بعد أن كبرت يدي قليلا، وضع أبي الكوز في يدي، وعلمني كيف أغسل ساقيه، وأصبحت أقوم بدور أمي، أين ذهبت أمي؟ لم أعرف، ولكني رأيت امرأة أخرى، ضربتني على يدي وأخذت مني الكوز، وقال لي أبي إنها أمي. كان شكلها وجلبابها ووجهها وحركاتها تماما كأمي، وعرفت أنها أمي. حينما كنت أنظر في عينيها لم تكن هما العينان اللتان تمسكاني قبل أن أقع، لم تكن هما الدائرتان؛ البياض الشديد داخلهما السواد الشديد، ما إن أنظر فيهما حتى يصبح بياضهما أشد وسوادهما أشد، كأنما يملؤهما ضوء الشمس أو القمر.
لم يكن الضوء يصل إلى عينيها أبدا، حتى في الأيام المشرقة، وفي عز سطوع الشمس، لم يكن الضوء يصل إليهما. وأمسكت بيدي رأسها ذات نهار، وحركته ليصبح وجهها ناحية الشمس، لكن عينيها بقيتا مطفأتين لا يصل إليهما الضوء. وبكيت وحدي في الليل، كنت أبكي بصوت مكتوم حتى لا يسمعني إخوتي الصغار الراقدون إلى جواري، وكان لي - ككل الناس - إخوة وأخوات، يتزايدون بسرعة في الربيع كالكتاكيت، وفي الشتاء يرتجفون ويسقط عنهم ريشهم، وفي الصيف يسهلون وينحلون، ثم يموتون واحدا وراء الآخر.
حين تموت البنت منهم، يأكل أبي عشاءه وتغسل أمي ساقيه وينام ككل ليلة. وحين يموت الولد يضرب أبي أمي، ثم ينام بعد أن يتعشى، لم يكن أبي ينام بغير عشاء مهما حدث، وأحيانا حين لا يكون بالدار طعام نبيت كلنا بغير عشاء إلا هو، كانت أمي تخفي طعامه منا في فتحة داخل الفرن، ويجلس يأكل وحده ونحن ننظر إليه، وذات مرة مددت يدي داخل صحنه فضربني على يدي.
من شدة الجوع لم أبك، جلست أمامه أراقبه وهو يأكل، عيناي تتبعان يده منذ أن تهبط إلى الصحن حتى ترتفع وتدخل فمه، كان فمه كبيرا كفم الجمل وفكاه عريضين، يهبط الفك الأعلى فوق الفك الأسفل بصوت عال مسموع، وأسنانه تمضغ الطعام حتى آخره، ثم تصطك بعضها بالبعض، ولسانه يدور داخل فمه في حركة دائرية، كأنما لسانه يمضغ هو الآخر، وقد يمتد خارج فمه ليلعق شيئا سقط على شفتيه أو ذقنه.
وتناوله أمي كوز الماء فيشرب ويتجشأ، ويطرد من فمه أو بطنه الهواء بصوت عال مسموع، ثم يدخن الجوزة ويملأ الدنيا من حوله بدخان كثيف، ويسعل ويتمخط، ويشفط بأنفه وفمه، ثم يترك الجوزة ويرقد، وما هي إلا لحظات حتى يرتفع شخيره في الدار كلها.
عرفت أنه ليس أبي، عرفت دون أن يقول لي أحد ودون أن أدري، ولم أهمس بهذا السر لأحد، كنت أكتمه بيني وبين نفسي، وفي كل مرة يأتي إلينا عمي في الإجازة الصيفية، أتشبث بجلبابه وأقول له: خذني معك، كان عمي أقرب إلي من أبي، فهو ليس كبيرا في السن مثل أبي، وهو يجعلني أجلس إلى جواره، وأنظر في كتبه، وقد علمني الحروف الأبجدية، وأرسلني بعد أن مات أبي إلى المدرسة الإلزامية، وبعد أن ماتت أمي أخذني معه إلى مصر.
أيمكن أن يولد الإنسان مرتين! حين وضعت يدي على «الزر» وعم الحجرة نور الكهرباء، أغمضت عيني من شدة الضوء وصرخت، ثم فتحت عيني وخيل إلي أنني أفتحهما لأول مرة، أو أنني أولد للمرة الأولى، أو الثانية؛ فقد كنت أعرف أنني ولدت من قبل، ولأول مرة أرى نفسي في مرآة، لم أعرف أول الأمر أنها مرآة، وفزعت حين رأيت أمامي فتاة صغيرة ترتدي فستانا يصل إلى الركبتين فقط، وقدماها داخل حذاء، وتلفت في الحجرة حولي، لم يكن بها أحد غيري، لم أدرك أول الأمر من أين جاءت هذه الفتاة، لم أعرف أنها أنا؛ لأني كنت أرتدي جلبابا طويلا يلامس الأرض، وقدماي حافيتان بغير حذاء، لكني تعرفت على الفور على وجهي، كيف عرفت أنه وجهي؟ فلم أكن رأيت نفسي في مرآة من قبل، لكن الحجرة كانت خالية، ومرآة الدولاب أمامي، وهذه الفتاة الواقفة أمامي هي أنا، وهذا الفستان القصير والحذاء اشتراهما لي عمي لأذهب بهما إلى المدرسة.
ظللت واقفة أحملق في المرآة، أحملق في وجهي، من أنا؟
فردوس كما ينادون اسمي، وهذا الأنف الكبير المكور يشبه أنف أبي، وهذا الفم الرفيع يشبه فم أمي.
إحساس ثقيل زحف على جسدي وأنا واقفة، لم أكن أحب شكل هذا الأنف، ولا شكل هذا الفم، وكنت أظن أن أبي مات، لكنه لا زال حيا بأنفه الكبير المكور، وأمي أيضا لا تزال حية بشفتيها الرفيعتين، وأنا فردوس نفسها لم تتغير ولم تتبدل، وإن ارتدت حذاء وإن ارتدت فستانا.
Bilinmeyen sayfa