وكما أن الضمير قد يشتد وخزه حتى يصير داء، كذلك الرحمة قد تشتد حتى تصير داء. ومن العجيب أن المرء في هذه الحال لا يقدر أن يعين من تقع عليهم رحمته، بل يحس انقباضا - إذا رآهم - فيه شيء من المقت! ولقد كنت أعجب من هذا الشعور، ولكني أظن أن باعثه هو أن تألم المرء من رؤية آثار الشقاء أكثر من تألمه لمن أصابهم الشقاء، فيحسب هذا التألم من آثار الشقاء فضيلة، وما هو بفضيلة، ويراه ضربا من الجود والبر، وما هو بر، بل هو مثل تألم المرء من شم الرائحة الكريهة، أو رؤية الشيء القبيح.
كنت وفئة من أصدقائي في مكان، نأكل ونشرب ونضحك، وعندنا غناء وجمال. وبينا أقهقه من السكر، تلفت فرأيت فتاة تستجدي، قد نال منها السل وأنهكتها الحمى، ولها منظر تنقبض منه النفس، فلم أقدر أن أتم الضحك، بل وقف الهواء في حلقي كأنه الغصة واشتد خفقان قلبي، ثم صرخت قائلا: أمن القدر المحتوم أن لا ننال ما نحن فيه من اللذة إلا ممزوجا بالتألم لما نراه من بؤس هذه الفتاة وشقائها؟! ثم جرعت كأسا من الخمر؛ كي أغرق فيها آلامي، وصرت أتأوه بصوت عال: وكيف تغرق الخمر الآلام وهي خميرة الآلام؟! ثم قمت أسير كالمجنون، وأصابتني من الآلام والتعاسة أضعاف ما أصبت من لذة الخمر. وربما كان هذا التألم الشديد من رؤية آثار الشقاء غاية الجبن أو جنون الجبن.
المجرمون والأبرياء
يحسب كثير ممن لم يتعود التفكير أن الناس منقسمون بفطرتهم إلى قسمين: فهم إما مجرمون وإما أبرياء، وهذا نظر فاسد، فإن في نفس القديس جرثومة الإجرام، كما أن في نفس الشرير بذور الطهارة والجلال. فإن في روح المرء شرا لا حد له، وخيرا لا حد له.
وكما أن الروح معبد يحله الله وينيره بنوره، فهي أيضا مغارة إبليس التي ينيرها بناره. أي الناس لم تخطر بباله خواطر الإجرام، ولم يفزع مما يتحرك في نفسه من حشرات الشر؟! ونحن نعرف استحالة براءة النفس، اللهم إلا من كان متغافلا عن نفسه، فلا يفهم هواجسها ولا يقدر أن يحكم على أعماله، وأن يعرف كنهها. لقد مرت بي ساعات كنت أحس فيها تلك اللذة التي تدفع المرء إلى الشر، فإن الجريمة مثل السراب اللامع، والحياة كالصحراء القاتلة الحرارة، والمرء فيها كالمصحر الظمآن يليح له سراب الشر بضيائه، فيريد أن يروي ظمأه، وينقع غلته، ولكن لا يزيده السراب إلا عطشا. وكنت أرتعد كلما قادني التفكير إلى معرفة محتملات الحياة وأطوارها، والروح وتقلباتها وأحوالها، فإن الروح البشرية تخيف المفكر وتفزعه.
أنا اليوم بريء، ولكن ما يدريني؟! ربما كنت في غد مجرما، وربما تحركت عوامل الشر التي في نفسي. إن قلبي يكاد يتقطع كلما فكرت في أمر هذه النفس؛ فتسيل الدموع حزنا وفزعا، فيصيب يدي من بلل الدموع، وأضعها أمام عيني كي أرى ما بها من ذلك البلل، فتعروني الحيرة والدهشة، وأقول: ما أخس الإنسان! وما ألأم الحياة!
وكنت أشفق على المجرمين وأملأ لهم قلبي رحمة، حتى لو أصابني أحدهم بسوء لما أشفقت على نفسي أكثر من إشفاقي عليهم في تلك الساعة؛ فإنه لا يحزنني في الحياة شيء مثل رؤية آثار التعاسة التي يجلبها الإجرام للمجرمين، ويعود بها الشر على الأشرار. لقد رأيت في الحلم مرة أني أتيت جريمة القتل، ثم وقفت أمام جثة المقتول، وقد أحسست دوارا وصار العرق يتصبب على جسمي، وكنت أحس جريه كأنه دبيب الحشرات، وقد جمد الدم في عروقي واسودت الدنيا في عيني، وكلما أردت أن أتنفس أحسست شيئا يسد مجرى النفس، وكنت أحس صوتا كأنه صوت أعصابي تتقطع، فيحكي صوت تقطع أوتار العود، أو كأنه صوت سقوط نقط الماء من عل. وكنت يخيل لي كأن يدا من جليد قد وضعت على ظهري.
هذه هي الأحلام التي تمكن الأديب أن يعدم شخصه في أشخاص غيره، وأن يلج إلى أرواح الناس وعواطفهم، وأن يرحم المجرم كما يرحم التعيس؛ لأن تخيل عاقبة الإجرام في الحلم يجلب من الآلام والتعاسة ما قرأت وصفه، فكيف يكون مبلغ تعاسة المجرم وشقائه؟!
أمواج النفس
إني لأجد من نفسي في بعض الأحايين ارتياحا إلى السكوت التام، فيزعجني الكلام مهما قل، سواء مني أو من جليس. ومن أجل نوبات السكوت التي تعتادني أكره مجالسة الناس؛ لأنهم يريدون مني أن أتكلم متى شاءوا، فإذا خالفت مشيئتهم عد ذلك ذنبا لديهم. ولكن في النفس مدا وجزرا؛ ومن أجل ذلك أجد ذهني في بعض الأحايين يجود بالمعاني، كما تجود الأشجار بأزهارها وثمارها. وأحيانا يكون كالشجرة العاقر التي ليس لها ثمر ولا زهر، أو كالبئر التي نضب ماؤها، أو كالصحراء المجدبة، فطورا يرقى بي إلى منزلة الآلهة، وطورا ينزل بي إلى منزلة البهم.
Bilinmeyen sayfa