ولكني أشرت إليه بالصمت، وجعلت أغذو عيني بجماله وروعته، واختفى الذئب، وتنهدت في ارتياح، وقلت لبهنساوي: إن مثل هذا الوحش لا يقتل. «إن له حقا في أن يحيا على هذه الأرض كما نحيا نحن، بل لعل حقه أكبر من حقنا؛ إذ من يدري؟ فلعله قد ورثها عن آباء عاشوا نحو خمسين ألف سنة هنا، في هذه البقعة».
وجعلت أتحدث إلى صديقي حديثا دينيا عن الطبيعة والذئب، ولكنه نفض يديه في أسف كأنه يقول: أضعت الفرصة.
وبقيت بعد ذلك أخرج، مع صديقي أو على انفراد، أكمن لرؤية هذا الذئب، أتحسس إحساس الطبيعة منه، وأجد في برودة الفجر وظلامه الأبيض، وفي النجوم الشاحبة التي توشك على الزوال، معاني قديمة حميمة كدنا ننساها بحياة التمدن التي نحياها.
وانعقدت بيني وبين الذئب صداقة، وصارت لنا مواعيد للمقابلات في الفجر، بل إني كنت حين آوي في الليل إلى الفراش أذكر النهوض في الفجر، وأهنأ بهذه الذكرى، وأنام مطمئنا إلى لقاء صديقي وهو يعدو شامخا مهيبا كأنه يتحدى التمدن.
لقد أصبح هذا الذئب نداء الطبيعة ويقظة الضمير في قلبي، حتى لقد كنت أتحدث إلى نفسي بعيدا عن الفلاحين، وأتساءل: بأي حق نخترع هذا الاختراع اللئيم، البندقية، ونضع فيها سرا مواد انفجارية، ثم نختبئ ونطلق هذه المواد على هذا الحيوان العظيم، فيموت وهو لا يرانا، يموت دون أن يجد الفرصة لأن يغرز سنا من أسنانه البيضاء في أجسامنا؛ إن هذا لؤم!
إننا نعقد المصارعات والملاكمات، ونتسابق إلى قطع المانش سباحة، بل أحيانا نصارع الثيران، وكل هذه المباريات تعود بنا إلى تلك الحال الوحشية التي كنا نحياها قبل عشرة آلاف سنة، وكنا مثل هذا الذئب، نخرج في الفجر وقد وضع كل منا حياته على كفه، فنصيد الوحش أو يصيدنا الوحش؛ البقاء للأصلح، وكنا نلقى مثل هذا الذئب، فإما حياتنا وإما حياته؛ تنازع البقاء.
وكنا نموت على شرف، وفي ضوء النجوم الخافقة، في الفجر، وكنا نقع في أحضان الطبيعة. لا، بل بين أسنان الذئب أو الأسد، كنا نموت موتا شريفا عظيما، تصدق وتبارك عليه الطبيعة، وكأنها تقول: أحسنتم.
أما الآن فنحن نموت موتا مغشوشا، مزيفا، غير أصلي، نموت على الفراش، ثم نوضع على التراب، فتأكلنا الديدان على مهل مهين بدلا من أن تنهشنا الذئاب في عجلة شريفة. •••
وبقيت شهورا وأنا هانئ بهذه الصداقة السرية بيني وبين الذئب، ولكني خرجت كعادتي في أحد الأيام فلم أجده، وعمني القلق، وأطبق علي الخوف من أن يكون قد قتل، وعدت كسيفا.
ولم تمض ساعات حتى سمعت ضجة، وخرجت أبحث فوجدت غوغاء من الفلاحين يتصايحون في طرب، ويجرون خلفهم صديقي ميتا على التراب.
Bilinmeyen sayfa