İbrahim Katip
إبراهيم الكاتب
Türler
ثم كأنها رثت للدكتور المسكين، فكفت عن تعذيبه وقالت: يقول إنه لا يستطيع البقاء معنا، وإنه لابد له من العودة إلى المركز لأن عليه أن يعود أحد المرضى مهما كانت المشقات. وأنا أقول له إن العودة مستحيلة في هذا الجو المطير. فاقض بيننا بالحق.
وجلست. فجلس الدكتور كأنما قد انقلب آلة حاكية، ولم يسر عنه ما قالت لأنه - على فرط ذهوله - أدرك أنها تبيعه صمتها بثمن معين هو أن يجلو عن البيت حالا. فيا لها من عقوبة تنزلها به جزاء له على ما اجترأ به عليها من المغازلة البريئة؟ أفتراها كانت - وهي تعاطيه الحديث - تفكر في هذه الوثبة التي قصمت ظهره، وأطارت لبه، وشردت عقله؟ ويا ليت من يدري أجادة هي أم هازلة؟ وعلى أنه لم يطل التفكير في تلك اللحظة، ولم يسعه إلا أن ينزل على حكم المقادير التي جعلته رهن مشيئة شوشو، على الأقل في هذا الموقف، فهز رأسه لنجية وإبراهيم أن «نعم» وبلع ريقه ومد يده إلى جيبه ثم أخرجها وقال: «لقد كنت ناسيا فأذكرتني المفكرة وأنا أنظر فيها عرضا. وأنا أعلم أن الخروج في مثل هذا الجو حماقة، ولكن واجب الطبيب فوق راحته».
وأظهر الإصرار وراح يدفع «بالواجب» و«بحالة المريض» كل اعتراض حتى أذنوا له بكرههم.
الفصل التاسع
«من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صر المياه فى ثوب؟»
انقطع المطر وسكنت الريح، وكان إبراهيم واقفا إلى نافذة غرفته يطل على الحديقة التي مر بك الكلام عليها، أو على الأصح يحدق في الظلام الدامس والسكون الرهيب اللذين لفت فيهما الكون، حين دخلت عليه شوشو ودنت منه ووقفت تتأمله، وهو لاه عنها بما يرسمه له خياله النشيط. وكان البرد قارصا والليل صامتا لا حركة فيه ولا حس، كأنما استحال كل شيء في السماء والأرض صورة مرسومة، وقد خيل إلى إبراهيم وهو يرمي هذا السواد بعينيه كأن هاوية من الخرس قد ابتلعت كل صوت ونأمة، وأنه لو أرسل في ظلمتها صيحة لما ارتد منها إلى الأذن رجع ولا كان لها صدى، وأنه لو ألقى فيها بحجر لما سمع له وقعا ولا بلغ الحجر قاع الهاوية، وبدأ له كأن الأرض قد ضرب عليها السحر شيطان وألزمها حالة غير إنسانية يعيى الإنسان نعتها، أو كأنها في غيبوبة أفقدتها وعيها أو كأنما هو ينظر إلى الدنيا الذاهلة عنه من خلفها ويتأملها وهي مدبرة عنه أو يسترق السمع من وراء أستار الكون.
وعالج إبراهيم، وهو ثابت الحملاق، أن يصور لنفسه وقع هذا المشهد الرهيب وما انطوى عليه من الجمال والجلالة والموت في آن، وأن يتبين نوع إحساسه به، وأن يهتدي إلى العبارة عنه فأعياه التماس ذلك، وماذا عسى أن يبلغ من طاقة المرء على تصوير هذا المنظر المسحور - هذه الدنيا التي أنامتها عين غير مرئية؟
وطال الأمر على شوشو أو لعلها خشيت أن تعديه الطبيعة فيجمد وينقلب تمثالا، فقد جعلت تمر كفها على ذراعه وتمسح له شعره براحتها، وهو في شغل عنها، فلما رأت أن ذلك لم يرده إلى الحياة ولا أشعره وجودها أدارته إليها وربتت له خده فاختلجت شفتاه ولكنه لم ينطق، فافترت له عن أعذب ابتساماتها وقالت له وهي تجره إلى الكنبة: قل لي مالك؟
فقال وهو يقعد أو يلقي على الأصح بنفسه على الأريكة: تسألينني ما بي؟ بي هذه الطبيعة التي كانت منذ ساعة تبرق وترعد وتمطر وتصخب كأنما يعول فيها مائة ألف شيطانة ثم آضت كما ترين، الآن فقط فهمت ما كنت أقرأ في صباي عمن مسخوا حجارة! - هل تريد أن تقول إن هذا أول عهدك بمثل ذلك؟ - نعم، ولشد ما أتمنى أن أجرب ذلك في نفسي لحظة واحدة! لحظة واحدة تسكن فيها نفسي هذا السكون فتخرس ألسنة الهواتف وتمحي صور الحوادث، ويغيض ذلك العباب الجائش هنا في صدري هذا.
فقاطعته شوشو قائلة: ما أعجب أمرك والله! تكون معنا كأن لا شيء على وجه الأرض يعنيك ثم لا تكاد تخلو بنفسك حتى تنقلب إنسانا غيرك، كأن في جوفك بركانا يريد أن ينفجر، أفلا تفضى إلى بما يكربك؟ قل لي! هات ما عندك! أطلعني على دخيلة نفسك! ائتمنى على سرك.
Bilinmeyen sayfa