وأحب غيره فتاة فأحبته هي أيضا. ولكنه كان شريفا ولم تكن هي ذات حسب، فتصلبت كبرياء أخوته وألهبت الغيرة أخواتها وانسحق القلبان. لماذا؟ لأن جنديا قتل آخر كان يتهدد حياة الملك وعرشه منذ عشرات أو مئات الأعوام فأغدق عليه مولاه الألقاب والرتب، وها إن حفيده اليوم يكفر عن ذلك الدم المسفوك بخلق نخره الفساد وصحة ترعى فيها العلل.
يقول علماء الإحصاء إن عدد القلوب المتفطرة يوازي عدد الساعات. وأنا أميل إلى التصديق، لماذا؟ لأن المجتمع ينكر كل حب بين غريبين إن لم يرتبطا برباط الزواج، فإن أحبت فتاتان رجلا ضحيت إحداهما، وإن أحب رجلان امرأة تحتم أن يضحي أحدهما أو أن يضحيا معا. لماذا؟ لماذا يحظر على رجل حب فتاة ليس له أن يقترن بها. أكل الحب في أن يهرب الرجل بالمرأة كأنها غنيمة حربية؟ أراك تغمضين عينيك فأدرك أني أطلت الكلام. لقد دنس المجتمع أقدس معاني الحياة، فاسمعي يا ماري، فلنستعمل لغة العالم عندما نكون فيه متكلمين ممثلين فاعلين. ولكن فلنحفظ بعيدا عنه محرابا طاهرا يختلي فيه قلبان صادقان ليتكلما بلغة الحب والإخلاص دون أن يتأثرا بغضبه أو يكترثا لصواعقه. والمجتمع يكبر هذه المقاومة العنيفة من قلب أدرك حقوقه وعرف عظمته فآثر على الأحكام البلهاء. لا بأس بالاصطلاحات والعادات في حل اعتدالها لأنه حسن أن تعرش «اللبلابا» بألوف الأغصان والحبال على الجدار القوي. ولكن حذار من الإفراط لئلا يجد النبت الطفيلي منفذا إلى داخل البنيان فيفسد إحكام أجزائه ويهدم متانة أركانه. إن حبنا لا يضر بشرا ولا يؤذي أحدا بل يسعد نفسينا ويرفعنا إلى عرش مبدعنا. فاتبعي مشورة قلبك واصغي إلى صوت ضميرك ثم أجيبي. ماري، كوني لي! اعلمي أن الكلمة المرتعشة الآن على شفتيك إنما هي حكم علي وعليك بالسعادة أو بالشقاء.
صمت وضغطت على يدها فضغطت على يدي بأنامل ملتهبة وقد بدا التأثر في وجهها وحركاتها. والسماء الزرقاء المنشورة فوق رأسي لم أرها حياتي على جمال ظهرت فيه الآن وقد هددتها الزوبعة وأنفذت إليها الغيوم واحدة بعد أخرى.
ثم قالت كمن يتعمد تأجيل القرار النهائي: «ولماذا تحبني؟»
أجبت: بل سلي الطفل لماذا ولد، والشجرة لماذا أزهرت، وسلي الشمس لماذا بزغت فأنارت الكون! لماذا أحبك يا بنية، لأنه يجب أن أحبك. وإن شئت إسهابا فدعي الكتاب الذي تحبين يتكلم لأجلي:
أفضل الناس يجب أن يكون أعز الناس إلينا دون أن نعبأ بما يلحقنا بسببه من ربح وخسارة، أو مساعدة وإهمال، أو شرف وذل، أو ثناء ومذمة، أو أي أمر من الأمور. أحسن الأشياء وأشرفها يجب أن يكون أعزها إلينا لا لسبب آخر سوى أنه الأحسن والأشرف. وعلى هذا المبدأ ينظم المرء حياته الداخلية والخارجية لأن بين الأشخاص تغايرا فيكون هذا خيرا من ذاك وفقا لمقدار ما يظهر فيه من الخير الأسمى الذي يتجلى في أفراد أكثر منه في غيرها. والفرد الذي يكثر فيه تجلي الخير الأسمى هو الأحسن، والذي يقل فيه ذلك التجلي هو الأقل حسنا، فعلينا أن ننتبه لهذا الاختلاف بين الناس حتى إذا اهتدينا إلى خيرهم أحببناه وأعززناه والتصقنا به طلبا للاتحاد الدائم.
وأنت، يا ماري، خير من عرفت لذلك أحبك وأنت عزيزة علي. وكلانا يحب الآخر. فقولي الكلمة الواحدة التي تكبر وتحيا فيك؛ قولي إنك لي! لا تخوني قلبك ولا تخدعي عواطفك. أعطاك الله حياة معذبة ثم أرسلني إليك لأخففها عنك، فألمك ألمي، وسنحمل هذه الآلام معا بشجاعة كما تخترق البحر السفينة العظيمة رغم عواصف الحياة وأعاصيرها حاملة الأثقال الباهظة وتوصلها إلى الشط الأمين. تكلمي يا بنية وضعي رأسك على ساعدي.
فهدأ روعها وخضب الاحمرار وجنتيها كما تخضب حمرة الشفق رءوس الجبال؛ ثم فتحت عينيها البراقتين كشموس منيرة وقالت: «أنا لك. أنا خاصتك لأن تلك مشيئة الله. اقبلني كما أنا: فسأظل لك ما حييت وليجمعنا الله في حياة أبهج من هذه وليكافئك خير مكافأة!»
وضعت قلبي قرب قلبها ليخفقا سوية، وأوقفت شفتاي الكلام على الشفتين اللتين نطقتا بدوام سعادتي كما أوقف الزمان دورته، وتلاشى العالم حولنا ولم يمكث فيه غيرنا برهة خلتها دهرا؛ دهر غرام وهناء. ثم زفرت زفرة عميقة هامسة: «اغتفر لي يا ربي كل هذه السعادة! والآن اذهب ودعني وحدي لعلنا نلتقي مرة أخرى، يا صديقي ومحبوبي ومستودع غبطتي!» •••
هذه آخر كلمات سمعتها منها. عدت إلى غرفتي ونمت نوما طويلا مثقلا بالأحلام المزعجة. وبعد انتصاف الليل دخل علي الطبيب وقال: «لقد انتقلت ملكنا الطاهر إلى حضن خالقها. وهذه وديعة منها إليك.»
Bilinmeyen sayfa