فالنحاة حين قصروا النحو على أواخر الكلمات وعلى تعرف أحكامها قد ضيقوا من حدوده الواسعة، وسلكوا به طريقا منحرفة إلى غاية قاصرة، وضيعوا كثيرا من أحكام نظم الكلام وأسرار تأليف العبارة.
فطرق الإثبات، والنفي، والتأكيد، والتوقيت، والتقديم، والتأخير، وغيرها من صور الكلام قد مروا بها من غير درس، إلا ما كان منها ماسا بالإعراب، أو متصلا بأحكامه، وفاتهم لذلك كثير من فقه العربية ، وتقدير أساليبها.
نعم؛ ربما تعرضوا لشيء من هذه الأحكام حين يضطرون إليها لبيان الإعراب وتكميل أحكامه؛ فقد تكلموا في وجوب الصدارة لأسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي، حين أرادوا شرح التعليق وبيان مواضعه، ولزمهم أن يحصوا من الأدوات ما يحجب ما قبله عن العمل فيما بعده، وبينوا بعض الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم، حين أرادوا تفصيل أحكام الاشتغال، ولكن هذه المباحث جاءت متفرقة على الأبواب، تابعة لغيرها، فلم يستوف درسها ولا أحيط بأحكامها.
فالنفي مثلا كثير الدوران في الكلام، مختلف الأساليب في العربية، متعدد الأدوات - ينفى بالحرف، وبالفعل، وبالاسم - وكان جديرا أن يدرس منفردا لتعرف خصائصه، وتميز أنواعه وأساليبه، ولكنه درس مفرقا على أبواب الإعراب ممزقا كما ترى: (أ) «ليس» درست في باب كان لأنها تعمل عملها، على أن «كان» للإثبات و«ليس» للنفي، وعلى أن «كان» للمضي و«ليس» للحال، ولكن العمل وحده - وهو الحكم اللفظي - كان سبب التبويب والتصنيف. (ب) «ما، وإن» درستا في باب ألحق بكان؛ لأنهما يماثلانها في العمل أحيانا. (ج) «لا» درست ملحقة بكان، ثم تابعة لإن؛ إذ كانت تماثل الأولى في العمل مرة، وتماثل الثانية فيه مرة أخرى. وهذا الحرف أكثر استعماله أن يكون مهملا، ويتصرف إذن في النفي تصرفا واسعا، ولكن النحاة لا يعنون به إلا أن يكون عاملا، وأن يكون ذا أثر في الإعراب. (د) «غير، وإلا، وليس» تدرس في باب الاستثناء. (ه) «لن» في نصب الفعل. (و) «لم» و«لما» في جزمه.
درست هذه الأدوات كما ترى مفرقة، ووجهت العناية كلها إلى بيان ما تحدث من أثر في الإعراب، وأغفل شر إغفال درس معانيها، وخاصة كل أداة في النفي، وفرق ما بينها وبين غيرها في الاستعمال. ولو أنها جمعت في باب وقرنت أساليبها، ثم ووزن بينها، وبين منها ما ينفي الحال وما ينفي الاستقبال وما ينفي الماضي، وما يكون نفيا لمفرد، وما يكون نفيا لجملة، وما يخص الاسم، وما يخص الفعل، وما يتكرر، لأحطنا بأحكام النفي وفقهنا أساليبها، ولظهر لنا من خصائص العربية ودقتها في الأداء شيء كثير أغفله النحاة، وكان علينا أن نتتبعه ونبينه.
ومثل النفي في ذلك التأكيد يدرسونه في «باب إن»، ويقرنون «بإن» المؤكدة «أن» الواصلة، «وليت» المتمنية؛ لأنها أدوات تتماثل في العمل، وإن تباعد ما بينها في المعنى والغرض. وفي باب الفعل يذكرون نوني التوكيد وأحكامهما لأثرهما في إعرابه. وفي بحث التوابع يجعلون للتوكيد بابا خاصا يذكرون فيه عددا من الكلمات، حكمها في الإعراب حكم ما قبلها.
ولو جمعت أساليب التوكيد في العربية - ما ذكر هنا وما لم يذكر - وبين ما يكون تنبيها للسامع، وما يكون تأكيدا للخبر، وما يكون تقوية لرغبة، لكان أقرب إلى أن تدرس كل أنواع التوكيد، ويبين لكل نوع موضعه؛ ولكان أدنى إلى توضيح أساليب العربية وسرها في التعبير.
والزمن جعله النحاة ثلاثة أنواع: الماضي، والحال، والمستقبل. وجعلوا للدلالة عليها صيغتين
3
فقط: الفعل الماضي، والفعل المضارع. وكفاهم ذلك؛ لأن أحكام الإعراب لا تكلفهم أكثر منه، ولم يحيطوا بشيء من أنواع الزمن وأساليب الدلالة عليه، وهي في العربية أوسع من هذا وأدق. يدل على الزمن بالفعل، وبالاسم، وبالفعل والفعل، وبالفعل والاسم، وبالحرف. ولكل أسلوب من هذه جزء من الزمن محدود يدل عليه.
Bilinmeyen sayfa