وأول هذه التعريفات المتبدلة تعريف الإنسان حسب موضعه من هذا العالم؛ لأن الإنسان لم يزل في كل عصر، وفي كل علم، وفي كل عقيدة مقياسا لما عداه من خلائق هذا العالم، بل مقياسا للعالم أجمع، يتبدل النظر إليه كلما تبدل النظر إلى الوجود بأسره.
ولم يتبدل النظر إلى مركز الكرة الأرضية من الأجرام السماوية، حتى خيل إلى كثير من الفلكيين والجغرافيين أن حقائق السماوات والأرضين قد تغيرت؛ لأن الكرة الأرضية مركز الإنسان.
وقد أعيد النظر إلى مكان الإنسان من الخليقة كلها، فوضعه علماء الحيوان بموضع واحد مع طبقة الأحياء التي عرفوها باسم الأوائل
وهي في الذروة من طبقات الحيوان اللبون.
وأعيد «تصنيف» هذا النوع الحيواني، فذهب بعضهم بعيدا في تقسيمه إلى عناصر، وإلى الرجوع بكل عنصر منها إلى نوع من القردة الأوائل، كما سيجيء في الكلام على آراء النشوئيين القائلين بالتطور والارتقاء.
والذين قالوا: إنه نوع واحد لم يرتابوا في تقسيمه إلى «عناصر» أو سلالات تكاد - لولا التناسل فيما بينهما - أن تعتبر أنواعا مستقلة بتراكيب أبدانها وعقولها، بل قال بعضهم: إن تجارب العلم لم تثبت إمكان التناسل بينها، ولم تنف إمكان التناسل بين بعضها وبعض أنواع القردة المشابهة للبشرية، ويجب أن نتمهل قليلا قبل التحقق من أن السلالات الإنسانية كلها قابلة للتوالد فيما بينها، كما يتوالد ذكور الحيوان وإناثه من النوع الواحد بغير عائق للنمو في دور الحمل ودور الطفولة.
والذين قنعوا باختلاف العناصر والسلالات لم يقنعوا بالقليل من فوارق هذا الاختلاف؛ فمنهم من كاد يجعل السلالة «الآرية» نوعا «سيكولوجيا» يضارع النوع «البيولوجي» في الاختلاف، وفي قابلية «التفاهم» والتعامل و«تناسل» العواطف والأفكار.
وعادوا بعد الحرب العالمية الثانية إلى التراجع السريع في هذا «التصنيف»، الذي خيل إلى أصحابه قبل جيل واحد أنه حقيقة واقعة تستغني بالنظر عن البرهان، وما كانوا ليسرعوا هذا الإسراع في التراجع لولا بلاء «الإنسانية» بعواقب ذلك «التصنيف» الوبيل؛ لأنه التصنيف الذي سوغ لعنصر من العناصر أن يستبيح السيادة على الأمم عنوة، وأن يستكثر حق الآدمية على تلك الأمم التي لم يدخلها معه في قرابة الإنسان للإنسان.
فمن كبار علماء الأنواع في العصر الحاضر من يقول، كما جاء في كتاب «قرن من مذاهب دارون»: «إن التفرقة بين عناصر النوع الإنساني اعتساف أو توسع في التعبير، فقد نقسم النوع الإنساني إلى عنصرين كبيرين يسكن أحدهما في القارتين الآسيوية والأوروبية والأمريكتين، ويسكن الآخر في أفريقية وبلاد الملايا والقارة الأسترالية، فإذا أردنا المزيد من الحصر، فقد نقسمها حسب الألوان إلى بيضاء وصفراء وحمراء وسوداء وسمراء، ونزيد حصرا فنبلغ بها ثلاثين، ولا يمنعنا أن نجعلهم مائتين إلا صعوبة التفاهم على هذا التقسيم.» •••
فحوى هذا أن فوراق العناصر فوارق أسماء وعناوين، وأن «الإنسان» أسرة واحدة على تعدد أبنائها، وتعدد أقسامها، واختلاف الألقاب اللغوية التي تطلق على تلك الأقسام. •••
Bilinmeyen sayfa