Inquiries into the Miraculous Nature of the Quran
مباحث في إعجاز القرآن
Yayıncı
دار القلم
Baskı Numarası
الثالثة
Yayın Yılı
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
Yayın Yeri
دمشق
Türler
مقدمة الطبعة الثالثة
إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأسترشده وأصلي وأسلم على نبيه المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه البررة الأطهار ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد كان من فضل الله عليّ وإنعامه أن كتب لهذا الكتاب شيئا من القبول والرواج في بعض الجامعات وطلبت بعض الجهات ترجمته إلى بعض اللغات، وطلبت بعض دور النشر إعادة طباعته. ولما كانت تجربتي سابقة مع دار القلم في دقة الطبع وحسن الإخراج والالتزام بطبع الآيات بخط المصحف وغيرها من المزايا، بالإضافة إلى الاستقامة في التعامل المعروف بها صاحبها الأستاذ محمد علي دولة- حفظه الله- رأيت إيثارها على غيرها من دور النشر، دعما لجهودها في خدمة الشريعة الإسلامية عامة وخدمة كتاب الله خاصة. فأسأل الله ﷾ أن يكلل مساعيها بالنجاح وأن يثبت القائمين عليها على النهج القويم.
ولا يفوتني أن أقول: إن هذه الطبعة (الثالثة) قد زيد فيها في مبحث الإعجاز الغيبي بعض القضايا والأمثلة التي رأيت ضرورة إضافتها. والله أسأل أن يوفقنا لخدمة كتابه، وأن يجعل عملنا صالحا لوجهه الكريم، وأن يجعل ما نقول ونكتب حجة لنا لا علينا وأن يفيد به طلاب العلم، وأن لا يحرمنا من دعواتهم الصالحة في ظهر الغيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلف
1 / 5
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن عودة المسلمين إلى كتاب ربهم في العقود الأخيرة من هذا القرن أصبحت حقيقة واقعة والإقبال على الدراسات القرآنية أصبحت ظاهرة لافتة للنظر، وافتتاح مدارس تحفيظ القرآن وإقامة الحلقات المسجدية لمدارسة القرآن الكريم ونشر علومه عمت بلاد المسلمين.
وانطلقت الصحوة الإسلامية في أقطار الأرض تكتسح الجامعات والطبقات الاجتماعية المختلفة وعلى رأسها طبقات الشباب، وأدرك المسلمون أن لا مكان لهم على وجه الأرض ما لم يحددوا هويتهم الحضارية ويثبتوا استقلالهم الفكري ويثبتوا شخصيتهم وذاتهم وأدركوا أن ذلك لا يتم إلا بالعودة إلى المنهل الصافي والمورد العذب إلى الوحي الإلهي من الكتاب والسنّة.
ولما كان التطبيق العملي لهدايات القرآن الكريم لا يتم إلا بعد فهم نصوصه والإحاطة بتوجيهاته، كان لزاما على علماء المسلمين عامة وعلى المتخصصين في علوم القرآن الكريم خاصة أن يتناولوا كل ما يتصل بالقرآن الكريم من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث الأداء والترتيل، ومن حيث الفهم والاستنباط، فإن ذلك كله مقومات ومقدمات للالتزام والتطبيق.
ولئن كانت تلك الدراسات والجهود تتم على مستوى الأفراد والمؤسسات العلمية والأصعدة الشعبية، فإن المستويات الرسمية والدول لا زالت تتوجس خيفة من الالتزام بهدايات القرآن في أنظمة الدولة السياسية
1 / 6
والاقتصادية والاجتماعية في السلم والحرب لا إنكارا وجحودا للهدايات القرآنية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ولكن خوفا على مصالحهم وعلى مناصبهم وهيئاتهم من المتنفذين في مصير الدول والشعوب من طواغيت الكفر، ولو اطمأن هؤلاء الحكام إلى وعد ربهم وأيقنوا حتمية سننه في مخلوقاته لبادروا إلى التطبيق والالتزام.
يقول ﷻ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) [المائدة: ٥١ - ٥٦].
ولما كان موضوع إعجاز القرآن من الموضوعات الحيوية المتجددة لتعلقه بصحة الرسالة وصدق الرسول الذي جاء بها، وإقامة الحجة والبرهان في كل عصر وعلى الناس قاطبة في كل مكان، بما يتناسب مع مدارك الناس العلمية ومعطيات الحضارة والتقدم العلمي، فإن التأليف فيه قد كثر وشمل المجالات العامة والتخصصية.
ولما نفذت الطبعة الأولى من كتاب (مباحث في إعجاز القرآن) رأيت إعادة طباعته ثانية بعد إعادة النظر في بعض مباحثه وزيادة بعض فقراته واستدراك الأخطاء المطبعية في الطبعة الأولى وذلك مساهمة في الجهود المبذولة لخدمة كتاب الله، وإقامة الحجة على المتقاعسين عن تطبيق هداياته وتسليحا للدعاة إلى الله بسلاح المعرفة القرآنية في معركتهم مع أعداء القرآن
1 / 7
وامتثالا لقول الله تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا (٥٢) [الفرقان: ٥٢].
وأشكر للقائمين على دار المسلم وعلى رأسهم الأخ الدكتور عمر المديفر اهتمامهم بالكتاب وإخراجه اللائق بمضمونه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرياض في ١٨ شعبان ١٤١٥ هـ المؤلف
1 / 8
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بين يدي المباحث
إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأسترشده، وأعوذ بالله من شرور نفسي ومن سيئات عملي.
وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين الذي جاء بالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ورضي الله عن الآل والأصحاب البررة الذين قاموا بالقرآن آناء الليل وأطراف النهار، وحملوا راية الجهاد لنشر تعاليم القرآن في الآفاق فكانوا جيل الشهادة.
وبعد:
فلما قرر تدريس مادة (إعجاز القرآن) في قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، أسند إليّ تدريس هذه المادة، وكانت فقرات المنهج المقرّر قريبة من محتوى رسالتي (إعجاز القرآن) التي تقدمت بها لنيل شهادة الدكتوراة من كلية أصول الدين بالأزهر، قمت بمراجعة المباحث الموجودة في الرسالة وأعدت فيها النظر اختصارا وإضافة لتتناسب وفقرات المنهج المقرر، ثم رأيت نشر هذه المباحث لتعم بها الفائدة إن شاء الله تعالى.
أما الرسالة الأم فإني بصدد إعادة النظر في بعض مباحثها وخاصة ما يتعلق منها بالإعجاز العلمي، ولعلها تقدم للنشر قريبا بإذن الله تعالى.
المؤلف
1 / 9
مقدمة في مكانة الإنسان بين المخلوقات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فقد خلق الله ﷾ الإنسان كرّمه على سائر المخلوقات، وتتجلى صور التكريم في:
١ - خلقه: القوام المتناسق في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) [التين: ٤].
يتجلى ذلك في: (انتصاب القامة، الجمجمة، اليدين وتركيب الأصابع، والرجلين، الوجه .....).
٢ - خلقه: الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها بمعنى الاستعداد للرقيّ والكمالات الروحية والخلقية، لديه الاستعداد للتسامي ليكون في أعلى عليين، ولديه الاستعداد ليكون في أسفل سافلين من دركات الانحطاط النفسي والخلقي فيكون أخبث الموجودات.
إن الإنسان لديه الاستعداد لأن يتصف بالحقد والحسد والغش والكبر والرياء والطمع والبطر والخيلاء والضعف والمداهنة والمكر .. ولديه الاستعداد ليتصف بأضداد هذه الخصال.
ويمكنه أن يشغل أكثر من حيز بين هذه الأوصاف أو يخلط بينها.
بينما لا يتصف الحيوان في الغالب إلا بصفة من هذه الصفات.
٣ - ملكة البيان: قال تعالى: الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) [الرحمن: ١ - ٤].
1 / 11
إن القدرة على التعبير عما في النفس من خصائص الإنسان الكبرى سواء كان المراد التعبير عن الحاجات العضوية من الطعام والشراب، أو عن الأفكار والمبادئ والمعتقدات، أو التعبير عن العواطف والمشاعر.
أما الحيوانات فلا تصدر إلا بعض الأصوات للتعبير عن حاجة ما، ومن الصعوبة بمكان تعويده على بعض الأصوات للتعبير عن عادات، أو ربطها ببعض الظروف فتكون رد فعل على بعض التصرفات الموجهة إليه.
ولا يقاس هذا بما لدى الإنسان من النطق بحروف الهجاء التي يستطيع بواسطتها من تركيب كلمات وإيجاد ألفاظ ليتحدث بأي لغة من لغات العالم بها.
٤ - علمه: إن الاستعداد الفطري لدى الإنسان لتلقي العلوم واستيعابها ثم تحليلها والاستنتاج منها أو تركيبها وإدراك القوانين المتبعة في سنن الكون والحياة، واستخلاص العبر من أحداث التاريخ ورسم الخطا للمستقبل، وتسخير سنن الله في الكون لمصالحه المادية والمعنوية.
كل ذلك يجعله سيد المخلوقات وإطلاق العنان لطاقاته في تسخير الكون لصالحه ولا يزال الإنسان جاهدا في إدراك أسرار هذا الكون في الآفاق والأنفس يقول تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) [العلق: ٥]، ويقول ﷾: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: ٣١]، ويقول عز من قائل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً [لقمان: ٢٠].
٥ - إرادته وطرق الخيار لديه: كلما اتسعت دائرة العلم لدى الكائن الحي اتسع مجال الاختيار عنده ولما كان الإنسان أكثر علما فهو أوسع إرادة لذا فهو يستطيع أن يتصرف أمام الحادث الواحد بأكثر من أسلوب ويستطيع اختيار الطريق الأنسب لمصالحه وتحقيق رغباته.
فإذا جوبه بالاعتداء عليه: قد ينتقم أو يعفو، وقد يكظم غيظه أو
1 / 12
يظهره، وقد يداري في وقت ليترك الانتقام إلى الفرصة المؤاتية، وقد يجبن ويتخاذل ويستسلم، وقد يردّ بالمثل أو يطغى، وقد يترفع في الرد أو يسف، إلا أن مواقف الحيوان محدودة ولا يكون في الغالب إلا تصرف واحد تجاه الحادث الذي يتعرض له.
يقول تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣) [الإنسان: ٣] إن الإنسان الذي خلقه الله ﷾ بهذه المثابة وأودع فيه هذه الطاقات والقدرات وأكرمه هذا التكريم وجعل له السيادة على مخلوقاته لم يخلقه عبثا ولن يتركه هملا يقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) [المؤمنون: ١١٥] ويقول ﷿: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) [القيامة: ٣٦] إن كل ميزة تقابلها مسئولية وتكليف وعلى قدر عظم نعم الخالق ﷾ على المخلوق تأتي التكاليف بأمور العبودية يقول تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢) [الأحزاب: ٧٢].
إن الأمانة كما فسرها كثير من المفسرين هي تكاليف العبودية لله ﷾: إذن السيادة على الكون، والتكريم بالطاقات والقدرات قوبلت بحمل تكاليف العبودية والاستخلاف في الأرض، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) [الذاريات: ٥٦] وكلما حقق الإنسان صفة العبودية في نفسه لله ﷾، كان أقرب إلى الوفاء بأداء مستلزمات الأمانة وإيفاء العهد والقيام بالدور المنوط به، وكلما ابتعد عن صفات العبودية لله تعالى كان تقصيره وتقاعسه في أداء دوره الذي خلق من أجله.
لهذا نجد الآيات الكريمة تخاطب سيد الأنبياء والمرسلين في مقامات التكريم والقرب بصفة العبودية يقول تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) [الإسراء: ١] ويقول جل شأنه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى
1 / 13
(٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) [النجم: ٥ - ١٠] وفي معرض الحديث عن رسالته وتكريمه بإنزال القرآن عليه يقول عز شأنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) [الكهف: ١]. ويقول: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) [البقرة: ٢٣].
ونجد الآيات الكريمة تصم من ترك مستلزمات العبودية وتنكب لأداء الأمانة ونكص على عقبه بأشد النعوت وتخرجهم عن دائرة الإنسان المكرّم وتلحقه بالدواب والعجماوات، يقول تعالى:* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) [الأنفال: ٢٢]. ويقول جل شأنه: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: ١٧٩]. وقال جل شأنه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) [الجمعة: ٥].
وطريق التعرف على الأمانة التي كلّف الإنسان بها والتعرف على تفاصيل التكاليف المنوطة بالإنسان، والتعرف على أسلوب الأداء لهذه التكاليف على أكمل وجه، كل ذلك يتمثل في الصفوة المختارة من البشر لحمل الأمانة العظمى تمثّلها في سلوكهم وحياتهم الخاصة أولا، ثم تبليغها للآخرين دعوة وتطبيقا عمليا ليكونوا القدوة المثلى، والجهاد في سبيلها لحمل الناس على اعتناقها والالتزام بها، إنهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، الذين يمثلون ذروة الكمال البشري، لأنهم يمثلون ذروة العبودية لله تعالى ويقومون بأعظم مهمة في الوجود وهي مهمة إرشاد الإنسان إلى الطريق الصحيح لتحقيق إنسانيته وللإبقاء على الفطرة الإنسانية سليمة من أدران البهيمية، وللأخذ بأيدي الناس إلى طريق الكمالات البشرية.
1 / 14
من كل ما تقدم تظهر لنا حاجة الإنسانية إلى الرسالة لتتضح أمامها معالم الرشد والهدى وليعرف الناس الحكمة من إيجادهم، وتظهر الهدايات الربانية لحل مشاكل البشرية، كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) [البقرة: ٢١٣].
وبما أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم، كانت الحاجة إلى آيات ودلائل تبيّن صدقهم فيما يبلّغون عن ربهم، وتقيم الحجة على الناس، لذا كانت المعجزة قرينة الرسالة، ولولا المعجزة لأشكل الأمر على الناس والتبس أمر الصادق بغيره، ولما سلمت الدعوات من مدّعين كاذبين.
وتأييد الرسول بآية صدق سنّة إلهية في رسالات الأنبياء جميعا، والقرآن الكريم يوضح هذه السنة ويقررها كما ورد في قصص الأنبياء والأمم السابقة. ولم يؤاخذ الأقوام عند ما طالبوا رسلهم بالآيات الدالة على صدقهم، إنما آخذهم عند ما عطلوا ملكاتهم العقلية ولم يتدبروا أثر الحكمة والتدبير فيما حولهم، أو أصرّوا على نوع معيّن من الآيات من قبل العناد والجمود على العادات الجاهلية الموروثة من الآباء الذين لم يكونوا على هدى من ربهم.
1 / 15
المبحث الأول المعجزة
تمهيد:
لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مصطلح المعجزة، وإنما ظهر هذا المصطلح في وقت متأخر بعض الشيء عند ما دوّنت العلوم ومنها علوم العقائد، في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية الثالث، لذا نجد أن القرآن الكريم قد استعمل كلمة (الآية) في صدد إعطاء الدلائل للرسل عليهم الصلاة والسلام لمحاجّة الأقوام، يقول تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) [الأنعام: ١٠٩].
كما استعمل القرآن الكريم تارة لفظة (البيّنة) كما في قوله تعالى:
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف:
٧٣]، والبينة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو حسية.
وتارة يستخدم القرآن الكريم لفظة (البرهان)، يقول تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ [القصص:
٣٢]. والبرهان بيان للحجة وهو أوكد الأدلة ويقتضي الصدق لا محالة (١).
كما يأتي التعبير عن المعجزة أحيانا بالسلطان، قال تعالى:
_________
(١) انظر مفردات الراغب ص: ٤٥.
1 / 17
تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [إبراهيم: ١٠] ولعل اختيارهم لهذا المصطلح بدلا من (الآية) والكلمات الأخرى لإزالة الدلالة المشتركة في الآية من القرآن الكريم (١) كما في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: ١٠٦]، وبين الآية بمعنى العلامة البارزة الدالة على وجود الخالق ﷾ ووحدانيته كما في قوله تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) [آل عمران: ١٩٠]، وبين الآية بمعنى البناء العالي كما في قوله تعالى:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) [الشعراء: ١٢٨]، وكذلك الخروج من الدلالات المشتركة في الكلمات الأخرى.
تعريف المعجزة:
في اللغة: من أعجز وعجز وهو ما يقابل القدرة، والهاء فيها للمبالغة.
في لسان العرب في مادة عجز: العجز نقيض الحزم، والعجز: الضعف، وعجز (٢) عن الأمر إذا قصر عنه. وفي القرآن الكريم: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ [سبأ: ٥]، قال الزجاج: معناه ظانين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يبعثون وأنه لا جنة ولا نار وقيل معناها معاندين، وهو راجع إلى الأول ومعنى الإعجاز الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان أي فاتني.
وعرف العلماء المعجزة بقولهم: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي سالم من المعارضة يظهره الله على يد رسله (٣).
فالمعجزة أمر خارق للسنّة التي أودعها الله ﷾ في الكون
_________
(١) ويعرفها العلماء قطعة من القرآن الكريم لها بداية ونهاية مندرجة في سورة.
(٢) لسان العرب بتصرف واختصار ٥/ ٣٦٩. وفي المعجم الوسيط: عجز عن الشيء ضعف ولم يقدر عليه ٢/ ٥٨٥.
(٣) انظر التعريف المذكور في «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي: ٤/ ٣، وقريبا منه في «مناهل العرفان» للزرقاني: ١/ ٦٦.
1 / 18
ولا تخضع للأسباب والمسببات ولا يمكن لأحد أن يصل إليها عن طريق الجهد الشخصي والكسب الذاتي وإنما هي هبة من الله ﷾ يختار نوعها وزمانها ليبرهن بها على صدق رسول الله الذي أكرمه بالرسالة.
والسحر والأعمال الدقيقة التي يمارسها بعض أهل الرياضات البدنية أو الروحية لا يدخل تحت اسم الخارق لأن لكل من تلك الأمور أساليب ووسائل يمكن لأي إنسان أن يتعلمها ويتقنها ويمارسها، فإذا اتبع الأسباب والأساليب المؤدية إلى نتائجها أمكنه بواسطة الجهد الشخصي والمران والممارسة أن يتوصل إلى تلك النتائج.
أما الأمور الخارقة فلا تدخل تحت طاقة البشر، ليست لها أسباب تؤدّي إليها.
شروط المعجزة:
ومن خلال التعريف السابق للمعجزة نستطيع أن نتلمس شروطها:
١ - أن تكون من الأمور الخارقة للعادة: سواء كان هذا الأمر الخارق من قبيل الأقوال: كتسبيح الحصى وحنين الجذع ومثل القرآن الكريم، أو يكون من قبيل الفعل
كانفجار الماء من بين أصابع الرسول ﷺ وتكثير الطعام القليل وكفايته للجمع الكثير أو من قبيل الترك: مثل عدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم ﵊ وعدم إغراق الماء لموسى وقومه وعدم سيلانه عليهم.
أما إذا كان الأمر من الأمور الاعتيادية للناس ومع ذلك لم يستطع الناس الإتيان بها يكون (المانع) هو الأمر الخارق وليس هذا الأمر المعتاد، فلو قال: معجزتي عدم استطاعتكم وضع أيديكم على رءوسكم فلم يستطيعوا بالفعل لكان هذا المنع في هذه اللحظة هي المعجزة، وليس عملية وضع الأيدي.
٢ - أن يكون الخارق من صنع الله وإنجازه يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ
1 / 19
وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) [غافر: ٧٨].
فالمعجزة هبة من الله ﷾ لا يستطيع أحد أن يعيّن زمانها ونوعها: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الأنعام: ١٠٩].
٣ - سلامتها من المعارضة: فلو استطاع الخصم أن يأتي بمثل ما جاء به النبي بطلت حجته ولم يسلم له ادعاؤه أن هذه الخارقة أو هذا الأمر دليل على صدقه وأمارة على بعثته من قبل الله ﷾.
٤ - أن تقع على مقتضى قول من يدّعيها (وقوعها على مقتضى الدعوى).
يشترط في المعجزة أن تكون موافقة لقول مدّعيها غير مخالفة له سواء كان هذا الأمر مطابقا لطلب المعاندين أو مخالفا له، لأن الرسول يبلّغ عن أمر ربه في تحديد نوع المعجزة وزمانها ولا دخل له في هذا التعيين، فإذا جاءت المعجزة على وجه غير الوجه الذي عيّنه الرسول لم تكن دليلا على صدقه، بل تثير عندئذ الشكوك حول ادعائه. ومن هذا القبيل ما وقع لبعضهم مما يطلق عليه العلماء (اسم الإهانة)؛ فإذا مسح على المريض ليشفى فمات، أو بصق في البئر لتكثير مائه فغار كما ذكرت بعض الروايات في شأن مسيلمة الكذاب، فلا تكون معجزة إنما هي إهانة له ودليل على كذبه.
٥ - التحدّي بها: وهذا شرط أساس في المعجزة لإثبات عجز الجاحدين وإقامة الحجة عليهم فإن عدم التحدّي لمعجزة لا يبرزها كدليل وبرهان، لكي لا يقول قائل فيما بعد: إنه لو تحدّي بالمعجزة القوم لتمكّنوا من الإتيان بها.
والتحدّي يكون بالقول الصريح بأن يقول الرسول: دليل صدقي وصحة ما جئت به هو عجزكم عن الإتيان بمثل هذا الأمر الذي أفعله.
1 / 20
وهذا هو الغالب في معجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام، وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) [آل عمران: ٤٩].
كما يكون التحدّي (بالقوة) حيث لا يكون هنالك تحدّ ظاهر لأن المقام لا يستدعيه ولكن لو وجد تحدّ لأفحم المتحدّى به، ومن هذا القبيل الخوارق التي وقعت على يد رسول الله ﷺ وهو بين أصحابه وهم مؤمنون به، فمثلا نبع الماء بين أصابع رسول الله ﷺ لم يكن في مضمار تحدّ لإثبات رسالة، ومثل ذلك تسبيح الحصى في يده، وحنين الجذع إليه فقد وقعت هذه الخوارق في جو إيماني وفي مجتمع إسلاميّ.
وقد فرّق بعض العلماء بين الخارقة التي يتحدّى بها الرسول القوم ويجعلها آية صدقه وبرهان صحة رسالته، وبين الخارقة التي لا تقترن بالتحدّي وتقع بين المؤمنين برسالة الرسول؛ فأطلقوا على النوع الأول اسم (المعجزات)، وأطلقوا على النوع الثاني اسم (دلائل النبوة).
يقول ابن حجر في فتح الباري في شرح (باب علامات النبوة):
العلامات جمع علامة وعبّر عنها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعم من المعجزة والكرامة، والفرق بينها أن المعجزة أخص، لأنه يشترط فيها أن يتحدّى النبي من يكذبه.
٦ - أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله ﷿: أي يجعلها الرسول دليل صدق رسالته لإثباتها وينسب هذا الأمر إلى الله ﷿ فيقول مثلا: آيتي أن يقلب الله ﷾ هذه العصا ثعبانا، أو أن يحيي الله ﷾ هذا الميت عند قولي له (قم).
٧ - تأخّر الأمر المعجز عن دعوى الرسالة: لأنه بمثابة الشاهد، ولا
1 / 21
يقوم الشاهد إلا بعد قيام الدعوى، أما إذا تقدم على دعوى الرسالة، فيكون من قبيل (الإرهاص). وهي الأمور التي تتقدم على الرسالة وتمهد لها كتظليل السحابة لرسول الله ﷺ وهو في سفره إلى الشام قبل البعثة.
إمكان وقوع المعجزة:
إن النواميس الطبيعية التي يسير عليها الكون والتي يخضع لها الإنسان في أغلب شئونه وحياته المعاشية هي من صنع خالق الكون ومبدعه وواضع نظمه وأسسه. فالله ﷾ له القدرة المطلقة والسلطان الذي لا يحدّ في إبقاء السنن أو تغييرها.
إن الذي أوجد الماء من العدم المطلق لا يعجز أن يجعله ينبع من بين أصابع الإنسان، والذي خلق الجاذبية في الكون والكواكب وجعل الأجسام الثقيلة تسقط باتجاه مركزها، لا يستغرب منه أن يرفع تأثير هذه الجاذبية عن بعض الأجسام لتتخلص من نفوذها وتصعد إلى السماء، فيكون في هذه الحالة وتلك معجزة لأحد أصفيائه من البشر، ودليل صدق على رسالته.
إن العقل السليم الذي يؤدي بصاحبه إلى الإيمان بالله ذي القوة المطلقة الخالق المدبر المهيمن على الكون بأسره لا يستبعد حدوث الأمور الخارقة لهذه الأسباب والسنن ما
دامت الحياة والإنسان والكون خاضعا لإرادة الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
ولا ينكر الأمور الخارقة للعادة عامة ومعجزات الأنبياء خاصة إلا أحد اثنين:
- إنسان ملحد ينكر كل ما غاب عن الحواس فهو كافر بالغيب، ويقول إنما نحيا ونموت وما يهلكنا إلا الدهر، فمثل هذا يحتاج إلى عملية فكرية جذرية للإيمان بخالق الكون والحياة والإنسان ...
- أو إنسان يؤمن بإله محدود القدرة عاجز عن التصرف في الكون
1 / 22
والمخلوقات حسب إرادته، ومن هذه النوعية كل من اتخذ من دون الله أربابا وأوثانا وآلهة ابتدعوها، وأملتها عليهم شهواتهم وأهواؤهم، هؤلاء يحتاجون إلى معرفة الألوهية الحقة ومستلزماتها من صفات الكمال المطلق، والتنزّه عن النقص والعجز الذي لا يليق بخصائص الألوهية.
إن الموجة العقلية المنبثقة عن مناهج الفلاسفة الماديّين قد أثّرت على تفكير كثير من علماء المسلمين المعاصرين الذين حاولوا تفسير الخوارق التي ظهرت على يد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، والتي نقلت إلينا نقلا لا يتطرّق إليه أدنى شك، حاولوا تفسير تلك الخوارق تفسيرا ماديا خاضعا للأسباب والسنن الكونية مما يفرغها عن مضمونها ويعطل دلالتها التي ترد هذه الخارقة من أجل إثباتها ألا وهي إثبات صدق الرسول في دعوى الرسالة وتلقي الوحي من الملأ الأعلى.
إن من يفسّر فلق البحر لموسى ﵇ بالمد والجزر، والطير الأبابيل بجراثيم الطاعون أو الأمراض المعدية الوبائية .. وغير ذلك من الخوارق، إن هؤلاء يسيئون إلى قضية الإيمان بالغيب وبخالق الكون وبرسل الله المصطفين، وكذلك يسيئون إلى تفكيرهم وإيمانهم وعقيدتهم، وإلا فما المانع عقلا من وقوع المعجزات على يد أناس لهم صلة بالله ذي القوة غير المحدودة؟ أناس اصطفاهم الله ﷾ للقيام بدور السفارة بينه وبين خلقه لتبليغهم أحكام دينه الحنيف وشرعه القويم وقد أيدهم بكل ما يسهل عليهم مهمتهم من الحجج والبراهين ويظهرهم على خصومهم المعاندين.
وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول:
ليس المقصود بالمعجزة إثبات العجز للخلق لذاته من غير ترتّب مطلب على هذا العجز، بل المقصود لازم هذا العجز. وهو إقامة الحجة على أن هذا الادّعاء حق وأن الرسول الذي جاء به رسول صدق.
فإعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله يراد من وراء ذلك إقامة الحجة
1 / 23
على الخلق كافة، إن هذا الكلام كلام رب العالمين، وإن الرسول الذي أرسل به يبلّغ عن ربه، وإن الأوامر والنواهي التي يحملها هي سبيل النجاة.
وكذلك الشأن في جميع معجزات الأنبياء السابقين، هو إبراز صدق من ظهرت على يديه، ليؤمن بهم الناس ويتبعوهم، وذلك لأن بعثة النبي لا تصح من غير أن يؤتى دلالة ويؤيّد بآية، لأنه لا يتميز من الكاذب بصورته، ولا بقول نفسه ولا بشيء آخر، سوى البرهان الذي يظهر على يديه فيستدلّ به على صدقه، وأنه مبلّغ عن الله ﷾ (١) وإصدار الله لها عند ذلك يعدّ تأييدا منه له في تلك الدعوى، ومن المحال على الله ﷾ أن يؤيد الكاذب. فإن تأييد الكاذب تصديق له، وتصديق الكاذب كذب، وهو محال على الله ﷾، فمتى ظهرت المعجزة وهي مما لا يقدر عليه البشر، وقارن ظهورها دعوى النبوة، علم بالضرورة أن الله ما أظهرها إلا تصديقا لمن ظهرت على يديه، وإن كان هذا العلم قد يقارنه الإنكار مكابرة (٢)، ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) [آل عمران: ٧٩، ٨٠].
_________
(١) «إعجاز القرآن» للباقلاني، ص ٦٣.
(٢) «رسالة التوحيد» للشيخ محمد عبده، ص ٨٦.
1 / 24
المبحث الثاني معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
ذكرنا في السابق أن المعجزة قرينة الرسالة، وذلك لأن الرسول لا يتميز عن سائر الناس بجسمه ولا بكلامه، فكان لا بدّ من أمارة تدل على صدقه في سفارته هذه بين الخالق ﷾ وبين خلقه.
وقد يعطى الرسول الآية (المعجزة) عند تبليغه الوحي أول مرة من غير سؤال وتطلّع، كما حدث لموسى ﵇: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (١٢) [النمل: ٨ - ١٢].
وقد يعطاها الرسول بعد تكذيب القوم له ومطالبتهم بالآية، كما حدث لأغلب الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه: قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ
قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
(٥٣) [هود: ٥٣]، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ... (١٥٥)
[الشعراء: ١٥٣ - ١٥٩].
وعلى كلتا الحالتين فإنها هبة من الله سبحانه لرسله، فهو المعطي
1 / 25
وهو الذي يختار نوعها وزمانها ومكانها، ودور الرسول فيها أنها تتجلى على يده. وليس بالضرورة أن تكون نفس الخارقة التي طلبها القوم، فإن مدلول الخارقة والإيمان والتصديق لصدق الرسول يتحقق بوجود المعجزة مطلقا ولا يتوقّف على نوع خاص من المعجزات. بل إن سنّة الله تقضي بتعجيل عذاب الاستئصال للذين لم يذعنوا للآية الخاصة التي سألوها: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) [الأنعام: ٨].
سنة الله ﷾ في معجزات الأنبياء:
باستعراض معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين نلاحظ أن المعجزة تختار من بيئة القوم الذين يرسل الرسول إليهم ومن نوع المشهور في عصرهم مما يتلاءم مع مستواهم الفكري ورقيّهم الحضاري، لتكون الحجة أقوى.
أ- الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية، فمعجزة صالح ﵇ كانت ناقة غريبة المنشأ والمولد بين نوق أهل البادية قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) [الشعراء:
١٥٣ - ١٥٦].
ب- وكان السحر منتشرا بين المصريين عامتهم وخاصتهم استرهبهم فرعون وجنوده به، فجاءت معجزات موسى ﵇ من جنس المشهور بين قومه فمن معجزاته الرئيسية:
العصا: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) [الشعراء: ٣٢].
واليد: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (١٢) [النمل: ١٢].
فظاهر هاتين المعجزتين لا يختلف عما كان متداولا بين سحرة
1 / 26