أشكرك، لكن أحذرك يا فؤادة، قد تندمين وتقولين لنفسك، بدرية البحراوي شجاعة كتبت ما تريد، قد تتمنين الموت من أجل ما تكتبين، ربما يبدو لك الموت جميلا، لكن لا تجهدي نفسك كما أجهدت نفسي عشرين عاما من أجل قضية خاسرة، لم تكن خاسرة يا أستاذة وإلا لما جئت إليك؟
لا أريد أن أشعرك باليأس يا فؤادة، لكن لا أريد أن أخدعك أيضا، قد يأتي يوم تلعنين بدرية البحراوي واليوم الذي جئت إليها، تجدين نفسك في البيت، وحيدة، حزينة، تنظرين إلى الأوراق المتراكمة فوق مكتبك غير المنشورة، تريدين تمزيقها، تنظرين إلى أصابعك حول قلمك، تكرهين أصابعك وقلمك، تريدين كسر القلم، وعظام أصابعك، تريدين كسرها مع القلم، تلعنين اليوم الذي أحببت فيه الكتابة واليوم الذي ولدتك فيه أمك، قد تسيرين في الشوارع جائعة مثل القططة الشاردة، تركبين الترام أو الأوتوبيس أو القطار من دون تذكرة حتى تري الكمساري قادما فتسرعي إلى النزول، لكنه يمسكك من قفاك ويأخذك إلى رجال البوليس، يتعرفون وجهك من صورك القديمة في الصحف ويقولون لك: «عيب كده يا أستاذة بدرية.» قد يقع بصرك على صورة أحد تلاميذك البلداء يتسلم الجائزة الكبرى، يصفقون له في القاعة الفسيحة الفاخرة، يقدمونه بلقب الكاتب العالمي الكبير، وأنت تسيرين في الشوارع المتربة وأصابع قدميك تلتهب داخل الحذاء القديم، وحلقك جاف من العطش، والدنيا قبيحة ملأى بالكره والكذب وكل الموبقات، ولكن.
ولكن ...
ولكن إيه؟
قد تقرئين قصة بقلمك غير منشورة، تتوقفين أمامها مشدوهة، لا تصدقين أنها كلماتك أنت، وإبداعك أنت، وتتبدل الدنيا بسرعة في عينيك، تصبح جميلة ملأى بالصدق والجمال والحب، يدب فيك الحماسة والأمل، تحملين القصة في حقيبتك مخافة أن يبلغك الموت قبل تسليمها إلى رئيس التحرير، توقفك السكرتيرة عند الباب متأففة من منظرك، ترمق كعب حذائك المتقطع بعينيها المكحلتين، تقول لك: «إن رئيس التحرير في اجتماع هام مع الوزير، لن يأتي قبل ساعتين .» تنتظرين في مكتب السكرتيرة حتى يأتي رئيس التحرير، يقول لك: تعالي غدا. في الغد تذهبين إليه، تتمنين أن تظهر قصتك إلى النور ويقرأها الناس، تنظرين إليه وهو يقرؤها بعينين ملؤهما الفتور واللامبالاة، تلعنين نفسك لأنك تعرضين إبداعك لمثل هاتين العينين الوقحتين، كأنما تعرضين عليهما جسدك العاري وروحك الغالي، يمط شفتيه متأسفا ويعتذر لك لأن صفحات الجورنال كلها مشغولة، ولا مكان لك، ترين قصة ركيكة تحتل صفحة كاملة بقلم زميلتك كوكب أو غيرها، تعودين إلى بيتك، هل تعرفين ما تفعلين في بيتك؟ تبكين يا فؤادة، تبكين دموعا ودما حتى تفرغ عيناك من الدموع والدم، حتى تنفجر عيناك ولا يبقى لهما أثر، أترغبين بعد هذا كله يا فؤادة في الكتابة؟ - نعم.
أطرقت بدرية في إرهاق واضح، أغلقت جفونها، مسحت قطرات العرق فوق جبهتها بمنديل أبيض، بدت حزينة يائسة، جالسة في مقعدها منحنية قليلا إلى الأمام صوتها المشروخ يهمس، هذه أول مرة أبوح بهذا الكلام. - أشكرك.
قرار الزواج
يبدو شاكر للناس بارد المشاعر، عاطفته الجياشة تختفي تحت وجه جامد، لا يبتسم إلا نادرا، ضحكته إن ضحك ليس لها صوت عال، لم تسمعه زوجته يقهقه قط، لم تسمعه يقول لها كلمة أحبك، كتب لها قبل الزواج رسالة يقول فيها:
عزيزتي فؤادة
أشعر في كل مرة أقابلك أنك مختلفة عن النساء لا أعرف كيف، شيء فيك يجذبني إليك، لا أعرف ما هو، لم أتعود البوح بمشاعري، عشت في طفولتي وحيدا حزينا، أسمع من وراء الباب المغلق أبي وأمي يتشاجران، أرى أبي يضرب أمي حين يعود متأخرا في الليل تفوح منه رائحة الخمر، اكتشفت أمي أنه تزوج في السر ممثلة في السينما من درجة الكومبارس، عاشت أمي الحزن أسمعها تبكي وحدها في الليل، تهمس لنفسها، لو كانت فنانة محترمة لكنت سامحته لكن كومبارس؟ كرهت أبي وكرهت الله، كيف يمنح الرجل حق الزواج بأكثر من امرأة؟ أليس هذا ظلما وإهانة وقهرا لأمي ولجميع النساء؟ وسألت الله عن الفقر والجوع وبؤس الأطفال، كانوا يرمقونني وأنا أمشي بعيون واسعة ملأى بالهوان، في أعماقي ثورة على الظلم أدخلتني السجن، وحزن عميق منذ الطفولة أبعدني عن الحياة، فهل تستطيعين إعادتي إلى الحياة يا فؤادة؟ لا أملك سلطة أو مالا أو جاها، لكن سأحاول أن أمنحك ما تستحقين من حب وحنان ورعاية، سأكون مخلصا لك، لن أجعلك تندمين لأنك قبلت الزواج بي ربما تفخرين بي، حين أحقق لك ولأطفالنا ما يريدون في هذه الحياة.
Bilinmeyen sayfa