İman, Bilgi ve Felsefe
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Türler
فإذا تقررت هذه القاعدة وأخذ بها المعلمون في مدارسهم والكتاب في كتبهم وصحفهم تفتح عقول جمهور الإنسانية، فأفاد من هذه الثروة العلمية العظيمة التي تكدست على القرون، والتي ظلت مع ذلك ولما تنظم نظاما يجعلها نافعة، ويقربها من المجاميع إلا قليلا في العصور الأخيرة. إذا تقررت هذه القاعدة، وعرف كل فرد الأسباب الاجتماعية والعلمية لما تحرمه القوانين، ولما تنصح به التعاليم وأدرك الطفل والساذج أن ليس في الحياة سر من الأسرار، وأن ما وضع وما يوضع من قواعد السلوك ومبادئ الخلق ليس شيئا خارقا للطبيعة، ولا أجنبيا عن الإنسان، وأن الإنسان هو كل شيء، يسر ذلك لكل فرد أن يشعر شعورا صحيحا بأنه ذرة حية من الوجود الإنساني في تعاونها مع سائر أفراد المجتمع ما يكفل فائدتها وفائدة المجتمع. ثم كان أساسا صالحا لتفسير كثير من العواطف الإنسانية التي يحسبها الناس غرائز وهبات لا سبيل لتغييرها، بينا هي إن تكن غرائز وهبات، أو تكن شيئا آخر فهي قائمة بالنفس لفائدة الفرد؛ ولفائدة الجماعة والجنس على السواء.
إذا تقررت هذه القاعدة في حياتنا العملية، وهتكت المعرفة حجاب السر، وأصبحت الجماهير تدرك أن قداسة الأشياء والمبادئ راجعة إلى أنها هي التي جعلتها مقدسة؛ لأنها سبيل سعادتها الممكنة ووقف الأفراد على ما للطبيعة من قوانين، وما للإنسان على الطبيعة من سلطان، وسار العلم في نفس الوقت بالخطى الواسعة التي يسير اليوم بها، إذا حدث ذلك أمكن تمهيد الإنسانية للصيحة المنتظرة، ولقواعد العقيدة والأخلاق الجديدة.
2
تفضل المسيو جورج دوهامل الكاتب الفرنسي الكبير الذي زارنا بمصر أخيرا، وكان لي حظ تقديمه إلى سامعي محاضراته بالجامعة الأمريكية، تفضل فبعث لي من باريس مهديا روايته الأخيرة «ليلة عاصفة
Une nuit d’orage »، وروايته هذه تتلخص في أن شابا ولد في أسرة انتبذت العقيدة، واتجهت إلى العلم وحده ونشأ في دراسات علمية بحتة؛ تزوج من فتاة نشأت علمية هي الأخرى وأنكرت الفأل والطيرة وكل مظاهر العقيدة جميعا. وبعد زمن قضاه الزوجان المتحابان في هناءة ونعمة، سافرا إلى تونس وقصدا إلى بعض الأماكن التي تجاور الصحراء، واحتفرا فيها بعض آثار عادا بها إلى فرنسا. وفيما كان عم الفتى يتفرج على هذه الآثار استوقفته إحداها، ففحصها وقرر أنها مشئمة وطلب إليهما أن يدفعا له بها. واعتذر الزوج عن إجابة طلب عمه؛ وعاد إلى العيش مع زوجه عيشا ناعما يزيده ما بينهما من حب، ومن اتصال عقلي وعلمي قوة ومتاعا، لكن أسابيع انقضت وإذا الزوج تشعر بانحطاط في قواها، وإذا ابتسامتها تغادر شفتيها، وإذا الضعف يندس إلى وجودها. فذهب بها زوجها إلى الطبيب الذي فحصها فلم يجد للمرض عندها علامة أو مظهرا. وكذلك كان رأي طبيب آخر استعان بزميلين له إخصائيين في الأمراض العصبية، إذ اتفق الثلاثة على أن لا مرض ولا أثر للمرض، وأن حالا عصبية هي سبب هذا الضعف ما تلبث أن تزول حتى يزول الضعف معها، وحتى تعاود الزوجة قوتها وابتسامتها.
2
وعكف الفتى يفكر فيما عسى أن يكون سبب ما أصاب زوجته. ليس شيء مما يعترينا إلا ويكون عن سبب يعرفه العلم، وإن لم يعرفه العلم اليوم فسيعرفه غدا؛ وهؤلاء هم الأطباء يقررون أنهم لا يجدون لما أصاب زوجته سببا. وهي مع ذلك ما تفتأ تزداد ضعفا يوما بعد يوم برغم ما يوليها من عناية، ويحيطها به من عطف وحب، أفلا يمكن أن تكون هذه المشئمة التي أتيا بها من تونس هي سبب المرض؟ ولكن أي علاقة يمكن أن تكون لسن ملبسة فضة وموضوعة في درج مكتب على صحة إنسان بعيد عنها غير متصل بها؟ على أنه لم يقع جديد منذ تزوجا، ومنذ سافر إلى شمال إفريقية غير هذه السن التي قال عمه عنها: إنها فأل سوء. وإذا كان للعامة وسواد الناس أن يؤمنوا بفأل السوء وبفال الخير وبالتميمة والمشئمة، فليس من حق أهل العلم أن ينزلوا إلى هذا الدرك، أو أن يتوهموا للحادث أسبابا غير ما في الطبيعة مما يتناوله فهمنا أو يمكن أن يتناوله، ويظل الفتى كذلك في حوار مع نفسه يغالب الإشفاق على زوجه إيقانه بالعلم ويكاد يغلبه، فيرى واجبا عليه أن يحطم هذا الفال وأن يلقي به بعيدا، ثم تنتصر كبرياء العلم على عاطفة الإشفاق، إبقاء على عقله أن تدنسه مثل هذه الترهات. ويصل حينا إلى ذكر قول باسكال: لنتراهن على وجود الله. فأما الذين يتراهنون على أنه موجود فلا يخسرون شيئا إن لم يكن موجودا وكان العالم كله هباء، وهم يكسبون كل شيء متى كان موجودا قادرا على كل شيء. كذلك فلنحطم هذا الفأل. فإن يك من أثره ما أصاب الزوجة العزيزة، فهي عائدة إلى صحتها وإلى ابتسامتها وإلى نعيم الحياة وطمأنينتها، وإن لم يكن له في المرض أثر فلم نخسر شيئا. ولكن أين هذه الأوهام من العلم التجريبي الواقعي الذي يؤمن الزوج وتؤمن الزوجة به؟ بل أليست هي تجديفا في حق العلم وردة عن الإيمان به وتطليقا لحكم العقل وخضوعا لخداع الوهم؟ ويظل صاحبنا في هذا الجدل العنيف بينه وبين نفسه حتى يتغلب الإشفاق على العلم والعاطفة على العقل، فيتسلل جوف الليل إلى الغرفة، حيث المكتب الذي حفظت المشئمة فيه، وما يكاد يدخلها حتى يقف ذاهلا مرتجا عليه. ماذا يرى؟ زوجته أمام المكتب؟ هي إذن تفكر هي الأخرى كما يفكر، وتحسب أن قد يكون في هذه السن الملبسة فضة سبب همها وما أصابها. وهي إذن تعتزم هي الأخرى أن تلقي بها بعيدا حتى تتخلص من أثرها فتعاودها صحتها. وتتقابل نظرات الزوجين في ضوء الغرفة الضئيل، فتسأل الزوجة صاحبها: ماذا جاء به إلى حيث هو؟ أفتراه يذكر لها أن إشفاقه غلب علمه، وأنه جاء يبحث عن فأل السوء؛ لينجو بها من سوء أثره؟ كلا بل تعلو كبرياء العلم في نفسه من جديد ويخبرها بأنه أحس بها تهبط الدرج، فتبعها خيفة أن يصيبها مكروه، وتعلو كبرياء العلم في نفسها هي الأخرى فلا تخبره بشيء، ويظل كل واحد منهما يخترع الأسئلة والأجوبة يرجو أن يضعف صاحبه أولا، فلا تتحطم كبرياؤه هو . ويعودان أدراجهما مكدودين ولم يرض أيهما أن يظهر بأنه قد تزعزع إيمانه بالعلم لحظة واحدة.
ويزداد الزوج إصرارا على كبريائه ويرجو أن تضعف زوجه قبله، فيطلع على فتحة الدرج بنقطة من سائل الشمع، ثم يعود بعد ذلك لعله يرى أن الشمع زال والدرج فتح وفأل السوء ذهب، وأن كبرياءه انتصرت فيرتد على عقبه جريحا أن يرى امرأته العزيزة ما تزال أقوى منه كبرياء، وأشد على كبريائها حرصا. لكنها هي المريضة وهي التي تتأثر ما لم يسلم الزوج. ولكن من يدري، فلعلها فتحت الدرج وألقت بالمشئمة ثم ألقت نقطة من الشمع أخرى! وإذن فليفتح الزوج ولير! ها هي ذي السن التعسة ما تزال في موضعها. وها هو ذا قد أسلم كبرياءه العلمية، وخضع لحكم الوهم. وها هو ذا يريد أن يزداد خضوعا فيأخذ السن ليلقي بها في نهر بعيد أو يقذفها إلى أمواج البحر إن أحوج الأمر أن تزول الزوال الأخير. وفيما هو في تفكيره ومحادثته نفسه دخلت خادم! فما كاد يلمح دخولها حتى دفع الدرج بقوة، وخرج وراء الخادم تاركا فأل السوء حيث كان.
وبعد أيام من هذا جاءت زوجه من سفر كان الأطباء قد نصحوا به ولم يفدها شيئا. ولكن لم تمض أيام أخرى على حضورها حتى إذا قواها قد بدأت تعاودها، وترد إليها من الحياة ما يزيل هزالها ويعيد تورد وجناتها وابتسام ثغرها! وعادت إلى الدار كل حياتها وكل سعادتها. وبعد ذلك بسنتين فيما كان الزوج يرقب في ليلة عاصفة خطف البرق وقصف الرعد وتهتان المطر حلا له أن يذهب إلى غرفة كانت زوجه بعد عودة صحتها قد نقلت إليها المكتب المشئوم، ففتح الدرج الذي عرف فأل السوء فيه، فلم يجد شيئا وفتح الدرج الذي تحته، فإذا الفأل ما يزال فيه.عند ذلك ادكر حين دفع الدرج عندما فاجأته الخادم، أن قاع الدرج تزحزح من مكانه تاركا بينه وبين جدار الدرج الأمامي فراغا سقط الفأل منه . إذن لم يبق شك في أن الزوجة عادت إلى الدرج بعد عودها من سفرها، فلم تجد المشئمة فيه فاطمأنت كبرياؤها العلمية إلى أنها لم تضعف. وإذ كانت هذه المشئمة سبب ما أصابها من اضطراب عصبي كاد يأتي على حياتها، فقد زال الاضطراب بزوالها وعادت إليها القوة والصحة.
وابتسم الشاب في هذه الليلة العاصفة أن أنقذت المصادفة كبرياءه وكبرياء زوجته جميعا، وإن ردت المصادفة الصحة الغالية إليها، فأعادت السكينة لدار هجرتها السكينة طوال العام الأول من أعوام زواجهما، وآمن أن الحياة ما يزال فيها مغالق تثير الوهم في أقوى النفوس إيمانا بالعلم، وتجعل العلماء كثيرا ما يجيبونك على ما تسألهم عنه: «قل ما ندري».
Bilinmeyen sayfa