كان مكتب فؤادة في الدور فوق المطبعة، تسمع أزيز ماكينات الطباعة وهي جالسة في مقعدها، كان الصوت يضايقها مثل الأصوات الأخرى التي تضج بها المدينة، أبواق السيارات، صفارات سيارات الحريق والإسعاف، والبوليس، الميكروفونات فوق المآذن والمباني، تذيع الصلوات والتكبيرات أو الغناء والرقص.
كانت تسد أذنيها بقطع من القطن أو المطاط ، وتغلق النافذة بإحكام.
كل هذه الأصوات لم تعد تسمعها، كأنما تموت حواسها كلها وهي تكتب إلا حاسة واحدة؟
شيء غريب يحدث لها وهي تكتب، يموت فيها كل شيء ليصحو شيء جديد لم تعرفه البتة، أو قديم جدا عرفته منذ الطفولة، يختفي أزيز المطبعة إلا همس خافت، مثل حفيف نسمة هواء، أو موسيقى ناعمة تدغدغ مشاعرها، تصحو ذاكرتها النائمة منذ بدأت تتعلم الحروف، تنقضي الساعات وهي تكتب، لا يوقظها إلا جرس التلفون، صوت كوكب، أو حميدة العاملة في المطبعة، يسألها عن شيء في المقال المصحح، كانت حميدة قد عرفت خط فؤادة، وعرفت أنها تصحح مقال رئيسة التحرير، رأتها في مدخل المبنى فتوقفت. - الأستاذة فؤادة؟ - أيوه. - أنا حميدة في المطبعة. - أهلا يا حميدة. - عندي بن برازيلي محوج. - محوج؟ - تشربي معايا فنجان قهوة؟ - طبعا يا حميدة.
حميدة
لم تستطع فؤادة رفض دعوتها، كانت ترفض دعوات الآخرين في المؤسسة من الصحفيين والكتاب والكاتبات، وجدت نفسها تسير وراء حميدة، تهبط معها السلم دورين إلى المطبعة، تجلس معها في الكافيتيريا الصغيرة الخاصة بعمال المؤسسة، تراقبها وهي تضع الماء على النار في كنكة صغيرة، تغسل فنجانين بالماء والصابون لونهما أبيض وحوافهما ذهبية، تغسل الملعقة الصغيرة، تجففها جيدا بفوطة بيضاء نظيفة، تخرج برطمان البن من حقيبتها الكبيرة المصنوعة من قماش قلع المركب، ملفوفا في فوطة زرقاء ذات مربعات بيضاء، تفوح رائحة البن المحوج وهي تفتحه، تضع في الكنكة ثلاث ملاعق، تقلبها مرة أو مرتين، بعد دقيقة أو دقيقتين ترفع الكنكة قبل أن تفور القهوة على النار، تجلس حميدة أمامها وبينهما منضدة ذات سطح مصقول من الفرومايكا، ترشف فؤادة القهوة، يلتهب طرف لسانها بألم لذيذ، مع الشهيق العميق تملأ رئتيها بالنكهة القوية، تذكرها رائحة البن بأمها وجدتها، تنطلق منها ضحكة طفولية، باحب ريحة البن المحوج!
عينا حميدة سوداوان واسعتان تثبتهما في العينين أمامها، شيء في هاتين العينين يشدها إلى شيء آخر في أعماقها لا تعرفه. كان نفسي أطلع لمكتبك من شهرين يا أستاذة فؤادة. بلاش أستاذة دي. كان نفسي أكلمك يا فؤادة. تكلميني؟ - أيوه. - كنت مترددة. - ليه يا حميدة؟ - أنا عاملة مطبعة وإنت كاتبة مهمة. - أنا موظفة هنا في المؤسسة زيك تمام. - قريت لك قصة من شهرين لا يمكن أنساها.
اتسعت عينا فؤادة بدهشة.
تواصل حميدة الحديث وهي ترشف القهوة، تحدق إليها فؤادة من دون حركة، فنجان قهوتها فوق المنضدة يبرد، كنت على وشك الانتحار بعد تجربة مؤلمة، بالضبط مثل بطلة قصتك، كنت في الواحدة والعشرين، أكبر منها بسنتين، تعلمت منها أن الألم يمكن أن يقتلني، ويمكن أن يخلقني من جديد، قررت تغيير حياتي. كانت حميدة جالسة، في ثوب العمل الأزرق المبقع بحبر المطبعة، أصابع يدها اليسرى تضم فنجان القهوة، يدها اليمنى بأصابعها الطويلة النحيفة فوق المنضدة، تعلوها رعشة خفيفة غير مرئية، مدت فؤادة ذراعها فوق المنضدة لتمسك يدها بيدها، كنت حامل في شهرين، رحت عيادة دكتورة، حكيت لها كل حاجة، عملت لي العملية في ساعة ونص ساعة، رفضت تاخد مني أي فلوس، خرجت من عيادتها أجري في الشارع عاوزة أطير من الفرح، حسيت أن الدنيا حلوة وفيها إنسانة حلوة لها قلب كبير، فرحت بيها زي ما فرحت بيكي هنا في المؤسسة. إنتي بتكتبي يا حميدة؟
ضحكت حميدة. - أكتب؟ - أيوه. - باكتب كتابات الناس ع الكومبيوتر يا فؤادة، بيدفعوا لي بالكلمة، الماهية يدوب أسدد بيها الإيجار. - وكتاباتك إنتي يا حميدة؟
Bilinmeyen sayfa