كانت تعي بيتها كالمكان الآمن، تلوذ به من زحام الترام، وزحام الكلية، وحرارة الشمس وبرد الشتاء، وتجد فيه أباها الذي يعطيها المصروف اليومي وأمها التي تطعمها، وإخوتها الذين ترى في ملامحهم شبها بملامحها، وكل شيء من حولها يبعث على الطمأنينة.
لكن البيت الآن أصبح كالسجن، وأبوها كالسجان، رابض في الصالة على كرسيه الأسيوطي يرقب حركاتها وسكناتها، يحاول أن يستكشف من خلف ملامحها خبايا نفسها، وأصابع أمها لا تزال بصماتها فوق أوراقها الخاصة في درج مكتبها، وتحت وسادتها، تفتش عن أسرارها، تبحث عن خطاب غرام أو صورة شاب، وعيون إخوتها من حولها في كل مكان تحاصرها بالأسئلة. الأدهى من ذلك تلك الزيارة التي تكاد تكون يومية، حين يأتي عمها وزوجته وابنه خريج التجارة «والمرشح للزواج منها منذ الطفولة»، وتلك الابتسامة البلهاء على شفتيه، والسعادة الغبية القاتلة.
أدركت عن يقين أنها لا تنتمي إلى هذه الأسرة، والدم الذي يجري في عروقها ليس من دمهم. وإن كانت رابطة الدم هي التي تجمعها بهذه الأسرة فهي تشك في هذه الرابطة، تشك في الدم الذي يجري في عروقها أو الذي يجري في عروقهم. إن أمها لم تلدها. ربما وجدوها لقيطة بجوار جامع، بل لو كانت أمها هي التي ولدتها حقا، وأن أباها كان مشتركا معها أو غير مشترك، فليس معنى ذلك أنها تنتمي إليهما. إن تلك الرابطة التي تسميها رابطة الدم ليست رابطة في نظرها. فهي رابطة بغير إرادة من أحد، بغير حرية. إنها الصدفة المحضة وحدها هي التي جعلتها ابنة أمها وأبيها بغير اختيار منهما ولا منها.
لم تدر كيف وصلت إلى هذا المدى في التفكير، لكنها كانت تريد أن تصل إلى حقيقة واحدة هي أن إرادة الإنسان وحدها هي التي تجعل للرابطة معنى. وكانت تريد أن تصل من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى، وهي أنها تريد أن تكون رابطة بينها وبين سليم، رابطة من نوع ما، من أي نوع، تجعله حين يراها من وسط الآلاف يتوقف ويتجه نحوها، وتجعلها هي من دون الآلاف تتوقف وتتجه نحوه، إن هذه الحركة الإرادية نحوه هي الشيء الوحيد الذي يكسب الرابطة معنى، بل يكسب حياتها معنى، فما معنى حياتها؟
لم تكن تعرف لحياتها معنى. لم تعرف بالضبط ماذا تريده بحياتها. كل ما كانت تعرفه أنها لا تريد أن تكون بهية شاهين، ولا تريد أن تكون ابنة أمها أو أبيها، ولا تريد أن تعود إلى البيت، ولا تريد أن تذهب إلى الكلية، ولا تريد أن تكون طبيبة، ولا تريد أن يكون لها مال كثير، ولا زوج محترم، ولا أطفال، ولا بيت، ولا قصر، ولا أي شيء من هذه الأشياء. ماذا كانت تريد؟
عقل بهية شاهين لم يكن عقلها، كان لها عقلها الآخر الخاص، تحسه تحت القشرة المخية كبيرا ضخما يملأ جمجمتها، ينبئها بطريقة شيطانية خفية أن كل تلك الأشياء ليست شيئا، وأنها تريد شيئا آخر، شيئا مختلفا تماما، مجهولا ومعلوما في نفس الوقت، محددا وغير محدد، تستطيع أن ترسمه بسن الريشة فوق الصفحة البيضاء خطا أسود محددا، ولكنها حين تنظر إليه بعينيها السوداوين يصبح خطا طويلا ممدودا في الأفق، بطول الأفق، وبعرض الأفق، لا تعرف له أولا ولا آخرا.
كالتائهة كانت تسير من شارع إلى شارع، كذرة هواء ضائعة بين ملايين الذرات السابحة في الكون، تاركة نفسها للهواء يحركها في أي اتجاه، تبدو من الخارج كالمستسلمة تماما للضياع، كالمستمتعة بالذوبان والفناء الكامل في الكون، لكنها من الداخل تقاوم، تشد عضلاتها وتقاوم الحركات اللاإرادية، ترفض الاستسلام لها، وبكل قوتها تمنع قدميها من الحركة، بكل قوتها تريد أن تقف.
كالحصان الجامح وجدت نفسها واقفة بجسدها الطويل النحيل منتصبا، عيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى، وشعرها الأسود متناثر فوق جبهتها وأذنيها وعنقها من الخلف، وأنفها مستقيم حاد، وشفتاها مزمومتان في غضب.
تلفتت حولها لتعرف أين هي، لكنها كانت في مكان لم تأت إليه من قبل. والبيوت لم ترها والناس من حولها يروحون ويجيئون في حركة المرور الدائبة، ولا أحد يعرفها ولا هي تعرف أحدا. صعد الدم إلى قلبها في دقة كبيرة وتلاحقت أنفاسها كالذي يغرق في بحر، وكأنما تحولت ومن فوقها ماء، ولا تستطيع يداها أو قدماها أن تمسك بشيء صلب.
بأصابع مرتجفة مذعورة حركت يدها كالذي يبحث وسط الماء عن قارب نجاة، وحينما لامس أصبعها الحافة الصلبة في جيبها التفت أصابعها الخمسة حول المفتاح المعدني، وضغطت عليه، كأنما تريد أن تتأكد من حقيقة وجوده، أو كأنما تستمد من صلابته إحساسا بأن في الحياة شيئا له قوام، شيئا يمكن الإمساك به في الأصابع.
Bilinmeyen sayfa