وما كانت هذه الحياة المضطربة تخلو من أويقات لها لذتها وصفاؤها، فقد كان معاشرو ديجنه من الطبقة الراقية، وأكثرهم من أرباب الفنون، فكنا نمضي ليالي عديدة يسود سمرنا الخليع فيها ما يبعد جد البعد عن الفحشاء، وكان أحد الصحاب عاشقا مغنية مشهورة تشجينا بصوتها الساحر الحزين. ولكم جلسنا إلى المائدة فنسينا ما عليها من طعام مستغرقين فيما يثير إنشاد هذه المغنية في نفوسنا من حنين! ولكم درنا بأقداح الشراب ونحن نصغي إلى أحدنا يلقي علينا بصوت عميق رائع بعض مقطوعات من لامارتين، فكنا نؤخذ بمعانيها كأن تفكيرنا حصر في دائرة منها، وكانت تمر الساعات دون أن نشعر بها، حتى إذا جلسنا بعدها إلى المائدة سادنا سكوت رهيب، وعلقت بأهدابنا الدموع.
وكان يتجلى هذا التأثير في مثل هذه الأوقات على ديجنه بأكثر من تجليه في الآخرين، وهو المعروف بيننا بصلابة خلقه، وبرودة طبعه، فكانت العواطف تتدفق من كلماته ولفتاته كأنه شاعر ساعة نزول الإلهام عليه. وما كانت تنتهي نوبة استسلامه لشعوره حتى يبدأ رد الفعل في أعضائه، فينقلب إلى المرح الجنوني كارعا من الخمر ما يفقده رشده، فيستولي عليه روح الهدم والتحطيم، ولكم رأيته يختتم نوبه هذه بقذفه كرسيا إلى نافذة مغلقة يحطم زجاجها بفرقعة تصم الآذان.
وكنت أراني مندفعا بالرغم مني إلى تشريح أخلاق هذا الرجل، فكان يلوح لي كأنه فرد من مجتمع غريب لا أعرف له مقرا على هذه الأرض. فما كنت أعلم أكان هذا الإنسان مسيرا في عمله بيأس مريض، أم بدلال ولد صغير.
وكان ديجنه يبدو - بخاصة في أيام الأعياد - كأنه مأخوذ بثورة عصبية، فيأتي بأعمال صبيانية يحتفظ فيها بكل برودة خلقه، فكان من يراه لا يتمالك من الاستغراق في الضحك، وقد أقنعني يوما بأن أخرج للتنزه معه وحدنا عند الغسق، فارتدينا أثوابا غريبة الشكل، وقنعنا وجهينا، وحمل كل منا آلة موسيقية، وذهبنا على هذه الصورة تائهين في الأحياء الصاخبة، محتفظين برصانة أرباب الفنون، وصادفنا في تجوالنا عربة كان سائقها قد دب فيه النعاس فنام على مقعده، فسارعنا إلى حل أربطة الفرسين، ثم تقدمنا إليه وصحنا به فأفاق، وركبنا العربة طالبين منه إيصالنا، وما لوح المسكين بسوطه في الهواء حتى ذهب الفرسان خببا، وبقي هو في عربته مشدوها، وتوجهنا بعد ذلك إلى الشانزليزيه، فرأى ديجنه عربة تتقدم نحونا، فاعترضها وأمر السائق بالوقوف، وتهدده بالقتل إن لم يترجل عن مقعده، وإذ نزل الرجل عند إرادته مذعورا أمره بالانبطاح على الأرض معرضا نفسه لأوخم العواقب، ثم فتح باب العربة كأنه قاطع طريق، فرأينا شابا وسيدة استولى عليهما الرعب الشديد، وأمرني ديجنه بمجاراته فيما سيفعل، فأخذ يقفز من الباب ليعود فيقفز من الباب الآخر، وأنا أتبعه حتى خيل إلى من في العربة والظلام سائد أن المهاجمين عصابة من اللصوص.
يقول لك بعض الناس: إن الحياة تولي من يبتليها اختبارا، ولعلهم يعجبون في سرائرهم إذ يصدقهم سامعوهم. وهل العالم إلا عاصفات إعصار لا تشبه إحداها الأخرى؟ وكل ما في الحياة يذهب بددا كسرب أطيار ينتشر في الفضاء الفسيح، فما تجد مدينة تتشابه أحياؤها، ومن عرف أحدها يبقى جاهلا لسائرها، غير أن هذه الأعاصير التي تدور منذ وجود العالم لم تزل تخترقها سبعة أشباح لا تتغير على ممر الأجيال: أولها يسمى الأمل، والثاني الضمير، والثالث الرأي، والرابع الشهوة، والخامس الحزن، والسادس الكبرياء. أما الأخير فيسمى الإنسان.
وما كنت وأصحابي إلا كسرب أطيار، فبقينا سوية إلى أن جاء الربيع نلعب حينا، ونركض أحيانا.
ولعل القارئ يتساءل: أين النساء في هذه الحوادث؟ وأين هي الفحشاء؟
وماذا عساني أقول عن هذه المخلوقات الحاملات اسم النساء، واللواتي راودن حياتي كأشباح أحلام؟ أيمكن للإنسان أن يحتفظ بالذكريات من وقائع لم يكن فيها شيء من الأماني والآمال؟
وأين أجد هذه الوقائع الآفلة لأثير منها تذكارا؟ وهل من شبح أشد صمتا منك أيتها المرأة العابرة كالظل؟ وهل من انطباع أسرع إلى الزوال منك في صفحة الذكريات؟
وإذا كان لا بد من إيراد شيء عن النساء، فلأذكرن منهن اثنتين:
Bilinmeyen sayfa