فإن قيل: أليس قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من تحسى سما وقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، وروى مثله فيمن قتل نفسه بحديدة، ومن تردى من جبل. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يدخل الجنة مدمن خمر، وعاق والديه فهذه الأخبار معارضة لأخبار الشفاعة.
فالجواب عن هذه الأخبار: أن منها ما صح ومنها ما لم يصح ويجمع بين الكل، فتحمل هذه الأخبار على من فعل ذلك مستحلا لفعله، أو فعله على وجه التكذيب للصادق فيما أخبر به أن هذا الفعل كبيرة حرام، ونحو ذلك، وهذا صحيح لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال أبو ذر: وإن زنا، وإن سرق ؟ فقال: وإن زنا، وسرق، وقتل، وشرب الخمر، وإن رغم أنف أبي ذر فصح ما قلناه، وقبلنا جميع الأخبار الصحاح ولم نضرب بعضها ببعض، ولا أسقطنا بعضها ببعض، كما يفعل أهل البدع الذين ضاهوا اليهود في قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
فإن قيل: أليس عندكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا في مؤمن، وقد وردت الروايات لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن وكذلك روى أنه قال: ليس منا من يأتينا بطينا ويأتي جاره خميصا ومن غشنا فليس منا ولا إيمان لمن لا أمانة له إلى غير ذلك، فكيف يشفع الرسول عليه السلام فيمن ليس بمؤمن ؟.
فالجواب: أن يقال لهم: هذه الأخبار لا حجة فيها ولا تعارض أخبار الشفاعة، فإنها متحملة لوجوه إذا صرفت إليها صحت، ولم تكن معارضة لأخبار الشفاعة.
أحدها: أن يكون المراد لا يزني ولا يسرق حين يفعل ذلك، وهو مؤمن: أي مستحل لذلك، حتى يصح الجمع بين هذه الأخبار وبين قوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنا وشرب الخمر، أو يكون أراد بذلك إذا فعله على وجه التكذيب لتحريم هذه الأشياء، والله تعالى لم يحرمها، أو يكون المراد ليس بمؤمن كإيمان المؤمن الذي لم يكن منه سرقة، ولا زنا، ولا شرب خمر أي في البر، والطهارة، والعفة ونحو ذلك، ويصير هذا كقوله: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أراد الكمال. وهذا الفصل أفسد الحجج وأدحضها بحمد الله تعالى.
فإن قيل: فما معنى قوله تعال: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " قيل معناه الرد على من أنكر أصل الشفاعة، فأخبر تعالى أن تم شفاعة، لكن لمن أراد تعالى أن يشفع له وأذن في ذلك، ولم يرد إلا لمن رضى سائر عمله، لأن من رضى سائر عمله لا يحتاج إلى شفاعة، ويحتمل أن يكون " لا يشفعون إلا لمن ارتضى " يعني لمن كان معه عمل مرتضى. والمؤمن معه أفضل الأعمال التي ترضى، وإن كان عاصيا فاسقا، وهو التوحيد والتصديق، وقوله: لا إله إلا الله. والذي لا يرضى عمله أجمع هو الكافر، فصح ما قلناه.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " قلنا: معناه فالظلم بالشرك والكفر الذي لا ينفع معه طاعة، كما قال تعالى: " إن الشرك لظلم عظيم " ولهذا لما نزل قوله تعالى. " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " حزن الصحابة رضي الله عنهم كذلك، حتى قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا يا أبا بكر، إنما الظلم الشرك ها هنا، ألا ترى إلى قول لقمان يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم فدل أن لا شفاعة تنفع الكافر. ولا حميم يدفع عنه، والمؤمن بخلاف ذلك بحمد الله، وإن كانت له سيئآت. فاعلم ذلك.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: " لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون " " ولا يخفف عنهم من عذابها " وقوله: " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " وقوله تعالى: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " .
فالجواب: أن نقول: أنتم وإخوانكم من الخوارج دأبكم أبدا أن تجعلوا آيات العذاب في أهل الإيمان والتوحيد، وهي لأهل الكفر والضلال دون المؤمنين بحمد الله تعالى؛ وهذه الآيات كلها في أهل الكفر، والذي يدل على صحة هذا ما قدمنا من الأخبار الصحاح: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وغير ذلك من الأخبار الصحاح.
Sayfa 67