وكان الجميع يعيشون معا؛ الأم وابناها وزوجتاهما، ومع أن الحظ لم يسعد ابنيها بإنجاب الأطفال فإنهم كانوا يسعدون بالعشرة والألفة، وكان البيت يخيم عليه السلام، وتعم أفراده الصداقة الحميمة، وكانت الأم مركز الحب والحنان للجميع.
ثم دخل الموت هذا البيت؛ فمات الزوجان واحدا بعد آخر في حمى التيفوئيد التي لم تمهل كلا منهما أكثر من عشرين يوما.
وعم البيت ذهول وصمت ووجوم، كأن الأم وزوجتي ابنيها، أو بالأحرى أرملتيهما، قد نسين الكلام؛ فكان التفاهم بالإشارة، وكانت وجبات الطعام تنسى، وكان الليل يقلقه بكاؤهن، كل منهن في غرفتها.
ومضى شهران، وقعدت نعمى في الصباح أمام زوجتي ابنتيها، ثم بكت، ونهضت فغسلت وجهها وعادت إلى مكانها كأنها قد صممت على شأن، وأخذت أنفاسها وقالت لهما: - كل شيء بإرادة الله يا ابنتي، الله أراد، لقد مضى على وفاة ابني شهران، وأنتما في الشباب، فلتذهب كل منكما إلى أمها، ولتنشد زوجا، ولتبدأ حياة جديدة، وهذا حكم الله الذي لا يرد، وهذا عرف الناس الذي يسيرون عليه، اذهبا تزوجا، وليبارك الله عليكما، وليعطكما ما حرمكما مع ابني.
ولطمت الفتاتان وجهيهما، واستمر البكاء، وصار ثلاثتهن في مناحة.
ومضت أيام، والسيدة نعمى تحض الفتاتين على ترك بيتها، واستجابت إحدى الفتاتين إلى طلبها، وتركت البيت، وعادت إلى أهلها في جنوب فلسطين، ولكن رؤيا أبت ترك حماتها، ورضيت أن تنزل عن الزواج كي تعيش معها، وقالت رؤيا: - هنا بيتي، هنا ذكرياتي؛ ابنك كان ينام معي في هذه الغرفة، سأبقى حتى أموت، أنام على المخدة التي كان يضع رأسه عليها، وألتحف بلحافه، وأشرب من كوبه، لا أستبدل بذكراه آخر، وسأعيش معك حتى يقضي الله بما يشاء.
وبكت الاثنتان وتعانقتا، وعاشت رؤيا مع حماتها عشرين سنة، بعد عشر سنوات مع زوجها، وهذا هو المعنى الذي قصدت إليه حين كتبت في النعي إنها سعدت بحياة أمها نعمى ثلاثين سنة.
وقاربت نعمى الثمانين من العمر، وأحست دبيب الموت، فجعلت تفكر في مستقبل رؤيا، وتتوسل إليها كي تتزوج، ولكن رؤيا كانت قد بلغت الخمسين، وأين تجد الرجل الذي يتزوج امرأة في الخمسين؟
وكانت رؤيا تأبى التفكير في الزواج، وتقول: لا تخشي شيئا يا أمي بعد وفاتك؛ فإني لن أعيش بعدك أسبوعا أو أسبوعين، نحن حياة واحدة، ويجب أن نبقى كذلك إلى أن نموت.
ولكن نعمى كانت، كلما أحست أنها تقترب من قبرها، تعود إلى التفكير في هذه الفتاة؛ لا بد أن تتزوج، وكانت تبكي وتتوسل إليها.
Bilinmeyen sayfa