نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
دماء في ميدان التحرير
إنها مدينة القاهرة، تبدو للعين الكليلة مساحة لا متناهية من شيء يشبه الأسمنت له لون الرماد، يشقها مجرى رفيع رمادي يتلوى تحت كتل الأسمنت على جانبيه، يعلوها دخان وبخار وقتام ورمال، وغبار يهب ويتجمع من فوقها على شاكلة سحابة سوداء، إنه الشتاء أيضا والشهور والليالي التي يهب فيها الناس من النعاس ويراق فيها الدم.
جلست فوق حجر بجوار خيمتها، كانت تلهث قليلا، الزحام شديد، لا مكان لقدم، الملايين من المتظاهرين خرجوا إلى الشوارع والميادين، الهتاف يدوي: يسقط النظام.
خلعت شالها الصوفي الأخضر من حول كتفيها، فرشته فوق الحجر لتجلسها، كانت تجاهد للوقوف، تشد عضلاتها، تقاوم الانحناء، يعود قوامها إلى وضعه المستقيم، عظام ظهرها قوية متينة، لها قوة أربعين رجلا وعشرين حصانا، كما كانوا يقولون عنها ، لكنها لم تعد شابة، وليست كهلة، كلمة عجوز لا تنطبق عليها، لا أحد يعرف عمرها.
منذ العاشرة صباحا حتى الثانية بعد الظهر كانت تمشي في جوارها وسط الصفوف، خمس ساعات وأكثر، من الجنوب إلى الشمال، فوق الكباري القديمة والجديدة التي تجتاز النيل، كوبري الجيزة، كوبري الجامعة، كوبري الجلاء، كوبري قصر النيل، كوبري 6 أكتوبر، الزحام شديد فوق الكباري وفي الشوارع، في المدن والقرى، في كل المحافظات، الملايين من المتظاهرين يهتفون: يسقط النظام. فوق الحجر الذي وضعت عليه شالها الصوفي الأخضر أجلستها، لم يعد البريق في عينيها كما كان، بصرها لا يزال قويا حادا، كانت ترى من بعيد مثل زرقاء اليمامة، البؤبؤ الأسود كبير لونه كلون الليل، لم تورثني سواد عينيها ولا بشرتها السمراء، ورثت بشرتي البيضاء من أبي، ولون عيني من عينيه الخضراوين، وقصر نظري من قصر نظره أيضا الذي يسمونه «مايوبيا»، وقد كان أبي يضع نظارة طبية منذ طفولته، خلعت نظارتي بعد اكتشاف العدسات اللاصقة، عيناي خضراوان لونهما لون الزرع، تلمعان في مرآة حقيبتي، كعيون القططة، كان أبي يسميني القطة المتوحشة، لاحظت أنها تلهث وريقها جاف، وقد لاحظت حالتها قبل أن تلحظها هي، أخرجت من حقيبتها زجاجة ماء معدنية صغيرة، ناولتها إياها إذ كان معها سندويتش جبنة بيضاء مع شرائح صغيرة من الطماطم، التهمتها بشهية الأطفال وشربت الماء كمسافر جف حلقه في الصحراء، قالت رافعة وجهها نحوها: «تعيشي لنا يا أمي.» أشرق وجهها بالابتسام، خلعت الشال الأخضر، والبلوفر الصوفي السميك، بسطت ذراعيها الطويلتين كالجناحين، وصفقت في الهواء كما كانت تفعل وهي طفلة منذ العاشرة من عمرها، أترى هذه اللحظة في الحلم؟ هؤلاء الملايين، النساء، الشباب، الشابات، الرجال، الأطفال، العجائز، هذه الوجوه من كل الأعمار والأشكال والبقاع، ملايين، الملايين تملأ الشوارع والميادين، أصواتهم تدوي في صوت واحد، يهز عرش الأرض والسماء بكلمتين اثنتين: يسقط النظام! تلاشت خطوط الزمن فوق جبينها، انقشعت السحابة والتعب، عاد البريق إلى عينيها، ألقت البلوفر والشال وحقيبة يدها إلى الأرض، وانطلقت وسط الملايين تهتف معهم: يسقط النظام . الكلمتان تخرجان من بين شفتيها مع الشهيق والزفير، كأنما في السماء آذان تلتقط الصوت، وآذان الأرض أيضا في جهاز أمن الدولة، ينشق الكون عن عساكر جيش وبوليس ملابسهم عادية، بعضهم بالجلابيب والشوارب واللحى الطويلة، يحملون البنادق والسياط والنبال، هجموا على ميدان التحرير، داسوا الناس بالحوافر والعجلات، أطلقوا النيران والغازات، ارتفع الغبار في السماء مع الدخان وكرات من النار، زجاجة الماء تطير من يدها، هي نفسها تطير مع الزجاجة وتسقط على الأرض فبدت لها دماء حمراء.
دماء أمها تنزف فوق الأسفلت في ميدان التحرير أمام عينيها، كما نزفت فوق الأسفلت في السجن، أحاطتها بالشال الصوف الأخضر، البلوفر الأزرق أصبح لونه كلون التراب، قميصها الأبيض يغرق في الدم، حملوها إلى الخيمة، غطوها بالبطانية الصوف، تضاعفت الملايين، طافت التظاهرات في الشوارع والميادين، الهتاف يدوي: يسقط النظام. في وسط الصفوف كانت تمشي منذ دقائق، كان يبدو عليها الإعياء، لكنها تمشي، تمد عنقها إلى الأمام وتمشي، ترفع ظهرها وتمشي، أخذتها أمس إلى دورة المياه، دخلتا من الباب الخلفي للميدان، كان زحام من كائنات تختفي كل منهن تحت خيمة سوداء، واقفات في بركة مياه تتسرب من تحت أبواب المراحيض، ناولتها إحداهن منديل ورق وقالت: ليه راسكم عريانة؟
ردت: ليه راسكم اختفت؟
Bilinmeyen sayfa