وقد تقدم في هذه الآية معمول الخبر، وهو دليل على جواز تقدم الخبر نفسه؛ لأن «المعمول لا يتقدم إلا حيث يتقدم العامل.» وهذا أصل المعارك المؤججة بين النحاة، ومنشأ الجدل الذي يملأ كتب النحو، ويثور غباره عند كل باب من أبوابها.
منشأ هذه الفلسفة
والنحاة في سبيلهم هذا متأثرون كل التأثر بالفلسفة الكلامية التي كانت شائعة بينهم، غالبة على تفكيرهم، آخذة حكم الحقائق المقررة لديها.
رأوا أن الإعراب بالحركات وغيرها عوارض للكلام تتبدل بتبدل التركيب، على نظام فيه شيء من الاضطراد؛ فقالوا: عرض حادث لا بد له من محدث، وأثر لا بد له من مؤثر. ولم يقبلوا أن يكون المتكلم محدث هذا الأثر؛ لأنه ليس حرا فيه يحدثه متى شاء. وطلبوا لهذا الأثر عاملا مقتضيا، وعلة موجبة، وبحثوا عنها في الكلام فعددوا هذه العوامل، ورسموا قوانينها.
ومن تأثرهم بالفلسفة الكلامية رفضهم أن يجتمع عاملان على معمول واحد، واحتجاجهم لذلك بأنه إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإذا اختلفا لزم أن يكون الاسم مرفوعا منصوبا مثلا، ولا يجتمع الضدان في محل. ومنه تحريمهم أن تتبادل الكلمتان العمل، واحتجاجهم بأن العامل حقه التقديم، والمعمول حقه التأخير، فتكون الكلمة متقدمة متأخرة، وهو محال.
فانظر كيف تصوروا «عوامل» الإعراب كأنما هي موجودات فاعلة مؤثرة، وأجروا لها أحكامها على هذا الوجه. قال الإمام الرضي: «والنحاة يجرون عوامل النحو كالمؤثرات الحقيقية.»
ولعل المناقشة الآتية تبين لك كيف كانوا يتصورون العامل: اجتمع أبو عبد الله الجرمي المتوفى سنة 225 بأبي زياد الفراء المتوفى سنة 206، فقال الفراء: أخبرني عن «زيد منطلق» لم رفع زيد؟ فقال الجرمي: رفع بالابتداء. قال الفراء: فأظهره. قال: هو معنى لا يظهر. قال: فمثله. قال: لا يمثل. قال الفراء : ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل! ونعلم أن أصحاب الفراء يرفعون المبتدأ بالخبر؛ فرارا من عامل لا يظهر ولا يتمثل.
ومثل آخر مما يبين تصورهم للعامل؛ يقول جمهور النحاة: إن المضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم؛ فيقول المعارضون: إن التجرد عدمي والرفع وجودي، ولا يحدث العدم الوجود؛ فيجيب الأولون: إن التجرد عدم محدود فهو وجود مقيد، ولا مانع أن يعمل مثله. وأمثلة هذه المناقشات تفيض بها كتب النحاة.
وليس من عيب في أن ينتفع النحاة بما بين أيديهم من الفلسفة ومن العلوم التي يدرسونها، ولا في أن يصطنعوا في تفكيرهم النمط المألوف في زمنهم، والسبيل المرسومة للجدل في أيامهم؛ فإن للتفكير في كل زمان مناهج متبعة ومبادئ مسلمة قد لا يخلص منها إلا من تعلق بوحي، وإذا نحن جهلناها لم نستطع أن نقدر منشأ كل رأي وغايته، ومتسرب الخطأ إليه، أو إحاطة الصواب به.
من أجل ذلك نرى طريق النحاة في استخدام فلسفة أيامهم - أو استخدامها إياهم - أمرا طبيعيا، لا مأخذ فيه، بل لا مندوحة عنه لمن أراد أن يفكر. ولكن علينا أن ننظر مبلغ توفيقهم في نظرهم، وإصابتهم للغاية التي سعوا إليها، وهي الكشف عن أحكام الإعراب وأسراره.
Bilinmeyen sayfa