Intellectual Struggle in Colonized Countries
الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
Yayıncı
دار الفكر الجزائر / دار الفكر دمشق
Baskı Numarası
الثالثة
Yayın Yılı
١٤٠٨ هـ = ١٩٨٨ م / ط ١ القاهرة ١٩٦٠ م
Yayın Yeri
سورية
Türler
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الصّراع الفكري
في البِلِادِ المسْتعمَرة
1 / 1
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
الصّراع الفكري
في البلاد المستعمرة
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر الجزائر
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 3
الطبعة الثالثة ١٤٠٨ هـ = ١٩٨٨ م
ط ١ القاهرة ١٩٦٠ م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١، ترك أستاذنا مالك بن نبي، ﵀، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي).
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، ﵀، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩
عمر مسقاوي
1 / 5
تنبيه
هذه أول محاولة للمؤلف في كتابة اللغة العربية مباشرة، فشأنها شأن كل محاولة: إنه لا يمكنها أن تكون في صورة مرضية.
وإذن فلا غرابة ألا يجد القارئ في هذه الصفحات الرونق الأدبي الذي تعوده عند كتاب العربية، وعليه فإذا حصل له ملل خلال القراءة، على الرغم من الجهد الذي بذله الأستاذ عمر مسقاوي، الذي تفضل بمراجعة الأصول من أجل، تقويم الأسلوب اللغوي، فإن هذا الملل أمر متوقع.
غير أن القارئ العربي سوف يجد تعويضًا عن ذلك من ناحية أخرى. إذ ربما يكون أول من يقرأ ما يكتب في هذا الموضوع. ولا يفوتنا في هذا التنبيه أن نلفت نظر القارئ من الآن إلى ما نعني بالأدب التقدمي بوصفه مصطلحًا تناولته هذه الدراسة في أكثر من مكان: إننا نعني الأدب الذي ظهر في بعض الأوساط الفكرية في البلاد الأوربية، ويمثله في فرنسا كتاب مختلفون في الاتجاه السياسي مثل (مورياك) أو (روبرت برا) من اليمين، و(سارتر) أو (فرنسيس جانسون) من اليسار.
المعادي ٢/ ٥/ ١٩٦٠ م. ب. ن.
1 / 7
مدخل
هناك أشياء لا يجدي الحديث عنها، إن لم يكن مستمدًا برهانه من تجربة شخصية تضيء الموضوع من الداخل بضوئها الخاص.
والصراع الفكري في البلاد المستعمَرة واحد من تلك الأشياء، فليس للقارئ إذن أن يتعجب، إن رأى كاتبًا يطرق هذا الموضوع من زاوية تحددها له تجربته الخاصة، بما في هذه الكلمة من إشارة إلى بعض التفاصيل من حياته الشخصية، ولا مجال هنا لذكر علة هذا الموقف للكاتب في البلاد المستعمرة، لأن الأمر يستدرجنا إلى الحديث الطويل عن أوضاع البلاد ومقوماتها الفكرية، وربما سوف يأتي هذا الكلام أو بعضه في محله خلال هذه الدراسة.
فيكفينا أن نقول في هذا المدخل إن الكاتب مضطر إلى هذا الموقف بطبيعة الموضوع، خصوصًا إذا ما اضطرته الظروف القاسية للدفاع عن أفكاره في فترة معينة، عندما يمر الصراع الفكري بأزمة خاصة كما يحدث في البلاد المستعمرة، حيث تجهل غالبًا أمر الصراع الفكري بينما هو يدور في أرجائها، ومن أجلها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن الكاتب التقدمي، في الخارج، يجهل هو الآخر هذا الصراع، فنراه مثلًا يشارك في المعركة ضد الاستعمار بجانب المستعمَرين، ولكنه يشارك فيها ما دامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري كأنما يضيق صدره منها في طابعها الجديد، أو أنه بعبارة أخرى، يرى أن من حق الرجل المستعمَر أن يدافع عن
1 / 9
نفسه ما دام دفاعه في الحقل السياسي، ولكنه حينما ينتقل دفاعه إلى الميدان الفكري، يرى أن هذا الرجل قد دخل مكانًا لا حق له في دخوله.
ومن الممكن أن يفسر هذا الوضع بالجهل الذي يحيط بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة سواء من ناحية أهل البلاد، أو من ناحية الكتاب التقدميين في الخارج، ولكن التجربة تدل على أن هذا الجهل قد يكون مصطنعًا، بصورة أو بأخرى، مما يجعل القيادة السياسية في البلاد المستعمرة تتخذ من معركة الأفكار - ولأسباب معينة- موقفًا حياديًا أو سلبيًا، وأحيانًا معاديًا.
كما يتخذ الكاتب التقدمي - في الخارج ولأسباب أخرى- الموقف نفسه، فتراه وهو يخوض المعركة ضد الاستعمار إذا به كأنه ينحاز إلى صفوفه، حينما تتخذ هذه المعركة صبغة فكرية.
ولو حللنا هذا الموقف الغريب وجدنا أن هذا الكاتب التقدمي، إما أنه يخضع لاعتبارات ملقنة أو لعقد موروثة، وهو في كلتا الحالتين يصبح موقفه إزاء الصراع الفكري في البلاد المستعمرة موقف العداء أو الحياد، فحينما يقدم كاتب من هذه البلاد كتابًا للطبع، ترى الكاتب التقدمي مثلًا يعلن عنه في صحيفته بثلاثة أسطر أو أربعة «كتاب اتخذ صاحبه موقفًا يناقض موقف الأحزاب الوطنية».
فإذا ما تصورت أن هذه الصحيفة توزع على نطاق واسع في البلاد المستعمرة، التي تدور فيها المعركة الفكرية، فسوف تدرك مدى تأثير هذه الجملة الغامضة على مصير الكتاب، خصوصًا إذا ما تابعت الصحيفة خطتها بعد صدوره، فنشرت مثلًا قائمة لـ «الكتب القيمة التي صدرت خلال الشهر» وتناست أن تذكره من بينها.
وهكذا نشاهد موافقات غريبة بين بعض مواقف الكتاب التقدميين
1 / 10
وما يخططه الاستعمار، حتى يرتاب من يشاهدها فيصبح يتساءل: هل هي مجرد موافقات، أم هي على العكس اتفاقات تحمل طابع الصراع الفكري في أغمض صوره.
مهما يكن من أمر فليس موضوعنا دراسة هذا الجانب من المشكلة، لأنه ينبغي لنا في دراستها أن نأخذ في اعتبارنا معطيات الشخصية التقدمية وخصائصها، مما لا يدخل في سياق حديثنا، غيرأنه لا بأس في أن نذكر للقارئ بعض تفاصيل مما يمكن أن نسميه (الأدب التقدمي) دون أن ننسى مجابهته لعمليات الاضطهاد في الجزائر مثلًا، أو في إفريقيا الجنوبية.
ففي الجزائر نشهد بأن الكاتب التقدمي يقوم بالدور القيم، في فضح وحشية.
الاستعمار في البلاد المستعمرة وكشفها للرأي العام العالمي.
ولكن هذه الملاحظة لا تزيد موقف الكاتب التقدمي إلا غرابة، حينما نراه من ناحية أخرى يلتزم الصمت أمام بعض الجرائم الاستعمار ية، بينما يثيره غالبًا، ما هو أقل منها، فيدهشنا موقفه في وقائع ذات دلالة: فقد رأينا مثلًا، منذ سنة، تلك الفاجعة التي عنونتها الصحافة، حتى في البلاد الربية، بـ (خطف خائن كبير في الجزائر)، وكانت بهذا النبأ، المنقول عن شركة أنباء أمريكية، تشير إلى مأساة مؤلمة وجريمة لا تغتفر، ارتكبها الاستعمار ضد فضيلة الشيخ العربي التبسي، الذي اختطفته فعلًا اليد السوداء في العاصمة الجزائرية حيث انقطعت أخباره من ذلك الحين.
ومن تتبع أنباء هذه المأساة يرى أنه قرأ في الصحافة نبأ اختطاف (الخائن الكبير) في سطرين، ثم ثلاثة أسطر للتدارك بعد أسبوع وكان التدارك مائعًا جدًا، حتى إنه لم يزل الشبهات التي ألقاها في الأذهان النبأ السابق، كأنما اليد التي حررت هذا التدارك زميلة اليد التي حررت نبأ الاختطاف وزميلة اليد التي اختطفت.
1 / 11
وهكذا نرى: ثلاثة أسطر تشوه اسمًا محترمًا، وسطران لتدارك مريب ...
ثم يسدل الليل ظلامه مرة واحدة على مأساة هذا الشهيد الذي قام في وجه الاستعمار خلال ثلاثين سنة.
وهكذا يسود الصمت في تلك الصحافة التقدمية، ذات اليمين أو ذات الشمال، بينما هي ملأت العالم صراخًا حينما اعتقل وحوكم الكردينال (مندزانتي).
وها هو ذا رجل آخر، ذلك الصحفي هنري علاج الذي اعتقلته اليد نفسها التي اختطفت الشيخ العربي التبسي، وعذبه الجلادون أنفسهم، ولكنه لا زال حيًا يرزق وينشر عن تعذيبه كتاب تذيع الصحافة التقدمية صيته في أرجاء العالم. ويبلغ طبعه في البلد الواحد- مثل بريطانيا العظمى- الملايين من النسخ، ثم تعرضه الولايات المتحدة في معرضها في موسكو خلال شهر آب سنة ١٩٥٩. وهو لكاتب شيوعي!!!
أليس لمن يتتبع هذه الأمور ببعض الاهتمام الحق في أن يتساءل: هل هذه مجرد موافقات أم هي محاولات لتحقيق أهداف معينة، أو بعبارة أخرى: هل هي اتفاقات خاصة بالصراع الفكري؟.
إن شعورنا بمأساة الرجل الذي يعتقل ويعذب واجب، ولا بد أن نحني الرؤوس أمام كل محنة إنسانية، ولكنه من واجبنا أيضًا أن نتمسك بحرية الفكر حتى أمام الموت مع خشوعنا إزاءه.
إن تفاصيل كالتي نذكرها قد تأتي في صور متنوعة في موقف الكاتب التقدمي، وفي مستويات مختلفة.
إنني أذكر ما اعتراني من العجب خلال مطالعة أخيرة- وهي دون أي شك من أفيد مطالعاتي- فقد تتبعت خطوة خطوة، فكرة الكاتب ملاحظًا فيها أكثر
1 / 12
من مرة وجوه التشابه بين أفكاره وأفكار أودعتها في كتاب نشرته منذ زمن غير بعيد.
وكان العجب يعتريني خلال هذه المطالعة إذ أنني لم أر الكاتب التقدمي يذكر- ولو مرة واحدة- كتابي، حتى حينما يكون وجه التشابه بيننا لا يمكن أن يفسر بمجرد الصدفة. بل كنت أراه يلجأ في حالة كهذه إلى التعبير عن الفكرة المشابهة بألفاظ أخرى، ثم يتبعها بتعليق فيقول مثلًا: «إنه لمن فضول القول أن نقول كذا وكذا ..» وكأنه يحاول بهذا التعليق أن يجعل التشابه من طبيعة الأشياء حتى يبعد عن ذهن القارئ التساؤل في شأنه.
وهكذا تصبح الفكرة المستعارَة من مؤلف من أبناء المستعمَرات شيئًا لا يحتاج إلى ذكر صاحبه لأنه من الأشياء المتداولة، حسب التعليق الذي علق به الكاتب التقدمي الذي استعارها، وفي مكان آخر لا يلجأ هذا إلى مثل هذا التعليق، وإنما هو يبدل الألفاظ التي تعبر عن الفكرة: فقد تحدثت مثلًا عن الشعوب الإفريقية الآسيوية ووصفتها بأنها تكوّن (الطبقة الكادحة في العالم)، فنرى الكاتب التقدمي يبدل بهذه العبارة أخرى فيقول (الطبقة الكادحة العالمية).
وليس لنا بعد هذا أن نصدر- بمقتضى هذه التفاصيل- حكمًا عامًا بخصوص الأدب التقدمي والكتاب التقدميين، فإننا نجد في مواقفهم في أوربا من سمو الأفكار، وعلو النفس وطيبة الخاطر، وشجاعة الفؤاد ما هو جدير بالاحترام من كل إنسان يحترم نفسه. وإنما كان علينا في هذا المدخل أن ننبه القارئ الذي لم تسبق له خبرة بالموضوع، إلى بعض الجوانب المجهولة من الصراع الفكري في البلاد المستعمرة.
***
1 / 13
الفصل الأول
عموميات عن الصراع الفكري
ــ
يجب علينا أن نرجع إلى الوراء شيئًا ما، لنرى كيف بدأ الصراع الفكري يأخذ طابعه في البلاد المستعمرة.
يجب أن نرجع- على الأقل- نصف قرن إلى الوراء في مجرى الوعي الإسلامي، اي في اللحظات الأولى التي بدأ يستيقظ فيها حوالي سنة ١٩٠٠ م: إن الستار يرتفع على المشهد الأول من المسرحية التي نحاول هنا وصف بعض مقاطعها.
ويمكننا أن نتصور المسرح الذي يرفع فيه الآن الستار في بلد معين، حتى يكون لنا إلمام أكثر بالميزات التاريخية والنفسية التي تسم الأشخاص، الذين يقومون بدور في هذه المسرحية، مع العلم بأنها ميزات ذات طابع عام يشمل العالم الإسلامي كله، ولا يختلف في مكان منه عن مكان آخر إلا بقدر ما تختلف الأسماء والتواريخ.
ففي الجزائر مثلًا نرى الستار يرتفع عن شعب لا زال يخدره النوم الذي أخنى عليه بضعة قرون: إنه الشخصية الأولى.
ولكن في اللحظة نفسها تدخل شخصية ثانية نطلق عليها (فكرة متجسدة)، لأنها تتمثل في شيخين وقورين: هما الشيخ بن مهنا والشيخ
1 / 14
عبد القادر المجاوي، يتقدمان على مسرح التاريخ الجزائري بوصفهما أول بطلين في الصراع الذي بدأ حينئذ ضد المرابطين والخرافات.
ولما كان لظهورهما دوي كبير في البلاد، جاءت شخصية ثالثة تدخل على أثرهما: هي الاستعمار.
فالاستعمار يدخل المسرح حتى يعيد إلى جوه صمتًا يغار ويحرص على بقائه كي يطيب للنائمين نومهم.
ذلك هو المشهد الأول من الصراع الفكري في الجزائر.
ولكن الاستعمار لا يلجأ في هذا الفصل الافتتاحي إلى غير وسائل القوة، إذ هو يدرك أنه يواجه (فكرة متجسدة)، يمكنه إقصاؤها عن خشبة المسرح إذا ما أبعد الشيخين اللذين يمثلانها، وكذلك فعل بالضبط.
ولكن سرعان ما تبين له أن الفكرة التي أراد إقصاءها بقيت حية في ميدان المعركة، إذ بقيت في صورة جديدة بوصفها (فكرة مجردة) استقرت في ضمير الشعب.
وهكذا يبدأ الفصل الثاني من الصراع الفكري، إذ أتيح للاستعمار أن يستنتج من الفصل الأول، الاستنتاجات التي سيطبقها فيما بعد في تخطيط سياسته الايديولوجية، إنه يدرك أن وسائل القوة إذا خابت إلى حد ما- كما رأينا في الفصل الأول في مقاومة فكرة متجسدة- فإنها ستخيب حتمًا وبالأحرى في مقاومة فكرة مجردة، وأنه يجب إذن اتباع خطط أكثر دقة.
وهنا يبتدئ الصراع الفكري على حقيقته، إذ أن الاستعمار سوف يجتهد في هذا الفصل الجديد، في امتصاص القوى الواعية في البلاد المستعمرة بأي طريقة ممكنة، حتى لا تتعلق بفكرة مجردة، ومن البديهي أنه سيحاول أولًا تعبئتها
1 / 15
لحساب فكرة متجسدة تجسّدًا تصبح معه أقرب إليه منالًا، لأنه يمكنه مقاومتها إما بوسائل القوة أو بوسائل الإغراء.
على أن الاستعمار لن يسلك هذا الطريق فقط، بل إنه سوف يواصل في الوقت نفسه حربه ضد الفكرة المجردة بوسائل ملائمة فيها أكثر مرونة، ويستعين من أجل ذلك بخريطة نفسية العالم الإسلامي: وهي خريطة تجري عليها التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها رجال متخصصون مكلفون برصد الأفكار؛ إنه يرسم خططه الحربية ويعطي توجيهاته العملية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمرة، معرفة تسوغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد حسب مختلف مستوياته وطبقاته، إنه يستخدم لغة «الفكرة المتجسدة في مستوى الطبقة المثقفة، فيقدم للمثقفين شعارات سياسية تسد منافذ إدراكهم إزاء الفكرة المجردة».
وفي مستوى آخر تراء يفضل لغة الدين، لأنها تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة، في هذا المستوى.
غير أننا في مستوى أدنى درجة نراه يستغل جهل الجماهير، لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع، وهكذا حتى يصل إلى أحط مستوى يستخدم سلاح المال، إذ يكون لنفسه بهذه الوسيلة صداقات، أو كما يعبرون بلغة الحرب اتفاقات في البلاد المستعمَرة، تساعده على توجيه هجمات محكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجهة الفكرية.
ثم يزيد في إتقان خطته، فتراه يسدل ظلامًا شاملًا على تلك الجبهة كي يعزلها عن ضمير الشعب المستعمر نفسه وعن الضمير العالمي.
وبهذا يصبح وضع الأشياء وكأننا في قاعة غارقة في الضوء، بينما يبقى المسرح ذاته غارقًا في الظلام.
1 / 16
تلك مسرحية مخرجها الاستعمار، وهذا المخرج لا يريد أن يشاهد النظارة فعلًا ما يجري على خشبة المسرح.
هذا هو الأسلوب الخاص بالصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، نرجو أن نعطي عنها صورة موجزة في هذه الصفحات.
...
طالما حلم إله الحرب أن يكون تحت تصرفه السلاح المطلق، الذي يعبر المسافات، ويتخطى حدود الأوطان، ولا يرد بأسه بأية وسيلة.
وقد تحقق هذا الحلم القديم، باستخدام الطاقة النووية وبإعداد الصاروخ العابر للقارات.
ولكن سرعان ما قلب هذا السلاح المطلق قضية الاستراتيجية في العالم رأسًا على عقب: إنهم كانوا يقولون في عصر الحروب الكلاسيكية، إن ربع الساعة الأخير هو الذي يقرر مصير الحرب. أما الآن فينبغي أن نقول إن ربع الساعة الأول هو الذي يقرر مصيرها.
من هنا اتخذت الأشياء مغزى جديدًا في المنطق الحربي، الذي سيطر على قادة السياسة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى أن مستر دلاس لو كان صريحًا وجهر برأيه، حينما كان يعد إنشاء قاعدة حربية لبلاده في آسيا، لقال: إنه يريد في الحقيقة إنشاء مانعة صواعق، تجذب إليها صواعق ربع الساعة الأول في الحرب الذرية، بعيدًا عن مواطن السكان ومراكز الإنتاج بأمريكا.
ولو صارحنا هكذا قادة السياسة الغربية، لفهمنا حينئذ الفهم الصحيح تلك العطايا من الدولارات، التي توزعها أمريكا على بعض الحكومات الإفريقية والآسيوية، مقابل إنشاء مانعات صواعق في بلادها: إنها بلاد معدة بتلك العطايا لتصبح الهدف للمدفعية الذرية حينما تندلع الحرب.
1 / 17
هذه هي الفكرة التي يخفيها في نفسه مستر دلاس في سياسة الأحلاف العسكرية، من نوع (الحلف الأطلنطي) مطبقًا في آسيا وإفريقيا، غير أن هذه الأحلاف قد أصبحت غير مجدية، لأن الأرض أصبحت صغيرة جدًا بالنسبة إلى المتوقع من الخراب والتدمير، على نطاق حرب ذرية لا ينفع فيها أي احتياط من النوع الذي يفكر فيه مستر دلاس، وهكذا باتت الحرب العالمية الثالثة التي عاشت الشعوب في انتظارها منذ عشر سنوات، من أبعد التوقعات.
وأصبح من شأن السياسة اليوم أن تدرس كيف تكسب السلم، لا كيف تكسب الحرب.
ولكن هذا لا يعني أن المشكلات قد زالت مع الخصوم بسبب الاتجاه الجديد: فإن وجود هذه المشكلات وبالتالي وجود الخصوم فيها منوط بمسوّغات لا زالت قائمة، طبقًا لبعض الرواسب النفسية التي حاولت، في دراسة سابقة، تبيين طبيعتها حينما تحدثت عن (ذهان القوة والسيطرة).
وعليه، فإذا كانت الحرب لن تقع نظرًا لهذه الاعتبارات، فإن الصراع سيستمر بسلاح آخر، وفي ساحات قتال جديدة، إن انتصارات السلام تتقرر في جبهات الصراع الفكري.
ويجب ألا يبقى عندنا شك في أن الخصوم الذين يتنافسون، على محور واشنطن- موسكو، للاستيلاء على عناصر القوة، سيلجؤون إلى سلاح الأفكار، لأن قنابلهم الذرية أصبحت عاجزة في المستقبل عن حل مشكلاتهم المعلقة.
وهذا الاستنتاج يطابق تمامًا ما يتنبأ به أقطاب العلم والفكر مثل (برتراند راسل)، الذي يستنتج في مقال خصصه لهذا الموضوع «بأن كل من يعتقد أن انتصار الشيوعية أو أعوانها أصبح مستحيلًا، يجب عليه أن يعدل أفكاره: إنه يجب عليه أن يعترف بأن وجهة النظر التي بفضلها يجب أن تنتشر، هي أن
1 / 18
تنتشر بالإقناع لا بالقوة (١»).
فإذا اقتصرنا- في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الإنسانية- على اعتبار ما يتعلق بمحور (طنجة- جاكرتا) فإن المشكلة التي تعترضنا ذات وجهين، لأنه يجب علينا أن نفكر كيف نعطي لأفكارنا أقصى ما يمكن من الفعالية، ومن ناحية أخرى أن نعرف ما الوسائل التي يستخدمها الاستعمار لينقص ما يمكن من فاعملية أفكارنا؟.
وهكذا نصبح- في الواقع- أمام مشكلتين: الأولى تتضمن كيف ننشئ أفكارًا فعالة في مجتمعنا (٢)؟. والثانية كيف يجب أن نفهم أسلوب الاستعمار في الصراع الفكري؟. حتى لا يكون له أي سلطان على أفكارنا.
ولكني سأهتم في الصفحات التالية بالمشكلة الثانية: ما طرق التخريب التي يمارسها الاستعمار ضد أفكارنا؟
هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عنه معتمدًا على تجربة شخصية أعتبرها مفيدة لسببين:
أولهما: لأنها تتضمن ربع قرن من حياتي.
ثانيهما: لأنها حدثت في بلاد مستعمَرة حيث يمكن للاستعماراستخدام جميع وسائله.
ومن المكن أن أورد هذه التجربة على أنها قصة أقصها على القارئ، أو مذكرات لمكافح في الجبهة الفكرية.
ولكنني أتجنب الصورة الأولى لأنها ربما توحي للقارئ أنه يقرأ قصة
_________
(١) مقتطف من كتاب تيبور مند: (بين الخوف والرجاء) باريس ١٩٥٨.
(٢) إنني أخصص دراسة لهذا الموضوع تحت عنوان (مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلامي).
1 / 19
خيالية، كما أتجنب الصورة الثانية لأنها تضطرني لذكر الكثير من تفاصيل شخصية، لا أرى مناسبة لذكرها هنا، وإنما أود أن يقرأها القارئ بين الأسطر، لأنها تكشف له دقائق الاستعمار وتجلي خططه، في الصراع الفكري.
إننا ذكرنا أن الاستعمار مُخرج لا يرى أين يقع الضوء على المسرح حينما يدور فيه فصل من فصول الصراع الفكري، وإذن سوف يكون من المفيد إن وجّه بعض الضوء على من يقوم بدور فيه، حتى لو كان ضوء شمعة جيب، محاولًا بذلك تجلية مهمة الصراع الفكري في وقت مناسب، أعني في الوقت الذي يجد العالم فيه نفسه مضطرًا لخوض معركة الأفكار.
وربما أتاحت لنا هذه المحاولة تصوير الطابع الخاص الذي تتخذه هذه المعركة في البلاد المستعمرة، حيث تكون فيها-كما قلنا- منعزلة عن الشعور في الداخل وفي الخارج معًا.
ولسنا نشير بالشعور في الخارج، إلى الصحفي أو الكاتب التقدمي الأجني فقط؛ وقد بينا فيما سبق الدوافع التي تعزل هؤلاء نفسيًا عن الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، ولكننا نشير إلى المثقف العربي نفسه، الذي كافح ضد الاستعمار ضمن (جبهة وطنية)، إنه على الرغم من ذلك، أو على الأصح بسبب ذلك، لم يكتسب التجربة الشخصية التي تتيحها الظروف لمن وجد نفسه في وضع الفدائي، أي منفردًا في جبهة الصراع الفكري في بلاده.
إنه من الضروري لمن يريد أن يتعرف على وسائل الاستعمار في هذا الميدان، أن يكون له اتصال مباشر به، بينما لا يكون هذا الاتصال ممكنا لمن يكافح ضمن (جبهة وطنية) تموله وتحميه، وتحيطه بالاحترام، ثم تمنحه غالبًا مركزًا يغبط عليه ..
أما الصحافي أو الكاتب التقدمي الذي يكافح في بلاده ضد الاستعمار، بالكتابة أو بالقول، فإن قوانين بلاده ذاتها تحميه من الأذى وتحمي أسرته،
1 / 20
ولربما وضعت أفكاره أحيانا موضع التقديس، كما نرى أولئك الأحرار من الشعب الإنجليزي، الذين رافقوا المهاتما غاندي في طريق (الساتيا جراها) الذي قاد الهند إلى الاستقلال.
وهكذا يصبح للصراع الفكري ظروفه الخاصة بالنسبة لمن يجد نفسه متورطًا فيه- في بلاد مستعمَرة كالجزائر، أي في بلاد تجهل هي ذاتها، أن معركة أفكار تدور في أرجائها- فيتأتى هكذا للاستعمار أن يعزل من دخل المعركة، حتى ليجد نفسه في وضع الفدائي الذي يخوض المعركة على حسابه الخاص، دون أي قاعدة تموله وتسلح كفاحه.
إن ظروف البلاد المستعمَرة لم تترك لمن يدخل الصراع الفكري أن يختار، ولو قدرنا أنه قد اختار هو نفسه، هذا النوع من الكفاح، لكان في تقديرنا نوع من الاعتساف، لأننا نكون قد اتهمناه، بمقدار من البلادة لا يتصوره العقل أو بمقدار من البطولة لا يدعيه لنفسه.
فالأشياء تسير بصورة آلية، وطبقًا لقدر مقدور تفرضه طبيعة المعركة في البلاد المستعمَرة، ومقارنات أحوال ناتجة عن أوضاعها وظروفها الخاصة، فهذه الأشياء هي التي تقرر نوع المركة وتضطر من أراد أن يخوضها أن يكون في وضع الفدائي المنعزل.
ولكي تكون هذه الأشياء أكثر وضوحًا في أذهاننا، فلنتخذ من الواقع مثلًا يؤيد إيضاحها: إن ثورة تموز (يوليو) ١٩٥٢م في القاهرة كانت من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري، لأنها كنست عهد فاروق وآذنت بعهد جديد وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم الإسلامي.
وبذلك دخلت التاريخ فكرة معينة تمثل شخصية جديدة تدخل مسرح الصراع الفكري.
1 / 21
ولكن يجب أن نتصور بجانب ذلك، مدى اهتمام المراصد المختصة إزاء ظهور هذه الفكرة، إنهم سجلوها في الحال وأبلغوا عنها فورًا.
وعلى أثر ذلك سنرى شخصية ثانية تدخل المسرح: الاستعمار.
لقد بدأت المعركة فعلًا تزداد حرارة، بمقتضى تفاعل الرأي العام في البلاد المستعمَرة مع حوادث القاهرة، ولقد أبدى الضمير الجزائري مثلًا اهتمامًا متزايدًا لقضية الإصلاح الزراعي والملكية، حينما سجلتها الثورة المصرية بين أهدافها الأساسية، وكان الشعب الجزائري متحمسًا لهذه القضية، ومتحمسًا لها خاصة لأنها تمثل قضيته، ما دام الاستعمار قد استهدف في تخطيط سياسته الجزائرية، الاستيلاء على التراب وتحطيم طبقة الفلاحين.
هنا شعر الاستعمار بأنه أمام حالة خطيرة، إذ أنه أمام (فكرة جديدة)، وكان من الطبيعي أن يستعد لحملة عنيفة ضد تلك الفكرة.
هذه صورة موجزة من الظروف التي تكوّن فجأة فصلًا من فصول الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة.
ومما يجب ملاحظته في هذه الأثناء، أن الصحافة (الوطنية) أي صحافة الأحزاب التي تحمل في البلاد طابع الكفاح ضد الاستعمار، كانت تتخذ إزاء هذه الحوادث موقفًا شبه حيادي، إذ لا تنتشر عنها غير الأنباء التي توزعها شركات الأنباء العالمية، التي نعلم ما لها من روابط وثيقة بالاستعمار، حتى كان من الميسور على القيادة الاستعمار ية أن تعد عدتها للهجوم في ظروف جد مواتية.
وهكذا بدأ الاستعمار فعلًا هجومه ضد فكرة الإصلاح الزراعي وتعديل الملكية؛ ولا عجب في هذا، وإنما العجب كل العجب أن يصدر هجومه الأول على أعمدة صحيفة تحمل طابع الوطنية، والجهاد ضد الاستعمار.
1 / 22
فتعجب إن شئت، أيها القارئ الكريم، ولكنه واقع الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة ..
ولنتصور الآن: ماذا يكون موقفك في مثل هذه الظروف، وليس أمامك إلا السكوت في صالح الاستعمار أو الكلام في صالح قضية تهم الشعب!
فإذا قدرنا أنك اخترت الحل الثاني، فيبقى علينا أن نستنتج من هذا الفرض نتائجه، إذ لا يمكنك أن تدخل المعركة، في مثل هذه الظروف، إلا منفصلًا عن (الجبهة الوطنية) التي تمثل في بلادك (الجهاد) ضد الاستعمار، أي أن الوضع هو الذي يفرض عليك ألا تدخل المعركة إلا بوصفك (فدائيًا) لا حيلة له إلا اتباع ما يمليه ضميره عليه، ولا وسيلة له سوى ما بين يديه، دون ما تمويل أو زاد، دون سلاح يأتيه من خلفه في جبهة الصراع.
تلك هي بالضبط ظروف الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، وليس لأحد أن يختار سوى أن يستمر فيه على هذه الشروط، أو أن يخرج من الميدان.
وإنك تعلم، لا شك، أن الاستعمار بالمرصاد: فهو يريد طبعًا أن يضطر المكافح إلى الحل الثاني، أي أن يضطره إلى الخروج من الميدان.
ولسوف يستعين بطبيعة الحال للوصول إلى غايته تلك بجميع ما في البلاد المستعمَرة من ضعف في حياتها الفكرية ومن رواسب سلبية في حياتها السياسية.
وهذا الجانب من القضية لابد من توضيحه بسبب ما له من الأهمية في سير الصراع الفكري، فلو أننا قمنا بدراسة مقارنة للأشكال السياسية في بلاد مختلفة، أو في بلد واحد في مراحل مختلفة من تطوره، فإننا سوف نجد على العموم، صنفين من السياسة وأن لكل صنف واقعه الخاص.
فأما الصنف الأول فهو السياسة التي تتمثل في (أفكار مجردة)، وأما الصنف الثاني فهو السياسة التي تتمثل في (أفكار مجسدة).
1 / 23