دهشت وتلعثمت. تذكرت أحلامها الطفولية، والإله الخرافي وأباها، والشرطي، والمدرسة، وحافة المسطرة فوق أصابعها الصغيرة. وقالت: كانوا يضربونني من أجل واحدة أخرى اسمها بهية شاهين، مطيعة ومؤدبة.
ضحك ضحكة قصيرة، ونظر إلى اللوحة الأخرى. طلبة الطب بنظاراتهم السميكة وكيعانهم المدببة يتزاحمون حول أستاذ يجر عربة وينادي كالبائع المتجول على محاضراته المطبوعة بالبلوظة. وعلى باب الكلية نسوة بالجلاليب السوداء والطرح السوداء يشددنها حول أعناقهن من وراء جثة خارجة من المشرحة. وعلى محطة الترام رجل أعمى تجره امرأة كسيحة ومن خلفها أطفال أردافهم عارية. ومن داخل عربات الترام تطل رءوس كبيرة متلاصقة متشابهة كعملات النقد المصكوكة، وعلى ناصية الشارع ربض الشرطي ذو الشارب الأسود الطويل.
همس وهو واقف إلى جوارها دون أن يتحرك: بهية.
انتفضت لصوته حين لامس أذنها، واسم بهية أصبح شديد الخصوصية، ليس كاسم بهية، أية بهية، ولكنها هي بالتحديد، هي دون الآخرين، دون الملايين، بكيانها الخاص هذا الواقف إلى جواره، وبحدود جسمها الواضحة المنفصلة عن الفضاء الخارجي، وخطوط يدها فوق اللوحة، تصنع معالمها وحركتها الخاصة، حركتها الإرادية تنتزعها من بين فكي الإرادات الأخرى.
تلفتت حولها، كان المعرض قد أصبح خاليا إلا منهما ، واقفين متجاورين، غير متلامسين، تفصل بينهما تلك الشعرة الرقيقة من الهواء. رفيعة جدا وشفافة جدا كالهواء، وهزة يد تكفي لتمزيقها، أية حركة خفيفة تكفي لتبديدها. لكن أحدا منهما لا يتحرك، إنهما واقفان جامدين كتمثالين من الحجر، عيناهما ثابتة كأنما في ذعر، وبشرتهما شاحبة كأنما هرب منها الدم.
كالخوف الذي نحسه في الأحلام، لكنه خوف حقيقي. تدرك حقيقته من رعشة جسدها المنتصب في وضع رأسي، وبضع قطرات عرق ملموسة في كفها. وبحذر حقيقي حركت قدمها فوق الأرض، ثم حركت القدم الثانية، وبدأت تحمل جسدها نحو الباب. لكن صوته جاء من خلفها: بهية.
توقفت، تسمرت في الأرض لحظة، وردت بصوت خافت: نعم. - إلى أين تذهبين؟ - لا أدري. - تعالي معي. - إلى أين؟ •••
بإحساس ليس كامل الوضوح أدركت أن هذا الصوت المنتظم المتتابع لقدمين تنتقلان فوق أسفلت الشارع إنما هو صوت حذائها، صوت مألوف لأذنها، كاسمها حين يرن في الجو. لكن عقلها لا يطمئن كل الاطمئنان لأذنها، وما يبدو مألوفا لأذنها يصبح أمام عقلها غريبا شديد الغرابة. فما الذي أتى بقدميها فوق أسفلت هذا الشارع؟ الشارع لم نره من قبل، فليس هو أحد شوارع القاهرة العادية، تلك الشوارع المنبسطة في استواء ترى نهايتها أمامها في وضع أفقي، لكن هذا الشارع ليس أفقيا، إنه صاعد إلى أعلى كطريق فوق جبل شاهق.
تساءلت في دهشة: هل تركنا القاهرة؟ وحينما سمعت صوته إلى جوارها أدركت أنها ليست وحدها، وأنهما وصلا نهاية شارع القصر العيني واجتازا فم الخليج واتجها إلى جبل المقطم. لم تكن أتت إلى هذا المكان من قبل، ولم تكن مشت فوق شارع يصعد فوق جبل كما تمشي الآن، كانت حياتها تسير في خط أفقي مستو، بيتها في الدور الأرضي تدخله بصعود أربع درجات، والترام تركبه بصعود درجة أو درجتين، والمشرحة في الدور الأرضي، والمدرج يرتفع عن فناء الكلية بثلاث درجات، وأقصى ما تصعده هو ست درجات لتصعد إلى المعمل.
الآن، شيء غريب يحدث لجسدها وهي تبتعد عن الأرض. إنه يصبح أقل ثقلا. كأنها تتخفف في كل خطوة من أثقال غير مرئية، تلتف كالخلخال الحديدي حول رسغيها. وصوت حذائها فوق الأسفلت أصبح أقل حدة، وقدماها تتحركان وحدهما بخفة، كأنما لم يعودا يحملان جسدها، أو أن جسدها أصبح بغير ثقل، والهواء من حولها بغير صوت.
Bilinmeyen sayfa