كنت كذلك، أما هو فكان في العشرين يشرب الخمور ويرافق السكيرين واللصوص.
وكان دخل كل منا يساوي دخل الآخر؛ بالميراث وليس بالكسب، فكان يسافر إلى أوربا للاستهتار، فإذا عاد إلى مصر قضى أيامه فيما بين المدينة والعزبة، فإذا كان بالعزبة سرق الفلاحين أو سحقهم أو اشترى عفة نسائهم، كانوا مساكين مغلوبين معه؛ لأن لقمة عيشهم كانت في يده، فإذا قصد إلى المدينة أنفق ما جمعه من العزبة، فكانت لياليه حمراء مع اللصوص الذين كان يسلطهم على جيرانه أو خصومه كي يحرقوا غلاتهم أو يسرقوا مواشيهم.
أذكر أني لقيته ذات مساء قبل عشر سنوات، فدعاني إلى مرافقته، ومع اشمئزازي منه قبلت الدعوة؛ كي أدرسه وأعرف إلى أين انتهى، فقادني إلى حانة، وهناك اجتمع به «أصدقاؤه» وكانوا من الريفيين الموسرين، وجعلت أنصت بعناية لحديثهم، وكان كله - تقريبا - نوادر عن صبواتهم؛ فذكر أحدهم كيف اهتدى إلى شراء مقدار حسن من الحشيش، وذكر آخر شيئا عن امرأة كانت له بها معرفة حميمة، وذكر ثالث تفاصيل نزهاته الليلية الأخيرة في الإسكندرية.
وكانوا طيلة حديثهم يشربون الخمر كما لو كانت ماء، ويأكلون في نهم كأنهم خراف تلتهم العلف، وكنت أشرب معهم وأضحك وآكل ولكن مع التقصير؛ لأني لم أكن قادرا على اللحاق بهم، وكان تقصيري هذا، مع عجزي عن الإدلاء بنكتة طريفة تساعدهم على الضحك، ومع صمتي من وقت لآخر بما لا يتلاءم مع هذا المجلس ومرطباته - مدعاة لرثائهم لي.
ونهضنا بعد منتصف الليل، وسلمت وودعت، وقصدت إلى الفندق وارتميت على سريري، وجعلت أفكر وأتأمل؛ قريبي هذا قد استكرش وأصبح بطنه كالقربة المنفوخة، وتمثلت صورته وهو يأكل، حين امتلأ شدقاه بالطعام وانتفخ وجهه، وكان يتجشأ ويتحرك على الكرسي كأنه جثة مائعة فقدت تقاسيمها، ولم أتمالك الاشمئزاز، وعدت إلى ذاكرتي حين كنا صبيين نلعب.
ولم يمض قليل حين عرفت أن جسمه عجز عن استهلاك الطعام الذي كان يأكله، فأضرب وصار يبول المواد النشوية التي كان يأكلها سكرا خالصا، ثم عجزت كبده عن العمل، فأضربت هي الأخرى، وقد نصح له الأطباء بالإقلال من الشراب والطعام، ولكنه لم يطق ذلك، ومات في العام الماضي.
مات من كثرة الشراب والطعام، مات بعد خمسين سنة من العمر لم ينتج فيها سلعة ولم يؤد خدمة، مات هو، وأنا حي، لقد تساوينا في فرص الطفولة والصبا، وورثنا ميراثا يكاد يكون متساويا، ولكننا افترقنا؛ لأنه هو اختار طريق الرذيلة واخترت أنا طريق الفضيلة.
لهذا أنا وجودي، أنا مع «بول سارتر»؛ كل إنسان مسئول عن مصيره، كل إنسان يصنع نفسه ويصوغ شخصيته، هو حر، حر، حر».
وقلت، بعد أن تنهدت، لصديقي: لا يا صديقي، إنما هو المجتمع الذي يسأل عن مصيره، أو عن جزء كبير منه، وهذه الحرية التي تعتقد بوجودها إنما هي وهم، وإني واثق بأني لو عرفت التفاصيل لاستطعت أن أبين لك أن قريبك هذا كان ضحية المجتمع الذي عاش فيه.
وحسبك أن تعرف أن هذا المجتمع قد أتاح له الخمر الكثيرة، والطعام الكثير، وفرص السرقة من الفلاحين، ولم يعلمه، ولم يجبره على أن يكسب عيشه بعرق جبينه. أجل، لم يعلمه الشرف!
Bilinmeyen sayfa