İbrahim Katip
إبراهيم الكاتب
Türler
ولم تجبه شوشو بشيء بل نهضت وأغلقت الباب وراءها.
استيقظ إبراهيم على صوت بقرة، فدفع يده تحت الوسادة وتناول الساعة فألفاها الثالثة صباحا، فعاد فأغمض عينيه وفي ظنه أن البقرة ستكف عن هذا الصخب الذي جاء قبل أوانه، ولكن البقرة على ما يظهر كانت تعتقد أن الليل قد انحسر وأن الصبح قد أسفر، فوثب عن السرير إلى النافذة فإذا السماء صافية والقمر مضيء ففتحها وأطل برأسه فرأى البقرة إلى جانب الباب وقد مطت عنقها ورفعت عينها إلى السماء، ولم يكن يعرف البقر إلا مجازا، ولا كان له بهذا الضرب من الخلائق عهد فجعل يصيح بها «هش. هش»، ويوهمها أنه سيقذفها بشيء، غير أن صيحاته وحركاته وإشاراته كانت تنعشها كأنما سرها أن تعرف أن لأصواتها مستمعا، كما يشجع المغني أن يرى الطرب يهيج سامعيه. فلما رأى ذلك توهم أن ظهوره لها هو الذي يشجعها وأنها خليقة أن تثوب إلى السكينة، وأن تثبط همتها إذا انصرف عنها، فأغلق النافذة وتحرى أن يحدث في إغلاقها من الضجيج أكثر مما تدعو إليه الحاجة إيذانا لها بإهمال شأنها. وكأنما حسبت البقرة أن احتجاجه عنها كان داعيه أنها قصرت في الأداء، وأن التعبير كان ضعيفا وأن الإحساس فيه فاتر، فأطلقت عليه أقوى أصواتها، وكانت جفونه قد كاد يطبقها النعاس فأطارته هذه الصيحات المتلاحقة وكادت تطير بلبه معها، فجر نفسه إلى الكنبة وانطرح عليها وأشعل سيجارة ومضى يفكر على هذا النحو. «النوم قد جفاني ولا سبيل إليه الآن مادامت، هذه البقرة قد شاءت أن تعد الصباح قد طلع. والجلسة هنا - إلى صباح الآدميين لا صباح البقر - كلفة شاقة. وإذا كان الحظ قد رمى بي إلى هذا الريف الذي يبكر ناسه في النوم وتبكر أبقاره في اليقظة، فالرأي أن أخرج إلى هذه الحديقة التي أفسدتها البقرة وأن أنتظر فيها الفجر لعله يوحي إلى بعض معانيه».
ولما انتهى إلى هذا الرأي أسرع فلبس معطفه وحذاءه وأخرج من الحقيبة مذكرته وقلمه وفتح الباب وخرج وأغلقه خلفه ولكن من أين؟
وكانت البقرة تواصل الصخب فأراد أن يسرع ليدركها ويثأر منها. غير أن الاهتداء إلى باب السلم المؤدي إلى الحديقة استغرق من الوقت وكلفه من المتاعب ما لم يكن يخطر له ببال. وكانت الغرف كلها موصدة حتى غرفته، والمكان مظلما. وكان ظنه أن هذه الصالة فارغة فإذا به يحسها مكتظة؛ فقد كان ثمة دلو ثقيل اصطدم به أكثر من عشر مرات في لفه ودورانه حتى انتهى إلى وجوب حمله معه وهو «يطوف» في أرجاء هذه الصالة التي أصارتها الظلمة لا أول لها يعرف ولا آخر لها يوصف، وراح يعزي نفسه عن حمل هذا الدلو الثقيل بأنه سيضرب البقرة به.
ولكن كيف يهتدي إلى الباب وهو لم يكد يخطو خطوات في الصالة ويصطدم بالدلو لأول مرة حتى اختلط عليه الأمر ولم يعد يعرف شرقا من غرب بل لم يعد يعرف أين باب غرفته هو؟
ووقف برهة يفكر في المخرج من هذا التيه فبدا له أن الإشكال يحل بأن يلتمس الحائط ويسير على محاذاته فإنه إن فعل ذلك لا محال موفق إلى الباب، ففعل بلا عناء يستحق الذكر وسار كما اعتزم. غير أن الواقع أنه بدأ بباب السلم وهو يحسبه باب غرفته وراح يمضى عنه لا إليه، والتقى في طريقه بما لا يذكر أنه رآه في النهار أو في اللحظات القليلة التي اجتاز فيها هذه الصالة قاصدا إلى غرفته أو خارجا منها، وتعثر بما حسبه «غابة» من القوارير حتى لم يجد معدى عن أن ينأى عن الحائط مرغما، وسار بضع خطوات فإذا به يلتقي بقوارير توهمها غير الأولى فضحك وقال لنفسه لعل أرض المكان قد فرشت بالقوارير!
وصادف بعد ذلك برميلا. نعم برميلا؛ فوقف يعجب ويتساءل هل قررت شوشو أن تقلب الصالة حانة خمار؟
ومل هذه البراميل والقوارير فقال أترك الحائط وأرمي بنفسي في جوف الصالة وأدفع أول باب أبلغه، ألم يقل، بشار: «وفاز بالطيبات الفاتك اللهج»؟ فكان هذا فاتحة التوفيق. ذلك أنه وجد بابا لم يعن نفسه لفرط ضجره بالتساؤل عنه أي باب هو؟ وعالجه فانفتح فإذا به باب سلم فصافح وجهه نسيم الليل المقرور وأعاد إليه اتساق خواطره فانحدر ولكنه لم يجد حديقة ما فوقف كالأبله!
وكان صوت البقرة لا يزال يصل إليه فلم يجد عسرا في فهم ما حدث. ذلك أنه لم يهتد إلى سلم الحديقة بل على سلم خلفي يفضى إلى فناء «الحريم»، وبذلك صار الجناح الذي ينزل فيه بينه وبين البقرة فقال: «لا بأس وإن كانت البقرة قد نجت بجلدها» ووضع الدلو مقلوبا وكان لا يزال معه وقعد عليه وأخرج القلم والمذكرة ليدون ما يخطر له.
ولم يخالجه شك في أن الشمس ستطلع لا محالة من الناحية التي جلس ينظر إليها فقد أخذت السماء تصطبغ بلون قرمزي شيئا فشيئا، ولكنه لم يكتب شيئا ولم يخط حرفا لأن إحجام الشمس عن الطلوع حيره حتى خالجه شعور وقتي بالخوف عليها وابتسم وهو يقول لنفسه: «لولا ما تعلمته في المدرسة لحسبت أن الشمس قد غيرت رأيها وعدلت عن الطلوع اليوم».
Bilinmeyen sayfa