هكذا كانت تتوالى علينا المشاهد، وتتقلب اللوحات الحية، وكل واحدة منها أشد روعة من سابقاتها من حيث الجمال والسحر والفتنة، ومن حيث الفن والإبداع والأسلوب، ومن حيث التأثير، ولكن جميعها تنضح بالحب والأنس والفتنة، ولا ريب أنني كنت في هذه الساعة من عام 1935 في دنيا غير التي كنت أعرفها في بيروت عام 1923 وما قبلها.
وقد أحب صاحبي مداعبتي بعد ما ظهر علي من الدهشة والإعجاب، فقال: «كيف رأيت، هنا أجمل أم بيروت؟ ومتى تريد العودة؟» فمددت يدي إلى جيبي، فضحك وسكت عن الكلام المباح.
وفي الغداة كنا أمام قصور «اللوفر» أي المتاحف الشهيرة، وكنا طبعا في طليعة الزائرين، وفي الوقت المعين فتح الباب، فإذا بتمثال «فكتوار دوسومطرا» يقف على رأس الدرج العظيم يستقبل الزائرين بلهفة، وكأنه يكاد يطير بأجنحته الرخامية.
ثم بدأنا نمر في المقاصير الكثيرة الواحدة تلو الأخرى، حيث لوحات المدرسة الفرنسية الأولى في القرن الثامن عشر، ويظهر في الطليعة «لونان وده شامبان ولوران وغيرهم».
ثم بعدهم بوشه وفراغونار وكروزوبرودن وشاردن وغيرهم، ثم وصلنا إلى زعماء المدرسة التأثيرية وفي مقدمتهم «مونه ومانه وبيزارو ورينوار وديغاس» وغيرهم كثير.
ثم عدنا إلى المدرسة الإيطالية للنهضة فرأينا عجبا في تحف زعيمهم ليونارده فنسي، ثم روفائيل وتيسيان وكوريج وفيرونيز وكويدريني ودللاميسنا وبروجينو وماساتشو وكثير غيرهم، ثم نصل إلى المدرسة الهولاندية أو الفلمنكية، فيبرز لنا في الطليعة نابغة الفن التصويري «رامبرنت»، وفرانس هالس وروبنس وفانديك وغيرهم من نوابغ هذه المدرسة التي يلعب الظل والنور في أرجائها، والدقة والبحث في أجزائها، وها هي المدرسة الإسبانية، حيث يطالعنا زعيمها «فيلاسكيز» ثم موريللو وغويا وغريكو وريبيره إلخ. ثم ندخل إلى الصالون الكبير حيث لوحات كبار نوابغ المدرسة الفرنسية للفن في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ويأتينا في المقدمة «ده لا كروا وقوربيه وأنكر وجيريكو ومونه». ثم نرتد إلى الصالون الآخر حيث أعلام نفس المدرسة الفرنسية لعصر الأمبير وعهد نابليون، وتظهر علينا لوحة «تتويج نابليون» لزعيم المدرسة «دافيد» ثم مدام ريكاميه «لدافيد» أيضا ثم «له كرو» بلوحاته الحربية التي تمثل عظمة بونابرت وأمجاده، التي خلدها له الفن باللون والرخام والعمارة والكتاب، فإذا بهذا العبقري والزعيم الحكيم يعرف كيف يفرض نفسه على التاريخ والخلود.
وقبل أن نهبط للطابق حيث الفن القديم من إغريقي ومصري وروماني وآشوري وفنيقي وعربي، مررنا بغرفة الجواهر المتلألئة، وصولجان نابليون، وتيجان ملوك فرنسا العظام، ثم ماسة عظيمة قدر بيضة الدجاجة، ثم سيف وساعة سلطان مراكش، وكلها مرصعة بالماس والجواهر الثمينة وهي من الذهب الخالص، وهناك غيرها من الآثار الملكية، ولكن هذه لم توح لنا سوى المادة العابرة فحسب، بينما التحف الفكرية التي استعرضناها أولا هي من جواهر الفكر، تلمع بأنوار العبقرية الإنسانية، فأفدنا منها الشيء الكثير.
وها هي آثار المصريين تطلع علينا من تماثيل طيور وحيوانات ووجوه بشرية منها «الكاتب» الشهير ثم تماثيل كبيرة، فإذا هي حقا تتحدث عن عبقرية القوم وفي إدراكهم كنه الطبيعة والأشياء، فأبرزها لنا الفنان المصري القديم بأجمل شكل وأبسط أسلوب وأروع طراز، لا سيما البساطة التي بلغها، فهي ميزة لم يجاره فيها أحد. ولهذا نجد أن الفنانين المحدثين ينقلون عنه هذه البساطة، ثم يدعون أنهم أتونا بالجديد المبتكر وقد مررنا بقسم الفن الروماني وشاهدنا الحلي من قروط وأساور وعقود وغيرها، وأعجبنا بالدقة والابتكار وقد بصرنا بعض الصياغ الباريسيين ينقلون عنها هناك ليضعوا للعالم الحديث حليا ويطلقون عليها: آخر ما ابتكره الفن الحديث، ثم بلغنا القسم الخاص بالفن الآشوري، وتأملنا النمر الجريح والثور المجنح، وأخذنا نعجب بروعته وتأثرنا لإهمال الشرق اليوم للفنون وغيرها من ألون الفكر للتلهي بقشور السياسة، فتأخرت فنونه بعد أن كان في الطليعة.
بعد أن ملئنا إعجابا بهذا الفن العظيم، نزلنا إلى الطابق الأسفل، حيث بدا لنا في الصدر تمثال «فينوس دوميلو» آلهة الجمال تقف بقامتها السامقة وحركتها الجميلة ورصانتها الساحرة.
وكنا نرى على الجانبين معروضات كثيرة من الفن الإغريقي والروماني، كتمثال «النيل» رجل جليل منبطح وهو يتكئ على آنية يتفجر منها الماء، وعلى جوانبه النبات والفاكهة دليل الخصب والثروة، ثم أطفال تحيط به رمز لفروع النيل العظيم، وهنا ضرب جرس المتحف إيذانا بالخروج.
Bilinmeyen sayfa