وأدركت أنني تخلصت من آخر قطرة من القدسية في دمي، وأصبح عقلي واعيا بالحقيقة، حقيقة أنني أفضل أن أكون مومسا عن أن أكون قديسة مخدوعة. كل النساء مخدوعات، الرجال يفرضون عليك الخديعة، ثم يعاقبونك لأنك مخدوعة، والرجال يفرضون عليك أن تهبطي إلى الحضيض.
الرجال يفرضون عليك الزواج، ثم يعاقبونك بالضرب والشتيمة والخدمة المستمرة. إلا أن أقل النساء انخداعا هن المومسات، ومن أجل الزواج أو الحب تنال المرأة عقابا أشد.
كان الليل قد انتصف، والشارع أصبح هادئا، ونسمة النيل أصبحت ساحرة، وأنا أسير أستمتع بهدوء الليل، ولم أعد أشعر بأي ألم. تلمس النسمة الرقيقة وجهي، وأتمتع بمنظر الشارع الخالي والنوافذ المغلقة، أستمتع بغربتي عن الناس، وغربتهم عني، وغربة الأرض والسماء والأشجار. كمن تسير في عالم سحري لا تنتمي إليه ولا ينتمي إليها، تفعل ما تشاء ولا تفعل ما تشاء، حرية عدم الانتماء لأحد، ولذة الانفصال عن الكون. تحس باستقلالها وبأنها كائن مستقل لا يحكمها رجل ولا تخضع لقانون زواج أو حب، هي خارج الزمن وخارج القانون وخارج الكون. إذا لم يطلبها الذي سيأتي بعده أو الذي بعده، لا تنتظر واحدا بالذات، فإذا ما غاب حزنت، ولا تتوقع شيئا بالذات إذا لم يحدث تألمت، إنها لا تأمل في شيء، ولا ترغب في شيء، ولا تخاف من شيء، فكل ما يمكن أن يحدث حدث، ولا شيء يمكن أن يحدث لها أكثر مما حدث.
ووجدتني أفتح ذراعي لليل الساحر، وأدندن بأغنية سمعتها تقول: لا آمل في شيء، ولا أرغب في شيء، ولا أخاف من شيء، فأنا أملك حريتي.
ووقفت أمامي السيارة الطويلة الفاخرة، وأطل منها رجل، فضحكت، وفي الفراش الوثير تقلبت دون أن أبذل من نفسي شيئا، ودون أن أشعر بلذة أو ألم، واكتشفت وأنا أتقلب فوق الفراش أن الرجال الثوريين من ذوي المبادئ لا يختلفون كثيرا عن الرجال الآخرين، إنهم بذكائهم ومبادئهم يحصلون على ما يحصل عليه الرجال الآخرون بأموالهم. إنهم ثوريون، نعم، مثلنا نحن المومسات، والثورة عندهم كالجنس عندنا، شيء يقدم ويمتهن.
وقابلت إبراهيم صدفة بعد زواجه بأربع سنوات، طلب أن يأتي إلي. ولم أكن تخلصت من حبي له بعد، فرفضت، لم يكن في إمكاني أن أمتهن نفسي معه، لكني بعد عدة سنوات أخرى، وبعد أن ألح في الطلب لم أرفض، وحين أوشك أن ينصرف من بيتي دون أن يدفع شيئا، قلت له: نسيت أن تدفع الثمن، وأخرج حافظة نقوده بيد مرتعشة، وناولني ورقة ذات العشر جنيهات، لكني قلت له: الثمن عشرون جنيها لا يقل وقد يزيد، وارتعشت يده مرة أخرى وهو يخرج ورقة من ذات العشرة جنيهات، وأكتشف أنه حين أحبني لم يحبني، وإنما كان يأتيني كل ليلة لأنه لم يكن يدفع شيئا.
أصبحت واعية بأنني أكره الرجال. خشيت أن أبوح بهذا السر سنين طويلة. وأكثر ما كنت أكره ذلك الرجل الذي كان يحاول أن يعظني أو يقول لي إنه يريد أن ينتشلني مما أنا فيه؛ كنت أكرهه لأنه يتصور أنه أفضل مني، وأنه قادر على إنقاذي. يفكر في إنقاذي من أجل أن يتقمص دور البطل المنقذ الذي فشل في تقمصه في ظروف أخرى، يمارس دوره الأعلى النبيل، يشعر بنبله حين يذكرني بانحطاطي، وكأنما يقول لنفسه: أنا نبيل رفيع الشأن، أحاول أن أنتشلك أيتها المرأة الساقطة.
وكنت أرفض بطولتهم ونبلهم. إن أحدا منهم لم ينقذني وأنا زوجة أضرب وأركل بالقدم. ولم ينقذني أحد حين مزقني الحب وكاد يحطمني. إن حياة المرأة في جميع الأحوال سيئة، لكن حياة المومس قد تكون أقل سوءا. وقد أقنعت نفسي بأنني اخترتها. إن رفضي لبطولتهم ونبلهم لإنقاذي وإصراري على أن أكون مومسا يؤكد لي أنني أنا التي اخترت حياتي، وأنني أكثر حرية اختيار أقل لأشياء أكثر ملك سوءا.
المومس تقول: «نعم» دائما وتشترط الثمن. وحينما تقول المومس: «لا»، فهذا يعني أنها ليست مومسا. ولأنني لست مومسا فأنا أقول: «لا» أحيانا، وكلمة «لا» جعلت ثمني يرتفع يوما بعد يوم؛ فالرجل لا يحتمل أن ترفضه امرأة؛ لأنه مرفوض من الداخل، ولا يمكن لأحد أن يحتمل الرفضين معا، وهذا هو السبب في أنني حين كنت أقول «لا» فإن الرجل يصر، ومهما رفعت الثمن فهو يصر، ولا يحتمل أبدا أن ترفضه امرأة.
وأصبحت مومسا ناجحة، أحصل على أعلى ثمن، ويتنافس علي أعظم الرجال. وذات يوم سمع عني عظيم من دولة من الدول، رآني فطلبني، ورفضت. كنت أعرف أن معظم هؤلاء الحكام لا ينهزمون أبدا أمام الآخرين؛ لأنهم منهزمون دائما من الداخل، لا يمكن للإنسان أن يحتمل الهزيمتين معا، وهذا هو سبب صعودهم المستمر إلى مقاعد الحكم، إن السيطرة التي يشعرون بها وهم يحكمون الآخرين تمنحهم إحساسا مزيفا بالنسبة لأعماقهم، ولكنه حقيقي بالنسبة للآخرين، وهذا هو الأهم.
Bilinmeyen sayfa