ها هي ذي أمامي، فيا لشدة شحوبها وقد أحاطت بأهدابها الطويلة هالة زرقاء! ولما يزل رشاش الدمع عالقا بأطرافها، وهذه قامتها الممشوقة منطرحة على الفراش وقد تقوست كأنها حتى في رقادها تنوء تحت وقر ثقيل، وهذا خدها الأسيل تموهه صفرة دكناء، وقد لاقته على الوسادة كفها الصغيرة ومعصمها النحيل، وهذا جبينها وقد ارتسمت عليه آثار إكليل الأشواك تاج المتألمين الصابرين.
وإذا بي وأنا مستغرق في تأملي أرى أمامي ذلك الكوخ حيث التقيت بها منذ ستة أشهر صبية مرحة تتمتع بالحرية ولا تبالي بشيء.
ويلي! ما الذي فعلته بذاك الصبا وتلك الخلال؟ وعادت الأغنية القديمة المنسية تتردد على مسمعي:
كنت في روض دلالي
زهرة فيها ضرام
أحرق العشق جمالي
هكذا يقضي الغرام
بهذا كانت تتغنى خليلتي الأولى، وما كنت من قبل لأدرك معنى هذا الشعر الساذج كما أدركه الآن، فبدأت أترنم به كمن يحفظ ألفاظا تنجلي له معانيها فجأة. إنها أمامي الآن هذه الزهرة المضطرمة تتساقط رمادا وقد أحرقها غرامها.
وأجهشت بالبكاء قائلا لنفسي: انظر إليها يا هذا، وفكر في شكوى من لهم أجسام الخليلات وليس لهم غرامهن. إن خليلتك مولهة بك، وقد استسلمت لك، وها أنت ذا تفقدها لأنك ما عرفت كيف تهواها.
وتجاوزت أوجاعي حدود احتمالي، فنهضت لأرجع إلى ذرع الغرفة بخطواتي قائلا: أجل، انظر إليها يا هذا وتذكر من يقضي عليهم الملال فيذهبون في الأرض مسرحين أوجاعا لا يشاطرهم إياها أحد. أما أنت فقد كان لك من يقاسمك آلامك، فما انفردت بشيء مما احتملت. تذكر من يسيرون في الحياة ولا أم لهم ولا قريب ولا صديق، حتى ولا كلب يؤنسهم، تذكر من يفتشون ولا يجدون، ومن يبكون فيسخر بهم الناس، ومن يحبون فيكرهون، ومن يموتون فلا يذكرهم أحد.
Bilinmeyen sayfa