إن الحكومات الأوروبية تعرف واجبها أمام شعوبها وتقدر مسئوليتها نحو من ائتمنها على إدارة شئونه، فهي تخلص له وتمنحه الود، وتسعى جهدها لتقدم له ما ينفعه في حياته، لتخلق من كل فرد من أفراده رجلا اجتماعيا صالحا، فيؤلف بالتالي مجتمعا صالحا.
وكم كان يؤلمني وأنا أشاهد كل ذلك ثم ألتفت نحو بلادي فأرى العكس، حيث الإهمال وتشجيع الفوضى ونشر الجهل والمحسوبية وإفساد الأخلاق وتبذير الأموال على أهل الشر والمفسدين، ثم تبعد فوق ذلك أصحاب الكفاءات والمواهب، وتنظر في كافة أعمالها بمنظار الطائفية والرجعية البغيضة والعائلية الضيقة. وها هو أحد الأصدقاء يناديني قائلا: «ما لك سارح مهموم وأنت في قلب الجنة؟» أجبته: «أفكر في حالة بلادي.» أجاب: «ولكن ما الفائدة من كل ذلك؟ ولماذا التحرق والألم؟ فهذا هو الشرق ولن يصلحه سوى رجل قوي صارم، فأين هو؟ وهل سيدعونه يظهر؟! دعك من كل هذا ومن البكاء والنحيب ومن توجيه اللوم والانتقاد لبلادك، دعك من المثل العليا ومن الشعر والخيال، اسرح وامرح، تعال الآن ندخل المتحف، إن الوقت ضاق ويجب إلقاء نظرة سريعة على هذه اللوحات التي تنادينا، هذه لوحة «الفتاة تستحم» لبول شاه باس، وهي تمثل الحياء والطهارة، وتمثل ألوانها وظلالها جرأة وتجددا بالنسبة لزمنها، وهذه لوحة «درس الموسيقى» طفلة تلعب على البيانو وبجانبها الأستاذ العجوز يصغي، إن قوة التعبير واضحة فيها، وكذلك الألوان وهي تمثل جوا موفقا فيه حب العمل وفيه الوداعة وفيه الهدوء .
وهذه صورة «نحو المجهول» مركب صيد فيه بحارة نورمنديون يتقدمون بزورقهم بجو تتأهب فيه العاصفة للثورة، إنها لوحة قوية بلونها الأسحم الرصين، ثم بتعبيرها الذي يمثل قوة الإرادة في مجابهة الأخطار في سبيل الحياة والعيش والواجب.
وهذا قسم الفن الحديث المتطور وأخصه التنقيطي، أمامنا منه لوحة للفنان «سينياك» منظر على نهر السين، فيه جو وفيه مرح وفيه لون يشع في الغرفة كلها، وهذه لوحة ثانية للفنان هنري «مارتن» من المدرسة نفسها، منظر طبيعي حيث أضواء الشمس تشع في كافة جوانبه، وهذه لوحة من الفنان «سورا» تمثل «السرك»، فيها كثير من الابتكار والتجدد والزخرفة والجرأة.»
خرجنا من هذه الزيارة الممتعة وقد أفدنا من الطبيعة أولا، ثم من الفن، ودعني صديقي وانصرف.
انتهت الامتحانات ونال سليم الدبلوم بامتياز، وقد ابتهجت رفيقته في المدرسة بهذا النجاح، لذلك دعته لتناول العشاء مع أهلها، حيث استقبل بكل إعجاب لما كانت تحدثهم فتاتهم عن مقدرته وحسن سلوكه، وأنه صورة عن الشرق العربي الذي طالما قرءوا عنه في الأساطير، وقد أمضى بين هذه العائلة ليلة جميلة، محاطا بالعطف والتكريم، دل فيها عما كانت أخبرتهم عنه فتاتهم من رقة وبساطة وكياسة، وقد اغتنم سليم الفرصة وطلب من والد الفتاة أن يعمل له صورته، وقد جاءت موفقة ونالت إعجابهم جميعا، كما دلت عن ذوقه السليم، وكانت الفتاة أشدهم إعجابا وسرورا بصديقها لهذه الهدية الفنية الرفيعة.
وعلم سليم أن الأوبرا تقوم بتمثيل مسرحية شهيرة، فطلب من والد الفتاة السماح لها بمرافقته، وهناك أمضيا سهرة من أجمل الليالي في جو من الفن والعاطفة، وكانت الفتاة لا تفتر في كل مناسبة تمر من إظهار إعجابها بالصديق ومرافقته إلى بعض الحفلات الساهرة بعد أن لمست منه المودة والإخلاص.
وكان لهذه الصداقة مع رفيقة المدرسة أثرها في ثقافة وبلورة مواهب هذا الشاب، فكان كثيرا ما يخرج برفقتها، وأحيانا يصحبهما صديقه المسيو «دورييه» إلى المتاحف ومسارح التمثيل والموسيقى والحفلات، ويتبادلون الآراء الفنية والأدبية مما ساعد سليما على استكمال ثقافته وتطوره.
ولم ينس سليم أن يعمل قبل سفره لصديقه مسيو «دورييه» صورته، واضعا فيها كل ما يحس في نفسه نحوه من تقدير وعرفان جميل، فجاءت آية من آيات الفن امتازت بالعاطفة والمعاني النفسية وعرفان الجميل.
لقد أدرك سليم أن ليس للفن نهاية، وأنه بحر عظيم، فهو قد أتم دروسه ونال شهادته، وقد عرض عليه أستاذه مشاركته في العمل، وبدأ يشق طريقه في الحياة، لا سيما والمجال هنا في الغرب رحب لأمثاله، ولكن تجري الرياح بما لا يشتهي الإنسان، ذلك أن برقية وصلت إليه من أهله أقضت مضجعه، وعكرت صفو آماله، وبعد أن كان يعمل مع أستاذه بحماس عجيب، وهمة فائقة، إذ به مضطرب البال، شارد الفكر، وقد بدأت تظهر عليه حالات القلق وعلى وجهه الشحوب، وقد فارقه هذا الابتسام والمرح الذي كان يلازمه ويكسبه تلك العذوبة.
Bilinmeyen sayfa