بعد أن تنتهي فؤادة من الكتابة تتمدد فوق السرير مبعدة ما بين ساقيها، قدماها تتورمان من طول الجلوس وراء المكتب في البيت والجورنال، تأتي إليها مرتين في الأسبوع ممرضة متخصصة في التدليك، اسمها خديجة، فتاة في العشرين تلف رأسها بإيشارب أبيض، تحمل حقيبة فيها جهاز كهربائي للتدليك وأنواع متعددة من الزيوت والدهانات ، حين تغيب خديجة تقوم سعدية أو ابنتها هنادي بالمهمة، تجلس فوق السجادة على الأرض وتدلك قدمي الأستاذة.
داليا
كان الأوتوبيس الأحمر يأخذ الطفلة داليا إلى المدرسة كل صباح، ما عدا أيام الإجازات، تأخذها معها فؤادة إلى الجورنال، تعطيها بعض قصص الأطفال، تجلس داليا على الكرسي في جوار النافذة المطلة على النيل، تشرد بعيدا أو تقرأ قصة، تحمل معها في حقيبة المدرسة مفكرة تكتب فيها خواطرها، تخفيها في مكان سري في غرفتها، تخشى أن تقع في يد أبيها أو أمها، كتبت داليا في مفكرتها: لا أحب أبي. ثم مسحتها، وكتبت: أحب ماما فؤادة وماما درية.
كانت تنادي جدتها ماما درية، تزورهم جدتها درية في الأعياد، تجلسها إلى جوارها على الكنبة وتحكي لها الحكايات، تشم في ملابسها رائحة عطر يشبه الياسمين.
نحيفة الجسم ممشوقة إلا انحناءة ظهرها، شعرها أبيض تلفه خلف عنقها بتوكة فضية على شاكلة فراشة، حين تجلس جدتها في جوار أبيها تبدو ملامحها متشابهة، تطبق شفتيها وهي تمضغ الطعام من دون صوت، بأطراف أصابعها تمسك الشوكة، مشيتها تشبه مشيته، نصفها الأعلى يندفع إلى الأمام، تشد عضلات عنقها إلى أعلى وكذلك ظهرها فتختفي الانحناءة، تواصل داليا الكتابة في مفكرتها، في ليلة حارة مشبعة ببخار الماء ولدتها أمها، خرجت إلى الدنيا صامتة من دون صراخ، وجهها شاحب أزرق مطبقة الشفتين مغلقة العينين جفونها متورمة، كأنما كانت تبكي بكاء مكتوما داخل الرحم، مدينة القاهرة تغطيها سحابة سوداء من الدخان والهوان، هزيمة من الهزائم المتكررة لم تسمع أمها الأخبار في جهاز التلفزيون داخل المكتبة في الصالة، كانت في غرفتها تكتب، في نظرها أن الأخبار ملفقة، ترسلها الجهات العليا إلى الصحف، انطلقت الإذاعات ذلك اليوم مؤكدة النصر المجيد بفضل الزعيم العظيم، لم يكن أبوها في البيت، قال لأمها قبل أن يخرج إنه في اجتماع طارئ بالحزب، جسمه نحيف يمشي منحنيا، يجلس واضعا ساقا فوق ساق، البنطلون من الصوف الإنكليزي له ثنية مكوية، ترتفع حين يرفع ساقه لتكشف عن جوربه ذي اللون النبيذي الشبيه بلون ربطة العنق، ومنديله يطل من جيب السترة معطرا بالأوسوفاج، عيناه خضراوان، بياضهما واسع تشوبه صفرة، تتخللها شعيرات دموية، يضع نظارة طبية، لا تفارق عيناه الجورنال أو الكتاب الذي يقرؤه، يتكلم مع أمها من دون أن ينظر إليها، لا يرتفع جفنه الأعلى عن البؤبؤ الأزرق الصغير إلا حين يغضب أو يندهش، يضع أوراقه في درج مغلق بالقفل، حقيبته الجلدية السوداء يفتحها ويغلقها بأرقام سرية، يشعر بلذة في إخفاء الأشياء، يقلد أباه في حركة شفتيه الممتلئتين، يمطهما إلى الأمام في وجه زوجته غاضبا. - مش من حقك تعرفي كل حاجة عني، أنا راجل حر. - الزواج مش سجن.
سمعت أم رءوف صوته من خلال الجدار، كانت الجدران في العمارات الجديدة مغشوشة هشة، تسمح بمرور أي صوت بين الجيران، قطرات ماء تسيل في الليل من صنبور قديم، شخير رجل غارق في النوم العميق، همسات الحب والشبق أو لكمات البغض والغضب.
جاءت أم رءوف في اليوم التالي، سمينة مربعة الجسم تعرج قليلا، تلف شعرها بإيشارب ملون، تصبغ شفتيها باللون الأحمر، اشتغلت في شبابها ممرضة حتى تزوجت الدكتور جرجس وأصبح لها ولدان، تساعد أم رءوف في الطبخ مع أمها حين تغيب الخادمة سعدية.
عاد أبوها إلى البيت فرآها جالسة أمام التلفزيون، رمقها بنظرة سريعة من تحت جفنه الأعلى، كأنما لم يتعرف ملامحها، ساورته فكرة مرت كالبرق، ابنته أم لا؟ رمقته بنظرة من تحت جفونها نصف المغمضة، لم تميز وجهه، وخصوصا فمه الرمادي المطبق في صمت.
كان الصمت يخيم على الشقة، ترمقها أم رءوف بطرف عينها، تمص شفتيها وتقول إنها بنت، ثم تضيف إليها كلمة الهزيمة.
أصبحت فجيعتها اثنتين.
Bilinmeyen sayfa