ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروء، وأنها صفة للقارئ، والمقروء بها غير مخلوق بل هو من كلام الباري وكذلك الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق، بل هو كلام الرب، وكذلك السمع صفة السامع والمسموع به غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى؛ وكذلك الكتابة صفة الكاتب والمكتوب بها من القرآن كلام الله تعالى غير مخلوف ولا صفة مخلوق ، وهذا كما تقول: إن الذكر غير المذكور، لأن الذكر صفة الذاكر، والمذكور بذكره هو الله تعالى، وكذلك العبادة صفة العابد من المخلوقين، والمعبود غير العبادة بل هو الله تعالى؛ وكذلك التسبيح صفة العبد المسبح، والمسبح هو الله تعالى، والذي يحقق هذه الجملة النفي، والإثبات، والوجود، والعدم. فإنك تقول: قرأ زيد أمس. فقراءته أمس معدومة اليوم، وقراءته اليوم غير قراءته أمس، والمقروء أمس بقراءته أمس هو المقروء بقراءته اليوم. ثم تنفى تارة أخرى فتقول لم يقرأ زيد يوما ولم يوجد منه قراءة، والمقروء موجود ثابت لا يتصور عليه العدم، بل هو ثابت قبل وجود زيد وقبل وجود قراءته، وموجود ثابت في حال قراءته وبعد قراءته على وجه واحد لا يتصور عليه الشيء وضده وهذا كما تقول: عبد زيد ربه اليوم ولم يعبده أمس، فعبادته اليوم غير عبادته أمس، وعبادته أمس ليست موجودة اليوم، لكن المعبود موجود قبل أمس وفي اليوم لا يجوز أن يوصف بالشيء وضده. وعلى هذا نفس المحفوظ، والمسموع، والمكتوب، فإن الكتابة توجد بعد أن لم تكن، والحفظ يوجد بعد أن لم يكن، والسمع يوجد بعد أن لم يكن؛ ويتصور على الحفظ العدم بالنسيان. ويتصور على السمع العدم بالصمم؛ ويتصور على الكتابة العدم بالغسل بالماء وطول الزمان والحرق بالنار، لكن المحفوظ بالحفظ من كلام الله تعالى؛ والمكتوب، والمسموع لا يتصور عليه العدم بوجه من الوجوه، لأنه قديم كذاته تعالى في القدم، ولا تقول كذاته تعالى من جميع الوجود، لأنه لو كان كذاته تعالى من جميع الوجوه لوجب أن يكون خالقا رازقا محييا مميتا.
فصل
ويعلم من جميع ما تقدم: أن القراءة تارة توصف بالصحة والحسن. وتارة بالفساد والقبح. فيقال: قراءة فلان حسنة صحيحة جيدة، ويقال قراءة فلان قبيحة فاسدة، فالقراءة تتصف بالشيء وضده، لأنها صفة القارئ، والمقروء بها لا يتصف بالشيء وضده، لأنه صفة الباري. وكذلك أيضا القراءة تكون تارة طيبة مستلذة، وتارة تأباها الطباع وتنفر عنها الأنفس، لكن المقروء والمتلو من كلام الله تعالى لا يختلف ولا يتغير بتغير غيره. وكذلك الكتابة تكون تارة بالذهب، وتارة بالفضة، وتارة بالمسك والعنبر؛ وتارة تنحت في الخشب، وتارة تكون بقطع الآجر، فكتابة الذهب غير كتابة الفضة، وكذلك كتابة المسك غير كتابة العنبر، لكن المكتوب وهو القرآن كلام الله بالذهب هو المكتوب بالفضة، وكذلك المكتوب بالمسك هو المكتوب بالعنبر، وما أعلم أحدا يخالف في هذا إلا أحد رجلين: إما جاهل غبي ليس له حس ولا تصور، وإما منافق مداهن، نعوذ بالله من الجميع ونسأله حسن التوفيق في الدنيا والآخرة.
فتحقق من جميع ما ذكرنا أن القراءة فعل من أفعال العباد، والمقروء والمتلو لا يجوز أن يكون فعلا من أفعال العباد، ولا نقول أيضا إنه من صفات الفعل لله تعالى بل هو من صفات الذات. يدل على صحة هذا القول أن رجلا لو حلف بالطلاق لا قمت من موضعي هذا حتى أفعل فعلا يكون طاعة من طاعات الله فقرأ آيات من القرآن ثم قام قبل أن يفعل شيئا آخر أنه قد بر في يمينه ولم يحنث، فعلم أن القراءة فعل القارئ الذي يثاب عليها تارة ويعاقب عليها أخرى، والمقروء في حال الطاعة هو المقروء في حال المعصية، وهذا أمر قد اتضح بحمد الله تعالى لمن له أدنى عقل وتصور.
مسألة
Sayfa 38