرين بالتعدي عليها، فضعفنا أصيل في بنيتنا الثقافية، وكان هو سبب الاستعمار وليس نتيجته؛ ومن ثم يعيد هذا الفريق أزمة المسلمين إلى تمسكهم بتراثهم الذي تجمد وتجمدوا معه، وهنا ينقسم هذا الفريق «العلماني» إلى موقفين (إضافة إلى الاشتراكيين): موقف يرى أن الخروج من الأزمة يتطلب التحرر التام والانعتاق الكامل من سلطة التراث الإسلامي أو أي دين آخر، الذي يعوقنا عن التقدم والتكيف مع العصر. وموقف آخر يرى أن المأثور الإسلامي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا يستحيل إجراء قطيعة تامة معه؛ لأنه هدف غير قابل للتحقيق بالمطلق؛ لذلك فالحل يكون بإعادة قراءة هذا المأثور الهائل وإعادة تصنيفه وتبويبه، وتجديد فهم النصوص بما يتلاءم مع مصالح البلاد والعباد وظروف العصر ومقتضياته. وصاحب هذا القلم يعتبر نفسه ضمن أصحاب هذا الموقف الثاني من التيار العلماني، ويرى وجوب أن يتم هذا التجديد أو القراءة الجديدة بما لا يصدم الإيمان الإسلامي، ودون الدخول في صراع طائفي مذهبي بين القراءات؛ أي تقديم قراءة تصالحية سلامية للمسلمين قادرة على مواكبة المستحدث في عالمنا الدءوب تغيرا وتبدلا، مع الطموح إلى أن تحوز هذه القراءة رضا المسلمين وأيضا رضا غير المسلمين، وهي مهمة على هذا النحو تبدو عسيرة بل ربما مستحيلة، لكننا سنحاول تجاوز هذه الاستحالة في هذه المجموعة من الدراسات مستعينين بحب جارف لهذا الوطن وللناس في هذا الوطن، وإيمان غير مشوب بقدرة الإسلام والمسلمين على تجاوز كبوتهم التاريخية؛ لأن أزمة المجتمعات الإسلامية تنهض على واقع مختل، تحزبت فيه المجتمعات الإسلامية لدينها وتراثها، بينما هذا التراث تحديدا ما عاد يتجدد أو يتبدل كما كان في حياة صاحب الدعوة عندما كان الوحي يستجيب للمتغيرات، فكان الله في حياة صاحب الدعوة يتفاعل بوحيه جدلا أخذا وعطاء مع حركة الواقع المتغير، فكان ينسي آيات ويبدل أخرى ويرفع وينسخ ويمحو ويثبت: آيات غير آيات، وحديث غير سابقه، وفعل نقيض سالفه، ويتطور مراعيا وقائع الأرض وظروفها المادية البحتة. وبوفاة صاحب الدعوة وتوقف علاقة السماء بالأرض، تجمد المسلمون عند آخر نص في تطور الأحكام ليعتبروه حكما نهائيا صالحا لكل زمان ومكان، بينما هو في حقيقة الأمر ودون أي تجن خارج المكان والزمان، والرؤية الوحيدة القادرة على جعله صالحا لكل زمان ومكان، تنبع من داخل الإسلام ومن ميكانيزمات تكون الوحي خلال 23 سنة؛ فالدرس والأغراض النهائية فيه، هو إثبات مبدأ التغير والتطور مع كل جديد، وليس الوقوف عند آخر تطور حدث في حياة صاحب الدعوة، لأن التطور والتغير هما قانون الكون الأوحد الثابت.
Bilinmeyen sayfa
والخطورة اليوم ليست على دين الإسلام؛ فالدين؛ أي دين، لا يموت ولا يندثر؛ ولأنه فكرة، لأنه ثقافة؛ فما زالت الجميلة بين الآلهة الرافدية «عشتروت» تحاط بالرعاية والتكريم في كل ثقافات العالم وفي كل متاحف الدنيا، يحيط بها عشاق من كبار العقول الأركيولوجية وفلاسفة التاريخ والأديان، ومثلها «إيزيس» المصرية، و«أدونيس» الفينيقي، و«البعل» الشامي. وقصة الخلق المصرية، والبابلية، وملحمة جلجامش، وحكايات ملقارت، وملحمة الطوفان البابلي، كلها محل احترام فلم تفن وما زالت من التاريخ، بل وجدت عشاقا من لون آخر ونوع آخر، ومن انتهى من التاريخ هم البشر من أتباعها وعبادها. ليست الخطورة إذن على دين المسلمين؛ فالدين له صاحب كفيل به، بل الخطورة الحقيقية هي على المسلمين من الزوال الوجودي من عالم البشرية بالاندثار التام، بعد أن غابوا عن هذا الوجود كفكرة وفعل وعطاء، وغرقوا في مستنقعات الجهل والخرافة والتخلف والجمود والاستبداد والانحطاط الخلقي والإنساني، رغم أن المسلمين يشكلون حوالي خمس البشرية على الأرض. هنا الذعر الحقيقي أن تطول الأزمة بالمسلمين فيغيبوا وجودا كما غابوا حضورا ثقافيا، وهم - حسب ما نعتقد كمسلمين - المكلفون بالشهادة على الناس، بحسبانهم أمة وسطا حسبما أخبر القرآن الكريم، بينما هم ما عادوا لا أمة وسطا ولا طرفا، ولا هم أمة أصلا بحالهم هذا، ولو قلنا تجاوزا إنهم أمة، فهم أمة مريضة تصدر أمراضها كراهية وإرهابا للعالمين.
وينعى المسلمون على الغرب الكافر تحلله الأخلاقي وعريه وحرياته اللامحدودة، ويعتقدون أن الأخلاق قاصرة على الإسلام والمسلمين، وأنها الشيء الوحيد تقريبا الذي تملكه؛ لذلك تعتز به وتنافح عنه وتباهي به الدنيا، رغم أن الصحوة الإسلامية أثبتت عدم امتلاكها حتى هذا الجزء المعنوي الذي تتباهى به، فأسقطت جميع القيم الأخلاقية دفعة واحدة، فصار الكذب مباحا بعقيدة «التقية»، وأموال البنوك مستباحة لأنها ربوية، وأموال غير المسلمين غنيمة مستباحة لأنهم محاربون شاءوا أم أبوا وسواء أكان ذلك موافقا فعلا لشرع الله من عدمه، هذا ناهيك عن فقه كامل يكرس الاغتصاب بملك اليمين يتم تدريسه حتى اليوم في الفقه على المذاهب الأربعة في مدارسنا الدينية من الأزهر إلى طالبان. ناهيك عن استمرار الشيعة في العمل بنكاح المتعة، إضافة إلى مسيار القرضاوي، وزواج الفرند عند الشيخ الزنداني، والعرفي، ومفاخذة الرضيعة كما أفتى خميني ... إلخ، ولا تفهم معنى الزنا هنا بالمرة، ولا أين هي الأخلاق التي يفاخر المسلمون بها العالمين والتي تقف جميعا عند أخلاق الجنس وحدها، وهي الأخلاق المفقودة حتى في هذا العنصر الخلقي الوحيد الذي نتباهى به حجابا ونقابا دليلا على عفتنا الجنسية التي هي كل الأخلاق بنظرنا.
المشكلة التي ستواجه الجديد هنا هي اعتقاد المسلم بعصمته، والكمال التام للتراث الإسلامي بكليته؛ رغم أن التراث الإسلامي بوضعه الحالي قد اختلط فيه الإلهي بوجهة النظر الفقهية بالمذهب بالتأويل المناسب لعصر دون عصر، بتقنين تشريعات على المذاهب المختلفة على ما بينها من اختلافات شديدة التباين والتناقض على أبسط الشئون، التي لا تحتمل رأيين أو تفسيرين، كما في حال الحدود التي تفعل العقوبات البدنية مثلا، فقطع يد إنسان ليس شأنا بسيطا حتى تختلف المذاهب السنية الأربعة حول مستوى القطع: هل هو من الأصابع أم من الكف أم من الكوع أم نخلعها من الكتف خلعا؟ وهي آراء المذاهب الأربعة في مستوى القطع! ناهيك عن القصور الشديد في هذه الشريعة عن مواكبة الزمن، وهذا قول لا يشين الشريعة ولا يقلل من قيمتها فقط، دون إغراق في المثالية التي أعتبرها في كثير منها كانت صالحة لزمنها وحده، ومما لا يتوافق مع زماننا كمثال واحد، كانت الشريعة تعاقب بالقطع على السرقة إذا كان المسروق في حرز أي في مكان مغلق، لكنها لا تعاقب بالقطع على سرقة السائبة؛ فهي ليست سرقة تستحق القطع، كالسوائم الهائمة في الطرقات أو في البراري، وبتطبيقه اليوم ستكون سرقة السيارة غير مستوجبة للقطع لأنها سائبة، بينما ستكون سرقة الكاسيت الموجود داخلها هي العقوبة التي تستحق القطع؛ لأنها في حرز حسب شريعتنا. المهم أن ذلك إنما يعني استحالة تطبيق العقوبات البدنية بشكل نضمن فيه العدل التام وعدم ارتكاب الإثم في الحكم؛ وهو ما يعني أيضا أن الشريعة كما هي عليه الآن هي وضعية كأي قانون وضعي، من وضع فقهاء لم يكن يأتيهم جبريل بالوحي.
ومن بين هذه الشرائع التي وقفت عند زمانها لا تريم حراكا، ويتم فرضها على واقعنا التشريعي والقانوني فيما يعرف بقوانين الأحوال الشخصية، والتي هي الأشد مساسا بمعاش الناس اليومي، قوانين الزواج والطلاق التي لا تكترث لجريمة الخيانة إلا مع الأنثى المحرم عليها ما هو حلال للذكر؛ فله الزواج بأربع، وله وطء ما لا عدد له ممن ملكت يمينه دون أن يعتبر ذلك زنا في حق الحياة الزوجية يستحق العقوبة وأقلها فسخ العقد برغبة الزوجة المتضررة، وهو ما لم يحدث إلا بعد إقرار قانون الخلع في مصر، الذي يعيد للزوج كل مليم دفعه بعد الأكل والمرعى والمتعة، حتى تستطيع الزوجة أن تنال عتقها. هذا بينما شرائع البشرية كلها تعتبر إقامة أي علاقة خارج الزواج المفرد على أي لون كانت هي خيانة زوجية. ويحق للزوج طلاق زوجته دون إبداء أي أسباب. والشريعة على تنوعها الفقهي لا تعطي للزوجة أي حقوق بمجرد تطليقها اللهم إلا شروطا سبق اشتراطها أو مؤخر صداق وافقا عليه. ولسد هذا النقص الشديد اخترع الفقهاء، كل حسبما ربنا قدره عليه، إلزام الزوج بنفقة لزوجته مؤقتة، لم يحدد مدتها ومتى تتوقف (مثلا عند زواج المرأة مرة أخرى لوجود من يعولها)، وهي في الغالب لا تزيد عن مكافأة سنة، أو نفقة بعدد القروء الأربعة، إضافة إلى اجتهاد بسنة أخرى تكاليف على الزواج مقابل المتعة وتسمى نفقة متعة.
وهكذا انحرف المسلمون عن الميزة التأسيسية للإسلام التي تخصه بالفرادة بين الأديان، وهي الاعتقاد بمقدس واحد هو إله مطلق فوق الزمان والمكان؛ فاعتقدوا بعصمة رجال مثلنا يصل عددهم إلى الآلاف، فقدسوا الصحابة استنادا إلى حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.» وتعريف الصحابي: هو من رأي الرسول ولو ساعة؛ أي ولو لحظة، وبهذا يكون تعداد الصحابة المقدسين بالآلاف؛ وهكذا استبدل المسلمون جاهلية ما قبل الإسلام، بجاهلية أكثر نكاية وأشد ضررا، تفتك بعقل المسلمين فتكا، وعادوا وثنيين، وأشد ضراوة في وثنيتهم من الوثنيات التقليدية في تاريخ الأديان. بينما الإسلام نفسه كان واضحا غير ملتبس في قصر القدسية والعصمة على كيان واحد في الوجود هو: الذات الإلهية، ونعى الوثنيات والشركيات والراكنين إلى ما وجدوا عليه آباءهم الأولين، وخاطب مصطفاه بكل صفات العبد التام العبودية، وأنه مجرد حامل للرسالة ليس أكثر، فلا هو رب ولا هو ملك ولا هو معصوم عن بشريته؛ لأن المعصوم هو الكمال الإلهي وحده؛ ومع ذلك أعطاه المسلمون أعلى صفات الألوهية وهي العصمة والكمال؛ وهو يناقض تاريخ جدل الوحي مع الواقع وتدخله الدائب لإصلاح مسار أو قرارات أو مواقف أو تشريعات، أخطأ فيها النبي ببشريته وفطرته. فالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
في صحيح إسلامنا هو عبد من عباد الرحمن ونبي كريم، أدى رسالة ربه تامة كاملة صافية بيضاء نقية. وقد خشي النبي
صلى الله عليه وسلم
أي قدسية قد تلحقه شخصيا إذا ما حفظ المسلمون كلامه «حديثه» إلى جوار القرآن كلمة الله التامة؛ لذلك نهى وأكد النهي عن تدوين حديثه وأمر بوضوح: «لا تكتبوا عني سوى القرآن.» ورغم ذلك سمح المسلمون بالتدوين عن نبي نهاهم عن التدوين «وما نطق عن هوى»، بل واختلاق الأحاديث المكذوبة ونسبتها إليه، بل وحازت تلك الأحاديث قدسية في المذهب السني ترفعها فوق القرآن كرامة وفعلا وقدسية، فقالوا: إنها تنسخ آيات القرآن؛ كما في إصرارهم على وجوب الاستمرار بالعمل بحد رجم الزاني المحصن استنادا إلى الحديث وحده دون وجود نص في القرآن بهذا الحكم، وإن كان حد الرجم في الأصل نصا قرآنيا منسوخا فالذي نسخه وألغاه حتى اختفى من القرآن المدون، هو صاحب القرآن؛ رب العزة والجلالة، وليس فقيها من الفقهاء،
قاتلهم الله أنى يؤفكون .
Bilinmeyen sayfa
كل هذا الرتل مضاف إليه الزي المشيخي أصبح محل هيبة ورهبة وتقديس وعصمة وكمال مطلق، حتى ألحق المسلمون القدسية بمن لا قدسية لهم من بشر؛ كالصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، أو كالمحدثين مثل البخاري، أو الإخباريين كابن كثير، حتى وصل التقديس إلى مشايخ وعاظ كالشعراوي مثلا. فأصبحت تقام له المقامات وتعقد له الندوات وتصنع لتاريخه مسلسلات تعيد زمن المعجزات والألطاف الربانية، المفتراة على رب العزة.
ترى، هل أهان المسلمون ربهم، فأهانهم وخسف بهم وكسف عنهم فصاروا عبرة للأمم عندما تضل بها المسالك إلى المهالك؟ هذا هو أول الغيث القاسي وبداية التشخيص الموجع، في خريطة الطريق نحو الإصلاح.
لم يسبق أن مرت بلاد المسلمين بمثل هذه الفترة التي تغطيها الفوضى الكاملة، فمنذ الصحوة الإسلامية والحرب الأفغانية ضد السوفييت، حتى أحداث 2001م وما بعدها وحتى اليوم، حدثت تحولات انتكاسية عنيفة، فدخلت البلاد الإسلامية في طور من الاضطراب والتخلف زيادة على تخلفها الأزلي، وانتشار الأمراض الاجتماعية حتى وافت على غيبوبة ما قبل خروج الروح. مع هذا ورغم كل مظاهر الانحطاط التام فإن دعاة الفكرة القومية العنصرية، ودعاة الفكرة الإسلامية الطائفية، يؤكدون على هذا التوصيف لحالنا؛ فإنهم في الوقت نفسه وشعوبهم في حالة كبوة هائلة، يروجون أن ما يحدث في بلادنا هذه الأيام هو انتصارات لأمة الإسلام وللأمة العربية، وأن هناك نكسات بسيطة هي إلى زوال، وتتمثل تحديدا في دويلة الكيان الصهيوني المغروسة وسط الأمة لتمزيقها، وحليفتها الكبرى الخاضعة للوبي الصهيوني، الولايات المتحدة الأمريكية، وعدا ذلك كان من الممكن أن يكون المسلمون سادة الكوكب الأرضي، وأن أي مصائب تلحقنا فهي ليست من عند أنفسنا، إنما هي من عند الغرب الكافر اللئيم الشرير الذي يبيت ساهر الجفون يدبر لنا المكائد والمؤامرات، دون الملل والنحل كافة في المسكونة.
المصيبة أن هذين الفريقين (دعاة الفكرة القومية ودعاة الفكرة الإسلامية) هما من يشكلون اليوم المعارضة الواضحة في الشارع للأنظمة الحاكمة القائمة، وهما على اتفاق مع الأنظمة بشكل مدهش ومحير، على تحويل أنظار المسلمين عما يجري لهم نحو ما يجري في بيوت الآخرين في إسرائيل وأمريكا وبقية دول الغرب. وتمكن كلاهما عبر أجهزة تشكيل الرأي العام من صحف ومذياع وتلفاز ومدرسة ومسجد وكنيسة وحسينية من تحويل المجتمع إلى حالة هوس ديني لا نظير له ولا شبيه.
تراه يتظاهر بوحشية كاسرة ضد أمريكا وإسرائيل، وبأشد ضراوة ضد كنيسة وطنية في الحارة المجاورة لأنها تجرأت على ترميم دورة مياه فيها دون إذن المسلمين، ويعتدي بالسب والتبخيس على البهائيين، ولا يرى أبدا حاله ومرضه الداخلي بالمرة، فنبدو بلهاء بشدة عندما نتظاهر بغضب عارم ضد الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول
صلى الله عليه وسلم ، بينما المسجد المجاور والتلفاز والإذاعة تكفر المسيحيين علنا في «بلادنا» بلادهم وعلى أرضهم آناء الليل وأطراف النهار، فنبدو كالآباء الذين ينتقدون أولاد غيرهم المشاغبين طوال الوقت، لكننا سريعو الغضب ممن ينتقدون أولادنا المشاغبين، وهو ما يعطي الحكومات الاستبدادية مبررا لطلب النصرة من هذا الغرب الديمقراطي المفترض أنه ضد الاستبداد، ومبررها هو أن بديل تلك الحكومات التي تدعي الاعتدال وتمارس بعض ألعاب شبه ديمقراطية، بديلها هو هذا الشارع المتوحش المتعطش للدماء الكاره لإسرائيل وكل دول الغرب، بل وربما كل دول العالم غير المسلمة. حتى أصبح من بديهيات الواقع أن تجد الاستبداد واضحا وقائما، وأن تجد الحقوق الإنسانية في حالة غياب تام، حيثما تجد أغاني الهجاء لإسرائيل وأمريكا والغرب كثيرة الترداد وحشية النبرة، متكررة، عالية الصوت.
لقد أمكن للأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، بامتلاك وسائل التأثير في الناس، أن تقوم ببرمجة شعوبها بألوان من الأفلام والحوارات وبرامج الشو والدراما، التي تدلك غرائز العزة ومكامن القوة المفقودة، فتعاد وتكرر مسلسلات أبطال العرب المسلمين، وسيرتهم العطرة في غزو البلاد واحتلالها، تعظيما لمجد الماضي الإسلامي، وأنه بالإسلام وحده يمكن استعادة هذا الذي ضاع؛ لا وجود في رؤيتها للمواطن وحقوقه أو حتى للوطن؛ لأن تلك الأمجاد التاريخية كلها كانت على أشلاء وكرامة وإنسانية المواطن؛ لأن الهم الشاغل كان وما زال، هو الأمة الإسلامية وليس المواطن؛ فما أكثر المواطنين! وهم كالعدد في الليمون والحمد لله. يمكن أن يكونوا وقودا لمجد الأمة وسلاطينها ورجال دينها وصراعاتهم على الفريسة عند الحاجة. ولأن الاستبداد واحد سواء أكان دينيا أم قوميا، ثوريا عسكريا أم ملكيا أم جمهوريا، فقد توافق الفقيه والسلطان والمعارضة القومية والإسلامية كلهم معا على تقديس ذات الأمة التي هي قدس أقداس القبيلة المسلمة، دون مكونها الحقيقي «الإنسان المواطن الفرد».
وتعرض وسائل إعلامنا نماذج تكاد تجعل من شخوص التاريخ الإسلامي كيانات قدسية، لا تفعل إلا من أجل خير ودفعا لشر، بنبل ومروءة غير موجودة سوى في السيناريو المقدم للناس، بينما التاريخ الإسلامي نفسه في واقعه وفي مراجعه الأمهات يقول شيئا آخر مختلفا بالمرة.
فتاريخ المسلمين كله هو تاريخ فتن وصراع على الجاه والسلطان منذ فجر عصرنا الذهبي منذ الخلفاء الراشدين الهداة المهديين الذين ماتوا صرعى القتل رغم حرصهم على الشرع الذي لم يؤد إلى أمن المجتمع ولم يحفظ لرأس الحكم أمنه وحياته، فانتهت حياتهم قتلا، إلى الثورة على عثمان، ثم واقعة الجمل سنة 36ه، ثم صفين 37ه، ثم مذبحة آل البيت في 61ه، ثم غزو جيش يزيد سنة 63ه لمدينة رسول الله، فقتل من قتل وسبى من سبى وحبلت ألف عذراء من هتك العرض العلني، وهن بنات الصحابة وفي حضرة المسجد النبوي وجسد صاحبه الشريف في ثراه، ثم فتنة المختار الثقفي وابن الزبير في 73ه، ثم ضرب الحجاج بن يوسف الثقفي وجيشه مكة والكعبة بالمنجنيق، ومن يومها لم تتوقف الفتن والملاحم والمحن، حتى سقوط الخلافة العثمانية، ولو دققنا في التفاصيل لما كفتنا ألوف الصفحات التي لم تسجل سوى القتل صبرا والظلم قهرا تحت رايات كلها تعلن إسلامها التام والكامل ... إلخ وكفر غيرها.
ثم اشتبكت الأدوار في بلادنا بعد الصحوة العنترية بين المسجد والمدرسة والجامعة، ولم تعد مهمة المدرسة تعليم العلم الإنساني بل تعليم الإيمان، تتدارس فضيلة النقاب مقارنة بفضيلة الحجاب، وتتباحث في شئون الفرج والطهارة والطمث والمواريث. مع إسراف في تقديس ما لا يصح تقديسه، والدفاع عن الموروث الإسلامي بل احتسابه الكمال ذاته، والنظر إلى التاريخ الإسلامي بعين الرضا الكامل، بل تمني بلوغ ما بلغته الأمة خلال هذا التاريخ الذهبي، حتى يتقدس التاريخ الإسلامي ويصبح محل المثل الأعلى لكل التأريخ؛ مما يخرج كل ما له علاقة بالإسلام سيرة أو تاريخا أو فقها خارج أي محاولة درس نقدي حقيقي، فتخفى المعايب وتستفحل النقائص، بينما هذا التراث المعيوب قد أصبح المرجعية التأسيسية لمثقفي المسلمين، بل يكاد يكون وحده مطلق المرجعية لكل شيء وكل شأن. وفي مناخ كهذا يكون الاقتراب من هذا الماضي بأي رؤية نقدية تلتزم شروط المنهج العلمي هو اعتداء على ثوابت الأمة، بينما يتم النفخ في الذات المعنوية للأمة حتى يجعلوها المنجز الأول لأي حضارة على كوكب الأرض، وأن ما نراه من تحضر ورقي في البلدان الحرة هو منقول عنا، وما كان يتحقق لولانا، أو الأحرى لولا هؤلاء الأسلاف التراثيون. بينما يتم تقليص التاريخ الوطني ما قبل الغزو العربي الاستيطاني لهذه البلدان حتى يكاد يختفي من التاريخ، فتضيع جذور الوطن وتلتبس الهوية: هل نحن مصريون أم عرب أم مسلمون، هل نحن أمة مصرية أم عربية أم أمة إسلامية؟
Bilinmeyen sayfa
وهكذا تتم برمجة الشعوب الإسلامية بحيث يتجه عداؤهم نحو عدو متفق عليه هو الذي تسبب بفقدنا ماضينا الذهبي، فيكون الخطأ الكارثي في وجهتنا وفي اختيارنا للتوقيت؛ فالوجهة يجب أن تبدأ بتوجيه العيون والآذان والعقول كلها صوب الداخل أولا وليس الخارج، وقبل فلسطين والعراق والبوسنة والشيشان، بل قبل الكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ لأنه بحالنا هذا لن نضيف للكعبة وفلسطين والمسجد الأقصى سوى المزيد من النكبات والخسائر، بعكس أن نبدأ مشوارنا الاستراتيجي بخطوات تكتيكية تبدأ بنقد الذات وتقويتها حتى يمكنها أن تتخذ في المستقبل ما يناسب واقع الزمن من قرارات صوابية. وسواء أكانت همومنا القومية والإسلامية التي تشغلنا اليوم، موجودة في حسابات الزمن الآتي أم لم تكن.
ومع الغضب العارم والشعور بالقهر والدونية، يرفض المسلمون أن يشكوا في ذاتهم بالمرة، ولا أن يراجعوا مناهجهم وطرائقهم في التفكير وفي أسلوب الحياة، ويلقون بشكوكهم على الواقع الموجود الذي يخرق العيون ويبهر العقول في بلاد أقامت الفراديس على أرضها، ويكون الملوم هو الاستعمار وأذنابه من حكام تابعين أو كما يزعمون. إن المسلمين يقرءون الواقع بعد تمريره على ذائقتهم، وفلترته حسب اختياراتهم وأخيلتهم وتصوراتهم وأوهامهم، لا كما هو على الأرض، رغم ما أثبتته كل النعرات والتجارب الثورية أكانت إسلامية أم عربية على الأرض عبر تاريخها القديم والحديث من مظالم واستبداد لحق بعباد الله المسلمين، دون الكفار في بلاد الغرب الحر الذين يعيشون فردوس الحريات على الأرض، وارتكبت مجازر وشنت حروب وانهارت بلاد وسقطت حدود، وانحسرت قوميات وصعدت أخرى على أشلائها، في حروب إبادة صفرية متتالية.
نحن مع الأسف نريد إعادة صياغة الدنيا كما نحب، لا كما هي عليه في واقع الحقيقة. المصيبة أن هؤلاء أنفسهم من يتصورون أن بيدهم كل الحلول السحرية لمشاكلنا قاموا يدلون بدلوهم في عملية الإصلاح، ليصوغوا لنا الآتي كما الماضي. بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنا، جاءوا يعلنون لنا أنهم مصلحون وأنهم سيصلحون! انظر قارئي (وأنا وأنت من مساكين هذه الأمة) ماذا جنى علينا أصحاب الرؤى الطائفية أو القومية؟ ثم ما دامت بيدهم الحلول السليمة التامة فلماذا لم يصلحوا منذ قرون متطاولة، رزح فيها المسلمون تحت أنظمة حكم اصطلح علم فلسفة التاريخ في العالم كله على تسميتها بمنظومة الاستبداد الشرقي، التي امتدت بطول العالم الإسلامي من الشرق الأوسط حتى الصين. لماذا لم يصلحوا بما لديهم من وسائل وأدوات إصلاح لا تبلى ولا تفنى؟ لكانوا أراحوا تاريخنا مما أثقل ضميره من فتن ونوازل هائلة كما وكيفا، ولأدى ذلك لتقدم هائل مبكر عن كل الدنيا، وكنا سبقنا به العالمين منذ قرون، بدلا من وضعنا المزري على جدول سلم الأمم اليوم، وهو العار بعينه وذاته.
إن الإجابة عن سؤال الدكتور رفعت السعيد المتكرر: «ماذا جرى لمصر؟» هي في جانب منها هام مسألة تكوينية بنيوية تكمن في بنية تكوين الأمة وبنية تفكيرها، فقد تمكنت مصر زمن محمد علي ومن خلفه من بعده طيب الذكر الخديوي إسماعيل، من الخطو نحو الدولة الحديثة المدنية بخطو واثق عبقري، حتى أصبحت في سنوات قليلة تجربة رائدة، ومدرسة يأتيها زوار شرق آسيا للتعلم من التجربة، وزوار شرق آسيا هم الذين أصبحوا اليوم في المقدمة، بينما أصبحت مصر ومعها عربها دملا مؤرقا في مؤخرة الأمم، والعامل الجوهري هنا هو مجموعة صدف نادرة ومتوالية خلال حقبة زمنية قصيرة لا تتجاوز نصف القرن، تمثلت إحداها في ظهور النفط في البلاد العربية؛ مما أدى إلى تغير بنيوي مواز هائل، وحوالى الوقت ذاته كانت الحركات العسكرية الانقلابية قد عمت معظم العالم الإسلامي، لتفرض حكومات وطنية لكنها فاشية بامتياز، ألغت من العقول والضمائر فكرة قبول التعددية المفرطة المتسامحة، لمصلحة التعصب للفكرة الواحدة والزعيم الأوحد والمذهب الأوحد؛ مما يسر السبيل بشدة لما عرف بعد ذلك بالصحوة الإسلامية، التي عمدت وجودها في مصر بمقتل الشيخ الذهبي ثم التضحية لعيد النصر بذبح الرجل الذي ترك لهم مصر سداحا مداحا فقتلوه يوم احتفاله بنصره الأكتوبري الملحمي حقا وصدقا.
وتمكن البترودولار من إعادة غزو مصر وبقية دول الإمبراطورية الإسلامية السابقة، بإسلام صحراوي دخلته عادات وتقاليد وأنظمة ومفاهيم عرب قبائل الجزيرة، بزيادات توازي تراكم أربعة عشر قرنا من الزمان. ليترافق المد البترودولاري مع الحرب ضد الروس في أفغانستان، ثم انتصار الحلف الغربي العربي الأفغاني وانسحاب الروس من أفغانستان؛ مما اعتبر في حينها علامة سماوية على صحة المنطلقات والأهداف، ووجوب السير في الخطة لإسقاط كل الحكومات الطاغوتية في العالم، وما تلا ذلك من تفكك المنظومة السوفييتية كلها. مع ثورة إسلامية في إيران حققت انتصارا عجائبيا في أيام، وفشلت حملة أمريكا العسكرية لإنقاذ رهائنها في إيران في صدفة عجائبية أخرى (ولكل بالطبع عوامله الموضوعية الواضحة لكننا لا نرى سوى العجائب)، مع أموال هائلة لم تخف وكالة المخابرات الأمريكية أنها دعمت بها مئات المؤتمرات للصحوة الإسلامية، إبان حقبة الحرب الباردة، تجييشا للمسلمين ضد الكفر الشيوعي ليحاربوا عن الغرب بالنيابة.
كان الإسلام في مصر بعد أن فتحها الغزو العربي (بمرور الوقت) قد تمصر، ومع قيام الدولة الحديثة على يد محمد علي أخذ صبغة تسامحية هائلة، فكنت تجد الجميع متعايشا، محبو أهل البيت إلى جوار المتصوفة، إلى جوار عباد الأضرحة من البسطاء، إلى جوار أهل السنة، إلى جوار الأقباط، إلى جوار اليهود، إلى جوار ملل ونحل وأعراق متعددة وجدت في مصر جاذبا للهجرة إليها واكتساب جنسيتها، هربا من مواطن فقيرة أو استبدادية، وانتهى كل هذا بداية من طرد أصحاب الأصول غير المصرية مع اليهود في الزمن الناصري؛ مما سلب عن تلك الأنظمة صفة العلمانية الليبرالية ومنحها صفة الديكتاتورية الفاشية بامتياز، رغم ما رفعته الأنظمة القومية الثورية من أيديولوجية تحارب الإسلام السياسي وتقوم على قيم وحدوية واشتراكية، لكن هزيمة هذا المشروع المروعة خاصة في 1967م، وسقوطه اقتصاديا وفشله التام في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، فلم يحقق لا عدلا اجتماعيا ولا مساواة ولا تنمية، ولا هو ترك البلاد على حالها الأول تسير مسيرها الطبيعي دون قفز فوق المراحل. بينما انكمش دور العلمانيين الحقيقيين، خاصة بعدما تراجعوا في النهاية إلى جماعة نخبوية، وتابع بعضهم السلطة العسكرية ونافح عنها، وظل البعض الآخر متهما بالعمالة للغرب ما دام لم يؤيد النظام الحاكم؛ ومن ثم كان يسيرا أن يصب هذا كله، من بعد تتالي الهزائم والنكسات، بيد الحركة الجديدة التي لبست هذه المرة زي سدانة الدين والدنيا معا، ومع صحوة ملتبسة بإسلام صحراوي وهابي جاف قاس، وهو ما لا تعرفه بلاد الخصب والوفرة في الوديان الخضراء، تم غزو البداوة لبلاد الخصب مرة أخرى، بمنهج بدوي لا يسمح بأي سؤال أو رأي ممكن؛ طوارئ عسكرية وأمنية واقتصادية؛ لأن القبيلة في موطنها بالبوادي هي في حالة طوارئ دائمة لا تعرف السلم ولا الاستقرار، بل هي في سعي وراء خير الطبيعة الشحيح، وعنده يتقاتلون قتالا صفريا ينتهي بسيادة أحدهما واستيلائه على ما بيد خصمه، وما بقي من بشر يستعبدهم أو يعسكرهم في قبيلته؛ لذلك لم تسمح هذه الحركة للقبيلة بغير نظام الحكم الاستبدادي؛ لأنه الذي يضمن تماسك القبيلة بصرامة، في بيئة متوحشة وقاسية، كذلك لم يسمح لها هذا الارتحال الدائم بأي استقرار؛ ومن ثم لم يسمح لها بأي إنجاز ممكن.
إلى هذا النهج الصحراوي ارتكس المصريون مع إعادة فتح مصر وهابيا هذه المرة، وارتدوا إلى ما قبل زمن مينا موحد القطرين؛ لأن المصريين كانوا بدوا رحلا ذات يوم، قبل أن تتوحد القبائل وتشكل مئات الأقاليم، وعبر السنين والدهور بألوف السنين توحدت هذه الأقاليم العديدة سلما أو حربا حتى أصبحت إقليمين عظيمين بعد حوالي سبعة آلاف سنة من الاستقرار في الوادي، حتى جاء مينا ملك الإقليم الجنوبي ليضم الإقليم الشمالي وليقيم أول دولة إمبراطورية قوية قائمة بحدودها التاريخية كما هي حتى اليوم، وقد قام مينا بهذا التوحيد منذ حوالي سبعة آلاف عام مضت، لكن بفضل الغزوة الوهابية يكون المصريون قد عادوا إلى ما قبل أربعة عشر ألف عام إلى الوراء من تاريخهم في بلادهم، عاد المصري قبليا بدويا لا فلاحا يرتبط بالأرض منتجا مبهجا، وأصبح يعرف نفسه بأنه ابن الحتة وابن القبيلة وابن الناحية، يترك أرضه ويرتحل لأن أرض الله واسعة فيهاجر فيها؛ منطق بدوي كان هو عيبة العار ذاتها ونفسها، ترددها الملحمة الشعبية «عواد باع أرضه يا ولاد، شوفوا طوله وعرضه يا ولاد»، وهي كلها مستجدات على دولتنا الحديثة لم تعرفها مصر القرن العشرين، ولا قبل العشرين. أصبح كل مواطن قبيلة وحده، لا يشغله ما يحدث على الأرض في بلاده؛ فالقبيلة لا تعرف شيئا اسمه «بلاده»، لا يشغله سوى نفسه ومصالحه فقط؛ مما أدى إلى ما نراه في الشارع من تفشي كل الأوبئة الاجتماعية العلنية رشوة وفسادا يمارس في بلادنا كاعتياد هو الأصل في الأخلاق وليس الاستثناء، حتى أصبح الباطل والكذب والخداع والسرقة هي العملة المتفق عليها، وهي القاعدة، أما الشرف وعفة اليد وسلامة الضمير، فهي عملة جيدة نعم لكنها الاستثناء؛ لأنها مؤرقة ومزعجة، في وطن يتهاوى، يعمل فيه كل مواطن بالمثل الشعبي: «إن وقع بيت أبوك إلحق خدلك منه قالب.»
إن هذا الانهيار المفزع ليس إلا نتيجة طبيعية للعودة إلى نظام القبيلة البدائي، والتعصب للعنصر والقبيلة والدين والمذهب والأيديولوجيا، بينما ضاع الجامع الشامل لكل هذه الألوان والأطياف مللا ونحلا وعناصر وأعراقا؛ جامعنا المقدس الحقيقي الذي يحوينا جميعا ويقبلنا جميعا في محرابه على التساوي بذات القدر والقيمة هو ما ضاع منا؛ ضاع الوطن، ضاع طين الأرض بعدما هجرها الفلاح إلى المدينة أو إلى بلاد ابن عبد الوهاب، وضاع عندما فقدت الأرض الطهور قدسيتها فقمنا نبني على ثراها الممتلئ خيرا وطهرا حجرا وأسمنتا شائها قبيحا، ضاعت المواطنة الجامعة، فإلى الله وإلى الوطن أشكوكم يا أهلي وناسي حكاما ومحكومين، ويا لوعة كبدي عليك يا وطن. (1) سقف المعرفة غاية مستحيلة
نرصد مظاهر الحالة الإسلامية كأعراض لمرض عضال بحاجة ماسة إلى علاج، ولعل أهم الأعراض المستعصية هو الاعتقاد السائد بين معظم المشتغلين بالشأن الإسلامي، وهو الاعتقاد الذي عمموه بين المسلمين بامتلاك الحقائق النهائية والمطلقة، عبر امتلاك الحكومات المسلمة لوسائل التثقيف العام من إذاعة وتلفاز ومسجد ومدرسة، وهي أقوى عوامل تشكيل الرأي العام اليوم. هذا العرض المستعصي يقوم على اعتقاد أن السلف لم يتركوا شيئا للخلف ليبحثوا فيه، وأن الأمة قد عقمت من بعد خصب، رغم أنها كانت خصبة إلى حد تعاصر فقهاء المذهب السني الأربعة خلال أربعين سنة فقط. ولكن لأن الزمان لم ولن يجود بمثلهم، كما توافق على ذلك الفقهاء من بعدهم، فقد أصبحوا خاتمة البحث ونهاية الأزمان، بعد أن وضعوا كل علم ممكن وانتهوا منه؛ باختصار، بلغوا نهاية العلم وسقفه الأخير. هذا رغم قصور البشرية جميعا عن بلوغ هذا السقف، ومعرفتها أنها قاصرة عن بلوغه، وأن هذا هو السبب الأساسي في التطور العلمي، والفكري النظري، والتقني، والفني ، والحقوقي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. بينما يقول قوم إنهم قد بلغوا سقف العلم؛ فهو ما يعني أنه لا مجال لكلام آخر، ولا مجال لقول جديد، ولا مساحة لقبول أي تغير. هذا كله في واد، والواقع قد تغير تغيرات هائلة بلغت فيه ما تحققه البشرية كل عام منذ عام 2005م، ما يعادل ما حققته منذ وجود الإنسان على الأرض. ونصيب المسلمين من بلادهم في هذه الكشوف الهائلة كما وكيفا هو صفر عظيم.
إن عدم قدرة بلوغ نهاية العلم والمعرفة، هو أس جوهري في عملية التطور اللازمة للبشرية، وزاد البشر على التطور الفيزيائي البيولوجي الميكانيكي الدائب والمستمر للكائنات، أنهم تمكنوا من إعمال عقلهم في الطبيعة مما سرع بعملية التطور الإنساني بدرجات هائلة ما خطرت على قلب بشر. ومن هنا فإن الاعتقاد بكمال المعرفة عند المسلمين هو عرض واضح وجلي لتردي أحوالهم هذا التردي المثير للشعور بالخزي والعار.
Bilinmeyen sayfa
يعتقد المسلمون أنهم قد امتلكوا نواصي العلم كله، وأنهم مكلفون بتعميم معارفهم على العالمين، بل فرضها على الكوكب الأرضي فرضا، ويحيلون كل النقائص إلى العالم المتقدم الذي سبقنا حقا وصدقا بما يقاس بالسنين الضوئية، ويخلطون بين كراهيتنا التاريخية لهذا الغرب، وبين مناهج هذا الغرب في التقدم وأساليبه في المعرفة وسبله للرقي والغنى والرفاه والسعادة.
والمشكلة التقنية والاعتقادية في مثل هذا الاعتقاد، هي أن المسلم (حسبما يعتقد) هو من سيسأل عن أعماله وحده في نهاية الأمر، وهو بإسناد أعماله إلى اعتقاد بكمال وتمام فقه وشريعة، هي من علم وإنتاج بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، بعدما فارقت المبادئ الشرعية الأولى بساطتها إلى منطقة شديدة التعقيد بإضافات أهل الفقه وزياداتهم في دين الله. فبينما وضع القرآن ما لا يزيد عن سبعة قوانين «شرائع» للمجتمع، وبضع عشرات أخرى تأسيسا على الحديث، فإن المذهب الشافعي مثلا لديه ما ينوف على ستة آلاف تشريع، ومثلها في خزائن المذهب الحنفي، وتتزايد في بقية المذاهب، وهذه الآلاف من التشريعات جاءت كلها زيادة في دين الله. وإذا كانت خاصية الإسلام هي التوحيد المطلق، فمن غير المفهوم كيف يمكن للمسلم الجمع بين هذه العقيدة وبين خمس مجموعات مذهبية تتضارب وتتناقض بعضها مع بعض. إن هذا الركون لأحكام وفق رؤية فقهية أو مذهب بعينه يجعل المسلم يعرض نفسه للمساءلة والعقوبة، بل ربما للتهلكة، بل ربما إلى الانقراض من البشرية، وهي العقوبة التي لا يعفيه جهله بها منها.
هذا بينما المصري القديم، كان يعرف منذ خمسة آلاف عام أن اكتمال المعرفة نقص ومرض، انظر ما قاله على لسان بتاح حوتب: «انظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس! إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة» (ول ديورانت، مقدمة موسوعة قصة الحضارة، ص ح).
واليوم نرى المصري المسلم وقد ارتكس خلفا إلى ما وراء زمن بتاح حوتب، عندما قام يفسر:
ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام: 38) بأن القرآن قد حوى علوم الأولين والآخرين فامتلك الحقيقة المطلقة، وصار بإمكانه أن يتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس، ويظن أنه خبير يمكنه الحديث في كل ضروب المعرفة. بينما كل ما تحمله الآيات الكريمة خبر مفاده أن القرآن الكريم لم يفرط في شئون التعبد والدين من شيء، وليس التفريط في علوم الأركيولوجيا والبيولوجيا والجينولوجيا والكيمياء والرياضيات وإدارة الدول ونظم الحكم وأساليب الاقتصاد وحقوق الإنسان والديمقراطية، لأن القرآن كتاب في الدين، كتاب في الإيمان فقط، وحسبه ذلك شرفا ورفعة. وفخرا ومجدا وسؤددا أزليا أبديا.
وقد زاد المسترزقون من كهنة على حساب المواطنين من استفحال العرض وعوص هذه المشكلة، وتجذيرهم الاعتقاد في امتلاك المسلمين للمعرفة التمامية، وهؤلاء المسترزقون هم من قاموا يتاجرون بمأساة المسلمين، ليحققوا ثروات خيالية من حكاية وهمية اسمها العلم والإيمان، كلها عبارة عن شعر فخر وهجاء وأحاديث سمر عربية حول نيران القبيلة وبعيرها في الليالي القمرية، أحاديث فخر ليس أكثر؛ لأنها موجهة لنا ولا يعرفها أحد غيرنا، هي سمر رتيب ممل تفخر بربنا الذي يتم وضعه وفق هذا التصور في موقع شيخ القبيلة المسلمة (حاشاه وهو الكمال المطلق)، وهو شيخنا هذا الذي عرف كل العلوم القديمة والحديثة والمعاصرة التي اكتشفت والتي لم تكتشف بعد، قبل كل العالمين، وأعلمنا بها ووضعها لنا في كتابنا المقدس، ولا تعلم إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا لم ينتج لنا أصحاب العلم والإيمان اكتشافا واحدا إسلاميا أصيلا من نصوص القرآن أو الحديث؟ كي نسبق به العالم ونفيد به بلادنا المعتوهة لكثرة ما تعاطت من مأثور تخديري أصابها ببلهنية بلهاء، حتى كادت تصل إلى حالة الموت التخشبي. الكارثة أن عملية التهجين للمقدس بالعلم الإنساني كرست اعتقاد المسلم أنه غنى عن معارف العالمين، وعن العلوم كلها دفعة واحدة؛ لأنه يعتقد أن بيديه أسرار الدنيا ومفاتيح الآخرة، ما ذهب منها، وما لم يأت بعد، ودون أن يجد المسلمون بعد كل تلك الأبحاث في العلم والإيمان أي شيء ذي قيمة بين أيديهم.
ولأن الإسلام وعلومه ليسا حكرا على طائفة بعينها دون المسلمين، فإن الرهاب المكرس لعدم تجاوز فقهاء الأمة، لم يوقف هؤلاء الفقهاء أنفسهم عن نقد سابقيهم ونقضهم، وهو ما تجلى في رد أبي حنيفة النعمان على هذا المبدأ الباطل: «هم رجال ونحن رجال»، فليس بين المسلمين آلهة ولا أنبياء بعد أن ختم محمد
صلى الله عليه وسلم
تواصل السماء مع الأرض؛ ومن ثم فإن أول مطلب في روشتة العلاج هو الاعتراف بالمرض، وأن التراث الإسلامي قد أصبح يحمل أوراما سرطانية وأثقالا كسحته عن مسايرة حركة التطور، وأنه يجب أن يخضع لعمليات جراحية عاجلة مع تقويم ومراجعة ونقد قاس ما أمكن، لكن بشرط التزام العلمية الصارمة دوما، مع الفحص والتعديل والإلغاء والإضافة والحذف، مدا لحبل حكمة النسخ في الوحي - وهي حكمة التدرج في الأحكام - إلى مداها الطبيعي، وهو التدرج الذي يقوم على مقاصد الشرع الكلية.
ولو صح أن اجتهاد فقهاء السنة الأربعة، وبقية المذاهب بما فيها الجعفري (الشيعي الاثنا عشري)، قد وصلت إلى سقف المعرفة، وأنها أصبحت صالحة لكل زمان ومكان (وهي آفة فكرية لا يقول بها عاقل، فلا شيء صالح لكل زمان ومكان بالمطلق، وقولا واحدا، ولا يقول بذلك إلا من جهل أنه جاهل)، ولو صح أن ما صلح لزمنهم صالح لزماننا، فلماذا نحن أمة الله المتخلفة دون العالمين؟
Bilinmeyen sayfa
ومع اعتقاد المسلمين بصحة هذا المبدأ الباطل، تم إغلاق باب الاجتهاد دون إصدار أي أوامر بإقفاله؛ لأن إغلاقه قد أصبح من مستلزمات الشريعة وخصائصها دون صدور قرار بذلك، بعد أن أصبح غير ممكن تجاوز من وصلوا إلى سقف المعرفة. وبدلا من أن يعتبر المسلمون رجالات مأثورهم بداية لطريق تطوري اجتهادي طويل، اعتبروهم نهاية الطريق، فضرب الشلل كل مراكز التفكير في العقل المسلم. ماذا يمكن أن يقول المسلم لمن يقولون له: قال ابن تيمية، وقال البخاري، وقال عمر بن الخطاب؟ هل سيخطر على بال مسلم أنه مطلوب منه أن يقول شيئا بعد ما قال هؤلاء المقدسون، ناهيك عن مخالفتهم أو إعمال العقل في نقدهم؟ وفق هذا المعنى لا بد أن يصاب اللسان بالخرس، ويموت السؤال، ويضرب الذهان مراكز التفكير، فلا يعود المسلم يميز بين الممكن والمستحيل، فيضرب بإرهابه العالم متصورا أنه سيسود العالم ويقيم دولة الله في أرضه، وهو من بين أشد شعوب هذا العالم ضعفا وجهلا وتخلفا!
وبدلا من أن يعتبر المسلمون أن تدرج التشريع درس لهم ليمدوا طرف الخيط على استقامته فيتدرجون، بل وربما ينسخون كثيرا من التشاريع مع المتغيرات، حتى يبقى حيا فاعلا، فقد اعتقدوا أن هذا التدرج خاصية قرآنية ربانية لها علاقة بتواصل السماء مع الأرض عبر الملاك جبريل إلى نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وأن هذه الخاصية قد توقفت بتوقف الوحي بوفاة صاحب الدعوة؛ ومن ثم قرروا الوقوف عند آخر أحكام تطورت إليها نصوص الوحي، وجعلوها أحكاما نهائية، قدسوها وجعلوها حكم السماء الأخير القاطع، الذي لا يجوز تجاوزه على تغير الأحوال واختلاف الأماكن وتبدل الأزمان، هذا بينما «الفقه» نفسه يقوم على أسس نظرية لم يقم هؤلاء العارفون بالمطلق بتفعيلها فيما يبدو عن قصد ونية مبيتة للمسلمين؛ فالفقه الإسلامي «لا ينكر ولا يستنكر تبدل الأحكام وتغيرها بتبدل المكان واختلاف الزمان»، وهو ما استند إليه الإمام الشافعي عندما غير من فتاواه في زمن واحد، ما بين وجوده في العراق ووجوده في مصر. ومن أبرز الأسس النظرية المعيارية المفترض أنها حاكمة، الأساس الذي يجعل «الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما»، ولا تفهم كيف يتم تجاوز هذه الأصول من قبل فقهاء يركزون على ظاهر اللفظ وحرفية النص، ويظلون فقهاء؟ لا تعلم كيف؟ ثم لا تعلم كيف أمكن لهم تضليل المسلمين كل هذا التضليل لمنافع ومكاسب دنيوية بحتة، ومكانة اجتماعية مرموقة، وسلطة سيادية برغبة الرعية، بدليل استكانة المسلمين إلى هذه المفاهيم التي تبدو دينا جديدا غير ما نعرفه عن الإسلام في بكارته الأولى، وعدم احتجاجهم على مشايخهم بل وتقديس هؤلاء الفقهاء، فأي نازلة نزلت بنا أيها الناس؟!
من بين هذه الأسس فلسفات في الإسلام والتشريع سبقت زمنها فتم قبرها لأنها كانت أكثر حرية من ممكنات احتمال الفقهاء الآخرين حينذاك، فلسفات فقهية اعتبرت الإنسان هو غرض الله وغرض الرسالة، وليس الغرض مجرد العبودية لله؛ فالله أكمل من ذلك وأرفع من ذلك وليس بحاجة إلى عبيد ليتأله عليهم ويستعبدهم فيعبدون، وأن الكتب المقدسة جاءت إلينا من أجلنا وليس من أجل السماء، لتيسير معاشنا لا لتعقيده، ولجعل الدنيا أكثر راحة وطمأنينة ويسرا، إسعادا للبشر لا إثارة لكآبتهم وحزنهم رعبا من مكر الله وجهنماته المتنوعة ألوانا وأصنافا من العذاب. فلسفة تعتبر الإيمان نعمة وسعادة لا اختبارا وامتحانا عسيرا ومشقة وعنتا ونقمة متربصة تقف من ورائها فكرة المكر الإلهي، الذي كان يخشاه أعدل الخلفاء «عمر بن الخطاب»، مع الفزع من جهنم وزبانيتها.
نظرة قامت على التفلسف أكثر مما خضعت لشروط الشافعي المستحيلة الواجب توافرها في المجتهد، اعتمدت أكثر علوم الفلسفة جدلا وحرية، علم الكلام، لتقيم عليه نظريتها الفلسفية الفقهية.
من بين هؤلاء الفقيه اللمعة الثاقب «نجم الدين الطوفي الحنبلي»، الذي تجرأ على كسر أهم القواعد الفقهية «لا اجتهاد مع النص» فأباح الاجتهاد حتى مع النصوص الواضحة القاطعة المجمع بين الفقهاء على قطعيتها الثبوتية: النصية والدلالية، استنادا إلى اجتهادات الخليفة عمر مع نصوص قرآنية وحدود تشريعية ربانية قاطعة، بالتعطيل وبالمخالفة وبالإلغاء (كما في إلغائه فريضة متعة الحج وفريضة متعة النساء وفريضة المؤلفة قلوبهم). لاختلاف المصالح بدوران الأزمان؛ ومن ثم قدر الطوفي أن رعاية مصالح الناس تعلو على النص والإجماع وتقدم عليهما، استنادا إلى قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار»، ثم لدينا نجم عظيم آخر من فقهاء اليسر والبهجة الذين أوسعوا من صفحات الاجتهاد نحو مزيد من الحرية هو «الباقلاني»، الذي قلما يعرج عليه رجالات أزهرنا المبارك الشريف، اشترط هذا الرجل للاجتهاد الصحيح التضلع من الفلسفة أو بالذات (علم الكلام)، واعتمد علم المنطق الأرسطي معيارا للاستنتاج الصحيح، ولم ير في ألوف المباحث الفقهية العجيبة المتكاثرة وشروطها الأعجب المتناثرة أي ضرورة، كل ما طلبه للمجتهد هو أن يعرف القواعد العامة لأصول الفقه والمعروفة بالمقاصد الكلية للشريعة وما أيسرها؛ لأنها تتلخص جميعا في جملة واحدة هي: مصلحة العباد.
وما أبكر مثل تلك المحاولات العبقرية التي تم إهالة الإهمال عليها، حتى كادت لا تجد لنفسها مكانا في أحاديث مشايخنا رغم ركوبهم إعلامنا ليل نهار، فهذا الإمام «الجويني» في القرن الثاني عشر الميلادي، يؤكد أن المعرفة بمقاصد الشريعة كافية وحدها كأساس في الاجتهاد، بتنزيلها على واقع الزمان ومستجداته ومشكلاته التي لم تكن معلومة من قبل، والغرض من هذا التنزيل هو مصلحة الناس أولا وأخيرا، وهو كله ما يقوم على مدركات عقلية بالأساس وليست نقلية ولا نصية.
من هنا ساغ للجويني الثاقب اللماع بين الفقهاء و«إمام الحرمين» أن يرنو للمستقبل ليراه وهو يتطور في قفزات هائلة، حتى يأتي زمن على الناس لن يعملوا فيه بأصول الشريعة الإسلامية حتى تصبح الشريعة تاريخا غير فاعل، وربما غير موجودة نتيجة مفارقة الواقع لها؛ لأن الواقع يتغير ويتطور بالضرورة دون أن ينال النص الديني ذات التغير والتطور. ومن هذه الرؤية المستشرفة للمستقبل ينتهي الجويني بجرأة نادرة وبفرادة سبق بها زمنه إلى نتيجة غير مسبوقة، وللأسف غير ملحوقة بين الفقهاء، ينتهي الجويني إلى ضرورة تهيئة العقل المسلم وترويضه حتى يمكنه التعامل مع ذلك الزمن الآتي بمنطق ذلك الزمان الآتي دون منطق الشريعة.
ومنطق ذلك الزمان الآتي لاشك سيقوم على العقل ذاته وهو يمارس وظيفته؛ لذلك يجب تدريب العقل المسلم على قبول الزمن الآتي ليتمكن من الحياة فيه والفعل فيه، وإن غابت نصوص الشريعة، ويكفي المسلم أن يكون عالما بالمقاصد الكلية للشريعة، وهذه المقاصد تحديدا وتدقيقا هي مصلحة البلاد والعباد، وها قد أتى ذلك الزمن الآتي الذي كان يتوقعه عن يقين وترقب إمام الحرمين.
Bilinmeyen sayfa
وبعد حوالي ثلاثة قرون احتاج الزمن المزيد من التنبيه إلى ضرورة التغير والتجديد والتحديث فظهر الإمام «الشاطبي» وما أدراك ما الشاطبي؟! في جمل سريعة لا تعرض من هو الشاطبي الذي سبق زمنه وتجاوز فقهاء أزهرنا مجتمعين، هو الذي أقام اجتهاده الفلسفي عودا إلى فكرة المقاصد الكلية للشريعة، فقام يستخرج من الشريعة مقاصدها بنودا واضحات، التي هي مصالح العباد دنيا وآخرة، وأخضع هذا الاستخراج لمقدرات ولعادات واقع زمانه طالبا التبديل والتعديل وفق متغيرات الزمان وتقاليده وبشروط زمانه ومكانه؛ لذلك اشترط الشاطبي على الفقيه في الزمن الآتي أن يكون عارفا بعلوم عصره ومتصلا بواقعه (ترى كم من فقهاء اليوم يدري شيئا ولو يسيرا عن علوم عصرنا؟) حتى ينزل مصلحة العباد أي المقاصد الكلية للشريعة على هذا الواقع، ليحثه نحو مزيد من المصلحة. وارتأى أن الفقه بحاله حتى زمانه هو لون من الإجابات المعدة سلفا لكل مسألة حدثت أو قابلة للحدوث أو متخيلة، والفقه بهذه الإجابات المسبقة لا يقف بهذا المعنى ندا للزمان الذي جاء بأسئلة جديدة لم تخطر على خيال فقهائنا القدامى، وليس لديهم إجابة عنها لأنها لم تكن قد وجدت بعد؛ لذلك لا بد أن يختلف الحكم بحسب ظروف الواقع، مع مراعاة أن الأصل في الأشياء هو الإباحة وليس التحريم. وهو ما يعني تفسيرا دقيقا لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالمعروف هو ما تعارفت عليه قيم وعادات زمانه، والمنكر هو ما أنكره العرف الاجتماعي وقيم زمانه. ومن ثم لم يعد المعروف أبدا من أصول الشريعة بحسبانه يعني الدعوة إلى الإسلام وشريعته، أو هو إقامة دولة الله على الأرض كما يزعمون.
ومع «الطوفي» وكسره الجريء لقاعدة لا اجتهاد مع النص، و«الباقلاني» وبراحه العقلاني، و«الجويني» ومساحته الحرة المنطقية العقلانية الصرف، و«الشاطبي» وطلاقته المصلحية، وأن الأصل في الشرع كله هو الإباحة تيسيرا على العباد الذين تشكل مصالحهم الهم الأول للفقيه، سنكمل مشوارنا الآتي مع خريطة التشخيص والإصلاح.
يلخص الدكتور قرضاوي الملقب بالفقيه المعتدل موقف فريقه المتأسلم من الفريق العلماني، في قوله: «نوع من المفاهيم خطر على المجتمع، زحفت على مجتمعاتنا مع زحف الاستعمار، واتخذت الغرب لها قبلة وإماما، إنها المفاهيم المتعلقة بالدين والدنيا، الرجل والمرأة، الفضيلة والرذيلة، التحرر والجمود، التقدم والرجعية، بالحلال والحرام. المفاهيم المتعلقة بالحدود الفاصلة بين حرية الفكر وحرية الكفر، بين حرية الحقوق وحرية الفسوق، بين العلمية والعلمانية، بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية. إنها مفاهيم الغزو الفكري التي تعتبر الإيمان بالغيب تخلفا والتمسك بالسلوك الديني تزمتا، والدعوة إلى تحكيم الشريعة تطرفا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخلا في شئون الآخرين، واختلاط الرجل بالمرأة بلا قيود تحررا، وعودة المرأة المسلمة إلى الحجاب الشرعي رجعية، والانتفاع بالتراث تعصبا له، واعتبار علماء الدين حراسا للتخلف، ودعاة التغريب أعلاما للتنوير» (كتاب ملامح المجتمع المسلم، ص77).
وهذا كلام خلاصته إدانة للعلمانيين الوطنيين بالعمالة للأجنبي، بل إدانة لهم بحرية الفسوق والكفر فهم ليسوا مرتدين فقط، ولا خونة فقط، بل هم لا يمارسون مبادئ الأخلاق الكريمة، وهم عملاء ناشطون لأعداء الإسلام؛ ومن ثم وضع الشيخ نفسه وجماعته في موضع القاضي، الذي يملك من النزاهة ما يجعله يحاكم الآخرين ويحكم عليه، وهو أمر لا تفصح سيرة الشيخ عنه بالمرة وبالقطع واليقين المعلوم؛ فهو شخصية عامة تعرف الناس سيرتها، وهي سيرة لا تضعه أبدا فوق المسلمين ليحاكم ويصدر أحكامه، هذا بينما العلمانيون يضعون هذا الشيخ وأمثاله في أسوأ موضع من الدين ومن الناس، فأزعم محتملا وحدي مسئولية هذا الزعم حتى أثبته في السطور التوالي أن هذا الرجل متاجر بدين الله ضد مصالح عباد الله، يفتي بالمطلوب مأجورا في الدنيا وفراديسها وقصورها الغناء الفوارة، قبل الآخرة ونعيمها.
واللهم نعم حسدا ونقا وقرا على الشيخ غير القابل للقر ولا للحسد ولا للنق.
ويرى التيار العلماني أن التيار الذي يمثله هذا الشيخ كان نكبة على البلاد والعباد، تحالف منذ صحوته مع كل الديكتاتوريات السياسية، وما خالف هذا التيار الحكومات أو تصارع معها إلا على حجم الأنصبة المطلوب هبشها، وفي صياغة تقريرية فإن ما أرساه الشيخ هو وجماعته في العقل المسلم كان تدميرا حقيقيا لهذا العقل، بتأكيده أن الله قد سبق ومنح المسلمين كل العلوم، وكل القيم، وكل النظم، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وكل فلسفة السياسة والمجتمع، كل هذا دفعة، وعلى يد رسول واحد، تحققت على يديه تمامية المعرفة في أي شأن في شئون الكوكب الأرضي أو ما بعد الموت.
كل هذا طفح في شوارعنا شبابا، تخرجوا من الجامعات لا يؤمنون بالعلم كحل لمشكلات الناس والوطن، شبابا إما جهلة جهلا حقيقيا، وإما لم يتعلموا علما حقيقيا بقدر ما حفظوا شأنا لا علاقة لهم به، كانت كل مهمته أن يصل إلى النجاح الامتحان إن غشا أو تدليسا أو حفظا ومصمتا لا يعني أي دلالة أو معنى، وغضت الحكومات البصر بالمرة عن وسائل الحصول على شهادات ترضي غرور الذات، فوصل عدد الحاصلين على الدكتوراه في مصر إلى أكثر من مثيله في أمريكا، لكنهم عندنا غثاء كزبد البحر أو هم كالعهن المنفوش ليس أكثر، ربنا يقلل منهم لأنهم كالهم عالقلب، فلا قيمة عندنا للمعرفة ولا قدسية للعلماء وإنما للمشايخ الدكاترة، فلا نسمع عن بحوث تطرح إلا حول الحجاب والنقاب وفلسطين والعراق والحكام الطواغيت وأمريكا وإسرائيل والبوسنة وكشمير والشيشان، ولا قيمة للوقت الذي إن لم تقطعه فرمك، ولا قيمة لقيمة القيم «العمل» التي إن لم تحترمها انتهيت إلى الحيوانية فما يميز الإنسان عن الحيوان هو العمل المنتج. ثم على المستوى الأخلاقي يقرر المذهب السني «لا يدخل ابن آدم الجنة بعمله» بل بأدائه أوامر ونواهي ربه، وبعد هذا يجب ألا يكون شديد الاطمئنان، بل عليه أن يرجو رحمة الجبار المكار!
طفحت الصحوة لا بارك الله فيها (أم هي أيضا مقدسة لا يصح همزها أو لمزها؟!) طفحت في شوارعنا شبابا كانوا حلم الوطن وأمله المرتجى، فهم كل ما كان يملك، فلا بترول لدينا ولا معادن نفيسة ولا حتى سياحة بالمعنى السليم لعلم اقتصاد السياحة، كل ما لدينا كان ثروة مصر من شبابها، فإذا بهم يسمرون الليالي حول العلم والإيمان والانقطاع في المساجد دون المختبرات، تكاسلا وركونا لما بيدهم من كمال مطلق، ومع رؤيتهم كيف تجاوزهم الزمن والواقع، يلومون الزمن ويكفرون الواقع، بينما الإحباط داخل النفوس يجعلها مشوهة ممرورة كارهة حاقدة، فاقدة لأي أمل ممكن؛ لأن السعي والتفكير لن يأتينا بأي جديد زيادة على ما بأيدينا سماويا كاملا بذاته، فلماذا يسعى شبابنا ولماذا ينتج دكاترتنا أي علم نافع؟
وبما أن الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به، فقد اتكل النصف الآخر على عدم شركهم بالله ثم توكلوا على الله، وانغمسوا في كل الرذائل الممكنة، للغياب عن الواقع بكل الوسائل مشروعة أو غير مشروعة. وتحول الشارع في البلاد الإسلامية إلى مملكة للشيطان بدلا من الرحمن؛ فالمسلم كما يحرص على الصيام وأداء الصلاة في مواقيتها؛ فإنه أيضا وبدون الشعور بأي خلل أخلاقي أو ديني يرتشي ويهرب بأموال الناس أو بأموال البنوك وهي بدورها أموال الناس، ويستولي على أراضي الدولة ويغش في منتجه، ويخسر الميزان، ويعتدي قولا أو عملا على غير المسلمين، ولا تأمن غير المحجبة من غير المسلمين على نفسها في شوارع تمتلئ بالمآذن المفترض أنها رمز عفة اليد واللسان والفعل، وتغطي فضاءها ميكروفونات تقصف الآذان بالوعظ والأمر بالأخلاق. ثم يحج البيت كل سنة ليعود كما ولدته أمه ليرتكب آثاما من نوع جديد، حتى يحين موعد ولادته المتجددة كجلد الثعبان في السنة المقبلة.
هناك حديث يتفق الرواة على صحته، وأراه أشد الأحاديث بطلانا، حتى إني أعتقد أن الانهيار الأخلاقي الواضح في شارعنا الملتحي والمحجب، يعود إلى هذا الحديث بالذات، رواه البخاري في كتاب الجنائز، قال: «حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ابن ميمون حدثنا واصل الأحدب عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
Bilinmeyen sayfa
صلى الله عليه وسلم : «أتاني آت من ربي خبرني - أو قال بشرني - أنه من قال من أمتي لا أشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر» (الحديث 1237).
لقد توافقت المجتمعات كلها، والبشرية جميعا، والأديان وثنية أو سماوية أو وضعية، على أن فعل السرقة وفعل الزنا (ونفهمه وتفهمه الدنيا كلها بأنه اعتداء اغتصابي بالإرغام)، هما من الأفعال الفاضحة والمشينة وضد أي أخلاق، وهي شئون لا تحتاج توجيها ولا تعليما كي ندركها؛ لأنها تدرك بالحس الإنساني الخالص؛ لذلك كان الحس الإنساني وراء تكرار أبي ذر لسؤاله المندهش المستنكر ثلاث مرات، تعبيرا عن عدم قبول روحه لفكرة أن يكون مصير الزاني والسارق إلى الجنة بدلا من جهنم لمجرد إعلانه الشهادة الإسلامية.
والغريب أن هذا الحديث يعتبر عمدة الأحاديث المكررة التي يعمل بها المسلمون ومشايخهم، ثم يحدثوننا عن القيم وعن الأخلاق؟! وهم يبررون السرقة والزنى مقابل الاعتراف للإله بأنه إله! بل نسبة اللاأخلاق إلى النبي الذي لا ينطق عن الهوى والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فيكون الرب قد تغاضى عن قواعده الأخلاقية وغض البصر عن كسرها وأذاها لعبادة الآخرين، مقابل أن يكسب مسلما جديدا يعلن الاعتراف به إلها. فأي مصيبة وصل إليها المسلمون في دينهم؟ وأي حديث ينسبونه إلى المصطفى
صلى الله عليه وسلم
الذي وصفه ربي بأنه على خلق عظيم؟
لهذا يرى العلمانيون المؤمنون بالتواصل مع التراث أن القيم الوضعية الإنسانية التي تعارف الناس عليها، وتوافقوا بشأنها في مجتمع بعينه في زمن بذاته، هي التي تكشف لنا القيم الإلهية وتشرحها وتفسرها؛ لأن القيم الربانية جاءت مجملة بلا تفاصيل، ولم يفصل الوحي بشأن تلك القيم حتى لا يلزم الناس بها دفعة واحدة، فتكون تكليفا يصعب على المكلفين تحمله وأداؤه؛ لذلك جعل تلك القيم مخفية مثل بقية فروع العلوم والقواعد المنهجية وغيرها من قوانين طبيعية، مع تضمنها ممكنات جهوزية دائمة لكشوف جديدة، وبالمقابل ولكي نستحق خلافته على الأرض، منحنا العقل أمانة علينا أن نؤديها حتى نستحق هذه الخلافة، بتفعيلها وتشغيلها للبحث عن مخفياته وألطافه على قدر جهد كل مجتمع وكل جيل، فما نعثر عليه نلزم به أنفسنا، إضافة إلى ما نكشفه من أسرار علمه التي أودعها كوننا، وتركها لنا نبحث فيها وننقب، إعمالا للبصر والسمع والعقل، وكله كان الإنسان عنه مسئولا.
ترانا عندما يسألنا ربنا عما فعلنا بأمانته فبماذا سنجيب صاحب الملك الأوحد يوم ذاك؟ ألا يخجل المسلمون من ربهم الذي وصفهم تجميلا لهم وتفخيما بخير أمة أخرجت للناس؟! أعطانا ربنا أعظم أمانة، عقلنا الذي هو بضعة من عقله؛ لأن وظيفته هي التفكير، ولأنه هو ما اصطلحت الأديان على تسميته بالروح؛ فهي المدركة، الروح هي وظيفة المخ، هي العقل. وبها نستطيع أن نكتشف القيم وأسرار العلم، ونقوم باستثمار ما كشفناه واستغلاله لمصلحة الناس في أي مكان؛ ومن ثم يكون أمام الأجيال آمال واسعة في الاجتهاد والسعي والحياة، أما لو صدقنا جماعة قرضاوي وزغلول النجار ومصطفى محمود وغيرهم، وأن الله منحنا كل القيم وكل العلوم دفعة واحدة، فلن يكون هناك أي معنى لإعمال ما أعطانا الله من أدوات معرفية سمعا وبصرا ولمسا وشما وإدراكا وتعقلا وفهما وتدليلا واكتشافا واختراعا، ثم إن القيم كي تكون قيما يجب أن تخضع للفرز والتجنيب والتمييز ثم الاختيار بالمفاضلة بينها، حتى تختار هذه القيمة أو غيرها، أما الفروض الدينية فهي ما لا يدخل تحت مفهوم القيم، خاصة أن القيم المفروضة لا تنتج إنسانا سويا. الملائكة فقط هم من يملكون نمطا سلوكيا دون اختيار، وهو ليس قيمة، يصلون لربهم ليل نهار سجدا وركعا؛ لأن الملائكة لم تعط الاختيار ونحن لسنا بملائكة. وهكذا خلقنا ربنا كي نختار لنتحمل مسئولية اختيارنا كي تتم مشيئته، وهنا تظهر القيمة.
إن الاكتمال هو منطق وفلسفة ضد صيرورة الحياة وحركة التاريخ، إن الاعتقاد بالاكتمال يعني أن هزيمة المسلمين التاريخية قد اكتملت حتى ملكت الأرواح والعقول فاستكانت لمصيرها، وأصابتها الشيخوخة في مفاصلها العقلية والحسية، فدخلت طور الخرف والآلزهايمر، إذ يطلب علماء دينها الموقرون العلاج ببول الرسول وبول الإبل والطب النبوي والعسل والحجامة والحبة السوداء، ويشرعون رضاع الكبير ومفاخذة الرضيعة وهي العلامات الواضحات على وجوب الإسراع بإدخال الأمة إلى غرفة العناية المركزة، أو انتظار ثواب الآخرة. أو البحث عن علاج من نوع جديد حتى لو كان مرا علقما؛ فالمسألة أصبحت مسألة الاستمرار في الوجود، أو الخروج منه غير مأسوف علينا.
إن ستر الله علومه وقيمه عنا، حكمة ربانية تليق بكماله؛ فهو الكمال الأوحد في ذاته وحده لا شريك له ولا قرين ولا شبيه، حكمتها دفع كل جيل ليجتهد ويكشف جزءا من علم الله وقيمه، تاركا للأجيال التالية مساحات واسعة لتضيف بكشوفها من علم الله معارف أرقى. ومن المستحيل أن يكون الله ضد قانونه الأساسي في الكون، قانون التغير والتطور الدائب، الذي هو القانون الأوحد الثابت دون أي قانون آخر، فكل قانون إلى تبدل وتغير عدا التطور والتغير الذي هو القانون الأزلي الأبدي أبدا مطلقا لتحقيق الإرادة الإلهية على الأرض وكي يستحق الإنسان الخلافة فيها عندما يراعي هذا القانون الرباني.
موجز الأمر من وجهة النظر العلمانية التي تحترم التراث وتتفاعل معه، أن أي فلسفة هي بحاجة لعقل يجادلها ويسألها وينقدها ويفرزها، ويرد عليها ويستبعد منها ويستبقي ويعلي ويخفض ويستخدم معاييره وفق قوانين العقل الصارم، البارد، وهي القوانين الموزعة بعدالة تامة بين الناس كما قال لنا فيلسوف الشك والعقلانية «ديكارت».
Bilinmeyen sayfa
لهذا تتجدد الفلسفة غير المحروسة بالكهنة، غير المجمدة، غير المقيدة، وتتطور وتؤدي إلى تطور مناهج العقل نفسه في الفرز والتمييز والاختيار، كما تؤدي إلى تطور منطق العقل فتظهر نظريات وفلسفات جديدة. بينما وجهة نظر فقهاء الإسلام في بلادنا هي وجهة نظر مقدسة، فإن كانت حديثا نبويا ولو موضوعا فهو مقدس لا يصح نقده والتعدي عليه، لاحتمال ولو ضئيل أن تكون نسبته للنبي صحيحة . وإن كانت اجتهادا تحول المجتهد إلى مقدس كالإمام أبي حامد الغزالي (حجة الإسلام) وألد أعداء الفلسفة والعمل العقلي، بينما لم ينل لا الشاطبي ولا الجويني ولا الطوفي مثل هذا اللقب، وإن كانت سعيا وراء جمع المقدس تقدس الجامع، كما في تقديس البخاري واعتبار الفقهاء كتابه أصح كتاب على الأرض بعد القرآن. ومن هذه القداسة تمكنوا من استثمار المقدس الرباني واستخدامه بانتهازية مفرطة، وأصبحوا هم من يفسر الحديث المقدس ليفسروا به القرآن المقدس، وأصبحوا هم معيار قياس الأشياء جميعا، وليس القرآن؛ لأنهم يعلمون أن أحكام القرآن نفسها لا تصلح معيارا لعموميتها وعدم تفصيلها، وأنها تحتاج إلى الشارح المفسر طوال الوقت، فأصبح الرأي بديلا لدين الله، وكتاب الله، هذا ناهيك عما يترتب على هذه المعايير المقدسة من إلغاء العمل العقلي والقضاء عليه مبرما؛ لأن القياس المنطقي سيتم قياسا على ما قال الرب أو قال النبي، أو ما قال الصحابة، أو ما قال الفقهاء.
إن اللجوء إلى المقدس هو نوع من الحصول على الحصانة مصحوبة بالأمر الفوري بالالتزام والتقيد والتنفيذ لأن الآمر سيكون الله بنفسه، هذا بينما كلام الله الذي يقولون إنه المعيار، هم من يقولون أيضا إنه بحاجة إليهم لتفسيره؛ فهو لا يكتمل إلا بهم، ومن ثم يتقدس المفسر لقدسية ما يفسره. البخاري مثلا أصبح مقدسا لأنه فسر القرآن بالحديث. أصبح الفقيه كما رأيتم عند قرضاوي هو من يعلن الرضا أو النفي والطرد والتكفير الديني والتخوين الوطني، هو من يعطي كلامنا تصريحا بالمرور من عدمه. هو من يعطي أي كلام ال
O.K ، مولاهم واخدها مقاولة حفر وردم لوحده.
ومع هذا الحديث حديث آخر يحرض على الرذيلة تحريضا، يقول: «إذا بليتم فاستتروا»، فمن أراد ارتكاب الجريمة عليه فقط ألا يعلنها على ملأ حتى لا تفشو الرذيلة في المجتمع، حسب تفسير فقهنا لهذا الحديث؛ أي حتى لا يعتاد الناس الرذيلة لتكرارها العلني، وحفاظا على الشكل الفاضل دون المحتوى الفاسد، يعني سلامة المجتمع تتأتى بستر المؤمنين بعضهم بعضا، «من ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة»، ليس المهم هو الفعل الأخلاقي من عدمه، المهم الشكل العام للمجتمع الذي يجب أن يتصف بكل الفضائل ليكون خير أمة أخرجت للناس. فكانت النتيجة تفشي الرذائل في نخاع المجتمع دون إعلانها، إلا مع سيئ الحظ الذي قد ينكشف فيرجمه الجميع بأحجار ذنوبهم.
إن فلسفة الأخلاق القائمة على مبدأ «إذا بليتم فاستتروا»، هي فلسفة النمر وقاطع الطريق، هي فلسفة لا علاقة لها بأي أخلاق، وأربأ بسيدي المصطفى
صلى الله عليه وسلم
الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، أن يكون هذا قوله.
الشيخ والغوغاء؟!
من نافلة القول إن المثقف غير المؤدلج دينيا أو عنصريا أو طائفيا، هو اليوم أتعس الناس في مجتمع دول العالم الثالث، التي أصبح اسمها مع ازدياد التدهور والتدني، دول العالم المتخلف؛ لأن الخريطة اختلفت فلم يعد هناك اتحاد سوفييتي كعالم ثان؛ لأن بلادا كالهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها قد ارتقت مكانها بين دول العالم الأول، ولم يعد لدينا سوى عالمين: العالم الحر المتقدم، والعالم الديكتاتوري المتخلف. والاختلاف بين العالمين لا علاقة له بالمكان بقدر علاقته بالزمان؛ فالعالم المتقدم يعيش زمنا يختلف بالكلية في المفاهيم ومناهج التفكير والقوانين والسياسة والعادات والتقاليد وباقي نظم المجتمع، عن العالم المتخلف الذي ما زال يعيش زمنا مضى بكل نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والسر في تعاسة المثقف الحر من الأيديولوجيا، أنه الوحيد القادر على إدراك حقيقة ما يعانيه مجتمعه من تخلف؛ لأن بقية وسائل الإعلام والتعليم والتديين تجمع على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ورجل الدين لا يرى في مجتمع المتقدمين أي تقدم، ويمتدح أوضاعنا الحالية في بلادنا ويراه التقدم الحقيقي، بدليل انتشار الحجاب والنقاب واللحية والزي الباكستاني، يمتدح العودة إلى التفكير حسب زمن القرن السابع الميلادي، حيث خير القرون، بل إن أهل البلاد المتقدمة يعضون علينا الأنامل من الغيظ لما حبانا الله به من عزة وكرامة بالإسلام. وما نراه على المتقدمين وما يصلنا من علمهم وابتكارهم وعلاجاتهم ووسائل رفاهيتهم هو كله تقدم زائف أدى إلى تخلف المجتمع بدلا من تقدمه ، فتحلل المجتمع وتفككت الأسرة وانتشر الفجور وعمت الرذيلة وضاعت الأخلاق وانحطت القيم، فأهل الغرب المتقدم بكل علومهم وفنونهم ونجاحاتهم هم في الحضيض بين المجتمعات، أما نحن فأهل القمة، بل نجلس فوق القمة، وهي القمة التي يراها المثقف الحر رأس خازوق عظيم.
Bilinmeyen sayfa
ولك هنا أن تعجب من بجاحة هذا المنهج العليل في التفكير وصوته العالي في الشأن القيمي والأخلاقي، بينما لديه زنا شرعي بألوان زواج لا تشكل أسرة، ولديه اغتصاب شرعي لركوب ملك اليمين والإماء والزوجة الطفلة، ولديه الجنة وإن زنى وإن سرق، وله ارتكاب كل المعاصي بشرط غسلها بالحج أو بالتوبة أو باحتمال بعض العذاب الأخروي الذي سيدخل بعده الجنة حتما، فقط لأنه شهد للإله بأنه الإله وأن محمدا نبيه ورسوله، وهو كله ما لا علاقة له بقيم، أو بأخلاق.
ومع انتشار أجهزة الإعلام الحديثة، وعدم الرغبة في تحصيل المعرفة من مصادرها السليمة لأنها لا لزوم لها، فلدينا القرآن وبعده البخاري، أصح كتابين على الأرض وكفى، تراجعت عادة القراءة في بلادنا وتقزمت، فذبل العقل وعطبت وظيفة التفكير، وهذه الأدوات الإعلامية المتقدمة التي صنعها أهلها لمزيد من التثقيف والتعليم، نستخدمها في بلادنا لتكريس منهج التلقين الجاهز للمحفوظات لوقف استخدام العقل، فكان أن تزايد عدد مثقفي التلقي والمحفوظات لتصبح طبقة الغوغاء والدهماء هي الأكثر عددا وحضورا، وهم ليسوا في حاجة إلى معرفة، ومع تخلي العقل عن وظيفته تحولوا إلى بسطاء في الطاقة العقلية والاستيعابية للمعارف، حتى إنهم ينفرون حتى من التلقي التلفازي ويعزفون عن متابعة المشاهدة إذا كان المطروح عليهم بحاجة للتركيز والفهم والمتابعة الدقيقة، ومما ساعد على تلك الكبوة النكراء لمجتمعاتنا خاصة المصري الذي أعرفه، هو الانهيار الاقتصادي الناتج بالضرورة عن سوء السياسات؛ مما أدى لانهيار مماثل في أسلوب التعليم، مع التكاثر الأرنبي الذي عمل عليه المشايخ بالقرآن والحديث ليفاخر بنا نبينا الأمم، وتقدم علوم الطب التي أدت لتراجع نسب وفيات الأطفال، فلم تعد المدرسة تتسع لهم، فكان أن تم وضع ثلاث وجبات طلابية لمدارس ثلاث على التتابع في مبنى مدرسي واحد، في عملية سلق سريع اختفى معها المختبر والتجربة والعمل الذهني، لما يضيعه من وقت غير متوافر، واختفت معه كل المنافسات الرياضية بين فرق الطلاب، وكذلك الهوايات كالمسرح المدرسي الذي نشأنا على ضرورته على الأقل للاحتفال بالتفوق في نهاية العام بحفل غنائي، وغاب الغناء المحرم وغابت معه الموسيقى وكل الفنون بأخلاقياتها وقيمها وقدرتها على تهذيب الروح والسمو بالقيم، وتحول التعليم إلى محفوظات سريعة، فلا وقت للشرح؛ مما قضى قضاء مبرما على ملكتي التفكير والابتكار، ليخرج هؤلاء من المدارس أسوأ خلقا وأقل معرفة ممن علمتهم الحياة عبر الصواب والخطأ، من الأميين الذين نجد بينهم حكماء، لا نجدهم أبدا بين خريجي مدارسنا أو أزهرنا المبارك.
وهؤلاء الغوغاء هم صفوة جمهور مشايخ الإسلام اليوم، وعندما يستثمر رجال الدين هذه الحالة لتكريسها من أجل سيادتهم على هذا الشارع الجهول والتكسب على حساب جهالته؛ فإنهم يرتكبون أسوأ ألوان الشرور طرا.
فجعلوا من الدين مصدر كل معرفة أو ثقافة، والدين طاعة لا مناقشة فيه؛ ومن ثم تم وأد ملكة النقد، وتراجع القياس والتقدير لغياب المفاضلة، حتى المشايخ أخضعوا أنفسهم لذات المنظومة والفكرة، فمع ظهور قضايا جديدة لم يعرفها الدين ولم يسبق أن وجد مثيل لها وما كانت متوقعة، يقدم رجال الدين تأويلهم للدين أو للقضية، ليعيد تشكيل المشهد الجديد ليظهر شبيها بالمحفوظات عن الأسلاف، فليس للعقل أن يبحث إلا في المدونات الإسلامية حيث كل الحلول والإجابة عن كل سؤال، وليس للعقل أن يضع من عنده شيئا؛ لأنه سيكون وضعيا، والوضعي فساد ومروق واتهام مباشر للمدونات التراثية ومحفوظاتها بالقصور وأنها لم تعد مقبولة عقلا؛ لأن التفكير والمفاضلة والنقد والتقدير والتمييز بين حلول كثيرة، سيدخل الدين تحت هذه الأدوات الثقافية مما ينزع عنه القداسة المصمتة، حيث سيتم إبداء الرأي في أحد مكوناته.
لذلك يحاربون الجديد حتى لو كان علما ضروريا لا بد من تقبله، لأننا إن قبلناه فالمعنى أن نترك التفسير الديني له ونستغني عن هذه الأواني الحافظة ومحفوظاتها.
وتكون النتيجة خروج السيادة المجتمعية والرفاه والسلطان على الناس من أيدي الشيخ إلى العقل ومنهج التفكير العلمي؛ لذلك يتم طرد داروين وتسفيه فرويد والسخرية من الحلول العلمية. ولأن المجتمع قد تم ترحيل معظمه إلى طائفة الغوغاء بمن فيهم أساتذة جامعات وإعلاميون تحولوا إلى مشايخ للغوغاء، فإن الناس لا تقرر ولا تفكر ولا تجيب ولا تقدم حلولا، ويبقى الدور كله بيد رجل الدين الذي سيختار كل الإجابات التي اجتهد عليها السلف لهم من متعدد من ذات المحفوظات، حيث كل الاجتهاد حتى إنهم لم يتركوا شيئا للسلف ليبحثوا فيه، في أساطير تسمى علوما كعلوم الفقه وكتب الفتاوي والموقعين عن رب العالمين.
إن المتابع لطبقة أدعياء المشيخة والدعاة على القنوات الأرضية والفضائية، سيلحظ بغير مشقة أن هدف هؤلاء ليس الارتقاء بمجتمعهم بل السيطرة على غوغائه، وتحويل الغوغاء إلى طاقة قوة حاضرة في المجتمع يحتسب لها حساب، فيجعلهم أصحاب يد طولى، تجد منهم صحفيين وإذاعيين وإعلاميين يتقاضون أعلى الرواتب وهم مجرد غوغاء. وذلك ليتم توظيفهم سياسيا عند الطلب، ومثل هؤلاء هم مشكلة حقيقية لأنهم لا يعلمون أنهم غوغاء.
ويميل الغوغاء إلى تقدير القوة العضلية وتوظيف قدرتهم البدنية التي تجلب لهم الفخر أكثر من أي قدرات عقلية لا يؤمنون بجدواها، ويعتمدون في حل مشاكلهم على مشايخهم وفتاواهم لاعتقادهم بأن أي معرفة قاصرة على هؤلاء؛ لذلك أطلقوا على المشايخ لقب «العلماء» لامتلاكهم أصح العلوم وهي علوم الدين الحاوية لكل المعارف، ويقنع الغوغاء بهذه المرجعية ويطلقون لأنفسهم غرائزهم بعد أن يردد أحدهم لزميله «حطها في رقبة عالم، تطلع سالم»، وبالتالي التنصل التام من المسئولية عن سلوكهم في المجتمع، فيعيشون سعداء بدون تفكير ولا مسئولية ويسعدون ويحبون الشيخ لأنه يحترم تفكيرهم البسيط ولا يعيبه عليهم ولا يكلفهم جهدا عقليا، بل هو يغذي حبهم للخرافة والأسطورة والمعجزة والبطولات، وتسمع تهليلات الحمد والتكبير عند الحديث عن شيء معجز أو بطولة عضلية إسلامية، يحبون الإبهار وتعطيهم معجزة الانتصار في القصص التاريخية على أعداء الدين إحساسا بالمتعة، وأنهم منصورون كما انتصر السلف وهم قلة أذلة بالتدخل الإعجازي، مضافا إلى هذا زخم المشهد الروحي داخل المسجد وصوت آمين الموحد والصفوف المرصوصة بعبادة طقوسية ميسرة ومفهومة؛ لذلك يتماهى الغوغائي بالمقدس والنبي وبالرب وبالقعقاع ومحمد بن القاسم، ويثور لأي حديث لا يعجبه بشأن مقدسه لأنه يشكل اعتداء شخصيا عليه، ولا يدرك أن تحركه العنيف لحماية مقدسه إنما يعني عجز هذا المقدس عن حماية نفسه.
وهكذا فإن الغوغاء قوة لا يستهان بها، فهم يتميزون بالإمكانات العضلية وضمور الإمكانات العقلية، فتقوى قدرتهم على إحداث الشغب والقلاقل المجتمعية، بأساليب تخلو من الحياء والخجل، ويميلون إلى حياة الفوضى بما يملكون من غرائز غير محكومة بقيم الضمير السليم، فينفعلون بشدة لأي فعل. ومن هنا يقدرون من يقدرهم، ويقدر ممكناتهم البدائية فيقدمونه ويرفعونه ليمهد لهم طريق الجنة، ويعوضهم عن شقاء دنياهم، فتتم للشيخ السيطرة على أفعالهم باحتلاله مكان العقل لديهم، ويدفع أكثر نحو تعجيزهم حتى يعجزوا عن اتخاذ أي قرار من تلقاء أنفسهم لأن السيئة من أنفسنا والحسنة من الله ورجاله في الأرض، فيرجعون للشيخ في كل كبيرة وصغيرة وفي كل تافه ضئيل لا يحتاج جهدا عقليا، ويطلبون النصح والإرشاد في التوافه الهينات مع ضمور ملكة التفكير وموت العقل، ذلك الموت الذي يصرخ بالجريمة الكاملة لمشايخنا من أجل حبهم للدنيا وليس للناس وليس للدين.
وعملا بمبدأ «رغبة الجمهور»، قام المشايخ يختصرون الدين في مجموعة طقوس وأدعية جاهزة، تؤدي كل المطاليب، جالبة للخير ومساندة للرب، ساعية بالبركة تسأل الله أن يتولى شئون هؤلاء التعساء بنفسه ليفعل المطلوب بدلا منهم، فيهزم لهم الأعداء ويدك لهم الحصون وينهب لهم ثرواتهم ويمكنهم من عيالهم ونسائهم ويصيبهم بالطواعين والمهلكات. مع مجموعة أدعية لا تكلف مشقة غير حفظها وترديد المناسب منها عند الحاجة، فمنها ما يبعد الشرور، ومنها ما يقي من العين الحاسدة، ومنها ما يبعد الفقر والمرض دون أي عناء أو جهد من المؤمنين للتفكير في حل مشاكلهم بأنفسهم. هذا إضافة إلى وضع القواعد التي تنشئ تواصلهم مع ربهم ليتفهمهم ويستجيب لمطالبهم، فيسير المؤمن الغوغائي وفق جدول محكوم كالروبوت الآلي، يخضع لأوامر تسيره فيما يلبس أو على أي جنب ينام وماذا يقول عندما يتثاءب أو يعطس (يسمونه تشميت العاطس)، وبماذا يرد عليه من حوله، وكيف يبول أو يشرب وماذا يقول بعد ذلك من حمد، وكيف يتغوط أو يأكل أو ينكح أو ينكح، فكلها علامات تأكيدية كلما زادت وحرص عليها المؤمن أعطى ربه الفرصة لتمييزه وفرزه عن بقية خلقه، هي علامات لتمكين الرب من تمييز عباده الصالحين عن غيرهم من غير الصالحين.
Bilinmeyen sayfa
ومع انتشار الفضائيات ووسائل الإعلام بدأت المنافسة بين المشايخ وبعضهم؛ لذلك يسعى كل منهم إلى تقديم أجود ما عنده لمتطلبات السوق؛ ومن ثم يتم إخضاع الدين لآليات الاقتصاد السوقي حسب قانون العرض والطلب، لنيل إعجاب المستهلكين، فينحدر الخطاب الديني إلى مستوى شعبولا ومغني الخضروات والحمير، إلى مستوى غوغاء الشعب الدهماء من أصحاب الذوق المتدني غير الرهيف وغير الرفيع، يستهويهم الخبط والرقع والصوت العالي والخرافة والأسطورة، فيهبط الشيخ بالدين من مكانه السامي إلى مستوى طلب المستهلك، ليرضيهم بمنتجه سعيا لمزيد من الانتشار والانتصار في المنافسة. يهبط بالدين إلى مستوى ذوق العوام بمحسنات تعجبهم، بينما هي تشينه وتشوهه؛ لأن الإسلام بصورته البكر على وفاق مع زمنه ومجتمعه، ولم يكن بحاجة لدعاة ومغيثين وتزويق ومحسنات لونية، وعندما يصبح هدف الدعاة هو الحشد العددي للأتباع، فقل على الدين والدنيا السلام؛ لأن هذا الحشد جاء على حساب سمو الدعوة، وتسطيح الإسلام واختصاره في شعارات سهلة الحفظ والفهم لا تحتاج جهدا عقليا لمحاورتها أو مناقشتها أو التأكد من مدى صحتها.
وهكذا تجد الشيخ لا يستحيي أن يتحدث عن نفسه كنجم محسود (مثل الشيخ خالد عبد الله نجم قناة الناس)، رجل الدين صار يسعى ليصبح نجما فنيا إزاء منافسة شديدة من فنانين آخرين، لذلك يبذل كل جهده ليستهوي الجمهور، بزي مميز، وبأسلوب خطابة رنان مسجوع، بطريقة في الإلقاء تقطع وتصل وتصمت وتصرخ وتجأر وتبكي وتسخر في تمثيلية محسنة الترتيب، وبجرأة من يملك وحده المعرفة المطلقة والنهائية الصحيحة، والتي يجهلها الجميع، ويجيب عن أي سؤال، ويشرح كل غامض.
ويعزز الدور الفني للشيخ توزيع الإضاءة في الاستوديو والديكورات الفخمة والمؤثرات التصويرية والصوتية الملائمة لطبيعة الموقف شاعريا أم حزينا؛ فالخطاب عن الجنة له إخراج؛ فالخطاب عن النار له إخراج، وكلما انتشر اسم الشيخ زاد توزيع مطبوعاته وإيراداته وتهافتت عليه الفضائيات بعظيم رزقها وأبهتها وجاءته الهدايا والنفحات من كل صوب، في مقابل تحويل إسلامنا إلى سلعة شعبية كالأغاني الشعبية المتدنية والهابطة، وليته كان شعبيا كما كان «مصريا» بأوليائه الصالحين وموالدهم وكرنفالاتهم، فقد اختفى التدين الشعبي المصري الحقيقي أمام مسخ شائه حرم كل العلوم والفنون ليبقى هو العارف الوحيد والعازف الوحيد.
الجزء
الدولة الإسلامية ومتابعات جديدة
الفصل الأول
هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين
بعد أن يشرح لنا الدكتور محمد عمارة منهج الوسطية الذي هو منهج الإسلام الصحيح، يوضح معنى مصطلح «الاستعلاء»، بكونه لونا من «الكبرياء المشروع فنعتز بحضارتنا وبديننا وبلغتنا وبأمتنا وبثقافتنا وبكبريائنا» (الجزيرة، خطاب الهوية).
المهم أن هذا الاستعلاء بما لدينا من مبررات الكبرياء على العالمين، يصيب صاحبه بالأوهام ولا يعود يفرق بين الممكن والمستحيل، ففقهاؤنا المحدثون يرون أن المسلمين في طريقهم نحو التمكين، وأن لهذا التمكين علامات، فيقول الدكتور علي الصلابي: «إن القول بأن الأمة دمرت أو أنها مهزومة، فهو قول غير صحيح؛ لأن الأمة تحقق انتصارات، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، إن المستقبل لهذا الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره» (الجزيرة، فقه النصر والتمكين).
ومن ثم يقدم أدلته على الانتصارات التي تحققت للأمة الإسلامية ولدين الإسلام، فيشير إلى: «الانهيار الضخم للاتحاد السوفييتي، وانهيار أمريكا؟! (ربما يقصد ورطتها في العراق أو ربما يقصد دمار سبتمبر 2001م)، وأوروبا في دور التراجع في المجال الفكري والعقائدي والأخلاقي والحضاري، روسيا تريد أن تفتح مصارف إسلامية وكذلك اليابان، أصبحت حقيقة أن الفكر الإسلامي الاقتصادي يحل أزمات حقيقية، وأيضا في المشاركة في الحكم مع الأنظمة القائمة، أصبحت مرجعية الدساتير لكتاب الله ولسنة رسوله، الشعب التركي أعطاهم الأصوات، نجاح المسلمين في مقاومة المشاريع الغازية للأمة دليل على أنها نوع من التمكين، الانتصارات الدعوية الضخمة، في مجال الفكر والأخلاق، انتصارهم في المعارك، بأفغانستان، وتفتت قبلها الاستعمار الحديث ، إن هذه انتصارات ضخمة وهائلة» (الحلقة ذاتها).
Bilinmeyen sayfa
وفى حلقة الصحوة الإسلامية ومآلاتها في القناة ذاتها، يؤكد الدكتور قرضاوي أن الصحوة الإسلامية هي دليل الانتصار؛ لأنها كما يقول: «صحوة اجتماعية سياسية فكرية، الكتاب الإسلامي أصبح الكتاب الأول، هناك مئات أطروحات الماجستير والدكتوراه، الشابات يقبلن على الحجاب.»
إن خطاب فقهائنا المحدثين يصيب المتابع بالارتباك، فنحن نستعلي إذن على الدنيا بدين جاء من عند الله وليس بشيء أنجزناه نحن بأيدينا؛ لذلك اخترنا أنفسنا أوصياء على البشرية القاصرة، لتبليغها هذا الدين والتمكين للمسلمين في الأرض! لماذا وبأي مناسبة وبأي دليل موضوعي؟ هم لا يقولون ولا يجيبون، فعندهم ليس هناك إمكانية مقارنة بين إمكانيات الشعوب ومنجزاتها وبين دين الله؛ فالدين الإسلامي ميزة لأصحابه تغنيهم عن أي إمكانيات أخرى، لذلك هم الأعلون.
فإذا كان ذلك صحيحا وأن الأمة تملك ميزة لا تملكها الأمم الأخرى، فلماذا تخرج المظاهرات في بلادنا تطالب بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولا تخرج المظاهرات في أوروبا وأمريكا واليابان تطالب بالبيعة أو الشورى والحجاب والجهاد؟
مشكلة أخرى تواجهك مع مثل هذا الخطاب، عند التساؤل عمن سيتمكن؟ مرة يحدثك عن الأمة ومرة يحدثك عن الدين، فإذا كانت الأمة هي من سيتمكن فهي تتكون من مجموع أفراد، فأين هؤلاء الأفراد أو حقوقهم في خطاب التمكين؟ لا تجدهم هما شاغلا بالمرة؛ لأن الورقة المخفية في اللعبة هي من هؤلاء المرشحين للتمكين؟ يجيب: هم من يشاركون الآن في أنظمة الحكم بانتصارات جبارة، وهم من أعطاهم الشعب التركي أصواته؛ فالذين سيتمكنون هم مثل الإخوان المسلمين الذين تمكنوا من المشاركة في حكومات عربية، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي، وأيضا من الذين يتمكنون، هؤلاء الذين يقاومون كما يحدث في أفغانستان؟!
من يوم ما أمسكت القلم أكتب وأكرر وأقول وأزيد «كلهم واحد»، ولا أذن تسمع ولا بصيرة ترى، هذا رجل في فلتة لسانية يرى الإخوان وحزب الفضيلة وبن لادن والزرقاويين هم من يسعون للتمكين، وهم أهل التمكين، دون بقية المسلمين، ودون أن يفرق بينهم أو يمايز أو يفاضل، وأن المستقبل لهم، بعد أن يمزج بينهم كبني آدمين بصوابهم ونقائصهم وبين الدين الكامل النظيف؛ فالعلماء هم الإسلام، لينتهي إلى أن هؤلاء هم من سيمكنون للدين عندما ينتصرون. وهكذا فالطريق إلى الله سيمر عبر حروب دموية جديدة.
وكم كنا نتمنى للفكر الفقهي المعاصر أن يكون قد تجاوز هذه العثرة، عثرة أن يكون الطريق إلى الله مفروشا بدم خلق الله، كما الزرقاوي وكما بن لادن وكما بن السباعي سفيه لندن، وكما بن القرضاوي وكما بن عاكف، وكما بن هويدي، كلهم في الدموية ملة واحدة. أضف لذلك أنهم يتجملون بوصول حزب إسلامي إلى السلطة في تركيا مجرد تجمل؛ لأنهم يرفضون المنهج العلماني الليبرالي الديمقراطي برمته، ويعلنون تبني الديمقراطية كمجرد واجهة وتطبيقا لمنهج التقية، انظر مفاجأة المذيع للدكتور الصلابي وهو يسأله: «إذن أنتم تعتبرون حزب العدالة والتنمية نموذجا إسلاميا صالحا ليسير بالأمة نحو النصر والتمكين؟»
السؤال جاء بغتة، فانظر إجابة الصلابي الذي ارتبكت صلابته فقام يغمغم بالنص: «لأ هوه ... نحن نعتبر ... هوه ... طبعا نعتبر ... أن ... هم لهم علاقات بأمريكا واعترفوا بإسرائيل، هذا نوع من السياسة الشرعية عليها جدل بين المسلمين ونحن يهمنا المضمون لا الشعارات.»
التمكين إذن لن يكون لا للإسلام ولا للأمة الإسلامية، إنما للفريق الإسلامي الذي سيركب الأمة ليوجهها نحو حرب عالمية مقبلة يجهز لها أصحاب التمكين، ستكون بين المسلمين في جانب والعالم كله في جانب آخر، اسمع السيد الدكتور يشرح معنى التمكين فيقول: «التمكين الذي ندعو إليه هو التمكين الرباني، وما نراه من تمكين مادي في الحضارة الغربية أو الأمريكية أو في اليابان فهو دنيوي يعزل الناس، التمكين يبدأ بالاستدراج، استدراج الأمم والشعوب ... التمكين هو الوصول إلى السلطة وإلى القوة والهيمنة لتحكيم شرع الله ... والهدف الأكبر ... هو هيمنة هذه الأمة وإرجاع دورها الحضاري في هداية الناس ... الهدف الوصول للدولة لاستخدام هذه الدولة في تطبيق شرع الله.»
مرة أخرى لا تجد في واجهة الصورة أي وجود للمواطن، لا تجد فاعلا سوى رجل الدين، فالتمكين مسألة تحتاج كما يقول: «إلى العلماء لإتمام صياغة هذا المشروع الإسلامي الحضاري للتصدي للغزو الغربي وأفكاره الدخيلة.» وهو ما يدعمه فيه بشدة المرجع الفقهي د. يوسف قرضاوي، وإن رأى أن «العلماء التقاة هم من يعرض المشروع على الأمة» (حلقة الدستور ومرجعية التشريع، الجزيرة). وبعدها كما يقول الصلابي: «يأتي دور صاحب القرار السياسي مع العلماء الربانيين في بلورة هذا المشروع.» ولا تفهم هنا كيف تكون الأمة منتصرة كل هذه الانتصارات التي يزهو بها، بينما هي قد بلغت درجة من الضعف تعرضت فيه ثقافتها للهزال والتآكل، حتى أمكن أن تتعرض للغزو الغربي الحضاري وأفكاره الدخيلة، حتى إن التمكين يبدأ أولا بصياغة مشروع ليتصدى للغزو الفكري.
نتابع فضيلته وهو يشرح معنى التمكين، فيكرر: «هو نوع من أنواع الاستدراج:
Bilinmeyen sayfa
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، وأمريكا الآن متورطة في العراق، ونحن نحيي المقاومة العراقية السنية الباسلة على إفساد مخططاتهم.»
مع مشايخ زماننا تجد نفسك دوما في مشكلة مع المفاهيم، فلا تفهم لماذا لا يؤهلون شعوبنا للصراع الحضاري؟ فنكون شعوبا فاعلة منتجة تدخل المنافسة مع الشعوب الأخرى، فنضيف للحضارة، وتصبح بلادنا موجودة على الخريطة فعلا! لا تفهم لماذا كي يتقدم المسلمون لا بد أن يتم خراب بيوت غيرهم وانهيار حضارتهم أولا، وبعدها يبدأ غزونا لهم لنتمكن في الأرض، فهذا هو درس التاريخ، انظره يقول: «بالدماء وبالعقيدة الصحيحة وبحب الشهادة في سبيل الله، استطاع المسلمون أن يحققوا انتصارات هائلة.»
والتمكين المنتظر ليس فوضى، إنما هو يسير على قانون تطوري مرسوم سلفا، ويشرح الأستاذ الدكتور هذه المراحل فيقول: «في القرآن الكريم التمكين على مستوى الأفراد مثل ما حدث ليوسف، ثم تمكين على مستوى الجماعات، كما حدث لرسول الله، المرحلة الثالثة مرحلة الانتقال في التيه (تيه بني إسرائيل وموسى في سيناء)، والمرحلة الرابعة طالوت مع جالوت، والمرحلة الخامسة مرحلة داود وبعدها مرحلة سليمان، هذه هي دورتنا الحضارية، ولكل مرحلة سمات محددة.»
إذن فحضارتنا لها دورة، مش أي كلام يعني! مثل دورة حياة دودة القز، وتبدأ دورة التمكين بالتسلل إلى الحكومة كما حدث ليوسف في استدراج فرعون ليعرف بقدراته فتمكن، (وهو ما يشبه ما حدث من الإخوان في اختراق أجهزة الدولة الحساسة في أيامنا)، وقد يكون التمكين كاملا على الجماعة الكبرى، من قبل مجموعة منها، وقد عرفنا هذه الجماعة المرشحة للاستيلاء على الحكم، فهم مثل الإخوان ومثل القاعدة ومثل طالبان، وذلك كما حدث زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم . ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة التيه وهي التي نعيشها اليوم، والتيه يعني البحث عن خلاص والعثور على الطريق نحو الهدف، مثل خروج بني إسرائيل بقيادة موسى من مصر نحو فلسطين، والتيه حدث في سيناء حتى تم حشد القوة والقدرة الممكنة لغزو فلسطين واحتلالها. إذن نحن في مرحلة حشد القوة للغزو الخارجي، هنا تأتي مرحلة طالوت وجالوت، وطالوت بالتوراة هو شاءول أول ملك لإسرائيل، وجالوت هو جوليات بالتوراة الذي كان قائدا فلسطينيا يدافع عن فلسطين ضد الغزو اليهودي، وقد انتصر طالوت الإسرائيلي على جالوت الفلسطيني بعد قتال مرير، والمعنى أنه ستكون هناك حرب ضرورية حسب هذه المراحل التطورية لينتصر فيها المسلمون مع طالوت على اليهود الذين أصبحوا حسب هذا الفهم مع جالوت، (بالطبع بعد إجراء عملية أسلمة لطالوت كما تمت أسلمة جميع الأنبياء قبله وبعده.)
وإذا ما تساءلنا عن موقع معاهدات السلام بين العرب وإسرائيل من دورتنا الحضارية ومراحلها نحو التمكين، فإن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق يجيبنا في كتابه: «حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها» بقوله: «اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ رسول الله رسالته وإلى أن يخرج الدجال، إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلا: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله «متفق عليه»، وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسوله إنما كان حسدا وبغيا أن تنتقل رسالة النبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله، ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو يكذب بوعد الله ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر.»
وبعد الانتصار الساحق، ومن فلسطين المحررة والموحدة على يد داود (رمزا للمؤمنين)، ستبدأ المرحلة الأخيرة من التمكين وهي مرحلة سليمان، فبعد شاءول أو طالوت كملك أول لإسرائيل، جاءت مرحلة الملك داود الذي وحد الدولة وأقام لها المركزية، كذلك يعتبر داود المؤسس المعتبر للمملكة الإسرائيلية، وبعده جاء ولده سليمان، وهو في العقيدة الإسلامية حسب نص الحديث واحد من بين أربعة ملوك تسنى لكل منهم حكم العالم أجمع كله شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، «روى مجاهد عن ابن عباس قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان: فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران: فالنمرود بن كنعان وبخت نصر.»
المعنى واضح إذن؛ فالتمكين يبدأ من بلد مسلم تقوده تلك الفئة الخاصة المتخصصة في التمكين، لتبدأ بتحرير فلسطين، وقيام حكومة إسلامية عالمية تحتل الأرض كلها من بعد ذلك. وتحقق التمكين بسيادة العرب الأميين على العالمين!
هذا كلام يقال في العلن من على الفضائيات وليس في اجتماعات سرية لخلايا إرهابية، فهل ترى ثمة أملا بعد في تفهم فقهاء عصرنا لظروف عصرنا؟ وهل تراهم يعيشون واقع أيامنا بالفعل؟ وهل تلك الأدوات التي عرضوها علينا لتمكينهم من رقابنا ثم من رقاب العالمين، هي أدوات حقيقية وفاعلة؟ أم هو خطاب توهمي مريض بشدة؟ غارق في تخلفه قرونا إلى الوراء، ولا يملك بيديه أي إصلاح ممكن لأي شيء.
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
الإخوان الوهابية
عندما طرح سؤال الحضارة نفسه علينا بعدما آلت إليه دول الإسلام من تخلف هائل أمام تقدم غربي أكثر هولا، عقد المسلمون المقارنة بين رجال المسلمين في عصرهم الذهبي وبين واقعهم المتردي اليوم، وأجابت مصر عن السؤال بالانفتاح على الحضارة وتأسيس دولة حديثة على يد محمد علي، وأصبحت في زمن قياسي منارة حضارة ومدنية وتدين سمح، فكانت تصدر إلى جوار عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل وفقهاء الدين، أدبا وفنونا وأفكارا، فصدرت العقاد وقاسم أمين وطه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده وأم كلثوم وعبد الحليم وعمالقة السينما والمسرح والفن التشكيلي، وزهت بزرعها وصنعها وفاضت على غيرها من خيرها دون من ولا أذى ، خاصة على الحجازيين نظرا لشظف عيشهم حينذاك وحتى زمن قريب، وأحقيتهم الشرعية للصدقة والزكاة ناهيك عن كونهم حراس الأرض المقدسة.
هناك على الجانب الآخر من البحر الأحمر جاءت إجابة أخرى عن سؤال الحضارة، إجابة لم تنشغل بالفرد المواطن؛ لأن العقل الواقف وراءه عقل لا يعرف الأرض والوطن والاستقرار وإقامة الحضارات، وإنما عقل ينشغل بسيادة الأمة وكرامة الدين، عقل بدوي أقصى ما يمكنه عمله إلى جوار القتال والغزو هو الرعي والتجارة، فجاءت الإجابة انتكاسة إلى الوراء تبحث عن خير القرون لتلتزم بتفاصيل سننه، ليتدخل الله تدخلا سحريا إعجازيا لنصر خير أمة أخرجت للناس، كانت غاية محمد بن عبد الوهاب (1703-1791م) إصلاح الإسلام كي يرضى الله عن أمته المختارة فيسبغ عليها الازدهار والانتصارات وعودة الفتوحات، وذلك بالعودة إلى الإسلام الصحيح وتطبيق أحكامه وحدوده وإقامة شعائره الظاهرة والباطنة بكل دقة. وأطلق ابن عبد الوهاب على نفسه وعلى أتباعه لقب «الإخوان».
ومن غرائب تاريخنا أن مصر وهي في نهضتها كانت تحارب الاستعمار الإنجليزي، بينما كانت الوهابية بعد حلفها السياسي مع أولاد سعود والإنجليز، تقوم بثورة على الخلافة، فمن جزيرة العرب خرجت الخلافة وصناعها، ومن جزيرة العرب خرج من يهدمون الخلافة بالتحالف مع الإنجليز.
وفجأة تحولت الوهابية عندما أصبحت حركة سياسية مالكة مسيطرة حليفة للعرش، نحو التشدد والتصلب الديني في كذب على الذات يقسم الدنيا بعقيدة الولاء والبراء إلى عالمين، عالم إيمان وعالم شرك، بينما كانت تحالف من تطلق عليهم بلاد الشرك من الإنجليز وما حكايات لورنس ببعيدة. ومن بعدها ومع انهيار الإمبراطورية البريطانية والاستعمار القديم، ظلت السعودية حليفة للأمريكان حتى يومنا هذا، بينما كانت مصر الآخذة بحضارة الغرب تتحول عنها إلى النظام العسكري، وتعلن حربها على هذا الغرب ممثلا في إسرائيل وأمريكا. مما أدخلها في هزائم ونكسات متتالية، وبثمن دماء أبنائها ارتفع سعر البترول في بلاد ابن عبد الوهاب، حتى أصبحت السعودية واحة غناء في معجزة اقتصادية غير مسبوقة، بينما كانت مصر في انحدار يتلوه انحدار، وخسائر إثر خسائر.
ومع سقوط الخلافة رسميا ظهرت في مصر بعد سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة جماعة تحمل الاسم ذاته للجماعة الموجودة بالحجاز، وتحمل أهدافها المعلنة ذاتها؛ مما يشير إلى تحالف غير مرئي من البداية، قرر فيه بعض المصريين وهم يرون المعجزة السعودية أن يقيموا شريعة الله حسب ما فعل إخوان السعودية، حتى يتدخل بنعمته ويفعل هنا على الضفة الغريبة ما فعل هناك على الضفة الشرقية، وليس ذلك على الله ببعيد.
وأعلن الإخوان المصريون إعلان الإخوان الحجازيين، وهو فشل جميع الأنظمة (عدا النظام السعودي بالطبع وحده لأنه يطبق الشريعة، ولأنه يملك جغرافية وتاريخ الإسلام، ولأنه حليف ابن عبد الوهاب) وإعلان فشل جميع الأيديولوجيات، وأن الإسلام وحده هو الحل، وفيه كل الحلول الإعجازية لكل المشاكل الأزلية والويلات التي جنتها علينا الأنظمة الرأسمالية والشيوعية، (انظر حسن البنا مجموعة الرسائل ص176، 191، 312) وأعلن حسن البنا إعلان الإخوان الحجازية ذاته وهو: «أن القرآن يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصايا النبيلة» (المصدر نفسه، ص127).
ومع وصول سيد قطب إلى ساحة الفكر الإخواني، التقى التقاء تلاحميا مع إخوان الحجاز، فأدخل هو والمودودي الحركة منعطفا جديدا يستلهم مضامين الفكر الوهابي تحديدا، والمتشدد الكاره المتسلطن دنيا وآخرة وحده دون غيره من المسلمين أو غير المسلمين. وصار مرجع كليهما فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية، مع اتفاق على مصطلحات إخوانية مصرية حجازية من قبيل: جاهلية المجتمعات وحاكمية سيد قطب، وأن الحرب القادمة ستكون بين المادية المتمثلة في الأرض كلها وبين الإسلام (الظلال، ج، ص8) لقد كانوا يجهزون قبل 11 سبتمبر 2001م بسنوات طوال!
ونتيجة لما وصلت إليه الدولة المصرية من طراوة ورخاوة ومزايدة وفساد، فقد نخر السوس الإخواني أهم أجهزة توجيه الرأي العام فيها، حتى تحول الشارع المصري إلى شارع وهابي، وأصبح عدد الإرهابيين في العالم بعد السعودية هم من المصريين. وعلى مستوى الإنجاز العلمي والفني، فإن مصر تأتي بعد السعودية في تصدير الفكر الوهابي ثقافيا، وإعلام مصر يكاد لا يختلف سوى فتيل عن التلفزيون الحجازي (وفتيل هذا هو: أخبار الأسرة المالكة هناك وأخبار الأسرة الحاكمة هنا).
أصبحت مصر والحجاز بنعمة الله إخوانا، ويخدعنا التاريخ مرة أخرى، لنجد السعوديين قد تركوا لنا السنة وأكل الثريد باليمنى، ودعاء دخول الغائط، ليلحقوا بفنادق الخمس نجوم حيث يطهون الطواويس والغزلان والكافيار، وينعمون بالجاكوزي والحمامات الفاخرة التي لا ينفع معها دعاء دخول الغائط، حتى ولو ذوقيا.
Bilinmeyen sayfa