Innovation in the Detriments of Heresy
الإبداع في مضار الابتداع
Yayıncı
دار الاعتصام
Baskı Numarası
الخامسة
Yayın Yılı
١٣٧٥ هـ - ١٩٥٦ م
Türler
الإبداع في مضار الابتداع
صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير
الشيخ علي محفوظ
عضو هيئة كبار العلماء
طبق ما قرره المجلس الأعلى من مناهج التعليم لقسم الوعظ والخطابة بالأزهر الشريف
وتمتاز بأبحاث مفيدة وزيادات ذات شأن
دار الاعتصام
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه الذى خلق العباد لما شاء، ويسرهم لما خلقوا له على وفق علمه وإرادته، وصرفهم بمقتضى حكمته، فمنهم شقى وسعيد، وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبى الرحمة، ومرشد الأمة وكاشف الغمة، الذى نسخت شريعته كل شريعة، وشملت دعوته كل أمة، فلم يبق لأحد حجة دون حجته، ولا استقام لعاقل طريق سوى واضح محجته، جمعت سنته تحت حكمتها كل معنى حكيم فلا يسمع بعد بيانها خلاف مخالف ولا قول مختلف. من سلك سبيلها فهو على نور من ربه، وبصيرة من أمره، معدود في الفرقة الناجية، والمائل عنها واقع في ظلمته، مرتبك في حيرته، مردود إلى الفرق المقصرة أو الغالية، وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة، واقتفوا آثاره اللائحة، وأنواره الواضحة، ومن أحيا سنته واهتدى بهديه.
أما بعد: فهذا مختصر نفيس، ومهذب لطيف في أصول البدع وفروعها وعادات العامة وأوهامها، طبق ما قرره مجلس الأزهر الأعلى من مناهج التعليم في مجموعة الوعظ والخطابة بالجامع الأزهر الشريف، اقتصرت فيه على ما لابد منه لمن يتصدى لمحاربة البدع المذمومة، والعوائد القبيحة، وسلكت فيه سبيل الاعتدال فكان وسطًا بين الإفراط والتفريط، ورتبته على مقدمة وبابين وخاتمة، وسميته (الإبداع في مضار الابتداع)، واللَّه تعالى أسأل أن يجعله عملًا خالصًا، ويجعل ظل الانتفاع به ممدودًا، والأجر على العناء فيه كاملًا، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلى العظيم.
على محفوظ
1 / 3
مقدمة الطبعة الخامسة
قبل أن يلقى المغفور له صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ على محفوظ ربه أوصانا في حديث خاص لا يزال بما حوى من توجيهات، المصباح الوهاج الذى يضئ لنا الطريق، أوصانا أن نعمل على أن تظل الكتب التى ألفها ينتفع بها المسلمون. وها نحن اليوم نقدم الطبعة الخامسة من كتابه (الإبداع في مضار الابتداع) منقحة ومزيدة بيده الكريمة من نسخته الخاصة، فهى بهذا خلاصة ما قدم الفقيد الكريم الذى أفنى عمره في سبيل الدين ونشره بين جميع الطبقات حسبة لوجه اللَّه الكريم.
فإلى تلاميذه الكرام، وعارفى علمه وفضله، وإلى حاملى لواء الإسلام، وإلى المشتغلين بالوعظ والإرشاد، الذين يحاربون البدع والخرافات، وإلى المصلحين الاجتماعيين والحطباء والدعاة الناصحين.
وإلى العالم الإسلامى قاطبة، وأخيرًا إلى روح الفقيد الطاهرة نقدم هذا السفر النفيس.
ولعلنا بهذا نكون قد أدينا بعض الأمانة التى في أعناقنا.
رجب سنة (١٣٧٥ هـ - مارس سنة ١٩٥٦ م).
أنجال المؤلف
1 / 4
ترجمة المؤلف
في محلة روح مركز طنطا غربية، كانت تقيم أسرة "محفوظ" وهى أسرة طيبة يتصل نسبها بالحسن بن على ﵃. في تلك القرية ولد المغفور له الأستاذ الشيخ على محفوظ وفيها نشأ، وحفظ القرآن الكريم واستوعب حفظ بعض المتون.
وفى عام (١٣٠٦ هـ) التحق بالجامع الأحمدى بطنطا واشتغل بتجويد القرآن الكريم على بعض الفقهاء، ثم بدأ يتلقى العلم على كبار شيوخه، فكان من أساتذته الشيخ عبد الرحمن الدماطى والشيخ محمد الشبينى الكبير والشيخ على المنوفى والشيخ قطب بكر، وكان في أثناء طلبه العلم مثلًا حسنًا للطالب المجد، واستمر بالجامع الأحمدى نحوًا من عشر سنوات ظهر فيها نبوغه وتفوقه على أقرانه.
ثم رأى شيخه الأكبر الشيخ الدماطى أن ذلك النبوغ يجب أن يستفيد منه الأزهر الشريف، فحبب إليه طلب العلم فيه فتوجه في عام (١٣١٧ هـ) إلى مصر ونزل بالأزهر المعمور، ثم مالت نفسه إلى مذهب أبى حنيفة بعد أن كان شافعى المذهب فتتلمذ على صفوة علمائه من أمثال الشيخ محمد الحلبى والشيخ بكر الصدفى، والشيخ أحمد أبو خطوة والشيخ محمد بخيت والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده. وفى عام (١٣٢٤ هـ - ١٩٠٧ م) حصل على شهادة العالمية، ثم اشتغل بالتدريس.
ولما أدخل النظام في الأزهر عام (١٩١١ م) سار فيه حتى بلغ القسم العالى.
وفى عام ١٩١٨ أنشئ قسم الوعظ والإرشاد في الأزهر فكان أول من تعهده بالتأسيس والتوجيه، وفى هذا القسم وجد ضالته، فجاهد فيه بكل قواه، ووقف عليه فكره ووقته، وسرعان ما أنجب على يديه رجالًا دعاة خير ورسل إصلاح، أُشْربوا حب الفضيلة ونمت فيهم نازعة الخير.
وفى عام (١٣٥٦ هـ) أوفد على رأس أول بعثة أزهرية إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج.
1 / 6
وفى مايو عام (١٩٣٩ م) قدرت جماعة كبار العلماء مزاياه وعلمه وفضله، فقررت ضمه إلى عضويتها.
وفى فبراير (١٩٤١ م) منح كسوة التشريفة العلمية من الدرجة الأولى.
ثم لقى مولاه في يوم الأربعاء الثالث من ذى القعدة (١٣٦١ هـ) الموافق (١١) نوفمبر (١٩٤٢ م).
نَشَاطُهُ:
نظر الفقيد بفكره الثاقب إلى العلم والعلماء، فوجده أشبه بصناعة خاصة بين طائفة خاصة في مكان خاص لا يعدو العالم والمتعلم، قد دأب الأزهر على ذلك جيلًا بعد جيل، وسواد الأمة عن هذا النور محجوب باحتجاب العلماء عنهما، اللهم إلَّا بصيص من النور يظهر في بعض البلاد التى ينبت فيها العلم بوجود عالم من العلماء أو طالب من الطلاب في ليالى شهر رمضان من كل عام .. فأخذ على نفسه المواثيق أن يجدد عهد السلف الصالح، وأن يقوم بنشر الدعوة الصحيحة بين طبقات الشعب المصرى الكريم.
وضعُ أساس فنّ الوَعْظ والخطَابة:
ولقد أحب فن الوعظ والإرشاد حبًّا لا يعدله حب، وأخلص له إخلاصًا، ما بعده إخلاص، وامتزج هذا الحب وهذا الإخلاص بإيمان قوى لا حد له، ثم سكن هذا المزيج المبارك في قلب كريم في نفس طيبة راضية مطمئنة.
وبهذا القلب عقد اللواء وتأهب للغزو، فأخذ يبث فكرته بين طبقات الأزهر من علماء وطلاب، فكان من ثمرات هذا الجهاد إنشاء قسم الوعظ والإرشاد في كلية أصول الدين.
الوَعظُ في المساجد والمجامع العَامة:
ثم انتقل إلى الناحية العملية، فكان يغشى المساجد كل أُسبوع والمجامع العامة، ناشرًا لفضيلة، داعيًا إلى التمسك بحبل الله المتين، فظهر نجمه وسطع نوره، ورمقته العيون وأسكنته القلوب في سويدائها لما عرف فيه
1 / 7
من علم، وما أوتيه من قوة البيان ودقة الأسلوب وسلاسة التعبير. وقد أنتجت قريحته الفذة في هذا الفن كتاب "سبيل الحكمة في الوعظ والخطبة" ثم أعقبه بكتاب "هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة" وهو يعتير أول كتاب حديث من نوعه.
وكان أهم ما يلاحظ عليه ذوقه الرفيع في الوعظ، ومراعاته لشعور الحاضرين وعواطفهم، يستميلهم بالفكاهة النادرة برقة تملك المشاعر، ويلقى إليهم بالحجج والحكم في دعة تفتح لها الطريق إلى القلوب قبل الأسماع.
الوَعظ في القُرَى:
رأى - طيب الله ثراه - أن كثيرًا من القرى الريفية قد حُرم من العلم فكان يذهب إليها مرشدًا داعيًا إلى الله بإذنه. مضحيًا في ذلك بماله وراحته ووقته، فكان يقضى العطلة الصيفية متنقلًا بالوعظ والإرشاد في شتى البلاد. وقد كان يسجل خطبه في سجل خاص حتى بلغ مجموعها نحو (٨٠٠) خطبة.
مُحَاربةُ البدَع والخرافات:
رأى ﵀ أن كثيرًا من البدع والخرافات قد استحكم في نفوس الشعب حتى أبعدهم عن طريق الدين المستقيم، فأخذ يكافح ويجاهد ويذكر القوم بمحاسن الدين وقبائح البدع، ولم يثنه عن سبيله ما أقامه دعاة هذه البدع من عراقيل وعقبات .. وظل ثابتًا على عزمه حتى اقتلع الأوهام من القلوب وعاد بالناس إلى حظيرة الدين، وقد ألف في هذا كتابه العظيم "الإبداع في مضار الابتداع".
الجمعيات الإسلاميَّة العَامة:
أيقن أن الجَمعيات الإسلامية خير معين على نشر الفضائل بين الأمة فساهم في تأسيس "جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية". وكان من أعضائها العاملين البارزين.
1 / 8
وساهم في تأسيس "جمعية الهداية الإسلامية". وقد انتخب وكيلًا لها في أول جلسة عقدت لتأسيسها في عام (١٣٤٦ هـ).
وكذلك ساهم في تأسيس "جمعية تحفيظ القرآن بالعباسية" وكان من أعضائها المخلصين.
وقبل الحرب العالمية الأولى كانت "جمعية الرد على المبشرين" بالخرنفش تناهض المبشرين فكان ﵀ خطيبها وحامل لوائها.
وفازت جمعية "نشر الفضائل والآداب الإسلامية" بالكثير من نشاطه ولمَّا تكونت "جماعة أنصار الحج" ساهم فيها بجهاده بكل قواه.
الجمعياتُ الخاصة:
لم يكتف الفقيد بكل هذه الأعمال الجليلة، بل نظر في صفوف الأُمة، فوجد طائفة من عظمائها المخلصين قد عكفوا على ما لديهم من الأعمال، فتلطف في الدخول إليهم، واستعمل ذكاءه وفطنته في استمالتهم وهمس في آذانهم بأحكام الدين الحنيف، فوصلت دعوته إلى قلوبهم، وجد التربة صالحة للغرس، والجو ملائمًا للإنبات، فكون جمعية قوامها العظماء وعنصرها "الطبقة الراقية" مثل: الدكتور سالم هنداوى باشا، وسليمان عزمى باشا، والمرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا وغيرهم من طبقتهم، واشتغل معهم بتفسير القرآن الكريم في ليلة معينة من كل أسبوع، واتخذ بذلك عيادة الدكتور سالم باشا بعابدين حتى أتمه، في بضع سنين، ثم انتقل إلى السنة الشريفة فقرأ معهم كتاب "البخارى" بأكمله. وقد كان من آثار هذا الغرس أن طلع المرحوم الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل على العالم الإسلامى بكتابه العظيم "الإسلام والطب الحديث".
كذلك كون ﵀ جمعية أخرى قوامها الدكتور عبد السلام العيادى ونخبة من خيرة "المتعلمين ما بين مهندس وتاجر وموظف" وجعل مقرها عيادة الدكتور العيادى بالدرب الأحمر، وقد ابتدأ في تفسير القرآن الكريم حتى أوشك على إتمامه ولكن المنية عاجلته قبل ذلك بقليل.
وأنشأ جمعية ثالثة قوامها جماعة من "أرباب المعاشات" فغرس فيهم
1 / 9
الروح
الدينى الحق، وكان مقرها منزل السيد أحمد فهمى المهندس في المغربلين ثم بالعباسية.
وامتد نشاطه إلى "الطبيبات والممرضات" داخل المستشفيات فتعدهن في مستشفى فؤاد الأول بالموعظة الحسنة والنصائح الغالية مما كان له أثر محسوس في قيامهن بواجبهن الإنسانى على خير الوجوه.
إلقَاءُ دروس دينية في الإذاعة اللَّاسلكية:
وفى عام (١٩٣٦ م) نبتت فكرة إلقاء الدروس الدينية على أمواج الأثير، فكان أول من وقع عليه الاختيار لهذا العمل الجليل، فكان يلقى درسًا في كل شهر تقريبًا حتى لقى ربه.
دروس شَهْر رمضَان في الأَزهر الشريف:
وكان من عادته ﵀ أن يلقى درسًا في الجامع الأزهر بعد صلاة العصر من كل يوم من أيام رمضان المبارك، وقد ظل محافظًا على هذه العادة الجليلة، وكان فيها مخلصًا متفانيًا، ولا أدل على ذلك من حرصه عليها وهو في مرض الموت.
التأْليف:
أَلَّف الفقيد الكتب الآتية:
١ - "الأخلاق": وكان يدرس في المعهد الابتدائي.
٢ - "هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة": وهو مقرر للدراسة في كلية أصول الدين: (قسم إجازة الوعظ والإرشاد).
٣ - "الإبداع في مضار الابتداع": وهو مقرر في كلية أصول الدين.
٤ - "الخطابة": (لم يطبع) طبع مختصر له في (١٠٠) صفحة.
خاتمة:
وهكذا كان الفقيد الكريم شعلة من نور وعلم، تفرقت أشعتها في كل ناحية من نواحى الأمة، فكانت السراج الذى يهتدى به المهتدون.
1 / 10
كان ﵀ يرى أن العلم ثروة وزكاتها الوعظ والإرشاد ليكون علمًا مباركًا طيبًا يزيده الله من فضله.
ولقد كان واعظًا بسمته وهيئته ووقاره ووقفته ومشيته قبل أن يكون واعظًا بقوله ومنطقه، فكان في ذلك مصداقًا لقول رسول الله ﷺ: "خياركم من تذكركم باللَّه رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله" رواه الترمذى عن ابن عمر ﵄.
رحم الله الفقيد الجليل، وأحله مقامه بين الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
* * *
1 / 11
مقدمة الكتاب
في أَخبار الصَّادِق الْمَصْدُوق بغُربة الدِّين والحث على التَّمَسُّك بالكتاب والسُّنَّة
روى مسلم عن أبى هريرة ﵁، والنسائى عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء". روايات الحديث: بدأ بالفعل المبنى للفاعل وضبطه الإمام النووى بالهمز بناء على الرواية وهو من البدء بمعنى الابتداء، وكان غريبًا لسبق الكفر عليه وإنكار الكفرة له، وسيعود غريبًا: أي لغلبة الجهالة وكثرة الضلالة فكان في الزمان الأول كالغريب لا يعرفه أحد، ومتى تركه أهله وانصرفوا عنه عادت له الغربة. أو أن أهل الدين في الأول كانوا غرباء ينكرهم الناس ويقاطعونهم، وكان حالهم مع أقاربهم أسوأ من حالهم مع الأجانب وسيكونون كذلك في آخر الزمان، فطوبى - أي الجنة - لأولئك الذين كانوا في أول الإسلام ويكونون في آخره بما صبروا على أذى الكفار والفجار وتمسكهم بدين الإسلام، ورواه الطبرانى وأبو نصر في "الإبانة" عن عبد الرحمن بن سنة بلفظ: "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء" قيل: يا رسول اللَّه وما الغرباء؟ قال: "الذين يصلحون عند فساد الناس" (^١)، وفى رواية أنه سُئل عن الغرباء؟ فقال: "الذين يحيون ما أمات الناس من سنتى" (^٢). وجملة المقصود منه قد علم بالمشاهدة في أول الإسلام وآخره.
وبيان ذلك مفصلًا أن الله تعالى بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه على حين فترة من الرسل وفى جاهلية جهلاء، لا تعرف من الحق رسمًا، ولا تقيم
_________
(^١) أي أنهم صلحاء عاملون بالكتاب والسنة في زمان فساد الناس بعدم العمل بهما.
(^٢) وفى رواية قالوا: يا رسول الله، كيف يكون غريبًا كما يقال للرجل في حى كذا وكذا أنه لغريب؟
1 / 12
له في مقام الحقوق وزنًا، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها وما استحسنته أسلافها من الآراء المنحرفة والمذاهب المبتدعة. فحين قام فيهم صلوات الله وسلامه عليه
بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، عارضوا معروفه بالنكر، وغيروا وجه صوابه بالإفك، ونسبوا إليه - إذ خالفهم في الشرعه: ونابذهم في النحلة - كل محال، ورموه ﵌ بأنواع الزور والبهتان، فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق الذى لم يجربوا عليه كذبًا قط، وتارة يتهمونه بالسحر وهم يعلمون أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه، وآونة يقولون: إنه مجنون، وهم لا يشكون في كمال عقله وسلامته من مس الشيطان وخبله.
وإذا دعاهم إلى توحيد الصانع الحكيم القادر العليم قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (^١) مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة الصادقة عند الشدة: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (^٢)، وقالوا: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (^٣).
وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة أنكروا ما يشاهدون من الأدله على إمكانه: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ (^٤).
وإذا خوفهم مقت الله وسخطه قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (^٥) اعتراضًا منهم على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة.
وإذا جاءهم بآية خارقة افترقوا في الضلالة على فرق، واختلفوا فيها لمجرد العناد وقالوا فيها ما لا يقبله أولو التمييز بين الحق والباطل، واجتهدوا في الانتصار لباطلهم يشئ معقول فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء. وقد أخبر الله تعالى إبراهيم ﵇ في محاجة قومه: ﴿مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (^٦) فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع إلى ما ذكروا من التقليد الأعمى، فكدلك كان هؤلاء مع النبي عليه صلوات الله وسلامه عليه فأنكروا عليه ما توقعوا
معه انقضاء دولتهم وزوال ما بأيديهم؛ لأنَّه خرج عن معتادهم وأتى بِخلاف ما كانوا عليه من الكفر والضلال، حاولوا إن يستنزلوه بطريق السياسة في زعمهم ليظفروا منه بالموافقة
_________
(^١) [سورة ص: الآية ٥].
(^٢) [سورة العنكبوت: الآية ٦٥].
(^٣) [سورة يونس: الآية ٢٢].
(^٤) [سورة ق: الآية ٣].
(^٥) [سورة الأنفال: الآية ٣٢].
(^٦) [سورة الشعراء: الآيات ٧٠ - ٧٤].
1 / 13
ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال ويقنعوا منه بذلك ليبقى لهم بتلك الموافقة واهى بنائهم، فأبى صلوات الله وسلامه عليه إلَّا الثبات على واضح الحق والتمسك بخالص الصواب وأنزل الله تعالى عليه: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (^١) السورة.
فلما يئسوا منه نصبوا له حرب العدارة، ورموه بسهام القطيعة، حتى صار أهل السلم كلهم حربًا عليه، وعاد الولى الحميم له عدوًّا لدودًا. فأقربهم إليه نسبًا كان أبعد الناس عن مولاته كأبى لهب وأضرابه. وألصقهم به رحمًا كانوا أقسى قلوبًا عليه. فأى غربة توازى هذه الغربة، ومع ذلك فلم يكله الله تعالى إلى نفسه ولا مكنهم من اغتياله، بل حفظه الله وعصمه وتولاه بالرعاية والوقاية حتى بلَّغ دعوة ربه مصداق قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (^٢) أن يقتلوك.
ثم ما زالت الشريعة الغراء في أثناء نزولها تباعد بين أهلها وبين غيرهم وتضع الحدود بين حقها وباطلهم، لكن على وجه من الحكمة عجيب، وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأصيل.
ففى العرب نسبتهما إلى أبيهم إبراهيم ﵇، وفى غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم، كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (^٣) وقوله ﷿: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ (^٤).
وما زال صلوات الله وسلامه عليه يدعو إلى الشريعة فيأتى إليه الواحد بعد الواحد على طريق الاختفاء خوفًا من اعتداء الكفار أيام ظهورهم على دعوة الإسلام، فلمَّا علموا المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا. فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة
فحموه على إغماض أو خشية العار في الإخفار والجوار، ومنهم من هاجر فرارًا بدينه من الفتنة باشتداد الأذى وتوقع القتل من أجله، ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ولا ملجأ يركن إليه فلقى منهم من الشدة والغلظة أنواع التعذيب والقتل ما لا تحتمله الجبال الراسيات حتى زل منهم من زل وبقى منهم من بقى صابرًا محتسبًا إلى أن
_________
(^١) [سورة الكافرون: الآيتان ١، ٢].
(^٢) [سورة المائدة: الآية ٦٧].
(^٣) [سورة الأنعام: الآية ٩٠].
(^٤) [سورة الشورى: الآية ١٣].
1 / 14
أنزل الله تعالى الرخصة في التلفظ بكلمة الكفر على وجه الموافقة ظاهرًا فلجأ إليها من لجأ على حكم الضرورة والوقاية لنفسه، ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه، وقلبه مطمئن بالإيمان وهذه أيضًا غربة. وإنما فعل هؤلاء البعداء الأعداء ما فعلوا جهلًا منهم بمواقع الحكمة وإن ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه هو الحق ضد ما هم عليه: "فمن جهل شيئًا عاداه" ولو تعقلوا الأمر وعلموه لحصل الوفاق ولم يقع الخلاف.
ثم استمر تزايد الإسلام واستقام طريقه مدة حياة النبي ﵌، ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة ﵃ أجمعين - إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج، وهو الأمر الذى تنبأ به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بقوله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم" (^١) ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق ﵌ في قوله: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة" (^٢) وقوله فيما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم"، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " (^٣) أخرجه البخارى. والحديث الأول خاص بأهل الأهواء، والثانى عام في المخالفات بدليل قوله: "حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم" وكل صاحب بدعة من شأنه أن يدعو غيره إليها ويحض سائليه؛ بل سواه عليها؛ إذ طلب التأسى في الأعمال والمذاهب أمر جِبِلِّىٌّ في بنى الإنسان.
ومن هنا ينشأ الخلاف وتقع العداوة والبغضاء بين المتمسكين والخارجين، وكان الإسلام في إبان نشأته وعنفوان شبابه مقاومًا، بل ظاهرًا وأهله غالبين - وسوادهم أعظم الأسودة، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين. ولم يكن لسواهم - ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه
_________
(^١) أي لا يتفقهون فيه بل يأخذون بظاهره، وكل هذا في آخر عهد الصحابة.
(^٢) رواه الترمذى من حديث أبى هريرة ﵁، وقال: حسن صحيح.
(^٣) أي غيرهم، كما في رواية أخرى لمسلم.
1 / 15
ولكنه ابتدع فيه - صولة تخشى، ولا قوة يضعف أمامها حزب الله المفلحون، فسار الإسلام على استقامة وجرى على اجتماع وقوة. فالشاذ عنه مقهور مضطهد، والمخالف له منبوذ مقاطع، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود، وقوته إلى الضعف المنتظر، وأخذ الشاذ عنه تقوى صولته، والمخالف يكثر سواده - ولا شك أن الغلبة للقوى - فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء (^١).
فتفرق أكثرهم شيعًا وهذه سنة الله في خلقه، أن أهل الحق في جانب أهل الباطل قليل. قال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (^٢) وليتحقق ما أخبر به الصادق صلوات الله وسلامه عليه من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لاتكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم. وذلك حين يصير المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، وتقوم الناس على أهل السنة باللوم والتعنيف والتوبيخ والتقبيح. كما كان يقام على أهل البدعة، طمعًا من المبتدعة أن تجتمع كلمة الضلال ويأبى الله أن تجتمع حتى يأتى وعد الله، فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة، كما لا يخفى على من عرف حياة الإسلام وأطواره إلى اليوم، بل لابد أن تثبت جماعة على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ حتى يأتى أمر الله، غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم لا يزالون في جهاد ونزاع ومدافعة وقراع. وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم.
وعلى الجملة فكتاب الله وسنة رسوله ﷺ لم يتركا في سبيل الهداية قولًا لقائل، ولا أبقيا لغيرهما مجالًا يعتد به فيه، وإن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، وكل مطلوب فيما شرع، وما سوى ذلك مما خالفهما فضلال وبهتان،
وإفك وخسران، وإن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بكل الخير دنيا وأخرى. قام على صحة ذلك البرهان الذى لا شبهة فيه. ولكن من ألزم نفسه السير مع الجماعة التى سماها رسول الله ﵌ بالسواد الأعظم في الوصف الذى كان عليه هو وأصحابه، وتجنب البدع التى بينها العلماء، وأراد
_________
(^١) من حكم الإمام على ﵁: "لا قيام للباطل إلَّا في غفلة الحق".
(^٢) [سورة يوسف: الآية ١٠٣].
1 / 16
الاستقامة على الطريق القويم وجد نفسه غريبًا بين أهل الوقت؛ لأن العوائد قد غلبت على أمورهم والمحدثات قد زاحمت السنن الأصلية، وقد كان ذلك في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا وقد بعد عهد الناس بالنبوة؟
روى عن أبي الدرداء أنه قال: لو خرج رسول الله ﵌ عليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلَّا الصلاة. قال الأوزاعى: فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعى هذا الزمان؟
وعن أنس بن مالك قال: ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله ﵌ غير قولكم: لا إله إلا الله. قلنا: بلى يا أبا حمزة. قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة رسول الله ﵌؟ إلى غير ذلك من الآثار الدلة على أن البدع تغلب على المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا قد استفحل أمرها على توالى الأيام إلى اليوم.
والسعيد الموفق من أحيا السنة ودعا إلى الله ﷿ وخالف ما اعتاد الناس وإن ادعوا أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، غير مبال بما يرمونه به من التنطع في العمل والتشدد في الدين، فذلك قليل من كثير كان يقاسيه الآمرون بالمعرف الناهون عن المنكر المتمسكون بدين الله من التشنيع والتقبيح وضروب الأذى والتعنيف، فقد نقل عن سيدى أويس القرنى أنه قال: إن الأمر بالمعرف والنهى عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقًا. نأمر بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون على ذلك أعوانًا من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم لا أدع أن أقوم فيهم بحقه. فمن هنا يرجع الإسلام غريبًا كما بدأ، لأن المتمسك به على حاله الأول معدوم أو قليل، والمخالف له هو الكثير فلم يبق من الدين إلَّا اسمه، ومن العمل إلَّا رسمه وظهر مصداق الحديث الصحيح: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق إنه على ما يشاء قدير.
الحثُّ علَى التَّمسك بالدِّين وإحياء السُّنة:
وأما الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة فاعلم أن من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب وبينته السنة علم أن النبي
1 / 17
صلوات الله وسلامه عليه تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلَّا من قد مرض قلبه وطاش في مهاوى الضلال لبه. فإن الله تعالى قد بين للناس قواعد الدين وأكملها.
قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (^١) بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، فإذا كان الله سبحانه قد أكمل لنا الدين بما أنزله في كتابه العربى المبين وعلى لسان نبيه الأمين، مما بلغ من الأحكام، وبين لنا من حلال وحرام، فمن اتبع غير سبيل المؤمنين فهو الحقيق بهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (^٢)، وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (^٣): ما تركنا وما أغفلنا شيئًا يحتاج إليه من الأشياء المهمة، فقد نفى سبحانه التقصير فيما شرع من كتابه الحكيم الذى هو متن للسنة. وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وما شرع من الدين القويم ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (^٤) فذكر تعالى أن له سبيلًا واحدًا سماها صراطًا مستقيمًا لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلًا متعددة يتفوق متبعوها عن تَلك الصراط وهى طرق الشيطان، وحث سبحانه على اتباع سبيله الذى هو الكتاب والسنة حثًّا مقرونًا بالنهى عن اتباع السبل مبينًا أن ذلك سبب للتفرق. ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلًا واحدًا أمروا بسلوكه.
وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة. وآرائهم الكاسدة ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (^٥). وقد روى أحمد وجماعة
عن ابن مسعود ﵁ قال: خط رسول الله ﷺ خطًّا ثم قال: "هذا سبيل اللَّه"، ثم خط خطوطًا عن يمينه وخطوطًا عن يساره وقال: "هذه السُّبُل المتفرقة وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو"، ثم قرأ هذه الآية، حتى بلغ ﴿تَتَّقُونَ﴾. السبل المتفرقة: هى البدعِ، والشيطان: هو شيطان الإنس وهو المبتدع، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (^٦). قال العلماء: معناه إلى الكَتاب والسنة، فأمر سبحانه برد الأمر حالة النزاع إلى كتابه العزيز وسنة نبيه ففى حالة الوفاق أولى، وقال تعالى:
_________
(^١) [سورة المائدة: الآية ٣].
(^٢) [سورة النساء: الآية ١١٥].
(^٣) [سورة الأنعام: الآية ٣٨].
(^٤) [سورة الأنعام: الآية ١٥٣].
(^٥) [سورة الروم: الآية ٣٣].
(^٦) [سورة النساء: الآية ٥٩].
1 / 18
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (^١). فقد جعل ﷾ علامة محبته اتباع الرسول ﵊ فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب فما دعواه، فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (^٢). وعصيان الله تعالى ينافى محبته:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه … هذا لعمرى في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته … إن المحبَّ لمن يُحب مطيع
ثم رتب على اتباع الرسول ﷺ حب الله تعالى ورضاءه ومثوبته، فالخير في اتباع الرسول ﷺ والشر في مخالفة سنته، قال ذو النون المصرى: من علامة الحب لله متابعة حبيب الله ﷺ في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته، وكيف لا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه هو المبلغ للكتاب الناطق بالحق والصواب ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ (^٣) وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (^٤) هو الإسلام. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ (^٥).
فإذًا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله والتأسى به في سائر أحواله. قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (^٦)،
وما أخبث رجلًا ترك سبيل السنة الشارحة للكتاب، واستبدل العذب بالعذاب: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (^٧)، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (^٨). وسر تكرير الفعل الدلالة على أن ما يأمر به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، فهو إذًا مستقل بالطاعة كما ورد عنه ﷺ أنه قال: "يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمرى فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه. ألا إنى قد أوتيت
_________
(^١) [سورة آل عمران: الآية ٣١].
(^٢) [سورة النساء: الآية ٨٠].
(^٣) [سورة النجم: الآية ٣].
(^٤) [سورة الشورى: الآية ٥٢]
(^٥) [سورة الأحزاب: الآية ٢١]
(^٦) [سورة الحشر: الآية ٧]
(^٧) [سورة النور: الآية ٦٣].
(^٨) [سورة النور: الآية ٥٤].
1 / 19
الكتاب ومثله معه" (^١). وقوله: ﴿تَوَلَّوْا﴾ بحذف إحدى التاءين عام لمن يقع عليه الخطاب من عباده.
والمعنى: أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها، وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (^٢)، أخبر - جلَّ ثناؤه - أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفى بانتفائه وليس عليه إلَّا البلاغ والبيان الواضح لاهتدائكم وتوفيقكم، ففى صحيح البخارى عن الزهرى: فإن تطيعوه فهو حظكم وسعادتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدى ما حمل وما عليه إلَّا البلاغ. وحكى الإمام الشافعى ﵁ إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة الرسول ﵌ لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وهو كلام حق لا يستراب فيه، كيف تترك نصوص الشارع المعصوم ويؤخذ بأقوال غيره ممن يجوز عليه الخطأ؟ فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلَّا صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، والآيات في هذا الباب كثيرة.
والمعنى: فإن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها فاعلموا أنما عليه مسئولية ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ وعليكم القيام بما أمرتم به من الطاعة.
وأما الأحاديث، فعن أبى نجيح العرباض بن سارية ﵁، قال: وَعَظنا رسول الله ﵌ موعظة وجلت منها القلوب وذرفت (^٣) منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى اللَّه، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين عَضُّوا
_________
(^١) يعنى السنة فإنها أيضًا تنزل عليه بالوحى كالقرآن إلا أنها لا يتعبد بتلاوتها كالقرآن، بل تقرأ للاهتداء بها وأخذ الأحكام منها ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]. فكل ما حكم به رسول ﷺ فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥] في آيات أخر.
(^٢) [سورة النور: الآية ٥٤].
(^٣) بالذال وفتح الراء من باب ضرب: سألت، أي لما تأثرت القلوب ظهر ذلك في العيون فجرى الدمع.
1 / 20
عليها بالنواجذ (^١) وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذى وقال: حديث حسن صحيح. فقد أوصانا صلوات الله وسلامه عليه بلزوم سنته وسنة خلفائه الراشدين الذين هم على طريقته وحرض على ذلك بقوله: "عَضُّوا عليها بالنواجذ".
وعن أبى هريرة عن النبي ﵌ آنه قال: "من تمسك بسنتى عند فساد أمتى فله أجر مائة شهيد" (^٢) رواه الطبراني والبيهقي.
وعن عابس بن ربيعة قال: "رأيت عمر بن الخطاب ﵁ يقبل الحجر - يعنى الأسود - ويقول: إنى أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنى رأيت رسول الله ﵌ يقيلك ما قبلتك" متفق عليه.
وروى الحاكم عنه ﵌ أنه خطب في حجة الوداع فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا. إنى تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا كتاب اللَّه وسنة نبيه".
وعن أنس ﵁ قال: قال لي رسول الله ﵌: "يا بنى إن قدرت أن تصبح وتمسى ليس في قلبك غش لأحد فافعل"، ثم قال: "يا بنى وذلك من سنتى ومن أحب سنتى فقد أحبنى ومن أحبنى كان معى في الجنة" رواه الترمذى وقال: حديث حسن وقال: في الشفاء وشرحه: قال عمر ابن عبد العزيز -رحمه الله تعالى -: "سن الرسول ﵌ وولاة الأمور - يعنى الخلفاء الراشدين - بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله": أي حيث قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ (^٣)، "واستعمال لطاعة الله": أي في طاعة رسوله لقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (^٤) وقد قال ﵊: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى". "وقوة على الدين": أي على كمال ملته وجمال شريعته. "ليس لأحد تغييرها": بزيادة أو نقصان فيها. "ولا تبديلها": بغيرها ظنًّا أنه أحسن منها. "ولا النظر في رأى من خالفها"، "من
_________
(^١) الأضراس، وقيل: الأنياب، والعض: المسك بجميع الفهم، والنهش: المسك بمقدم الأسنان، فكأنه ﷺ يقول: الزموا السنة واحرصوا عليها كما يحرص العاض على الشئ بنواجذه خوفًا من ذهابه وتفلته.
(^٢) لشدة ما يقاسيه في تغيير المنكر وصبره على أذى الناس.
(^٣) [سورة الحشر: الآية ٧].
(^٤) [سورة النساء: الآية ٨٠].
1 / 21
اقتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولَّاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا" وهذا من كلامه الذى عنى به وبحفظه العلماء وكان يعجب مالكًا جدًّا ولَحَقٌّ ما كان يعجبهم، فإنه كلام مختصر جمع أصولًا حسنة من السنة؛ لأن قوله: "ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها" قطع لمادة الابتداع جملة، وقوله: "من عمل بها فهو مهتد … إلخ" الكلام مدح لمتبع السنة وذم من خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى …﴾ (^١) الآية، ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي ﵌ فهو سنة لا بدعة فيه ألبتة، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه ﵌ نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة، وقال على ﵁: لم أكن أدع سنة رسول الله ﵌ لقول أحد من الناس وقال: إنى لست بنبى ولا يوحى إلىّ ولكنى أعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ما استطعت. وقال أبو بكر
الصديق ﵁: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله ﵌ يعمل به إلَّا عملت به. إنى أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ. اهـ باختصار.
والموفق السعيد من انتظم في سلك منَ أحيا سنة وأمات بدعة فكن (يا أخى) إياه؛ فقد كثرت البدع وعم ضررها واستطار شررها ودام الانكباب على العمل بها مع السكوت عن الإنكار لها حتى صارت كأنها سنن مقررات وشرائع من صاحب الشرع محررات. فاختلط المشروع بغيره وعاد المتمسك بمحض السنة كالخارج عنها كما سبق. فتأكد وجوب الإنكار على من عنده فيها علم ولا يهولنه أن المتعرض لهذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين: فالموالى له يخلد به إلى الأرض. ويمد له يد العجز عن نصرة الحق بعد رسوخ البدع في النفوس، والمعادى يصوب إليه سهام الطعن ويرميه بمقذوفات الأذى لأنَّه يحارب عاداته الراسخة فما القلوب ويقبح بدعه المألوفة في الأعمال دينًا يتعبد به، ومذهبًا خامسًا يدين الله عليه لا حجة له عليها سوى عمل الآباء والأجداد، مع بعض
_________
(^١) [سورة النساء: الآية ١١٥].
1 / 22