خيل لضياء أنني لم أسمعه؛ لأنني وقفت أمامه دون أن أرد. فقال مرة أخرى يؤكد ما قاله من قبل: لنتكلم معا بعض الوقت، فأنا أحب الحديث قبل أي شيء آخر. قلت: ولكنك ستدفع كأي رجل آخر، فالوقت عندي محدد ولكل دقيقة ثمن. قال: كأنني في عيادة طبيب! لماذا لا تعلقين في حجرة الانتظار قائمة بالأسعار؟ وهل عندك أيضا كشف مستعجل!
قالها بشيء من السخرية، ولم أعرف سبب سخريته، وقلت: أتسخر من مهنتي أم من مهنة الطبيب؟ قال: من الاثنتين. قلت: وهل هذه كتلك؟ قال: نعم، فيما عدا أن الطبيب يؤدي عمله وهو يشعر أنه محترم. قلت: وأنا؟! قال: أنت غير محترمة.
قبل أن تصل كلمة «غير محترمة» إلى أذني رفعت يدي الاثنتين بسرعة وأخفيت أذني، لكن الكلمة قد نفذت كالسهم إلى رأسي. ودب الصمت بعد أن أطبق شفتيه وانقطع صوته، لكن الكلمة ظلت باقية في أذني، موجودة في أعمق مكان من أذني، مدفونة في رأسي كشيء مادي له قوام، وله طرف حاد كنصل سكين، شقت الأذن وشقت الرأس ودخلت المخ.
كانت يداي لا تزالان مرفوعتين فوق أذني تحولان بينهما وبين صوته، وصوته لم يعد مسموعا، وشفتاه حين تكلم لم تكن لهما حركة مرئية، فكأنما لا يتحركان، والكلمة خرجت من فمه كأنما هي سقطت وحدها من بين شفتيه، وكدت أراها تسير في الجو من فمه إلى أذني، كشيء له ملمس وله سطح محدد، بالضبط كالبصقة.
حين قرب شفتيه ليلمس شفتي كانت كلمته لا تزال في رأسي، فأبعدته عني وقلت: عملي غير محترم، فلماذا تعمله معي؟! وحاول أن يشدني بقوة ولكني رفضت، وفتحت له الباب ليخرج.
وخرج ضياء من بيتي، لكن كلمته لم تخرج من أذني؛ فهي دخلت رأسي في لحظة مضت، وما من قوة في العالم تستطيع أن ترجع الزمن إلى الوراء لحظة واحدة، كان رأسي قبل هذه اللحظة هادئا، أضعه كل ليلة على الوسادة، وأنام نوما عميقا حتى الصباح. لكن رأسي أصبح يموج بحركة مستمرة لا تكف ليل نهار، كأمواج تضرب الشاطئ في مد وجزر، يجعل للماء زبدا ورغوة كأنما يغلي، صوت كهدير البحر، ينبعث من الوسادة إلى أذني، ولا يمكن أن أتبين صوت الماء من صوت الهواء؛ فهي كلها ضربات واحدة متعاقبة كالليل والنهار، متلاحقة كضربات القلب تحت الضلوع، كمطرقة تدق في رأسي بكلمة واحدة: «غير محترمة»، تحت العظام تدق، وخارج العظام تدق، وفي السرير تدق، وفي حجرة الطعام تدق، وفي الشارع تدق، في كل مكان من الدنيا، مطرقة تدق فوق رأسي بالكلمة، تضربني على رأسي ووجهي، وأكاد أحس ملمسا فوق وجهي لزجا باردا كالبصقة، كوقع الكلمة النابية فوق أذني باردة لزجة، كوقع كل الكلمات النابية فوق أذني، وكل العيون الوقحة التي تعريني ولا تغض البصر، بل والعيون المؤدبة التي تغض البصر وتحت الجفن تتلصص نظرة ظاهرها الأدب وباطنها السخرية والاحتقار.
كلمة واحدة سلطت الضوء على حياتي، فرأيتها على حقيقتها، ومزقت الغشاوة عن عيني: محترمة، لم أكن أعرف من قبل، وعدم المعرفة كان أفضل، وكنت آكل وأنام نوما عميقا، فهل من شيء يقتلع هذه المعرفة من رأسي؟ فهي ليست إلا ألما حادا كالسكين تشق الرأس وهي ليست سكينا، ولم تكن إلا كلمة واحدة نفذت كالسهم إلى رأسي قبل أن أغطي أذني بيد، فهل من شيء يقتلع الكلمة من الرأس كما تقتلع الرصاصة، أو كما يستأصل ورم المخ؟!
لم يكن من شيء في العالم يمكن أن يرجعني إلى ما كنت عليه قبل أن أسمع هذه الكلمة، لكني منذ تلك اللحظة لم أعد أنا، أصبحت امرأة أخرى، وحياتي الماضية أصبحت وراء ظهري، لا أريد أن أعود إليها وإن شقيت وتعذبت وجعت وتعريت. سأكون امرأة «محترمة» بأي ثمن، وإن دفعت حياتي الثمن، سأفعل أي شيء لتكف الكلمات النابية عن الوقوع فوق أذني، وتكف العيون الوقحة عن السقوط فوق جسدي.
كنت لا أزال أملك شهادتي الثانوية، وشهادة تفوق مدرستي، وعقلا قويا صارما يصر على عمل محترم، وعينين سوداوين لهما نظرة مباشرة مستقيمة، لم أترك إعلانا عن عمل دون أن أتقدم، ولم تكن هناك من وزارة أو مصلحة أو شركة إلا وسعيت إليها، وحصلت آخر الأمر على وظيفة سكرتيرة بإحدى الشركات الصناعية الكبرى.
وأصبح لي مكتب صغير، يفصله عن مكتب رئيس الشركة باب صغير، تعلوه لمبة حمراء وجرس، وحين يرن الجرس أدفع بيد الباب الصغير، وأدخل إلى المكتب الكبير، حيث يجلس رئيس الشركة، رجل جاوز الخامسة والخمسين، قصير القامة، سمين، أصلع الرأس، وأسنانه سقط بعضها، والبعض الآخر تغطيه طبقة صفراء تتخللها أجزاء سوداء، يرفع رأسه من فوق الأوراق، ويكلمني والسيجارة بين شفتيه: لا أريد مقابلات إلا الشخصيات الكبيرة، مفهوم؟ وقبل أن أسأل من هم الشخصيات الكبيرة، يكون رأسه قد سقط فوق الأوراق، غارقا في بحر من الدخان.
Bilinmeyen sayfa