İbrahim Katip
إبراهيم الكاتب
Türler
لم يطل نوم إبراهيم. ذلك أن الكرى كان قد عقد أجفانه قبل أن يتغطى فلم يلبث أن ابترد فاستيقظ وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة بدقائق، فقام ونظر من زجاج النافذة إلى الشمس المشرقة على الحديقة والحقول وراءها، ففتحها فتضوع إليه ريا الخضرة المطلولة والأزاهير الندية دافئة تحت الشمس. وكان واسع الاطلاع ملما بأساطير القدماء وما نسج خيالهم حول الطبيعة. ولكنه نسي ذلك كله لما صار وحده مع السماء والأرض وهما أوسع وأشد تنوعا من أن توائمهما الخيالات المسطورة في الكتب. وأحس فى هذه اللحظة حنينا - لا إلى شيء معين - وغبطة تشيع في كيانه كله، وظمأ خيل إليه أنه ما من شيء يمكن أن يطفئه ويفثا غلته. فمال بذراعيه على النافذة وأبرز وجهه للشمس وحدق في السحب البيضاء تتفرق وتتجمع وتسبح في بطء. وخطر له - وعجب هو لنشوء هذا الخاطر - إن من الخطأ أن تنعت الطبيعة بالقسوة. كلا ليس في الطبيعة قسوة حقيقية. إنها حارة حية. ولا تكاد تتفق الحرارة والقسوة. وإذا كان فى بعض ما فيها يسطو على البعض الآخر ويأكله أو يلتهمه أو يأتى عليه فما قيمة هذا؟ إن كل شيء يحيا وإذا كان يموت فإنما هذا ليعين غيره على الحياة. وأين يا ترى قرأ أن الكون فنان لا يزال يعبر عن نفسه بصور مختلفة؟ لا يذكر أين قرأ هذا، ولكنه يذكر أيضا أن الكاتب قال - أم ترى هو صاحب هذا الخاطر: إن هذا الفنان الأعظم لا يزال يخفق فيما يحاول أن يبدعه ويخلده من خارجياته، على أن العالم بل العوالم كلها صغيرها وكبيرها مثلنا ومثل الأزهار والأشجار ليست سوى قطع شتى من هذا الفن، وكل منها تام في ذاته كامل من حيث هو. وكل حياة تجري إلى مداها ثم تراق وترد إلى هذا الفنان المبدع الذي لا ينفك يحاول ضروبا جديدة من الفن. العقل والمادة شيء واحد. ومن يدري؟ فلعله ليس لا عقل ولا مادة وعسى أن لا يكون هناك إلا نمو وذبول ثم نمو جديد وذبول وهكذا إلى ما لا نهاية: فنان لا يفتأ يعبر عن نفسه في ملايين وملايين من الصور المتغيرة والذبول والموت - أو ما نسميهما كذلك - إنما هما راحة ونوم أو هذا هو الجزر الذي يجيء بين مدين، أو الليل الذي يفصل نهارين والنهار الذي يطلع لا يشبه الذي سبقه في شيء. ولا المد كالذي كان قبله. هذه الصور التي نراها في الدنيا وفي أنفسنا، هذه القطع الفنية التي يخرجها الفنان الأعظم لا تعود ولا تبقى على حال ولا تلتزم شكلا معينا. بل هي دائما جديدة. عوالم جديدة وآحاد وأفراد جديدة وأزاهير طريفة. وليس في هذا ما يكرب النفس. كلا؛ إن ما يكرب النفس أن تعلم أنها ستظل حية أبدا حتى بعد ما يسمى الموت. أو أنها ستحيا كرة أخرى في جسم آخر فلا أنا أنا. ولا أنا مخلوق آخر. إن هذا يكون ماذا؟ فساد ذوق؟ هبني كتبت مقالا أو وضعت قصة أو نظمت قصيدة. فهل أستطيع أن أتصور أن مقالتي تصبح مقالة أخرى أو قصيدتي تنقلب قصيدة ثانية؟ وهل في وسعي أو وسع سواي أن يفصل ما بين العبارة التي صببت فيها المقالة أو القصة أو القصيدة، والمادة الذهنية التي أعربت عنها بهذه الألفاظ؟ كلا. وكما أني أنا الفنان الأصغر لا أزال أصوغ كل يوم جديدا؛ كذلك الفنان الأعظم لايزال يخرج من القديم جديدا ومن التليد طريفا كالنافورة تقذف الماء خيطا من القطرات لا تشبه منها واحدة أختها وتقع هذه القطرات في الحوض وتعود أدراجها من الأنابيب على النافورة فتقذفها قطرات جديدة مصوغة في أشكال وحجوم غير الأولى.
ثم تنهد وقال لنفسه: «ولكني لا أستطيع أن أفهم أو أدرك لماذا تظل هذه القوة الأبدية منهمكة في الإعراب عن نفسها في صور فردية شتى لا آخر لتنوعها؟ لماذا لا تكف ولا تنقطع عن العمل ولا يصير كل شيء إلى «لا شيء»؟ ظلام أبدي شامل! ويا ليت من يدري أهما اثنان لا ثالث لهما: أن يظل هذه الفنان يعمل ويخرج ويبدع كما هو فاعل أو أن لا يكون ثم شيء على الإطلاق؟ وهل من الاتفاق المحض أن حدث هذا ولم يحدث ذاك»؟
وسكت وحدق بعينيه الواسعتين في الفضاء يبغي أن يرى شيئا هناك وراء كل منظور. ثم هز كتفيه وقال وهو يمشى إلى «الكنبة»: كل هذا جميل. ولكن هل بنا حاجة إلى التفكير؟ هذه الدنيا أمامنا، وأحسب أن كل ما بنا حاجة إليه أن نتناولها كما هي وأن نقنع بذلك.
وهم بالجلوس فسمع نقرا على الباب ففتحه وطالعه وجه شوشو، كأنه - أي وجهها - في حلم، وأحس وهو يصافحها كأن حولها جوا من الماضي والمستقبل. وذلك ما لا عهد له به فسألته: ماذا كنت تصنع؟ - لاشيء.
ولكنه وجهه مال إلى النافذة. فقالت؟ - أكنت تسخط على هذه الطبيعة التى لا تثبت على حال؟
ألا ترى معي أنها كالطفل، تكون عابسة باكية ثم إذا هي تضحك لغير سبب مفهوم؟ إن تناقضها أو اضطرابها كثيرا ما يحيرني؟ وكم تمنيت لو أني أستطيع أن ألزمها الحالة التي يتفق أن تروقني - إلى أن يتغير مزاجي على الأقل.
فعجب أن يجيء أول ما يجري بخاطرها بسبيل مما كان هو يفكر فيه؛ ولكنه كتم هذا - وإن لم تكتمه عيناه - وقال مجيبا على كلامها: كلا يا شوشو. أنا لا أحس بالرغبة في إلزام الطبيعة حالة ما، أو بعبارة أخرى: لا أتمنى أن أفرض عليها مزاجي الخاص أو أي مزاج معين، ولعل ذلك لأن تنوع الأمزجة وتعدد الحالات التي تكون عليها الطبيعة في جميع مظاهرها - هو مصدر السرور الذي أفيده منها، بل هو الذي يرجع إليه ويقوم عليه إيمانى بالحياة. ولولا هذا التنوع لما بقي ثم شيء اسمه الحياة.
فافترت عن ابتسامة إعجاب وقالت: ذلك لأنك أديب. لأنك إبراهيم الكاتب!
قال: «نعم. أحسب الأمر كذلك. وإن كنت لا أرى أن كوني كاتبا هو السبب في ذلك. كلا. إن طبيعة الفنان أو روحه ترتاح إلى التغير. فأنا أجل هذه الجدة التى أراها كل صباح يطلع وكل مساء يجيء. وفي كل شخص. وفي كل مظهر من المظاهر التي تعبر بها الحياة عن نفسها. أرتاح لأني لا أرى شيئا نهائيا. ولما كان التغير دئما فلا أراني أشبع من النظر والتأمل والتفكير. أحب كل شيء: ما كان وما هو كائن وما سيكون.. أحب حتى ... الموت.
وسكت. وساد سكون عميق. ثم رفع إليها عينيه وقال: وأنت يا شوشو؟ ما رأيك!
Bilinmeyen sayfa