لقد أدرك الصبي، وقد بلغ الحادية عشرة من عمره، وبعد أن علمته الحوادث القاسية التي ابتلي بها، أن المال ضروري، وأنه العنصر الأساسي لإكمال دروسه ودرس الفن الذي أحبه، وأدرك تماما أنه بدونه لن يبلغ غايته في استكمال الفن حسب أصوله العريقة.
وقد علق بذهنه عندما كان يتردد إلى بعض الأجانب الذين يعيشون في الشرق، أن إيطاليا وفرنسا هي بلاد الفن ومهده، وهي موطن التصوير والنحت والهندسة والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة، وحدثوه أيضا عن نوابغهم أمثال: ميكاليخ رامبرنت ودوفنسي ورفائيل وتيسيان وغيرهم، وحدثوه عن الصور العظيمة التي تزدان بها قصور الفاتيكان وبورغيزي وكولونا وبرباريني وكبجي، وفي المتاحف والقصور العديدة التي تحفل بها روما المدينة الخالدة، ونابولي وفنيس وفلورنسا وبولونيا أو باريس وآثارها العظيمة، فكان لهذه الأحاديث ولتلك الأسماء رنة طرب في نفس سليم، فإذا هو لا يحلم إلا بالذهاب إلى تلك البلاد لمشاهدة الآثار والتحف الفنية الرائعة التي حدثوه عنها، غير مدرك للصعوبات والتكاليف التي تتطلبها أمثال هذه الرحلات البعيدة، وهو الولد الذي يكاد لا يعرف بعد أحياء بيروت، ولكنه هوس الفن خلق له ودفعته العناية في سبيله.
بينما هو في أحلامه هذه، بعيد عما يجري حوله من اهتمام الناس للأكل وتفاخرهم في اللباس، من زنار أو مسدس وخنجر، أو طربوش مايل، أو التباهي بتفتيل الشوارب إلى آخر ما هنالك من المباذل والسخف.
كان سليم يقابل ابن جاره معروفا بعض الأحيان وهو خارج من داره، وقد أصبح هذا شابا عظيما يفتل شاربيه الصغيرين ويرمي بطربوشه للوراء وسرواله يهتز وراءه عندما يسير يمنة ويسرة، والخيزرانة الصفراء ذات العقد يهزها بيده بكبرياء وتيه كأنه عنترة أو أبو زيد الهلالي.
أما سليم فكان يبدو أمامه كالحمل الوديع، وهو عنه وعن هذه المظاهر الفارغة في شاغل، بل هو في عالم آخر.
وكان معروف يرميه بنظرة كلها الإشفاق وبعض الهزء، وكأنه يقول في نفسه: «مسكين هذا الصبي! لعله معتوه أو به مس، فهو يحرم نفسه لذائذ العيش وهو لا يسيء إلى أحد، ولا يعرف أن يضرب بالخيزرانة، ولا يحسن أن يصفع كفا أو يلفظ جملة واحدة من الشتائم المختارة، ولا يعرف أن يعتدي على أحد! مسكين سليم! كيف يستطيع العيش بيننا؟ وكيف سيكون مستقبله؟» ويستمر في نزول درجات سلم الزاروب وهو يهز رأسه متمتما: «قلم، دائما يحمل هذا القلم! مرحبا، قلم! أليس الأفضل له أن يستعيض عنه بهذه الخيزرانة القوية التي تغني عن كل الأقلام والعلوم والفنون؟! كم من الناس يخضعون لي ويهابون ضربات عصاي، ويقدمون لي الفلوس والهدايا ثم يبادرونني بالتحية ومظاهر الاحترام.
الويل ثم الويل لمن يجسر أن يخالفني، أو من تحدثه نفسه بالخروج عن طاعتي، أو يرد لي كلمة أو يعارضني برأي، فإني أبادره بوابل من الشتائم بصوت كالرعد، فإن لم تسفر عن شيء هددته بهذه العصا.» ثم هز عصاه بعد ذلك كأنه يقوم ببعض التمارين أو يمثل دورا في إحدى الروايات المضحكة!
ثم يتابع سيره وقد أحس بنشوة الظفر باختيار مهنته، فيرفع عقيرته بموال من تلك المواويل البغدادية المشهورة، فتدوي لها أنحاء الحي بأجمعه.
وكان يقاطع بتحية المارة وهو يسير بينهم كالطاووس، أو كأنه أحد الأبطال المغاوير والعلماء المبجلين.
وما مضى على خروج معروف من بيته غير ساعة حتى كان العتال يدق باب بيته قائلا: «يالله، نزلوا الأغراض، باعتهم معروف.» فإذا بالسل الكبير مملوء بالخضار المختلفة يتلوها فخذ لحم، وبضعة دجاجات وكمية من الفاكهة.
Bilinmeyen sayfa