4
وبعد هذا، نشير إلى ما كان للشيخ محيي الدين النووي المتوفى سنة 676 في عهد الملك الظاهر بيبرس من مواقف مشهودة خطيرة معه، ومراسلات إليه فيها التوجيه الرشيد والنصح الصريح الشديد، وفيها طلب أن يعدل مع الرعية وأن يرفع عنهم المكوس الظالمة.
5
وإذا كان الواحد من أولئك الفقهاء العلماء لا يخاف في الله لومة لائم، ويرعى لما آتاه الله من العلم كرامته ومن الدين حرمته، فقد كان في ذلك العصر من تنزله الحاجة أو الحرص على الدنيا ومتاعها منزلة الدون ، فهو يستذل للسلطان ويضرع إليه في قصة له، وكان معاصرا لابن تيمية.
وفي هذا، ينقل السيوطي صور قصة «رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك، يقبل الأرض وينهي إلى السلطان (هو الظاهر بيبرس) أيد الله جنوده وأبد سعوده أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الأدب، وأمله أن يعينه سيد السلاطين ومبيد الشياطين - خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه - على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين والمسترشدين بصدقة تكفيه هم عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله ...
وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية الناس خصوصا وعموما، وكشف بها عن الناس أجمعين غموما، ولم بها من شعث الدين ما لم يكن ملموما؛ فمن العجائب أن يكون المملوك من مرتدي خيراتها وعن يمين عنايتها غائبا محروما، مع أنه من ألزم المخلصين للدعاء بدوامها، وأقوم الموالين بمراعاة زمامها.
لا برحت أنوارها زاهرة، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة، وأياديها مبذولة موفورة، وأعاديها مخذولة مقهورة، بمحمد وآله.»
6
ونعتقد أن هذا الصنف من العلماء لا يخلو منه عصر، وهو لا يذكر بجانب العلماء والفقهاء الآخرين الذين أحاطهم الله برعايته، وملأت هيبتهم قلوب السلاطين والأمراء وعامة الأمة، بما عرفوا للدين من حرمة، وللعلم من كرامة، أمثال العز والنووي وابن تيمية وتلاميذهم، حتى كان الواحد منهم تهون عليه نفسه، ولا يعطي الدنية في دينه أو كرامته.
وكانت الطبقة الثالثة تجيء بعد هاتين الطبقتين السالفتين: الحكام ورجال العلم والدين، وهذه الطبقة الثالثة تشمل العامة والشعب من تجار وصناع وزراع، وهم الذين عليهم الكد والكدح، ولم يكن الواحد منهم يصل إلى ثمرة عمله كله، لما كان ينوبهم من مظالم ومكوس مختلفة تئودهم أحيانا كثيرة.
Bilinmeyen sayfa