وفيما هو ينظر في المرآة وقعت عينه على صورة زيتية معلقة بجانب ذلك الباب تمثل قاربا عند الشاطئ، وقد وقف فيه نحو عشرة رجال عليهم ألبسة سوداء وقبعات سوداء يقرب شكلها مما يلبسه الرهبان اليسوعيون، وفي يدي كل منهم آلة موسيقية كالناي أو العود أو المزمار يعزف عليها، وهم جميعا في حال عربدة أو سكر، وأمامهم على الشاطئ نحو عشر نساء عاريات يرقصن أو يتخالعن. وهي صورة أهداها إلى عبد الحميد بعض المتملقين، وفيها يظهر مدحت ورجاله الأحرار بما يحقر دعواهم، ويدل على أنهم يتظاهرون بطلب الحرية والدستور تمويها على العقول، وهم في الحقيقة يريدون الخروج على الآداب الدينية والاقتداء بالنصارى في خلاعتهم وسكرهم!
فلما وقع نظره على تلك الصورة حرق أسنانه وهز رأسه وتضاحك مستهزئا، وقال كأنه يخاطب مدحت: «أتطلب الدستور؟! ما هو الدستور؟ أتريد أن تقيد إرادتي ليسمع في الدولة صوت غير صوتي؟ ... لا، لا ينبغي أن يسمع غير هذا الصوت، هكذا كان عمي وأبي وهكذا ينبغي أن أكون أنا. أغرك ما قدرت عليه أنت وأعوانك حتى خلعتم عمي رغبة في الدستور؟ الدستور؟! إنني أنا الدستور، وإرادتي هي الشريعة، وقد نلت جزاء غرورك، مت واشبع موتا! آه لو أستطيع أن أميتك ثانية! وهكذا سأفعل بمن يقولون قولك ويسعون سعيك، سأسحقهم سحقا وأقتلهم قتلا!»
قال ذلك ودخل دار الحريم يطلب الرقاد للراحة وهو ينتفض من الغيظ، وقد توسط النهار ولم يشته الطعام لفرط ما حل به من هياج العواطف المتضاربة بين الغضب والخوف والرجاء واليأس والانتقام. •••
ما كاد عبد الحميد يدخل دار الحريم حتى سكن ما كان فيها من حركة الجواري والخصيان، فاستولى عليها الصمت والجمود ولا سيما أنه كان قلما يدخل تلك الدار في مثل تلك الساعة، لأنها ساعة قراءة التقارير في القصر الصغير.
وكان نادر أغا أول من خف لاستقباله، فوقف له باحترام وألقى السلام وقد توسم الاضطراب والغضب في عينيه، ولم يكن يفوته شيء من أحواله لما علمت من تقربه ودخوله في كل أمر لموقعه من نفس عبد الحميد، ولعله أكثر ثقة فيه من سائر المحيطين به.
ووقف نادر أغا ينتظر إشارة البادشاه إلى ما يطلبه أو يختاره من غرف الجواري فإذا هو قد سار إلى غرفة الرقاد، فأسرع نادر أغا لخدمته فيما قد يحتاج إليه هناك فأومأ إليه أن يتركه وحده، فانصرف وقد أدرك مقدار ما في نفس عبد الحميد من القلق.
توسد عبد الحميد سريره في غرفة أغلق بابها من الداخل بيده، وأخرج المسدس من جيبه ووضعه تحت الوسادة كأنه في الصحراء على موعد من هجوم أهل البادية عليه! وكان رغم ما يظهره من الثقة بأعوانه ورجاله يخاف كلا منهم، وقد تمكن في خاطره أن الإنسان خلق شريرا، وأن أول أغراضه في هذه الحياة أن يغتال إخوانه ويسلبهم مالهم بأية وسيلة كانت.
وقد نشأ عبد الحميد من صغره حذرا سيئ الظن، وشاهد بعينيه خلع عمه ثم موته، ومقتل عوني على يد حسن الشركسي، ثم خلع أخيه مراد. فلما تولى السلطنة رأى حياة السلطان ليست أكثر صيانة من حياة العامة، أو هي أكثر تعرضا للخطر منها، فزاد تعلقا بالبقاء واشتد خوفه على نفسه حتى بلغ درجة الهوس، فأصبح لا يسمع حديثا أو يرى مشهدا أو يقول قولا أو يعمل عملا إلا وهو ينظر من وراء ذلك إلى علاقته ببقائه، واضطر للمحافظة على نفوذه واستبداده في أول سلطنته إلى أن يسيء إلى بعض الأحرار بالإبعاد أو القتل بدسائس أشرك فيها بعض خاصته، فأصبح يخاف نقمة أهل القتلى، ويخاف دسائس أولئك الخاصة. ولعله كان يقيس شعور الناس على شعوره، فيتصور أنه لو توسم نفعا بقتل بعض أصدقائه أو محبيه لا يرى بأسا من قتله، فأصبح يخاف أن يستولي أعداؤه الكثيرون على قلب بعض خاصته فيغريه بالمال أو غيره ليقتله، ولذلك فهو لا يثق بأحد أو يستسلم له كما يستسلم الصديق لصديقه أو الابن لأبيه كما يفعل أكثر الناس، لأنه يرى كل شيء عدوا له.
ولم يلق رأسه على الوسادة حتى تصور ما مر به في ذاك اليوم من الطوارئ، وأخذ يفكر فيما عساه أن يطرأ في الغد بشأن تلك الجمعية، ويقدر الوجوه التي يمكن أن تقع ويدبر حيلة يتلافاها بها. ومع كثرة هواجسه غلب عليه النوم لفرط التعب، فنام وأهل القصر جميعا كأنهم في سبات مخافة أن ينغصوا عليه رقاده فيغضب.
نام والغرفة مغلقة ونادر أغا جالس ببابها ينتظر ساعة اليقظة ليقوم بالخدمة اللازمة، ولكي يعلم أهل القصر بوجود البادشاه هناك فلا يخطرون ولا يتكلمون.
Bilinmeyen sayfa