وتجد السيكلوجية السلوكية أن التفكير هو الكلام الصامت؛ أي: أننا نفكر بكلمات ولكننا لا ننطقها، وظني أن الحجة قوية هنا عند السلوكيين، ولا عبرة بأن يبقى من تفكيرنا نحو واحد أو اثنين في المئة لا يجري بكلمات، وإنما يجري غامضا مائعا بإيماءات أخرى حتى يستقر على كلمات.
وبؤرة اهتمامنا هنا هي أن اللسان تفاعل مع الدماغ؛ أي: أن الكلام تفاعل مع الذكاء، فنما كلاهما؛ أي: أن الدماغ تضخم في جزئه الأعلى الأمامي الخاص بالتفكير كما أن اللسان حذق النطق، وكثرت كلماتنا؛ أي: كثرت أفكارنا، وأصبحت لنا ثقافة؛ أي: أفكار موروثة.
ولا نستطيع أن نسير في هذا المنطق إلا إذا سلمنا بأن عادات الآباء يرثها الأبناء؛ أي: أن الجهد الذي أنفقه أسلافنا في التعبير باللسان قد كان وظيفيا في أدمغتهم ثم صار عضويا في أدمغتنا، وسار التطور بيننا على نحو ما سار في الزرافة، حين كانت أسلافها تمط أعناقها للوصول إلى الغصون البعيدة، ثم صارت أعقابها ممتازة بأعناق طويلة لا تحتاج إلى المط، فنحن كذلك، كان أسلافنا ينطقون في جهد ويعقلون المعنى في دماغ صغير، ثم صرنا نحن نمتاز بدماغ كبير لا يحتاج إلى جهد كي ننطق ونفهم الكلمة.
وأعظم ميزاتنا اللغوية سيكلوجية؛ لأنها رفعت التفكير من مرتبة العواطف الغامضة المضطربة المندفعة إلى مرتبة الوجدان المتزن الإرادي الاختياري، ونحن الآن حين نجد شخصا نيوروزيا؛ أي: قد تغلبت وطغت عليه عاطفة ما من الحزن أو الأسف أو الخوف أو حتى الطموح والعدوان وقد اضطرب وعجز عن السلوك السوي، نحلل عاطفته الهوجاء هذه بالكلمات التي تزيد وجدانه؛ أي: تزيد فهمه الموضوعي وتخرجه من الفهم الذاتي، فيشفى ويعود سويا.
أي أن اللغة هي التي فصلت تماما بيننا وبين الحيوانات؛ لأن كل حيوان يعد في معنى ما، نيوروزيا؛ أي: مستسلما لعاطفته، ذاتيا في تفكيره، أما نحن فإن اللغة قد رفعتنا إلى الوجدان الموضوعي الذي جعل التفكير العلمي؛ أي: التفكير الدقيق، ممكنا.
فإذا سئلنا: ما الذي جعل الدماغ البشري يكبر إلى هذا الحد الشاذ بالقياس إلى الحيوان قلنا: إنه اليد أولا، ثم اللسان؛ أي: اللغة ثانيا؛ أي: التفاعل بينها جميعا، وقد كنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة نهمل شأن اللغة في تكبير الدماغ وزيادة الذكاء باعتقاد أن اللغة شيء مكتسب أو عادة يتعودها الجيل، ثم يشرع الجيل التالي في تعلمها وأنها لا قيمة لها لهذا السبب في التطور، ولكننا الآن نؤمن يقينا، وبالتجربة، أن العادات التي يتعودها الأسلاف يرثها الأبناء، ولذلك فإن عادات أسلافنا في النطق بكلمات قد حركت الدماغ وزادت نموه ونضجه، وورثنا نحن هذا النمو والنضج في أدمغة كبيرة.
نحن نتعلم اللغة أو بالأحرى التفكير باللغة كما يتعلم الطائر الطيران، وكما أن الطيران خاصة، بل الخاصة الأولى للطيور كذلك التفكير باللغة هو الخاصة الأولى للإنسان ، ولكننا نحن والطيور ما زلنا نتعلم هاتين الخاصيتين في الطفولة، ولكن هذا التعلم لا يعني أن الطيران ليس من طبيعة الطيور أو أن اللغة ليست من طبيعة الإنسان، فإن جسم الطائر قد أعد بالجناحين للطيران، ودماغ الإنسان قد أعد للتفكير باللغة، وبعد آلاف السنين سوف تولد فراخ الطيور فتطير بلا تعليم وتدريب، كما أن أطفالنا سوف يولدون أيضا بعد آلاف السنين وهم يتحدثون؛ أي: يفكرون باللغة، منذ الشهر الأول من الميلاد.
هذا الإنسان
يصطلح المؤرخون الأوروبيون على تسمية العصور التي تقع بين 500 و1000 للميلاد بالعصور المظلمة، ذلك لأن العقل البشري خبا وأوشك أن ينطفئ، فكانت أوروبا في ظلام الجهل لا ترى رؤية بالعقل والأدب والعلم، وبقيت في الظلام إلى بدايات القرن الحادي عشر حين بزغ النور على أضعف ما يكون، ولكنه ما زال يتجمع حتى انفجر في القرن الخامس عشر.
فإذا انتقلنا من التاريخ البيولوجي وجدنا أيضا «عصورا مظلمة» فقبل نحو 70 أو 80 مليون سنة عم العالم ظلام، كأن الحياة في الاعتبار البشري قد أخفقت وسدت على نفسها طريق الرقي؛ ذلك أن الأحياء انتهت إلى أنواع من الحيوان يطلق عليها في أيامنا اسم الزواحف التي لا تزال هياكلها باقية في المتاحف، بل كذلك بيضها، تشبه إلى حد كبير التماسيح والعظايا، وكانت في الحجم تترجح بين الكلب والفيل، بل كانت تزيد أحيانا على الفيل، وكانت تعيش في كل مكان في الغابات والأنهار والسهول والجبال والبحار، وقد انقرضت لأسباب لا تزال مجهولة، ولم يبق منها، بعد تطورات مختلفة جعلتها بعيدة عن الزواحف القديمة، سوى تلك الزواحف الصغيرة والكبيرة في أيامنا، وهي لا تحيا إلا تلك الحياة السرية، تختبئ من الأحياء الأخرى وتخشى الافتراس، وتسعى في الظلام وتنجحر في النهار.
Bilinmeyen sayfa