فالجواب: أن الأمر ليس على ما يقع لكم، لأن تناقص الأحوال أن يريد المرء حالة عالية فيبقى في حالة ناقصة، أو يريد ملاذا فلا يصل إليها، عالية كانت أو دون ذلك، فأهل الجنة بحمد الله تعالى قد تكاملت حالتهم، إذ كانوا بحيث إذا شاؤا رأوا ربهم، وإذا شاؤا اشتغلوا بملاذهم، ولا يكون ذلك نقصا في أحوالهم، ولا يلزم على هذا التقرير أن يقال: فهذا نقص في حق أهل الجنة إذا شاؤا الخلوة بالتلذذ عن رؤية ربهم تعالى. قيل هذا يلزمكم أنتم دوننا، لأنا نحن نقول: هم " لا يشاؤن إلا ما شاء الله لهم " فهم به وله في كل أحوالهم، فإذا شاء لهم الرؤية شاؤوها وتلذذوا بها، وإذا شاء لهم الخلوة شاؤوها وتلذذوا بها، ولا نقص عليهم في ذلك، ولا يلزم ما قلتم.
جواب آخر: وهو أن أهل الجنة يجتمعون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وينظرون إليه، والاجتماع به والنظر إليه أعلى من الاجتماع بالحور والقصور، والنظر إلى الحور والقصور، ثم يشتغلون بالحور والقصور بعد نظره صلى الله عليه وسلم، وإن عادوا إلى قصورهم ونعيمهم، وإن كان نظره أعظم وأعلى من ذلك، فجاز مثل ذلك أيضا في جواز رؤية الباري، وإن كانت أعلى الأشياء وأجلها، فثبت ما قلناه، وبطل التمويه بحمد الله.
فإن قيل: إذا كان مرئيا فخبرونا ما هو ؟. قيل لهم إن أردتم بقولكم: ما هو: أي ما صورته، وجنسه، وطوله، وعرضه إلى غير ذلك مما لا يجوز عليه، فليس بذي صورة ولا جنس ولا طول ولا عرض، وقد قدمنا الأدلة على أنه لا يشبه خلقه ولا يشبهونه. وإن أردتم بقولكم ما هو: ما اسمه ؟ فاسمه: الله، الرحمن، الرحيم، الحي، القيوم، وإن أردتم بقولكم ما هو صنعه ؟ فصنعه: العدل، والإحسان، والإنعام، والسموات والأرض وجميع ما بينهما، وإن أردتم بقولكم ما هو. ما الدلالة على وجوده ؟. فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره، وإن أردتم بقولكم ما هو ؟ أي أشيروا لنا إليه حتى نراه، ولم أنها لا تصح إلا في المسجد ؟..... ؟ جواب آخر: وهو أن هذه الأخبار تحمل على وجه التغليظ والمبالغة في الزجر، حتى يقف الناس عن هذه الأمور ولا يقدموا عليها، وهذا كقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة. ولم يرد عليه السلام الإعراض عن الحكم أصلا بين الجد والإخوة، فإنه قد حكم عدة نوب بقضايا مختلفة بين الجد والإخوة.
فإن قيل: فإذا كان مرئيا فكيف هو ؟ قيل لهم: إن أردتم بقولكم كيف هو: على أي تركيب، أو على أي صورة هو، أو على أي جنس هو ؟ فلا تركيب له، ولا صورة ولا جنس فنخبركم عن ذلك، وإن أردتم بقولكم كيف هو وعلى أي صفة هو ؟ فهو قديم، حي، عالم، قادر، متكلم، سميع، بصير، مريد، وإن أردتم بقولكم كيف هو، كيف صنعه إلى خلقه. فصنعه إليهم الإحسان، والعدل، والتفضل، والامتنان، فإن قيل إذا كان مرئيا فأين هو ؟ قيل لهم إن أردتم أين هو في وصف المنزلة والرفعة والجلال فهو كما وصف نفسه بقوله تعالى: " وهو القاهر فوق عباده " وبقوله: " الرحمن على العرش استوى " وبقوله تعالى: " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " ، وبقوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " قيل لهم: الأين سؤال عن مكان وليس هو مما يحويه مكان، لما قدمنا من الحجج والبراهين بحمد الله الملك المنان. وحسبي الله ونعم الوكيل.
وهنا انتهى الكتاب، وقد انتهيت من النظر فيه بتوفق الله سبحانه يوم السبت الثامن والعشرين من شوال المكرم سنة 1369 ه وهو اليوم الذي أتممت به ثلاثا وسبعين سنة من عمري، ختم الله لي بخاتمة خير بمنه وفضله وأنا الفقير إليه سبحانه محمد زاهد الكوثري، عفى عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
Sayfa 75